عن الجزيرة وعلماء الدين

2007-02-06:: الجزيرة نت

نشرت الجزيرة في الأسبوع الماضي على الصفحة الاولى لقاءا صحفيا وضعت له عنوان: غليون يتهم الجزيرة بتسطيح الرأي العام العربي. وكان ذلك على إثر ندوة التحولات المجتمعية وأزمة القيم التي عقدها المجلس الوطني للثقافة والآثار، في 22-26 من الشهر الحالي. ونظرا لردود الأفعال السلبية العديدة التي أثارتها المقابلة والتي نجمت في نظري عن الابتسار في عرض الفكرة وسوء الفهم النابع منها، أجد من واجبي تجاه الجمهور والأمانة العلمية أن أعلن أنني لم أعط أي صحفي من الجزيرة مقابلة صحفية. أثناء خروجي من قاعة المحاضرات أحاط بي عدد من الجمهور وفيهم بالتأكيد بعض الصحفيين، ومنهم مراسل الجزيرة من بين كثيرين، طرحت علي بعض الأسئلة التي أجبت عليها إجابات سريعة ومقتضبة، اعتقادا بأن النقاش قد استوفى حقه في القاعة. ولم يكن يخطر لي أنني في صدد مقابلة تقدم لجمهور الجزيرة الواسع. وكان أولى بالمراسل في هذه الحالة أن يقوم بمقابلة تستوفي شروطها وتوضح الأفكار الغامضة أو المثيرة للجدل بدل الاعتماد على التفسير الذاتي كما حصل بالفعل. من هذا المنطلق كان بودي لو أن مراسل الجزيرة قد أتعب نفسه بلقاء يستوضح فيه عن الآراء التي أثرتها بدل نشر أجوبة غير دقيقة، سريعة ومبتسرة، من دون علمي ولا استشارتي.
لم يكن موضوع المحاضرة قناة الجزيرة. كان موضوعها أزمة القيم في المجتمعات العربية. ومن بين الأفكار التي وردت فيها أن اختلال القيم في مجتمعاتنا، بسبب عوامل عديدة داخلية وخارجية، قد دمر المرجعية المشتركة الضرورية لقيام أي نخبة إجتماعية فاعلة، وعمل على تفجيرها وتشتيتها. فصرنا على شفا حرب أهلية علنية أو كامنة، لا يفهم أحدنا لغة أخيه، ولا يتواصل معه من خلال قيم متماثلة. وقلت إن تجاوز الوضع الراهن، وإعادة بناء المرجعية الاجتماعية، أي منظومة القيم المشتركة التي تجسد الحد الأدنى من التفاهم الاجتماعي، يرتب مهام كبيرة على قادة الرأي، من صحفيين ومفكرين وسياسيين وفنانين وأدباء وغيرهم، من الذين ينصت لهم الجمهور ويتمثل بأفكارهم وآرائهم. وطالبت في هذا المجال باحترام التعددية باعتبارها الشرط الأول لأي تفاهم أو عمل مشترك، وقلت إن الاعتراف بها وتأكيدها كمبدأ مؤسس هو أول لبنة في بناء هذه المرجعية الواحدة التي نطمح من خلالها إلى إعادة بناء النخبة الاجتماعية، ومن ورائها بناء فكرة القيادة الوطنية ونمط ممارستها معا. وفي هذا الإطار تعرضت بالنقد لفكرة الاستئثار، واعتبرت أن الاعتراف بالتعددية هو اللبنة الأولى في إقامة الإجماع الوطني المنشود.
وفي اعتقادي لا يقتصر القضاء على التعددية على النظم الاستبدادية القائمة فحسب ولكن يتجاوز الأمر ذلك أكثر فأكثر نحو القضاء على التعددية الفكرية وتعددية الرأي من قبل أطراف المجتمع المستقلة عن السلطة أيضا. وليس من الصعب على المراقب أن يشاهد كيف يتراجع المجتمع نفسه نحو الفكر الواحد، تماما كما تراجعت السلطة من قبل. حتى ليمكن القول إن المجتمعات العربية تعيش بين طغيانين، طغيان النخب الحاكمة واستئثارها بالسلطة والدولة ومنعها الأطراف الأخرى من المشاركة فيها، وطغيان التيارات الاسلامية المختلفة - وليس علماء الدين – على الرأي العام، عندما تنزع لاحتلال كل ميادين السلطة الاجتماعية، الثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية والفنية، ولا تترك لغيرها من أصحاب الاختصاص أي مجال مستقل، أو أي استقلالية في تقرير ما هو صحيح في ميدان اختصاصها نفسه. وهذا يشكل أفقارا للتفكير العربي ككل في الشؤون الاجتماعية. لأنه يخفض الخطاب في المجتع والمعرفة الاجتماعية المتعددة والمتنوعة والمركبة بكاملها إلى معرفة لا هوتية أو فقهية، كما يقلص النخبة الاجتماعية إلى مكون واحد وحيد من مكوناتها هو النخبة الدينية التي تنزع في هذه الحالة إلى الحلول محل جميع النخب الاختصاصية الأخرى. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يفقر المجتمع فكرا وممارسة ويحولنا إلى أتباع لرجال الحكم والأوصياء على الدين وأتباعه معا. والواقع أن كلا السلطتين يمثلان نمطا واحد من السلطة المطلقة التي تستتبع الآخرين ولا تطلب منهم سوى الطاعة والانقياد. وكلاهما لا يتسقان مع تنمية ملكة النقد والتفكير الشخصي الحر. فرجل السياسة الاستبدادية لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر. وكلاهما ينزع إلى النظر إلى المجتمعات ككتل تابعة، ولا يهتم أي اهتمام باستقلال الفرد الفكري والسياسي وتحرره.
وبعكس ما ذكر في اللقاء المنسوب لي، لم اتهم الجزيرة بتسطيح الرأي العام، وإنما ذكرتها على سبيل المثال، أي كنموذج للموقع الذي يعكس هذا التحالف الموضوعي القائم بالفعل في مجتمعاتنا بين الطغيانين، بصرف النظر عن إرادة أصحابها. فما يبث فيها يجسد واقع ما نعيش بشكل واضح، أي عالمنا الذي تتصارع فيه بالدرجة الأولى نخبتان سياسيتان، النخبة السياسية الاستبدادية المسيطرة على الحكم والنخبة الاسلامية المسيطرة على المعارضة والرأي العام، بينما تغيب عنها أغلب جماعات الرأي والاختصاص الأخرى، ولا تتاح لها فرصة التعبير عن نفسها والمشاركة في النقاشات الوطنية، مما كان سيخفف لو حصل من حدة التناقض والتصادم في ما بينهما. فمن حق الصناعيين والنقابيين والعلماء والفنانين والإداريين والمبدعين في جميع الميادين أن يكون لهم مكانهم في وسائل الإعلام، وأن يتمكنوا هم أيضا من التواصل عبرها مع الرأي العام. ولن يكون هذا في مصلحة المجتمع ككل الذي سيتمثل تعدديته ويستبطنها ويفهم شرعيتها ومسبباتها فحسب، ولكن في مصلحة الاسلاميين انفسهم أيضا. وأملي أن يدرك الاسلاميون الذين عايشوا تجربة الفكر الواحد والحزب الواحد التي قادت مجتمعاتنا إلى الهاوية، والتي عانوا هم منها الأمرين، مخاطر الانجرار وراء النزعة ذاتها والقبول، تحت ذرائع مختلفة، بمبدأ الاستئثار بالرأي، وعدم التردد أمام فكرة إقصاء الآخرين وقطع الطريق عليهم، على أمل تحقيق السيطرة الكاملة على المجتمع، وتفريغ الساحة من أي خصم أو رأي مغاير. وهو نزوع قائم لا يمكن إنكاره، ويتخذ أشكالا عديدة منها استسهال اتهام الخصم المختلف في الرأي بالعمل في سياق الاستراتيجيات الغربية أو في ما لا يخدم الأمة وإخراجه من الدائرة الوطنية، وتشويه أرائه أو الابتسار فيها للتشهير به والقضاء عليه. ولا أحد ينكر أن للفكر الاسلامي اليوم السيطرة الشاملة على الرأي العام، بينما تحولت التيارات الأخرى الليبرالية أو الحداثية أو العلمانية، إلى تيارات أقلوية معزولة داخل جيوب محدودة وضيقة، تكاد تفقد هي نفسها الثقة بذاتها، وتهرب من بلدانها بحثا عن سماء أخرى تستطيع أن تعبر فيها بحرية أكثر عن رأيها.
وبعكس ما يعتقد الاسلاميون، لن يساعد انهيار هذه التيارات المغايرة واندثارها وخروجها من الساحة على تقدم قضيتهم، أو على أي انتصار حقيقي لهم، كما لن يقربهم احتكار السلطة الاجتماعية والتحكم الكامل بالرأي العام من السلطة السياسية والدولة. إن ذلك سيقلل بالأحرى من حظوظهم في الوصول إليها أو المشاركة فيها بقدر ما سيدفع قطاعات الرأي العام التي لا يمكن حلها أو امتصاصها بأي شكل، إلى الالتحاق بالسلطة الديكتاتورية والتحالف معها، وبالتالي في استمرار حالة المواجهة المميتة الراهنة وما ينجم عنها من انسداد في أفق التحول والتغيير. ليس المقصود من رفض الاستئثار إذن صون حقوق الأقلية الفكرية بالدرجة الأولى، وإنما تاكيد مبدأ التعددية وشرطها الذي لا يمكن أن تقوم من دونها حياة سياسية ومدنية سليمة. فمجتمع الرأي الواحد والسلطة الواحدة ليس محكوما عليه بالتقهقر والفقر والفساد، كما هو حالنا اليوم فحسب، ولكن بالحرب والاقتتال الأهليين الدائمين. ذلك أنه متى ما قضي على مبدأ التعددية، لن يكون هناك مجال لتحقيق وحدة المذهب أو الرأي الواحد نفسه. ذلك أن كل مذهب ودين قائم أيضا على اجتهادات وتأويلات ومناهج نظر مختلفة، لا يمكن تعايشها إلا على أساس الاعتراف بحق الاختلاف والمغايرة. ولهذا قال القدماء المسلمون اختلاف الأمة رحمة.
ليس المطلوب من الاسلاميين التنازل عن مواقعهم التي اكتسبوها بجهدهم أو بسبب انهيار التجارب الليبرالية واليسارية الحديثة، وهي مواقع النخبة المسيطرة بحق اليوم على الراي العام المسلم، ولكن المقصود عدم الاستسلام لإغراء القضاء نهائيا على الخصم وتصفيته من الوجود، حتى لو كان ذلك في متناول اليد. ويرتب هذا مسؤوليات كبيرة على قادة الرأي من بين المسلمين والاسلاميين معا. وينبغي ان يحثهم على الاعتدال في التعبير عن السيطرة والسلطة ويدعوهم إلى المزيد من التمرس على ضبط النفس، والابتعاد عن الغطرسة التي يدفع إليها الشعور بالقوة والتمكن، وعدم الاندفاع بعيدا وراء إغراء الانتصار الخالص، أو استثمار التفوق الواضح لدي الرأي العام لتحقيق أهداف سياسية اجتماعية خاصة، أو للتخلص مما بقي من آراء ومواقف ورؤى مغايرة في المجتمع. كما يدعوهم إلى الإمساك عن تسويد صفحة الخصم وتشويه صورته من خلال اتهامه المستمر والتهجم عليه والهزء بمواقفه وآرائه، فما بالك باستسهال تكفيره أو تخوينه في مسائل لا علاقة لها بالدين، وتدخل ضمن دائرة الاجتهاد السياسي والعقلي، مما تطفح به الساحة العامة اليوم في مجتمعاتنا.
من هنا، وانطلاقا من المباديء الديمقراطية والعادلة نفسها التي حفزتني، في الثمانينات، ضد جميع تيارات الاقصاء والأحادية الفكرية والسياسية واحتكار السلطة السياسية أو الفكرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، إلى الدفاع عن الاسلاميين وحقهم في الوجود، عندما كانوا أقلية مضطهدة من قبل ما يسمونهم اليوم بالعلمانيين، واتهمت من قبل هؤلاء في وقتها بالاسلاموية، وعزلت في أوساط هؤلاء العلمانيين وأنظمتهم التابعة، أشعر اليوم أن من واجبي التذكير بخطر الانجراف وراء نزعة الاقصاء والاقتلاع ذاتها التي تبدو لي في نمو متزايد في وسط التيارات والحركات الاسلامية المختلفة، التي تشعر في الوقت نفسه بالاحباط والقهر نتيجة إغلاق باب المشاركة السياسية في الوقت الذي تشكل فيه الكتلة الأكبر أو ذات التأثير الأكبر لدى الرأي العام. لكن الحل لهذا الإحباط ليس في الانتقام من الأقليات الفكرية المغايرة، واحتكار السلطة الاجتماعية وساحة الرأي العام وإغلاقهما في وجه من يسمون بالليبراليين والعلمانيين والحداثيين، وحرمانهم من الحرية أو من الوجود الشرعي المعترف به والمقبول، وإنكار حقهم في المناقشة والحوار. فلن يقدم مثل هذا الموقف أي مخرج من الأزمة التي يعيشها التيار الاسلامي ومعه المجتمعات العربية بأكملها، ولكنه يعمل بالعكس على تعميقها وإدامتها. إنه لا يقدم للاستبداد المقيت الذرائع التي يبحث عنها لتبرير نفسه واستمراره فحسب، وإنما يزرع الخوف الشديد أيضا في قطاعات واسعة من الرأي العام التي لا مصلحة لها في بقائه، ولكنها لا ترى والحالة هذه فرقا كبيرا بينه وبين البديل القادم، ما دام هذا البديل لا يختلف عنه في رفض التعددية والنزوع إلى الاستئثار الفكري والسياسي. وهو ما يفسر الكساح الحقيقي الذي تعاني منه الحركات الديمقراطية في المجتمعات العربية لصالح قوى التكلس والتعصب والاستبداد والطغيان.
لا تعني التعددية الاعتراف بالآخر أو التسامح مع وجوده فحسب. ولا تقتصر على القبول به أو صرف النظر عنه. إنها تتطلب أكثر من ذلك الاعتراف بمشروعية فكره والمنطلقات التي يقوم عليها، حتى لو أننا لا نؤمن بها، ونعتقد، وهذا حقنا، أن مشروعية فكرنا هي الأقوى. ولا ينبغي أن نجد صعوبة كبيرة في التأسيس لمشروعية التعددية في ثقافتنا العربية والاسلامية. فهي لا تعني شيئا آخر سوى رفض الاعتقاد بالعصمة لأي إنسان، والاقرار في المقابل أن احتمال الخطأ كامن في أي نظر، وذلك على منوال القاعدة التي سنها كبار أئمة المسلمين أنفسهم : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر المختلف خطأ يحتمل الصواب. فاعتقادي بصواب رأيي لا يصل إلى درجة الاعتقاد بعصمتي، وبالمثل اعتقادي بخطء رأي الآخر المخالف لي لا يلغي احتمال وجود الصواب فيه. بالتأكيد مثل هذه الدعوة لتحمل المسؤولية والارتفاع على مشاعر الاحباط وعدم السير وراء غريزة الربح والانتصار الكاسحين وتحقيق المكاسب الفئوية، لا تعني المؤمنين ولا الناشطين العادين، ولا معنى لها في هذه الحدود. إنها موجهة للقادة السياسيين من الاسلاميين ولرجال الدين الكبار الذين يفكرون بمصير البلاد والمجتمعات ككل وبمستقبلها، ولا يكتفون بالتفكير بمكاسبهم السياسية الخاصة، كما لا ينخدعون بالمظاهر والانتصارات السريعة والسطحية.
يكفينا ما نحن فيه من محن ونزاعات في كل مكان، ولا حاجة إضافية لتصيد الخلافات ولا تسعيرها، ولا فائدة لأحد في استعداء بعضنا على البعض الآخر، أو الاساءة إليه، أو الايقاع به، ولا من باب أولى خلق الأعداء من العدم.