سورية في عين الاعصار الامريكي

2002-05:: الوطن

ما كاد حبر التصريحات التي وصف فيها مسؤول امريكي كبير سورية بأنها عضو في محور الشر وانها من الدول المارقة التي تستحق العقاب يجف حتى سربت الصحافة للرأي العام محتوى مشروع القانون الذي تقدم به بعض اعضاء الكونغرس بهدف فرض عقوبات شديدة على سورية. وينص مشروع القانون هذا على أنه إذا لم يتم التأكد من أن سورية تتعاون مع الولايات المتحدة في العديد من المواضيع التي يذكرها المشروع  فإن الإدارة مطالبة بأن تمنع تصدير البضائع والخدمات من الولايات المتحدة إلي سورية باستثناء المواد الغذائية والطبية. كما يتضمن مشروع القرار فرض عقوبات اقتصادية على دمشق خصوصاً فيما يتعلق بتقديم المساعدات الخارجية والقروض المالية وعدم السماح للشركات الأمريكية بأن تستثمر أموالها في البلاد، وتحديد مدى تحركات الدبلوماسيين السوريين في الولايات المتحدة، أي فرض شروط عليهم شبيهة بتلك التي تفرض على دبلوماسيي بعض الدول مثل كوبا وبعض الدبلوماسيين الفلسطينيين في نيويورك ومنعهم من التحرك خارج مكاتبهم مسافة تزيد على 25 ميلاً. ويقترح القانون أيضا قطع العلاقات والاتصالات بين الدبلوماسيين الأمريكيين والدبلوماسيين السوريين، إضافة إلى اقتراحات أخرى من شأنها لو طبقت أن تشل كلياً العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وسورية.

ويطالب مشروع القانون سورية بموقف واضح من الارهاب ودعم منظمات ارهابية وبسحب القوات السورية من لبنان وايقاف مشاريع تطوير أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيميائية والصواريخ البعيدة المدى، إضافة إلى التحقق من ان سورية لا تنتهك القرار 661 لمجلس الامن الخاص بحظر التعامل مع بغداد بشرائها النفط العراقي.

تفيد التقارير الصحفية أن هذا المشروع لم يرق للادارة الامريكية. فقد إعلن وزير الخارجية كولن باول معارضته له في الرسالة التي وجهها إلى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأكد فيها أن مثل هذا القرار يضيق من هامش مبادرة الادارة في علاقاتهاالخارجية، وقد يمس بالعلاقات الثنائية بين البلدين. وقد ذكر باول في سياق تدعيم موقفه بالدور الذي  لعبته سورية في تبادل المعلومات لمكافحة ما يسمي بالإرهاب الدولي، وكذلك بالموقع الذي تحتله سورية في المنطقة وبالتالي بالاهمية الكبيرة لتحسين العلاقات بين البلدين.

وليس هناك أي شك في انه لا مصلحة عند الادارة في ان تفرض على نفسها مثل هذه القيود وأنه لو تم التصويت على مثل هذا القانون فسوف يفرض ذلك على الادارة الامريكية أن تخضع علاقاتها مع سورية الى مراقبة دائمة وشاملة من قبل الكونغرس وأن تقدم شهادات وتدلي بضمانات تطمئن الكونغرس على أن سورية لا تؤوي الإرهاب. ولعل أهم دليل على عدم رضى الادارة الامريكية عن هذا المشروع الاعلان في اليوم ذاته من قبل الطرفين عن بدء حوار عالي المستوى هو الفريد من نوعه منذ بداية تاريخ العلاقة بين البلدين. وهكذا غادر دمشق في السادس عشر من مايو بدعوة من معهد بيكر للسياسات العامة الذي يرأسه السفير السابق ادوارد دجيرجيان وفد سوري للمشاركة في ندوة حوار في جامعة رايس في هيوستن. وقد رئس الوفد معاون وزير الخارجية وليد المعلم وضم مسؤولين في الخارجية السورية واساتذة قانون ورجال اعمال واعلاميين. وبحسب جدول الاعمال الرسمي  ستناقش الندوة محاور متعددة تشمل العلاقات الثنائية ومسألة الارهاب وقضية السلام في الشرق الاوسط والعلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية. ومن المفروض ان يلتقي الوفد السوري عددا من أعضاء الكونغرس. وتعكس تشكيلة الوفد وطبيعة المحاور التي يناقشها والتي تستبعد الموضوع المفضل عند الامريكيين في حوارهم مع الدول النامية وهو مسألة الديمقراطية الارادة المشتركة عند الطرفين في التوصل الى تفاهم يسمح بعقد جلسات حوار اخرى ويساهم في تحسين العلاقات بين البلدين.

فالولايات المتحدة تدرك الاهمية الكبيرة لكسب سورية لاي مفاوضات تسوية محتملة بل حتمية في مستقبل بعيد او قريب وتأمل ان يمكنها تحسين العلاقات معها من كسب الوقت في هذه المرحلة الصعبة التي تحاول فيها اسرائيل والولايات المتحدة تركيب وضع جديد في فلسطين والمنطقة على ذوقها وتليين موقف دمشق الان وفي أي مفاوضات قادمة محتملة والقبول عندما يحين الوقت بالتخلي عن تطوير الاسلحة البيولوجية والكيماوية. وبالمثل تدرك الحكومة السورية ان التفاهم مع الولايات المتحدة هو وحده الدي يضمن استقرار نظام يتعرض لضغوط داخلية متصاعدة وخطيرة ويضمن الابقاء على امل استعادة الجولان او على الاقل درء خطر الاعتداءات الاسرائيلية المحتملة ضد سورية.
هذه المواقف المزدوجة للكونغرس والادارة تدفع البعض للتساؤل حول حقيقة السياسة الامريكية وفيما اذا كان هناك بالفعل سياسة واحدة او متسقة ازاء سورية. والواقع ان التناقض الظاهري في هذه السياسة يتجاوز الخلاف بين الحكومة والكونغرس ويخترق الادارة نفسها. ففي الوقت الذي تدعو فيه واشنطن دمشق للحوار ويدافع فيه كولن باول عن ضرورة ترك باب المفاوضات مفتوحا معها لا تكف أعضاء عديدة من هذه الادارة ذاتها عن اقناع الرأي العام والكونغرس الأمريكيين بأن سورية دولة ارهابية تؤوي الإرهابيين وأنها جزء من محور الشر. وفي هذا السياق لا يبدو ان ما يسعى الكونغرس الى تحقيقه عن طريق التصويت على قانون معاقبة سورية متناقضا بأي حال مع مواقف الادارة ولا يختلف عنها ولكنه يسير على اثار خطواتها ولا يمكن ان يتحقق بمعزل عنها. ولا يستطيع احد ان يقنعنا بأنه ليس هناك بين اعضاء الكونغرس والحكومة الامريكية أي اتصالات او أي تنسيق او مداولات فعلية. ولو كان الامر كذلك لكان النظام الامريكي في ازمة عميقة وكارثية

ليس هناك أي تناقض او ازدواجية في الموقف الامريكي بين الكونغرس والادارة وداخلهما. وقبل أن يرفع الكونغرس عصا مشروع قانونه العدواني ضد سورية كانت كوندوليزا رايس وغيرها من المسؤولين الامريكيين الرئيسيين قد لوحوا بهذه العصا الغليظة ذاتها قبل ايام من ذلك مع درجة من القوة اقنعت السوريين بأنه لم يعد أمامهم مهرب من التسليم بالامر الواقع. فقد ساهم اتهام سورية بانها عضو في محور الشر وما يتضمنه هذا الاتهام من تهديد واضح في دفع دمشق الى الاسراع في اعلان انضمامها الى محور قمة شرم الشيخ الثلاثي بعد ان كانت تهدد بمقاطعتها. ولا يشكل الاختلاف بين موقف الكونغرس وموقف الادارة الا الامتداد الطبيعي وعلى مستوى اعلى لسياسة استخدام العصا والجزرة في سبيل جر سورية الى الانسجام في سياساتها العملية والنظرية مع الاستراتيجية الامريكية الاقليمية.

وبصرف النظر عن المصير الذي سيلقاه مشروع قانون معاقبة سورية – وعلى الأغلب سوف يبقى سيفا مسلطا عليها - فمن الواضح انه قرار سياسي صاغه ويسير وراءه عدد من أعضاء الكونغرس الذين من الصعب ان يكون دعمهم لاسرائيل اقوى من دعم الفريق الامريكي الحاكم والمسيطر في الادارة الامريكية ابتداءا بالرئيس ذاته وانتهاءا بمساعديه لشؤون الامن او الدفاع. وسواء أتعلق الامر بوضع سورية ضمن دول محور الشر والتهديد بمعاقبتها أو بدعوة الحكومة السورية للحوار فالهدف واحد لا يتغير وهو الضغط على دمشق لاجبارها على القبول بتنازلات تمس بمصالحها الوطنية وتحابي اسرائيل وتزيد من مكاسبها. فكلاهما الامساك بالعصى الغليظة والتلويح بالحوار والتفاهم والتبادل يشكلان جزءا من مناورة سياسية واحدة ترمي الى حرف النظر عن جرائم اسرائيل واستمرارها في تنفيذ مخططاتها الاستعمارية في الاراضي الفلسطينية من دون ان تثار ضدها أي اعتراضات عربية او عالمية. ومنذ الان يشكل شل الارادة العربية اساس الاستراتيجية الامريكية الاسرائيلية الرامية الى نقل الازمة الى داخل الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها بعد ان نجحت اسرائيل في رمي الكرة في الملعب العربي والخروج تقريبا من دون خسائر سياسية ومعنوية كبيرة من الحرب الدموية التي راح ضحيتها ألاف الابرياء من الشعب الفلسطيني.

لم يكن لدى السوريين خيار اخر غير البحث عن التفاهم والحوار مع الولايات المتحدة. لكن لا يجب ان يكون لديهم اوهام عن طبيعة هذا الحوار وأهدافه ومغزاه. فهو حوار يجري تحت التهديد من قبل الادارة والكونغرس معا بالمعاقبة والحرب المدمرة. وهو حوار ثنائي يعكس تصميم الولايات المتحدة على الانفراد بالبلاد العربية كل على حدة ويرفض المفاوضات الجماعية العربية الامريكية التي تشكل وحدها ضمانة نسبية حتى لا تتحول المحادثات الثنائية الى إملاء لشروط الاقوى واذعان للطرف الاضعف. وهو اخيرا حوار يجري في سياق تزايد اعتماد السوريين في ظل التحولات الراهنة في اتجاه اقتصاد السوق وجذب الاستثمارات الاجبنية بشكل متزايد على الخارج وعلى الولايات المتحدة بالذات لتقليل مخاطر مرحلة الانتقال الاقتصادية والسياسية. وفي هذه الظروف, ومهما اجتهد الوفد السوري في الدفاع عن وجهة نظره وتأكيد مرونته واعتداله فلن ينجح في تغيير موقف الامريكيين قيد انملة ولا في تبديل الهدف الذي رسموه لهذه المحادثات. فالامريكيون, خاصة في ظل الادارة الراهنة, لا يتعاملون حتى مع اوربة كمحاور كفؤ او كند يمكن لهم ان يقبلوا منه اراءا تسمح باعادة النظر في اولوياتهم أو تعديل سياسة الدعم الاستراتيجي الحاسم الذي يقدمونه لاسرائيل. وليس في ذهن الامريكيين أي هدف للحوار سوى ان ينتزعوا من السوريين بالرضى او بالقوة  التنازلات التي ينتظرونها منهم في فلسطين والجولان وداخل سورية نفسها بخصوص ما يسمونه اسلحة الدمار الشامل التي تعتقد واشنطن ان سورية تملك بعضها وتطور بعضها الاخر. وما دامت واشنطن تدرك أنه لا بديل عند الحكومة السورية عن دعم الولايات المتحدة الامريكية والتفاهم معها لتحقيق أي انجاز وطني او اقتصادي او سياسي فسوف تستمر في الضغط على دمشق حتى تصل الى غاياتها وتقنع سورية بأن من مصلحتها ان تدخل في محور الخير الامريكي وتترك محور الشر الفلسطيني والوطني. وليس لدى دمشق ولا أي بلد عربي آخر لوحده أي امل في التأثير على الولايات المتحدة. وستبقى الحوارات والمحادثات وسيلة لتعزيز الضغط الامريكي علينا ما لم ننجح في ان نفرض على واشنطن مفاوضات جماعية عربية امريكية على أساس أجندة او جدول اعمال متوازن يعكس الاحترام المتبادل والحد الادنى من الاعتراف بالاخر كمحاور اصيل. وشرط تحقق مثل هذا الحوار النجاح إعادة بناء المعسكر العربي ذاته من الداخل واستعادة ثقة العرب بأنفسهم وتعاملهم مع ذاتهم كاصحاب سيادة وقرار.