دفاعاً عن الديمقراطية والديمقراطيين العرب

2010-10-20:: حريات

على إثر الفشل الذي منيت به الاستراتيجية الأميركية التي ترافقت مع ضغوط شكلية لفرض بعض الإصلاحات الديمقراطية على النظم الأبوية القرسطوية العربية، وعلى ضوء المأساة العراقية... انطلقت داخل الأوساط الرسمية حملة واسعة للإجهاز على فكرة الديمقراطية نفسها في المنطقة العربية، عن طريق تشويه صورتها وربطها مباشرة بالاستراتيجية الاستعمارية. والغريب أن مثقفين كباراً دخلوا في هذه الجوقة وصار همهم التشهير بالديمقراطية بحجة أن الديمقراطيين راهنوا على الضغوط الأجنبية. وفي نقدهم للديمقراطيين، يميل هؤلاء إلى التغطية على الأزمة الوطنية بالتركيز على رد الهجوم الأجنبي، كما لو أن هذا الرد يبرر انتهاك حقوق الإنسان وتغييب حكم القانون وتحكيم أجهزة الأمن بالدولة والمجتمع.
في هذا السياق نشر عزمي بشارة كتاباً بعنوان “المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، يردد هذه الأطروحات ويأخذ على المثقفين مراهنتهم على الديمقراطية، في الوقت الذي لا يمكن فيه ذلك من دون دحر القوى الأجنبية وتمكين الأمة العربية من تحقيق مصيرها. هكذا وضع القومية في مواجهة الديمقراطية وفي مرتبة سابقة عليها، كما لو أن هناك تنافسا أو تنازعا بينهما.
ما يأخذه بشارة على خصومه الديمقراطيين العرب، وهو يخاطبهم بصراحة كخصوم، ومن دون تمييز، ليس تبنيهم للفكرة الديمقراطية، فهو يتبناها أيضاً، وإنما عدم فهمهم أن الديمقراطية لا تصح من دون أمة. وهو يفترض، أولاً أن غياب هذه الأمة، بما تعنيه من سيادة ورأي عام حر ومستقل ومواطنة ووجود طبقة وسطى قوية وغياب العشائرية والقبلية... لا يترك أي فرصة لنشوء حركة ديمقراطية فما بالك بتحقيق هدفها. وثانياً أن أي حديث في الديمقراطية في ظروف غياب الديمقراطيين، أي غياب قوى ديمقراطية جماهيرية، لا يمكن إلا أن يحرف الرأي العام عن المعركة الرئيسية، ويشجع على التدخلات الأجنبية أو يبررها أو يستدرجها. وهكذا بدل أن يقود العمل الديمقراطي، المعتمد على مجموعات صغيرة لا أمل لها في تحقيق أي إنجاز، إلى إصلاح أوضاع المجتمعات العربية، لا يعمل في الواقع إلا على تأخير حل المسألة القومية المصيرية.
ليس من الصحيح أولاً أن الحركة الديمقراطية قد تورطت كما يوحي الصديق عزمي بتأييد السياسات الأميركية الجديدة... فهي مستقلة عنها وسابقة لها بعقود. وقد ظهر كتابي “بيان من أجل الديمقراطية" عام 1977 وكان عنوانه الفرعي، “مأساة الأمة العربية"، تأكيداً منذ ذلك الوقت للرابط بين الديمقراطية وإعادة بناء الأمة أو الوطنية العربية. وقد نما تيار الديمقراطية العربية منذ الثمانينيات في سياق رد القوميين المخلصين، وفي مقدمتهم “مركز دراسات الوحدة العربية"، على الانحطاط الذي أصاب الفكرة القومية بسبب السياسات الاستبدادية. وباستثناء أفراد قلائل ترفض الحركات الديمقراطية العربية نفسها الاعتراف بهم أو ضمهم إليها، لم تكف القوى الديمقراطية العربية عن التأكيد على ارتباط الديمقراطية بالخيارات الوطنية، وعن التعبئة ضد السياسات الاستعمارية الدولية التي كانت ولا تزال تشكل العقبة الرئيسية أمام التحول السياسي في العالم العربي. ولا يغير من هذا الواقع أن هذه القوى أو بعضها قد اعتقد في لحظة من اللحظات أن من الممكن استغلال التناقضات التي برزت بين النظم الاستبدادية وحلفائها الاستعماريين الرئيسيين لتوسيع دائرة ممارسة الحريات الأساسية. أظهرت الأحداث بالتأكيد أن مثل هذا الرهان على التصدع في جبهة الاستبداد والاستعمار كان حساباً خاطئاً، لكن هذا لا يضير القضية الديمقراطية ولا يشكل مأخذاً عليها. ولو رفضت القوى الديمقراطية الأخذ في الاعتبار مجرى السياسات الدولية لن تكون قوى سياسية ولا مناضلة ولكن مجموعة من الثرثارين الصغار.
لكن مهما كان الحال، يبقى السؤال الذي يطرح على عزمي بشارة ويحتاج إلى جواب هو: إذا لم تكن هناك أجندة ديمقراطية في المجتمعات العربية، فهل هناك بالفعل أجندة قومية؟ وهل يشكل مجموع المقاومات والممانعات القائمة في بعض البلدان العربية، في فلسطين ولبنان والعراق، تجسيداً لأجندة تشكيل الأمة العربية وتحقيق مصيرها كما يتطلع إليه، وهل تخدم التضحية بالأجندة الديمقراطية هذه الأجندة القومية إذا وجدت؟ أي هل يخدم الصمت على انتهاك حقوق الإنسان وتغييب الحريات الأساسية وتسليط أجهزة الأمن على المجتمعات وتعميم الفساد السياسي والثقافي والاقتصادي والأخلاقي الناجم عن ذلك... قضية بناء الأمة العربية كأمة مستقلة وموحدة وذات سيادة قادرة على ضمان سيادة الشعب العربي؟
في اعتقادي أن العكس هو الصحيح. ليست الممانعات التي نعيشها، في أحسن الأحوال، إلا معارك النفس الأخير في عملية تراجع تاريخية مستمرة لفكرة قومية تحتاج إلى مراجعة جذرية، وإن الأجندة الديمقراطية التي تهدف إلى إعادة إدخال الشعوب في المعادلة السياسية الإقليمية والدولية، وليس الوطنية فقط، هي وحدها القادرة على وقف سياسة الهرب المدمر إلى الأمام وخلق شروط إعادة بناء الوطنية العربية على أسس جديدة، وإطلاق طاقاتها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والاستعمارية. ومن دون ذلك سوف يستمر التراجع وتتوالى الانهيارات التي نشاهدها في فلسطين ولبنان والعراق أيضاً إلى ما لا نهاية.
هذا هو في اعتقادي الإدراك الذي يجعل الجزء الأكبر من النخبة العربية وجمهور الطبقة الوسطى يتمسكان بأجندة الديمقراطية في كل البلاد العربية، حتى في تلك البلاد التي تشهد ساحاتها صراعات ومقاومات وطنية فعلية. وغيابها هو السبب في انهيار الأوضاع الفلسطينية وبروز ما يشبه الدولتين المتنابذتين.
وفي اعتقادي أن الربط بين الديمقراطية والوطنية يشكل شرطا لنجاح كليهما، فهما وجهان متضامنان لمعركة واحدة هي معركة الحرية الفردية والجماعية، تماماً كما يشكل الاستبداد والإخفاق الوطني وجهين لنظام واحد هو نظام الوصاية والسيطرة الأجنبية، ويعكس تفاهمهما الضمني الواعي أو الموضوعي. وقد كان همنا الدائم خلال السنوات الماضية تجنيب الرأي العام العربي ذلك المأزق المأساوي الذي يقود إليه منهج عزمي بشارة، أي حتمية الاختيار بين الاستبداد والاستعمار. وأخشى أن يعيدنا عزمي في أطروحاته الجديدة إلى حقبة مضت تظهر فيها الديمقراطية نقيضا للقومية، في الوقت الذي تشكل فيه مصالحة القومية مع الديمقراطية الأمل الوحيد في إنقاذ المشروع القومي وبناء وطنية عربية جديدة.
في نظري، لا يشكل العمل على دمقرطة الحياة العربية مدخلاً أساسياً لحل “المسألة العربية" وتمكين الأمة من تقرير مصيرها فحسب، وهو ما يطمح إليه عزمي بشارة، ولكن، أكثر من ذلك، إنه الشرط الضروري لحماية المقاومات العربية الراهنة وتعزيز موقفها. ومن دونه سوف تجد المقاومة نفسها في طريق مسدودة، وربما ضحية الفوضى الزاحفة، سواء بقيت السيطرة الأجنبية قائمة أو تعرضت للانهيار.