روسيا.. الحملة الصليبية التاسعة ضد “المتطرفين”

2015-09-13:: العربي الجديد

روسيا.. الحملة الصليبية التاسعة ضد "المتطرفين"

 في أقل من أسبوع، انقلب مزاج المراقبين والمعنيين بالشأن السوري، من النقيض إلى النقيض. فقد جاءت التصريحات المتعاقبة للمسؤولين الروس، لتقضي على كل الآمال في احتمال التوصل إلى بداية حلحلة للأزمة السورية، ووضع حد لعملية القتل المنظم المستمر منذ سنوات.  وكان السبب الأول في نمو توقعات المراقبين بإمكانية انفراج في الأزمة السورية ما أشيع عن بداية تفاهم بين الروس والأميركيين الممسكين، في النهاية، بخيوط الصراع، على تكثيف الجهود وتسريع المفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية مقبولة من الأطراف، حتى اعتقد بعضهم أن واشنطن أوكلت إلى موسكو إيجاد حل للأمر، وأن موسكو أصبحت على استعداد للتخلي عن الأسد في مقابل الحفاظ على النظام. وساهم في إشاعة هذا المناخ الإيجابي التطور البارز الذي طرأ على العلاقات الروسية السعودية، والروسية العربية عموماً، والاتفاقات التي وقعت بين الجانبين، والتنسيق الدبلوماسي العالي الذي حصل بين الروس والأميركيين، وأنتج الإجماع على البيان الرئاسي لمجلس الأمن، وتبني هذا المجلس نفسه خطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. وجاء ذلك كله عقب الاتفاق على إغلاق الملف النووي الإيراني، والاعتقاد المتزايد أن طهران المتصالحة مع الغرب سوف تميل إلى تغيير سلوكها في المنطقة، والرهان على التفاهم والعمل الإيجابي بدل الاستمرار في المراهنة على سياسة التخريب وزعزعة الاستقرار التي كانت تهدف إلى الضغط على الغرب، من خلال الضغط على ما تعتبره مصالحه في المشرق العربي، وخصوصاً في الخليج وجواره. 

قيادة العملية السياسية أم الانقلاب عليها؟
وكان تبدل موقف روسيا، نتيجة خوفها من تفاقم تدهور الموقف في سورية والعراق، وخطر سيطرة المتطرفين وانعكاسات ذلك عليها، واحتمال استعدادها للتعاون أكثر مع الغرب للتوصل إلى حل، هو الحجة الرئيسية التي استخدمها فريق المبعوث الدولي، دي ميستورا، لإقناع المعارضة السورية بجدوى المشاركة في فرق الحوار أوالتشاور التي اقترح تشكيلها لإطلاق العملية السياسية، وتجنب صدمة المفاوضات المباشرة، والمساعدة على بلورة المواقف للفرقاء السوريين. 
والحال، نحن اليوم أمام مناخ مختلف تماماً. فالتصريحات الروسية الجديدة التي جاءت لتؤكد للجميع أنها لم ولن تغير موقفها في موضوع بقاء الأسد والنظام، وأنها لا تزال متمسكة بخطة بوتين الرامية إلى تكوين حلف عسكري، يجمع إيران والسعودية والعراق وتركيا والنظام السوري، لمواجهة التطرف والتنظيمات الإرهابية، ليضع حداً للتفاؤل الذي ساد في الأشهر الماضية، خصوصاً بعد أن أعادت موسكو تأكيد شرعية الأسد، ما يعني دمغها جميع المقاتلين ضده، معتدلين وغير معتدلين، بسمة التمرد والإرهاب. كما أن استئناف دعمها العسكري المكثف للنظام السوري، بأسلحة متطورة، وذخائر جديدة، والحديث عن بناء قاعدة عسكرية لها في محافظة اللاذقية، وفي مصادر أخرى، عن إرسال قوات عسكرية روسية إلى المنطقة، كما كشفت الصحافة الدولية. ويوحي ذلك كله إلى أن هناك انقلاباً في الموقف الروسي، ويطيح جميع الآمال التي بنيت على إمكانية إبعاد موسكو، ولو جزئياً، عن طهران، والمراهنة على ضغوطها لإقناع إيران بتغيير سياساتها.
وقد ربطت بعض قوى المعارضة، وفي مقدمتها الائتلاف الوطني السوري، بين تطورات السياسة الروسية تجاه الأسد، وخطة دي ميستورا والانفتاح المفاجئ الذي أبدته أوروبا في موضوع اللاجئين السوريين، وتبنيها خطة استقبال عدد متزايد منهم، وإعادة النظر في إجراءات اللجوء. فرأت فيه تواطؤاً أوروبياً مع خطة طهران وموسكو، لإفراغ سورية من سكانها، لتسهيل السيطرة عليها وتغيير بنيتها السكانية. 
وليس هناك شك في أن التناغم الحاصل بين تصريحات المسؤولين الإيرانيين والروس والرد الأميركي الضعيف على تحركات موسكو في المنطقة، تترك انطباعاً قوياً بأننا على أعتاب مرحلة جديدة، معاكسة تماماً لما كان متوقعاً من احتمال بدء مفاوضات متوازنة للحل السياسي، دفع إليها إدراك دولي متزايد لعظم المخاطر الناجمة عن استمرار الوضع الملتهب القائم. وقد ذهب الأمر إلى درجة استخدام محللين عبارة الغزو الروسي، لوصف ما أقدم عليه الروس من مظاهر الدعم المكثف للنظام، والتعاون مع طهران، من أجل منع قوى الثورة من الانتصار، ومساعدة النظام على استعادة السيطرة على البلاد، أو على الأقل ضمان حصول العاصمتين على موطئ قدم ثابت في القسم الغربي منها، حيث لا يزال لموسكو نفوذ قويّ فيه. وفي سياق ذلك، تزداد المخاوف عند قطاعات واسعة من الرأي العام من أن تكون سياسة الانفتاح الأوروبي المفاجئ على اللاجئين وسيلة للتغطية على التراجع السياسي، والانضواء، في النهاية، تحت سقف المقترحات الروسية المؤيدة لبقاء الأسد. وهذا ما أوحت به، أيضاً، التصريحات الأخيرة لبعض وزراء خارجية الدول الأوروبية التي دافعت عن إمكانية، أو حتى ضرورة، الحديث مع الأسد.
السؤال: هل نحن أمام مزاودات اللحظة الأخيرة في عملية تسوية دولية على وشك أن تبدأ، وتريد روسيا أن تضمن لنفسها فيها مصالح أكبر، بعد أن اكتشفت التخلي النسبي للولايات المتحدة، والانكشاف النسبي، أيضاً، لجبهة الدول الداعمة للمعارضة، وتقربها من موسكو نفسها، لتعزز موقفها، والتراجع الملحوظ في الموقف الأوروبي تجاه الأسد ونظامه، وبداية القبول تحت ضغط الخطر الذي يمثله داعش بفرضية بقاء نظام الأسد، وربما أيضاً، تعزيزه؟
أم هي قلب لطاولة الحل، وبداية تدخل روسي مباشر يقطع الطريق على طهران، ويحفظ مصالح روسيا، قبل أي طرف آخر، ويضع حداً للعبة الاستنزاف الطويلة للأطراف، بالتفاهم الضمني أو الفعلي مع واشنطن وأوروبا والمجتمع الدولي الممثل بالأمم المتحدة وبالمبعوث الدولي، والحد من الخسائر المتبادلة، قبل أن يصبح الوقت متأخراً، لإنقاذ أي استثمارات أو رهان؟

مصالح روسيا في سورية والشرق
1- ينبغي أن نعترف أن موسكو أظهرت، منذ بداية الأزمة السورية، أي بعد تعثر الثورة، اهتماماً كبيراً بمصيرها، ولم يضعف هذا الاهتمام في أي لحظة، لكنه تضاعف مع مرور الوقت، ما يؤكد أن موسكو تعتقد أن لها مصالح أساسية في سورية، وأن تحول النظام القائم فيها أوتغييره، يعنيها جدياً، وأنها لن تسمح أن يحصل من دون أن تكون لها كلمة فيه، أو أن تضمن هذه المصالح. 
2- على الرغم من تأكيد موسكو الدائم مع محاوريها من المعارضة أن مصالحها الخاصة في سورية ليست مهمة أبداً، وأنها لا تسعى إلى الحفاظ على مصالح خاصة، حتى أنه، في أول محادثات مع المجلس الوطني السوري، أظهر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الكثير من السخرية من الذين يتحدثون عن قاعدة طرطوس التي ليس لها في نظره أي قيمة استراتيجية، وأن دافعها لحماية النظام هو ضمان حقوق الشعب السوري، وأنها ليست متمسكة بالأسد كشخص، وإنما هي حريصة على الشرعية والسبل القانونية، إلا أن من الواضح، أيضاً، أن استمرارها على موقفها الإيجابي من نظام الأسد، بعد التدمير الهائل الذي حل بالبلاد وتشريد ملايين السوريين وقتل مئات الأولوف منهم، يشير إلى أن مصلحة الشعب السوري لا تمثل شيئاً بالنسبة لروسيا، كما تريد أن نعتقد، ولا تدخل في أي حسابات من حساباتها.
3- وأعتقد أن مصالح روسيا الرئيسية في سورية لا تتمثل في مصالح مادية بحتة، وإنما استراتيجية كبرى، وأهمها حضورها في الشرق الأوسط في حد ذاته، وإرادتها في الحفاظ على نفوذها في الدولة، أو البلاد الوحيدة التي ضمنت لها هذا الحضور، خلال عقود طويلة من دون انقطاع، وهو حضور لا يزال استمراره مجسداً في العلاقات الوثيقة مع نخبة من الضباط ورجال الأمن والسياسة الذين اختلطوا بالروس، وتدربوا عندهم، وصاروا شريكهم الأساسي في سورية. ومما يزيد من التمسك بهم أنهم ينتمون إلى المدرسة السياسية نفسها، أي الحكم بالقوة ورفض مبادئ الديمقراطية، وقيم المواطنة الليبرالية، واستثمار العداء للغرب، أو بالأحرى اختلاقه ورعايته وتنميته أساساً لنزعة قومية تجميعية، توحد الشعوب خلف قياداتها ضد الآخر الخصم، طالما أنها عاجزة عن توحيدها من خلال الإنجازات الداخلية، ومشاركة الأفراد في قيم العدالة والحرية والسعادة الإنسانية. وهذا هو نمط القومية المتحولة إلى نعرة وعصبية جماعية، تلعب هنا الدور الرئيسي في دفع الأفراد إلى الانقياد وراء سلطة الدولة المقدسة، القيصرية، في غياب روح الانقياد للقانون التي تستدعي وجود المواطنة ونظام المشاركة السياسية والتضامن في حمل المسؤوليات والالتزامات العامة.
ويتخذ الحفاظ على الحضور والنفوذ القوي في سورية والمشرق بالنسبة لموسكو، اليوم، أهمية أكبر مع انتشار الحركات المتطرفة الإسلامية، ومخاوف السلطة الروسية الفعلية من انعكاسات التغيير في سورية على شرائح واسعة من مواطنيها، المسلمين لكن من ورائهم غير المسلمين أيضاً. العدو الأول لروسيا البوتينية هو الثورة الشعبية التي كانت تؤرق، أيضاً، من قبل روسيا القيصرية، ولا تزال. وجزء كبير من الطابع الاستعراضي والاستفزازي الذي تتخذه السياسة الروسية في تحدي الغرب، في سورية اليوم، لكن في أوكرانيا وغيرها، مقصود من أجل إشعال فتيلة هذه القومية الشعبوية التي تكتفي بالرموز، وتغذيتها لقطع الطريق على أي احتمال لنمو روح الاحتجاج الشعبي، بل ردعه مسبقاً، وقطع الطريق على التفكير فيه. 
4- من هنا، بعكس الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وبلاد أخرى، لم يضعف الاهتمام بالأزمة السورية، مع تفاقم أوضاعها وزيادة تعقيدها وانتشار الحركات المتطرفة فيها، وإنما تضاعف مرات. لم تكن روسيا في أي وقت حريصة على أن تكون على رأس الحل في سورية، كما هي اليوم، والسبب خوفها الوجودي من احتمال انتقال عدوى الثورة، والاحتجاج والتغيير إليها، وبشكل أخص، عودة فتيل التمرد الإسلامي إلى ما كان عليه، بعد أن زاد قوة وتنظيماً للانتقام من أيام قاسية سابقة. بمعنى من المعاني، وأكثر فأكثر، تشعر موسكو أن معركة سورية، اليوم، هي معركتها بالدرجة الأول، قبل أن تكون معركة السوريين أو الغربيين أو العرب أو الإيرانيين. وهي مستعدة للتعاون مع الشيطان للقضاء على من تعتبره العدو والخصم الرئيسي لها، اليوم، وهو الحركات الجهادية وحدها، وليس الصراع أو التنافس مع أميركا أو أوروبا. معركة روسيا في سورية سياسية وفكرية ودينية، وهذا هو بعدها الاستراتيجي، أو بالأحرى ما فوق الاستراتيجي. 
5- ينبغي أن نعترف أن مثابرة موسكو وإصرارها على أن لا يكون حل في سورية، من دون إرادتها ونجاحها في تعطيل أي مبادرة أممية أو دولية، تشك في أنها تتماشى مع ما تريد قد أتت ثمارها. وأن دور روسيا في الأزمة السورية لم يكف عن التطور يوماً بعد يوم، مع إزاحة الخصوم أو تحييدهم. ومنذ أيام، كدنا نعتقد، عن حق، أنها أصبحت بالفعل الوكيل الرسمي لجميع الفاعلين على الأرض السورية والمعنيين بها من خارجها، أو أغلبهم، في العمل على إيجاد التسوية السياسية المنتظرة لإنقاذ ما تبقى من سورية، أو وقف عملية التدمير والقتل المنهجية ودرء مخاطر الخراب النهائي. فقد تمتعت موسكو، منذ البداية، بدعم علني من الصين والهند ودول البريكس، قد تخلت لها الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، عن جزء كبير من هامش المناورة، ولم تحاول مرة أن تحرجها، أو تضغط عليها، أو تتجاوز الخطوط المرسومة لبقاء هذا الهامش، حتى بعد أن عطلت موسكو قرارات مجلس الأمن، أو منعت تنفيذ ما لم يتفق مع رؤيتها منها. 

ماذا تنتظر موسكو؟
الحرب في سورية ستكون، أكثر فأكثر، حرب روسيا للقضاء على المجموعات الجهادية، أي في الواقع المسلحة، أي على داعش والنصرة وبقية قوى الثورة المسلحة التي تعتبرها كلها مصدراً للخطر، ولا يهمها بشار الأسد إلا كما همّ طهران من قبل، أي غطاء لحرب التدخل المباشر، وصمام أمان لضمان عدم انهيار النظام، أو تفككه خلال مرحلة الحرب. ولا ترى موسكو تسوية سياسية ممكنة، إلا بإعادة بناء الجيش السوري، وفي التفاف جميع الأطراف السورية، موالاة ومعارضة، حول الدولة ومؤسساتها، أي الجيش والأمن بالدرجة الأولى. 
يتقاطع مشروع موسكو مع طهران، في حماية النظام، أو بالأحرى في عدم السماح بأي نصر للثورة السورية، أو للتحالف الداعم لها في تركيا والرياض والخليج، لكنها ربما تتناقض معها في تحويل سورية إلى مزرعة، ومستعمرة خاضعة لسيطرة المليشيات الطائفية والمذهبية. وفي عملها هذا، لا ترى موسكو طهران إلا من منظار ما يمكن أن تساهم به في الحرب ضد الإرهاب التي تريد أن تتحدّى فيها، ومن خلالها، الغرب وتحالفه، وأن تحقق ما فشل في تحقيقه حتى الآن. وهي تعتقد أنها الوحيدة التي لم تتورط بأي شكل في التلاعب بالمنظمات المتطرفة، ولم تتهاون في مكافحتها. 
التدخل المتزايد لموسكو في الحرب، بكل الوسائل، بما فيها نشر قوات برية محتمل، هو بداية العمل على تنفيذ ما سميت خطة الرئيس بوتين، القائمة حول هدف رئيسي واحد، هو تشكيل تحالف يضم الجميع ضد الإرهاب، ونسيان كل الرهانات الأخرى، وفي مقدمها، قضية كفاح السوريين من أجل الحرية، والخلاص من حكم الفساد والاستبداد وديكتاتورية الأجهزة الأمنية والمخابراتية. ما تريده موسكو هو باختصار تحقيق أجندتها الوطنية الخارجية المكونة من نقطة واحدة، هي القضاء على خطر الحركات المتطرفة المسلحة. وهذه هي، أيضاً، الأجندة الوحيدة التي توّحد، اليوم، جميع الدول الصناعية التي ترتعد أمام انتشار فوضى السلاح ومنظمات التطرف العابرة للحدود، والمهددة لجميع استراتيجيات الأمن الدولية. وليست داعش سوى كلمة السر للدخول إلى حلبة هذه الحرب وإضفاء الشرعية عليها.