في تناقضات برنامج الاصلاح العربي ، من استراتيجية المقاومة إلى استراتيجية الاصلاح

2004-06-28:: BG.BLOG

قلت في مقال سابق أن هناك ثلاث برامج متضاربة اليوم في الفضاء السياسي العربي. الأول هو البرنامج الذي يعتبر أن الأولوية ينبغي أن تعطى في العمل العام لمقاومة الهيمنة والسيطرة الغربية بشتى أشكالها. وقلت أيضا أن هناك بالتاكيد مشكلة فعلية وراء المواجهة العربية الاسلامية والغربية. ويقع الموقف من إسرائيل وسياساتها العدوانية في قلب هذه المشكلة. وإذا لم يكن هناك مشكلة في استمرار التركيز على هذه الأجندة الوطنية وعلى التناقض بين المصالح العربية والغربية كما يسعى البعض إلى الايحاء باسم الديمقراطية أو نهاية الحقبة الوطنية، فهناك من دون شك خطأ في طريقة معالجة هذه الأجندة،أي في الاستراتيجية التي صاغها من يتمسك بها في سبيل التخلص من السيطرة الأجنبية. فهي استراتيجية تقود إلى معركة لا يمكن حصرها ولا تحديد مكانها وزمانها ولا التحكم بانتشارها ولا قطف ثمارها في أي أجل منظور. بل ربما قادت، وهو ما يحصل بالفعل اليوم، إلى المزيد من الدمار والفوضى في المنطقة العربية نفسها. فخوض المعركة من منظور نحن أو الغرب يعني الحرب الدائمة التي تتماشى مع بعض تيارات الإدارة الأمريكية والغربية الداعية إلى حرب الحضارات والمواجهة مع عالم إسلامي تعتبره موطن العداء للغرب ومصدره. باختصار إن حل مسألة التناقض العميق الواضح بل والمركزي بالنسبة لمصير المنطقة العربية والاسلامية من منظور المواجهة العسكرية غير ممكن. ولا بد من إعادة النظر إلى مسألة هذا التناقض ومعالجته من منظور جديد آخر. أي إعادة طرح الصراع على أرضية مختلفة وفي إطار مختلف أيضا. وهو ما سنتحدث عنه في ما بعد. لكن من المؤكد أنه في غياب أي منظور آخر للعمل في هذا الميدان، تبدو هذه المنظمات وكأنها الوحيدة التي تحمل هم الوقوف في وجه الطغيان العسكري والسياسي والفكري الغربي الراهن وتتحمل مسؤولية مقاومته وكسر شوكته.
إلى جانب برنامج المقاومة الذي تتزعمه اليوم العديد من الحركات الإسلامية وبعض الحركات القومية العربية والذي يستمد قوته مما يحصل في فلسطين والعراق وغيرهما من الاماكن الإسلامية هناك في العالم العربي برنامج آخر هو برنامج الاصلاح الاقتصادي والإجتماعي والسياسي. يعتقد قطاع كبير من النخب الحاكمة وبعض ممثلي الطبقات الوسطى العربية أن خط المقاومة القومية والوطنية والدفاع عن السيادة والاستقلال قد أخفق تماما في تحقيق أهداف الأمة العربية وأن عصر المقاومة الوطنية قد انتهى على أي حال وأننا ندخل اليوم عصر العولمة الذي تختفي فيه الحواجز الدولية القومية والاقتصادية. وفي هذاالعصر يحتل تحسين شروط معيشة الناس وتحقيق حد أدنى من النمو الاقتصادي والوصول إلى درجة ما من ممارسة التعددية السياسية والحريات الفردية موقع الأولوية. ويختلف هنا الاصلاحيون بين فريقين. الفريق الأول يعتقد أن المطلوب هو تحقيق الإصلاح الاقتصادي والإداري الضروري لخلق الشروط اللازمة لرفع مستويات المعيشة وتخفيف التناقضات والتوترات الاجتماعية وتحديث الأجهزة الإدارية والأمنية قبل البدء بأي إصلاحات سياسية ديمقراطية. ومن دون ذلك لا يمكن ضمان أن لا يتحول الانفتاح السياسي وإطلاق الحريات الفردية إلى مناسبة لتفجر النسيج الاجتماعي وزيادة فرص التدخل الخارجي في الحياة الاجتماعية والسياسية. أما الفريق الثاني فيعتقد على العكس أن من غير الممكن النجاح في الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية من دون تغيير قواعد العمل السياسية وإدخال مباديء الديمقراطية في الحياة العربية.
وفي الحالتين تفترض أولوية الإصلاح تجميد المقاومة بل الخروج من موقف المواجهة والمجابهة مع الدول الغربية والسعي بجميع الوسائل لدفعها للتعاون معنا. فكما تتنافى أولوية الإصلاح الاقتصادي والإداري مع فتح الساحة السياسية والمخاطرة بتفجير الوحدة الوطنية وتعميق الصراعات الداخلية من دون نتيجة فهي تتنافى أيضا مع الاستمرار في خوض معركة الكفاح ضد السيطرة والهيمنة الخارجية. فالتحديث والتطوير والإصلاح الاقتصادي والإداري يعتمد بشكل رئيسي على التعاون الدولي وبشكل خاص مع الدول المسيطرة او الطامحة إلى السيطرة. ولا يمكن تحقيق أي تقدم فيه من دون تجنب المواجهات الخارجية ووضع حد للتوترات المرتبطة بها، أي من دون أقفال ملف النزاعات الخارجية والحروب.
هذا هو المنطق الذي دفع العديد من النظم العربية وفي مقدمها النظام المصري منذ السبعينات من القرن الماضي إلى الخروج من المواجهة العربية الاسرائيلية التي اعتبرتها وجها من وجوه المواجهة العربية الأمريكية كما شرحها الرئيس الراحل أنور السادات عندما قال إنه غير مستعد لمواجه أمريكا التي تقف وراء إسرائيل. فمنطق التنمية الاقتصادية يستدعي التعاون والتبادل الحر والاستثمار ولا يتفق مع منطق المواجهة والصراع والحرب سواء أكان إقليمية أو عالمية.
ومؤخرا اكتشف النظام الليبي الذي كان يتبنى صراحة استراتيجية المواجهة العالمية ويمول منظماتها ويدعو لها مأزق اختياراته القديمة وسعى إلى الخروج منها بصورة دراماتيكية من خلال تسليمه بتدمير برامج تسلحه الخاصة. وهو ما أدركه النظام السوري أيضا بعد تردد طويل بسبب احتلال اسرائيل لجزء من الأراضي السورية وصعوبة التحلل من الالتزامات الوطنية من دون أن يعني ذلك التسليم بضياع هذه الأراضي أو بقائها تحت الاحتلال.
وبصرف النظر عن سياسات الفئات العربية الحاكمة والطرق التي اتخذها انسحابها من المواجهة الوطنية او القومية التي كانت تعيش عليها حتى وقت قريب كمصدر للتعويض عن غياب الشرعية القانونية أو الديمقراطية، ليس برنامج الاصلاح الاقتصادي والإداري برنامجا مصطنعا أو وهميا ولكنه برنامج أصيل وحتمي. وهو يستجيب لمصالح تتجاوز مصالح الفئات الحاكمة التي تريد من خلاله أن تحافظ على بقائها وسيطرتها في ظروف تغير البيئة الدولية وزيادة التحديات الخارجية. ومن هنا تأمل هذه الفئات من تطبيق هذا الإصلاح في تجديد أسس شرعيتها أو بالأحرى في أن يقدم لها فرصة لايجاد شرعية مستمدة من النجاح في التنمية الاقتصادية وتحسين مستويات المعيشة بدل الشرعية القومية والوطنية البائدة. وهذا هو الوضع الذي سمح ببقاء النظام التونسي مابعد البورقيبي واستمراره حتى اليوم. وهو الوضع الذي يقدم كمثال ينبغي أن يحتذى وتحلم العديد من الفئات العربية الحاكمة أن تحتذي به كي تعيد تكريس سلطتها وتضفي عليها بعض الشرعية.
وإلى مثل هذا الخيار الإصلاحي تدفع أيضا المؤسسات الدولية المالية والاقتصادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة. وتدفع إليه كذلك الدول الصناعية. والتشجيع على تبنيه هو المقصود من برامج الشراكة التي أصبحت اليوم صيغا وشعارات سائدة لإعادة ترتيب العلاقات بين هذه الدول والبلدان الفقيرة والضعيفة. ومن هذه الشراكات التي تتنافس على استعادة المنطقة العربية إلى دائرة نفوذها الاقتصادي الشراكة الاوروبية المتوسطية والشراكة الأمريكية الشرق أوسطية التي اقترحها الرئيس بوش الابن في إطار دعوته لإقامة منطقة تجارة حرة بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية. ومنها أخيرا المبادرة المشتركة الأمريكية الأوروبية الاخيرة لنشر الديمقراطية فيما سمي منذ أشهر الشرق الاوسط الكبير.
وبالفعل، يتعارض خيار الاصلاح الاقتصادي والإداري تعارضا جذريا مع خيار المواجهة والحرب ضد الغرب والامريكيين بل أكثر فأكثر اليوم والاسرائيليين أيضا. وهو ما يفسر التفاهم الحقيقي والعميق الحاصل بين واشنطن والحكومات العربية حول الحرب ضد الارهاب والتفاهم ضد المنظمات الجهادية التي كانت تستخدم في السابق من قبل هذه الحكومات نفسها، بصورة غير مباشرة، كأداة للتهديد والضغط. وفي هذا السياق يمكن أيضا تفسير التخلي شبه الكامل للنظم العربية عن الحركة الوطنية الفلسطينية التي أصبحت تكافح وحدها في مواجهة القوة الاسرائيلية العاتية المدعمة سياسيا وإعلاميا ودبلوماسيا من قبل الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص. وهو ما يكمن وراء نجاحها في تطوير مشروعها الاستيطاني علنا ومن دون أي رد فعل عربي أو دولي وإقامة جدار عازل يقضي على أي أمل للفلسطينيين بالعيش في فلسطين كمجتمع او كناس أحرار.
هكذا يشكل برنامج الاصلاح استراتيجية كاملة ومتكاملة ولا يمكن له إلا أن يقود إلى التفاهم والتعاون الكامل مع الدول الصناعية بصرف النظر عن موقفها من أي قضية وطنية أخرى. ولذلك فهو يحمل في طياتها أيضا مشروع انقلاب كامل في السياسات والاستراتيجيات العربية التقليدية تجاه كل ما يتعلق بالخارج وبالمسائل ذات الطابع الوطني أو القومي. وهو يقود في العالم العربي اليوم بشكل واضح ومنهجي إلى تفكيك الجامعة العربية أو تمزيقها بوصفها إطارا لتحالف عربي قديم في سياق التخلي عن الغايات والأهداف والمصالح المشتركةوسعي كل دولة من دولها إلى إعادة بناء التحالفات الإقليمية بصورة معاكسة تماما لما كان سائدا من قبل. ونشهد اليوم كيف تلتحق كل دولة بالقوة الجاذبة التي تسيطر عليها أو التي تعتقد أن من الممكن أن تقدم لها الفائدة والمتفعة والحماية في إطار تطبيق برنامج إصلاحها الاقتصادي والاداري الخاص وانكفائها على نفسها في وجه الدول العربية الأخرى.