عندما تتحول الخيانة إلى مقياس الوطنية

2006-01-18:: الاتحاد

قلت في مقال سابق أن تحلل الحركة الوطنية لحقبة الكفاح من أجل الاستقلال ومن بعدها الحركة القومية الشعبية التي عرفتها المجتمعات العربية في الخمسينات والستينات قد أفسح المجال أمام صعود البيرقراطية الحكومية وتفاقم سيطرتها على الدولة والمجتمع عبر أحزابها الأوحدية أو الأجهزة الأمنية المرتبطة بها. لكن هذا الصعود لم يكن الثمرة الوحيدة لتحلل الوطنية العربية واختفاء برامجها السابقة، بوجهيها القطري والقومي معا. لقد رافقه أيضا أو تبعه تدريجيا زوال أي مرجعية وطنية ضرورية لتحديد غايات الاجتماع السياسي وبلورة خيارات واضحة ومقبولة، وتطبيق برامج عمل تاريخية فعالة، وتحقيق التسويات الضرورية بين مجموعات المصالح والتيارات العقائدية والسياسية المتنافسة. فمن دون هذه المرجعية ليس من الممكن قيام أي سياسة لا من حيث هي بلورة لتوجهات واضحة ومقبولة، ولا من حيث هي مسؤولية ومحاسبة أو مساءلة عن تحقيقها. ومن هنا لا تعني الأزمة الوطنية خروج الشعب من السياسة، نتيجة الانكفاء الذاتي أو التراجع أمام القمع، فحسب، ولكن أكثر من ذلك افتقار النخب الاجتماعية إلى التفكير المشترك الضروري للتوصل إلى بلورة سياسات وطنية جامعة. وهو ما يفسر ما حصل بالفعل في العقود الأربع الماضية من انفراط عقد الجماعة الوطنية وتشتت الرأي العام السياسي، وبالتالي من تمديد تلقائي للوضع القائم، وفي ما وراء ذلك إلى إطلاق يد النخب الحاكمة، أو التي نجحت في الاحتفاظ بالسلطة بطريقة أو أخرى، في تقرير سياسة البلاد وتحويل أجندتها الخاصة، أي أجندة إعادة إنتاج سلطتها ونظامها ومصالحها، إلى أجندة بديل للأجندة الوطنية. وإذا كانت هناك ظاهرة تعبر بقوة عن هذه الوضعية، وتعكس حقيقة خروج الشعب من السياسة، وتشتت النخب الاجتماعية، واستفراد القوى الحاكمة بالسلطة، وإخضاعها لخدمة أجندة تجديد نظامها القائم، فهي ظاهرة توريث السلطة الجمهورية. ليس بما هي تعبير عن انعدام الخيارات عند النخبة الحاكمة فحسب، ولكن أكثر من ذلك من حيث التعبير عن عجز المجتمع السياسي نفسه عن اقتراح بدائل ممكنة نظرية وعملية لهذا التمديد التلقائي للنظم القائمة.

وبغياب مفهوم واضح للمصلحة الوطنية عند الرأي العام، سواء ما تعلق منها بالأمن الوطني أو بالوحدة الداخلية أو بالتنمية أو بأي ميدان من ميادين النشاط العمومي، لا يبقى هناك مجال لتكوين إرادة أخرى غير تلك الإرادة الحاكمة، والتي توحد أفرادها المصالح المشتركة في الحفاظ على النظام، وأحيانا إرادة الرئيس والزعيم، التي تكاد تتحول إلى إرادة إلهية أو شبه إلهية، مقدسة ومطلقة معا، لا تخضع لأي شكل من أشكال المحاسبة أو المساءلة. وفي هذه الحالة لم تتحول الحكومات إلى مجالس أركان لأصحاب المصالح المسيطرة والإطار التنفيذي لتوزيع المغانم والمكارم والصفقات على قوى التحالف الحاكم، حسب قاعدة القرابة والنفوذ والقوة فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، أمكن لزعيم فرد أن يجعل من الدولة والمجتمع ومواردهما معا أدوات في خدمة بناء هرم مجده الشخصي وزعامته القومية أو الإقليمية.
من الواضح أنه لا توجد اليوم، في معظم البلدان العربية، أجندة وطنية، ولا من باب أولى أجندة قومية عربية، ولكن أجندة نظاموية تتعرض هي نفسها الآن للتآكل والتخبط، مع تبدل موازين القوى وتفاقم نزاعات شبكات المصالح القائمة والمتآلفة، البيرقراطية والخاصة، الزبائنية والعائلية والتجارية والكبمرادورية معا. وفي منظور هذه الأجندة، تكمن المصلحة الوطنية في المطابقة المطلقة بين النظام والدولة. وبهذا المعنى يصبح معيار الأمن الوطني تعزيز النظام ودعمه بأي وسيلة كانت، ذلك أن زعزعة النظام هي زعزعة استقرار البلاد. ومن وسائل تعزيز النظام الحفاظ على موقعه الإقليمي والدولي، ووقف أي نشاط اجتماعي أو سياسي يثير الشك في استمرار النظام، وفي مطابقة مصالحه لمصالح الوطن. كما يصبح معيار الوحدة الوطنية التفاف الشعب، بكل مكوناته وتياراته وجماعاته، من دون نقاش ولا تساؤل أو تردد، حول النخبة الحاكمة والرئيس القائد الذي يمثلها، تماما كما يشير إلى ذلك شعار التظاهرات التي غالبا ما تنظمها السلطات القائمة، والذي يشكل الهتاف للرئيس وإعلان فدائه بالروح والدم شعارها الأوحد. أما في سورية فقد جاء تجديد الشعار موافقا لإرادة التجديد السياسي وحقيقته، فحل محل شعار بالروح بالدم الذي احتفظ به البرلمان شعار : "الله وسورية وبشار وبس". وهو يعني في الواقع بشار وبس، ذلك أن الله وسورية ليسا مجال اختيار وموضوع نقاش من قبل أحد. فكما لا يمكن لمؤمن أن يجادل في وجود الله، لا يمكن لسوري أن يضع سوريته موضع مساومة واختيار. هكذا يتطابق مفهوم الوطنية في النظم القائمة مع الولاء للرئيس وتقديسه والتماهي مع خياراته الاستراتيجية والسياسية. وأي نقاش لهذه الخيارات ولأسلوب إدارة الشؤون الداخلية والخارجية عموما، حتى لو لم تكن من إنتاجه الشخصي، هو خروج من دين الوطنية، وخيانة تعادل التعامل مع الدول الأجنبية.
يظهر هذا الوضع كيف تجردت الوطنية من جميع برامجها التاريخية، الخارجية المتعلقة بالأمن والسيادة والاستقلال، والداخلية المتعلقة بحقوق الأفراد السياسية والمدنية وتحولت إلى عقد لعبادة الشخصية. فرئيس النظام هو "سقف الوطن". فهو الكافل لجميع مؤسسات النظام والحامي لها، بمصلحيها ومخربيها، وهو رمز الوطن ومعيار الوطنية. وكل انتقاد لهذا العقد، في أي وجه من وجوهه، سواء أكان نظريا، عبر انتقاد السياسات، أو عمليا عبر تشكيل منظمات معارضة ليست مبرمجة من قبل النظام، بل حتى جمعيات المجتمع المدني، يشكل خرقا لسقف الوطن وتجاوزا لخيمته. وكما أن الوطنية الجديدة، كما يتصورها أصحاب النظام، لم تعد ترتب على المواطن أي التزامات أو واجبات سوى التماهي مع القائد الملهم، وتأكيد الولاء له، فلا يترتب على قادتها وممسكي زمام الأمر فيها، أيضا، أية مسؤوليات.
هكذا لا تبدو الوطنية مرتبطة بحقوق وواجبات ومصالح والتزامات تخص الجميع وكل فرد، وتحتمل النقاش والتطوير والتجديد والتحسين، وإنما هي سقف للحرية وتقييد للحق والقانون تفرضهما مقتضيات الأمن ويتجسدان عبر تعزيز القيود والحدود التي تؤمن وحدها الوحدة والالتحام والانتظام. فليس المطلوب من أحد، لا من الشعب ولا من المسؤولين، تأدية أي واجب من أي نوع كان، ولكن الطاعة والولاء من جانب، وقمع المتجاوزين للحدود والقيود من جانب آخر. ولذلك لا تتجلى الوطنية هنا عبر إنجازات، سواء أجاءت من المواطنين أم من النظام، ولكن عبر تأكيد الثوابت والكشف عن الخيانات أو إنتاجها وتصنيفها والمعاقبة عليها، تماما كما كان إيمان الكنيسة القرسطوية لا ينمو ولا يتجلى إلا من خلال تعميم المحارق المعدة للسحرة والملحدين. ومثلما تطابق التعبير عن هذا الإيمان في الماضي مع علم الزندقة الذي طورته محاكم التفتيش حتى أصبحا شيئا واحدا، يتطابق مفهوم الوطنية الجديدة مع علم الخيانة ولا يستقيم إلا به. فمن دون هذا الإنتاج المستمر للخيانات، تبقى وطنية الولاء الشخصي المطلق، الخالي من الحقوق والواجبات والمسؤوليات والالتزامات، فارغة، بالضرورة، من أي مضمون