دفاعا عن ابن خلدون في مئويته السادسة

2006-05-19:: الوطن

 أثار ابن خلدون اهتمام الباحثين العرب وغير العرب منذ القرن التاسع عشر ولا يزال لأسباب عديدة: الأول المنهج الذي اتبعه في كتابة التاريخ، والذي قام على ما نسميه اليوم الملاحظة العلمية للوقائع، وقطع مع المألوف في صناعة التاريخ العربي الذي سبقه، والقائمة على رواية الأخبار المسندة أو غير المسندة، ونقده الواضح والقوي لها. والثاني المضمون الجديد الذي أعطاه للتاريخ والذي جعله يكتشف، كما يذكر هو نفسه، علما جديدا هو علم العمران، ويميزه عن غيره من العلوم. ولا يزال هناك اعتقاد كبير عند الكثير من الباحثين حول العالم العربي في ميدان العلوم الاجتماعية بأن كشوف ابن خلدون المتعلقة بالعصبية ووزنها في تكوين السياسة والاجتماع العربيين لم تفقد قيمتها بعد في تأويل التاريخ أو تفسير التشوهات التي تسم بنية الحياة الاجتماعية في هذه المنطقة. والثالث هو الطابع الكوني لتأويله التاريخي ومجمل عمله الفكري الذي يجعل منه رائدا في بناء خطاب كوني في التاريخ، أو خطاب تاريخي ذي طابع عالمي، وبالنسبة للبعض في إنشاء نظرية في الحضارة.وفي وقتنا الراهن يستحضر ابن خلدون وفكره التاريخي عند العديد من الباحثين والأيديولوجيين، في سياق محاولة تفسير العودة القوية للعصبيات القبلية والطائفية في بعض المجتمعات العربية وفي الوقت نفسه، بطريقة غير مباشرة، لإضفاء المشروعية عليها باعتبارها جزءا من بينة عصية على التغيير.

كما أن العديد ممن يستعيدون فكر ابن خلدون من بين الباحثين العرب المعاصرين يفعلون ذلك في سياق استراتيجية دفاعية تسعى إلى تبيان عظمة التراث العربي الإسلامي ورياديته، وبالتالي قدرة العرب والمسلمين على الوقوف جنبا لجنب مع الغرب، وعدم الاضطرار إلى الخضوع أو التبعية له، ومن ثم الأخذ الأعمى بعلومه. ويشكل هذا الاستحضار للفكر الخلدوني بالنسبة للكثير من الباحثين العرب وسيلة للتخفيف من الشعور بالإحباط والنقص تجاه الغرب المتغطرس من جهة، وأساسا لاستراتيجية الاستقلال الثقافي وإعادة بناء العلوم على قاعدة عربية تضمن استمرار الهوية، وتؤسس لتاريخية خاصة، أو تعزز من فكرة وجود زمانية حضارية عربية إسلامية متميزة عن الزمانية الحضارية العالمية الموسومة بالطابع الغربي.لاشك في أن ابن خلدون معلم كبير على طريق نهضة النظرة العلمية في العلوم الاجتماعية، بشكل عام وليس في العالم العربي فحسب. وهو ما يفسر احتفاء الجامعات الغربية والشرقية معا بإحياء ذكراه. لكن قراءته لا تغني عن الأخذ بمناهج البحث التاريخي الحديث الذي تجاوزه، مع احتواء العناصر الثورية في فكره. كما أن تأويله للتاريخ، حتى العربي منه، أصبح بعيدا جدا عن أن يفي بحاجة بناء علم تاريخ نشوء الدول والممالك والسياسات والاجتماع البشري للأقطار العربية المعاصرة، ومن باب أولى ببناء النظم الاجتماعية والسياسية في أقطار العالم. فكما يقول هو نفسه، مبررا تأويله الجديد للتاريخ، لقد تغير العالم كثيرا وتغيرت الوقائع، وهي تحتاج لعلم جديد يتسق مع ما حصل من تغير. فالمجتمعات العربية أصبحت مندمجة كليا اليوم في تاريخ عصرها ومشابهة في بنياتها للمجتمعات الحديثة، بالرغم من التشوهات التي لا تزال تطبع حداثتها. ولم يعد من الممكن فهم ما يجري فيها ويطرأ لها من دون اعتبار هذه التغيرات، وفي مقدمتها ما أطلقت عليه اسم الحداثة الرثة بما تتضمنه من عناصر الآلية والتفكك والخضوع للسيطرة الخارجية ورأسمالية المضاربة والصناعة الخردة. وحتى مجتمعات الخليج التي كانت تسيطر عليها البنيات القبلية لعقود قليلة ماضية أصبحت اليوم مشدودة، أكثر من العواصم الحضارية التاريخية، في القاهرة ودمشق وبغداد وعواصم المغرب الكبرى وغيرها، إلى حركة البورصات والمضاربة بالأسهم والعملات الدولية. ولعل هذا ما يفسر أنه بالرغم من التقدير والافتتان الكبيرين اللذين لاقتهما ولا تزال فلسفة ابن خلدون التاريخية، منذ اكتشافها في الغرب وفي العالم العربي في القرن التاسع عشر، لم يترك هذا المفكر الكوني أي أثر ظاهر في تكون العلوم الاجتماعية الحديثة، ولا يزال يبدو كما لو كان منارة عالية، لكن معزولة كليا عما حولها. لقد مثل ابن خلدون لحظة بصيرة استثنائية ثاقبة نظرت فيها المدنية العربية الإسلامية الكلاسيكية إلى نفسها وهي تطلق آخر أنفاسها وتكتشف في الوقت نفسه عناصر قوتها وتتأمل في موتها الحتمي. ولهذا السبب كان خاتما لتقليد علمي قديم ومحققاً لكماله، وبالتالي لموته أيضا، أكثر مما كان تأسيسا لعلم جديد أو لعلوم الإنسان والمجتمع التي ستطلقها الحداثة.

فعندما كتب ابن خلدون كتابه كان ملك العرب قد زال نهائيا منذ زمن طويل كما كان ملك البربر الذي كان موضوع تأمله الأكبر قد فارق الحياة أو في حالة احتضار طويل. وكما سيتوقف ملك العرب والبربر أو سيطرتهم عن الحياة منذ القرن الرابع عشر، سيجد علم ابن خلدون التاريخي نفسه خارج السياق، ولن يبقى منه سوى العناصر المنهجية الجديدة التي اكتشفها وهو يخرج من التاريخ، تاريخه الخاص. أما المضمون فقد أصبح أقرب إلى الحكمة العظيمة منه إلى العلم التجريبي الذي دافع عنه ابن خلدون نفسه. بهذا المعنى كان كتاب العبر الكبير لابن خلدون نشيد رثاء وتأبين للمدنية الإسلامية الكلاسيكية في المشرق والمغرب معا. وما كان من الممكن أن يقيم سنة أو تقليدا جديدا بقدر ما أنجز التقليد القائم.

هكذا سيعقب تأليف كتاب ابن خلدون صعود سيطرة جديدة من نمط مختلف لا تخضع للقوانين التي اكتشفها ابن خلدون، أو لا يستنفد فهم حركتها فيها، أعني قوانين الغلبة المبنية على التفوق في العصبية. وسوف تنشأ دولة من نوع جديد أيضا تتجاوز ما عرفته الدول الصغيرة التي عاش ابن خلدون تاريخ نشوئها وانهيارها. ولذلك لم يهتم أحد في ذلك الوقت بعلم ابن خلدون. فلا بقي لدى العرب والبربر أمل يدفعهم للتفكير في المستقبل ولا كانت السيطرة الجديدة الصاعدة في الشرق البعيد معنية بعلم التاريخ بقدر ما كانت منشغلة في صنع التاريخ نفسه. ولم تكن تهتم، وهي لا تزال في عصر التقدم والإنجاز، بفهم قوانين صعودها هي نفسها في تلك الحقبة. ولم تكن لديها أي حاجة لتأمل نفسها وتبين موقعها في الخارطة الكونية والتفكير في مستقبلها. لقد كانت واثقة من نفسها وقوية بما فيه الكفاية حتى تعتقد أنها مظفرة وخالدة ولا خوف عليها. ولم يكتشف الأتراك العثمانيون ابن خلدون إلا عندما دفعهم الانحطاط، الذي لم يكف مفكروهم عن إثارته منذ القرن الثامن عشر، إلى البحث في أسباب انحطاط السلطنة العثمانية والتأمل في مآلها وتبين هشاشة موقعها في حركة التاريخ العالمي. يظل تاريخ ابن خلدون، بالرغم من المكتسبات الاستثنائية المنهجية التي مثلها في عصره، مطبوعا بعمق في نظرة القرون الوسطى الجبرية والدائرية التشاؤمية التي لا ترى الجدليات الكونية التي تعبر المجتمعات وتوحد في ما بينها معا. وهو لا يتفق وروح التقدم أو التاريخ الخطي الذي سيشكل محور الرؤية التاريخية للمجتمعات الحديثة. ومن هنا، باستثناء العناصر المنهجية النقدية والعقلية التي أدخلها في كتابة التاريخ، وهي التي تم إدراجها كما قلت في العلم الحديث وتجاوزها في الوقت نفسه، ينطوي تاريخ ابن خلدون المستند إلى مفهوم العصبية والغلبة المادية على رؤية وتأويلات محافظة ومتشائمة جدا، لا تفتح أي أفق ولا تنسجم مع المنظورات التي قادت الحداثة ورافقتها منذ الخروج من العصور الوسطى. وهذا ما يفسر أنه، حتى بعد اكتشافه، وبالرغم من الإعجاب الشديد الذي حظي به، لم يشكل تاريخ ابن خلدون منطلقا لتأسيس علم تاريخ حديث، لا في الغرب ولا في العالم العربي المعاصرين.

من هنا، بعكس ما يسعى إليه جميع أولئك الذين يعتقدون أنهم سيفهمون مجتمعاتنا بشكل أفضل من خلال مصطلحات ابن خلدون القرسطوية، لا تنبع أهمية ابن خلدون مما يقدمه لنا من أدوات لفهم تاريخنا الراهن وحركة مجتمعاتنا، وإنما مما يرمز إليه بالفعل من طفرة في تاريخ الفكر والعلم الإنسانيين، أي في ما يمثله بالنسبة لنا من تعبير عن المشاركة الأصيلة للعرب في الفكر الإنساني والحضارة الكونية، ومن قدرة على الارتفاع فوق الذاتية نحو العلمية الموضوعية. وهذا على عكس الأهداف التي يسعى الكثير من مستحضري ابن خلدون في العالم العربي إلى تأكيدها من خلال الاحتفاء بذكراه، أعني تأكيد خصوصية العرب في البنية المجتمعية وفي النظرة العلمية معا. فلا تكمن قيمة ابن خلدون وفلسفته التاريخية في تأكيد خصوصية العرب وتميزهم، كثقافة وحضارة ومجتمعات وعلوم، بقدر ما يشير إلى قدرتهم على الارتقاء إلى مستوى قيم العلم الموضوعية، أي المشاركة في حضارة عالمية واحدة والانتماء إلى تراث إنساني شامل، وهو ما أصبحت غالبية رأينا العام، للأسف الشديد، تضيق به وتشيح عنه.