دمشق بين المواربة وموقف الضحية

2005-10-26:: الاتحاد

 من المؤكد أن نشر تقرير المحقق ديتليف ميليس الذي يوجه شبهة تورط إلى بعض المسؤولين السوريين الكبار في عملية اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، قد شكل ضربة معنوية كبيرة للبعض؛ فقد جاء بعد ثلاثة أيام من إعلان دمشق ليكرس حالة جديدة في السياسة الخارجية لسوريا، بعد أن عمق تحالف المعارضة السورية بمختلف أطيافها حالة داخلية أخرى. بيد أن ذلك ليس سببا كافيا لدفع دمشق إلى تبني موقف سلبي من التقرير يزيد من احتمالات العزلة ومخاطرها، بدل أن يساعد على تجنب المواجهة مع المجموعة الدولية• فهو استمرار للموقف الذي قاد إلى ما نحن فيه أعني موقف التبرؤ من التهمة على سبيل التهرب من المسؤولية منذ بداية الأزمة حين أصرت دمشق على أنها ومسؤوليها ليس لهم علم بعملية الاغتيال ولم يشاركوا فيها وبالتالي فليس لهم أن يساهموا في الكشف عن الضالعين فيها. ولا يدفع التهمة عنا اتخاذ موقف الضحية، ولا رمي المسؤولية على الولايات المتحدة وإسرائيل والمعارضة اللبنانية بسبب عدائهم لسوريا أو خصومتهم معها، ولا التذكير بأن المتضرر الرئيسي من اغتيال الحريري هو المصالح السورية نفسها.

ربما ليس لسوريا دور في العملية كما يقول مسؤولوها، لكن هذا لا يعفي دمشق من مسؤوليتها ولا يبرر لها أن تتصرف أمام عملية اغتيال الحريري في فبراير الماضي، وكأن الأمر لا يعنيها. كان عليها كسلطة مسؤولة، تجاه لبنان الذي تمارس فيه دور الوصي على الأقل في الشؤون الأمنية وتجاه سوريا نفسها، أن تبادر إلى تشكيل لجنة تحقيق سورية لمعرفة الحقيقة وقطع الطريق على أي طرف يمكن أن يستغل العملية للإضرار بالمصالح السورية العليا. ولكنها عوضا عن ذلك فضلت الوقوف موقف المتفرج وتوجيه التهم الجزاف لخصومها.

وعندما بدأ الحديث عن تشكيل لجنة تحقيق دولية حاولت ثني الحكومة اللبنانية عن الموافقة عليها. وعندما أقر مجلس الأمن تشكيل اللجنة ترددت في التعاون معها إلى أن أعلن القاضي ميليس أن سوريا لا تتعاون مع لجنة التحقيق. وعندما ردت السلطات السورية بأنها أرسلت موافقتها على التعاون، لكن لأسباب تقنية تأخر الرد وأعلنت استعدادها للتعاون من جديد، أحاطت هذا التعاون بجملة من الشروط والتحفظات المتعلقة بقضايا السيادة الوطنية والقوانين السورية الخاصة بالتعامل مع الموظفين السوريين إلى درجة جعلت هذا التعاون يبدو، في نظر اللجنة والرأي العام الدولي معا، وكأنه مفروض عليها بالرغم منها، وأنها، كما ذكر التقرير، قبلت بالتعاون شكليا لكنها قررت ألا تقدم أية معلومة تفيد اللجنة أو تساعدها على التقدم في تحقيق هدفها• وقد وصل ذلك إلى دفع القاضي ميليس إلى حد اتهام وزير الخارجية السورية ونائبه معا بإعطاء معلومات كاذبة بهدف تضليل اللجنة.

ويأتي اليوم رفض محتوى التقرير واتهامه بالافتقار إلى النزاهة والحرفية ليعزز الاعتقاد بأن سوريا لا تريد أن يصل التحقيق إلى غايته أو أنها تخشى من استمراره ومن النتائج التي يمكن أن يصل إليها! لا يساعد هذا السلوك ولم يساعد السلطات السورية على إثبات براءتها ولكنه ساهم، عكس ذلك، في تعزيز الشكوك لدى البعض بتورطها! وكان أولى بالمسؤولين السوريين، كما ذكرت، أن يبادروا هم أنفسهم، قبل أن تذهب المسألة إلى مجلس الأمن بفتح تحقيق جدي حول عملية الاغتيال بمشاركة دولية فعلية وأن يظهروا، بعد أن تكونت لجنة التحقيق الدولية بتكليف من مجلس الأمن، أقصى درجات التعاون معها وتقديم جميع المعلومات التي بحوزة الأجهزة الأمنية السورية لمساعدة التحقيق على الوصول لغايته. وكان ذلك سيساعد على فتح الباب أمام فرضيات أخرى لعمل التحقيق غير الفرضية التي يبدو أن لجنة التحقيق الدولية قد عملت على أساسها منذ البداية وهي احتمال تورط الأجهزة الأمنية اللبنانية ومن ورائها، وبسبب العلاقات الوثيقة التي تربط في ما بينها، الأجهزة الأمنية السورية. وكانت هذه المشاركة وحدها كفيلة بإزالة الشكوك والشبهات وتبيض صفحة السلطات السورية تماما أمام لجنة التحقيق والرأي العام اللبناني والسوري والعالمي معا. تستطيع دمشق أن تبرئ نفسها من المشاركة في الجريمة إذا كان ذلك صحيحا لكنها لا تستطيع أن تعفي نفسها من مسؤولية المساهمة في الكشف عن مرتكبيها. فهناك جريمة كبرى ارتكبت في بلد تحتل فيه موقعا أمنيا وسياسيا متميزا باعترافها هي نفسها وبما بنته خلال العقود الماضية من علاقات استثنائية مع الأجهزة اللبنانية، الأمنية والسياسية، ومختلف الفعاليات والمنظمات الأهلية في لبنان عامة. وكان من أبسط واجباتها كدولة مسؤولة أن تبادر إلى البحث عن الجناة أو على الأقل إظهار اهتمامها بالبحث عنهم، سواء أكان أحد من مسؤوليها مشاركا فيها أم لا، في الوقت الذي بدت فيه ميالة أكثر إلى لفلفة القضية والإسراع في إغلاق ملف التحقيق وترك الأمور تجري كما لو أن ما حصل كان أمرا عاديا لا يستحق البحث ولا التقصي ولا التعب.

وقد عزز هذا الانطباع احتجاج أنصارها على اهتمام المجموعة الدولية بمقتل الحريري بينما تركت حالات اغتيال عديدة أخرى من دون تحقيق في لبنان وغيره، مما يشي بأن الهدف من التحقيق هو النيل من سوريا لا الوصول إلى الحقيقة. لن يفيد سلوك التهرب من المسؤولية في تبرئة المسؤولين، بل ستكون له نتائج وخيمة ليس على النظام فحسب ولكن على المصالح السورية نفسها. وليس من الممكن لدمشق أن تزيل الشبهات التي أثارها ميليس بسبب سلوكها المتردد في كشف الحقيقة، إلا بالتعاون الواسع مع لجنة التحقيق الدولية وتقديم جميع المعلومات التي تملكها الأجهزة الأمنية حول هذه الجريمة. ومن دون ذلك سيظل شبح الجريمة يحوم في الفضاء وسيف الاتهام مسلطا على المسؤولين السوريين إلى النهاية، مع تضييق الخناق والحصار على البلاد وأخذها رهينة. لكن، وهذا هو السؤال الذي يراود كما يبدو لي الكثير من السوريين الذين بدأوا يخشون من عواقب التحقيق الدولي على بلادهم: ماذا لو كان بعض المسؤولين السوريين متورطين فعلا في عملية الاغتيال؟ وكيف يمكن لهم التعاون ضد أنفسهم؟ في هذه الحالة أعتقد أنه لا مهرب لهؤلاء المسؤولين من مواجهة الحقيقة وتحمل مسؤولياتهم عن أفعالهم. ولن ينفعهم تحميلها لسوريا بأكملها ولا السعي، كما أظهر ذلك مثال المسؤولين العراقيين بجوارهم، الدفاع عن قضية خاسرة بأساليب خاسرة تجر الدمار عليهم وعلى وطنهم.. في اعتقادي أنه لن تكون هناك بعد الآن، في هذه القضية، لا تسوية سياسية ولا صفقة على الطريقة الليبية! ولن تخرج سوريا من الورطة الكبيرة الراهنة إلا بتحمل كل فرد مسؤوليته وقيامه بما يمليه عليه واجبه.