خطأ السياسة السورية

2003-10-02:: الوطن

 

الغارة التي نفذها الطيران الإسرائيلي على قرية عين الصاحب قرب دمشق أخطر تطور حصل في الشرق الأوسط منذ احتلال القوات الأمريكية البريطانية للعراق قبل 6 أشهر، ومن الممكن أن تكون إذا لم تنجح المجموعة العربية والاتحاد الأوروبي في مساعدة سوريا على نزع فتيل التصعيد الذي ستدفع إليه إسرائيل للخلاص من الورطة التي تجد نفسها فيها في فلسطين وحرف النظر عن الإخفاقات المتتالية لسياساتها الأمنية، بداية المسار نفسه الذي قاد إلى احتلال العراق عبر فرض الحصار الاقتصادي عليه ثم تكبيله بتهم تطوير أسلحة الدمار الشامل ودعم الإرهاب قبل توجيه الضربة القاضية له.
ولا تكمن خطورة هذه الغارة أبدا فيما أبرزته من تفوق تكنولوجي أو استراتيجي إسرائيلي معروف سلفا، ولا في أن إسرائيل التي اتبعت حتى وقت قريب سياسة عدم التحرش المباشر بسوريا حتى عندما كانت تتعرض لعمليات كبيرة من طرف حزب الله الذي كانت تتهمه بالعمل تحت الأوامر السورية، قد عبرت الخط الأحمر وقامت بعملية عسكرية في عمق الأراضي السورية، أي بعمل عدواني كان يمكن أن يفسر في حالات طبيعية بإعلان عملي للحرب. إن خطورة هذا العمل تنبع في نظري من التغطية السياسية الواضحة والعلنية التي قدمتها له الإدارة الأمريكية وأكد عليها رفع البيت الأبيض اعتراضه على تصويت الكونجرس على مشروع قانون محاسبة سوريا الذي يشكل بداية عملية الحصار والمواجهة السورية الأمريكية. فلا تعني هذه التغطية أن الإدارة الأمريكية قد قررت استخدام القوة العسكرية لإجبار دمشق على الامتثال بعد أن كانت تكتفي بالتهديدات وتفضل الضغوط الدبلوماسية والسياسية والإعلامية فحسب، ولكنها تعني أكثر من ذلك التقاطع الخطير بالنسبة لسوريا بين الرؤية الإسرائيلية والرؤية الأمريكية. ونستطيع أن نقول منذ الآن إن إسرائيل هي التي سوف تقود السياسة الأمريكية ضد سوريا سواء أكان ذلك من تل أبيب نفسها أو من البيت الأبيض الذي أسقط كل اعتراضاته على العمل العسكري ضد دمشق وقبل بممارسة التدخلات العسكرية.
والذي يزيد من خطورة الوضع أن واشنطن قد أوكلت بشكل مباشر أو غير مباشر منسق أو من دون تنسيق مسبق علني، مهمة هذا التدخل إلى إسرائيل العدو اللدود والمعلن لسوريا، وليس من قبيل الصدفة أنه بعد أربعة أيام فقط من الغارة أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن مشروع جديد لبناء 2500 وحدة سكنية في الجولان ورفع عدد المستوطنين في الأراضي السورية المحتلة إلى 200000 ساكن. مما يعني أن إسرائيل تطمح بالفعل إلى أن تستفيد من القطيعة الأمريكية السورية الراهنة كي تهود الجولان وتجعل إمكانية العودة عن احتلاله أمراً خارج الإمكان.
والمقصود أن لتل أبيب مصلحة حقيقية في تفجير الأوضاع السورية حتى تربح الفترة الكافية لهضم الجولان الذي ألحقته، ولا يهمها كثيرا ما يمكن أن ينجم عن هذا التفجير من عواقب خطيرة على استقرار المنطقة التي أصبحت أو تكاد صيدا صافيا للإدارة الأمريكية. والسؤال: هل تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بأن تتعامل مع سوريا حسب أجندتها الخاصة أو مصالحها الرئيسية أم إنها ستفرض عليها الالتزام في مرحلة من المراحل بأجندة المصالح الأمريكية التي لا يناسبها تفجير الأوضاع الإقليمية أكثر مما هي متفجرة وتريد أن تستعمل الضغوط العسكرية الإسرائيلية كأداة لتطويع النظام السوري وإجباره على العمل على أرضية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. والجواب على هذا السؤال مرتبط في الواقع بمعرفة أمرين، الأول: إلى أي حد يشكل التقاطع الإسرائيلي الأمريكي الراهن في ضرب سوريا تعبيرا عن انتصار الفريق المهووس بالحرب الحضارية والدينية والمؤيد لإسرائيل في الإدارة الأمريكية، هل هو التقاء نهائي أم إنه مجرد تقاطع مصالح مؤقت سببه سوء التفاهم بين دمشق وواشنطن حول مخططات إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط. والثاني: هل هناك بالفعل مكان لتقاطع المصالح بين النظام السوري وهذه الترتيبات، كما كان يعتقد السوريون والأمريكيون حتى فترة قريبة، أم إنه لا مكان لمثل هذا التقاطع؟.

وسوف تظهر الأيام القليلة المقبلة ما إذا كان بإمكان النظام السوري أن يستجيب لطلبات الأمريكيين من دون أن يعرض نفسه لأزمة عميقة داخلية، على مستوى النخبة الحاكمة التي لا تزال تعيش في مناخ الحرب الباردة، وعلى مستوى قدرته على ضبط الأوضاع الداخلية والاستمرار في الحكم إذا تخلى عن ورقة الالتزام بما يسميه الثوابت الوطنية والقومية. كما ستظهر أيضا فيما إذا كان الأمريكيون لا يزالون يراهنون على قدرة النظام على أن يتغير من داخله في الاتجاه الذي يريدونه وبمساعدة بعض الضغوط الخارجية أم إنهم أصبحوا يعتقدون أنه لا أمل لهم في ذلك وأنه لابد لهم من ترتيب أوضاعهم الإقليمية على فرضية مواجهة متنامية مع الأوضاع السورية.
وفي اعتقادي أن مسؤولية إيصال الأوضاع إلى ما هي عليه وفتح الطريق أمام حكومة شارون كي تصبح شريكا للولايات المتحدة في تقرير السياسة الأمريكية تجاه سوريا مسؤولية مزدوجة سورية أمريكية. فلم يكن في صالح السوريين مهما كان الحال أن يقطعوا الحوار الذي بدأوه بنجاح بعد سقوط بغداد في يد القوات الأمريكية، وسمح لهم بأن يصرفوا نظر واشنطن عن موقفهم السابق المتضامن مع النظام العراقي ضد الحرب.وقد استمر هذا الحوار عدة أشهر وأبدت واشنطن من خلاله نوايا إيجابية أشار إليها المسؤولون السوريون أنفسهم وبنوا عليها العديد من الآمال بما في ذلك أن تسمح لهم واشنطن بأن يلعبوا دورا أكثر من اقتصادي في عراق ما بعد صدام، لكن الحوار ما لبث أن انقطع، ولا ندري ما هي الأسباب التي دعت إلى هذه القطيعة.
وبالمقابل يكمن خطأ الإدارة الأمريكية التي كانت خاضعة بالتأكيد لضغوط اللوبي الإسرائيلي في أنها لم تقدم للسوريين أي أفق لقاء ما أظهروه من تعاون جدي وما أبدوه من استعداد لتعاون أكبر مع الولايات المتحدة بما في ذلك من أجل المساعدة على ضمان الاستقرار في العراق. ولعل إحباط القيادة السورية التي كانت تنتظر من الإدارة الأمريكية على الأقل إعلانا عن نواياها بشأن الجولان أو بشأن مستقبل النظام في سوريا، هو الذي دفع الطرف السوري إلى تجميد تعاونه الأمني والسياسي مع واشنطن. إن خطأ واشنطن الأساسي في علاقتها مع سوريا كما هو الحال، في نظري مع جميع الأطراف الأخرى بما فيها حلفاؤها في التحالف الأطلسي، هو أنها نسيت مفهوم التفاوض والمصالح المتبادلة، وأصبحت تميل بشكل كلي إلى إملاء شروطها ومطالبها على جميع الأطراف الأخرى. ومن باب أولى أن تفعل ذلك مع سوريا التي تنظر إليها كدولة صغيرة ومعزولة، كما تنظر إلى نظامها على أنه نظام ديكتاتوري ضعيف غير منتخب من الشعب ولا يمثل إلا مصالح فئة خاصة، وأن عليه أن يعتبر نفسه محظوظا، كما ذكر بعض مسؤوليها لأن واشنطن تركته وشأنه ولم توجه له ضربة مماثلة للضربة التي وجهتها للنظام العراقي.
لكن حتى في هذه الحالة ما كان من مصلحة الدبلوماسية السورية أن تقطع العلاقة مع الولايات المتحدة وتترك للوبي الإسرائيلي حرية الحركة الكاملة في البيت الأبيض. وكان عليها بالعكس أن تقدم ما يعزز موقف الخارجية الأمريكية التي كان دورها خلال الأشهر الماضية لجم اللوبي الإسرائيلي ومنعه من تحقيق هدفه في الدفع إلى القطيعة بين واشنطن ودمشق. وهو ما لم تأخذه السياسة السورية كثيرا في الاعتبار. فأمام التصعيد الأمريكي الذي قاده كل من رامسفيلد ثم كوندوليزا رايس ثم زعماء اللوبي الإسرائيلي في الكونجرس انزلق المسؤولون السوريون من دون حذر إلى مواقف تصعيد مماثلة عبرت عنها تصريحات شديدة اللهجة ضد السياسات الأمريكية على ألسنة كل من رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس الوزراء السابق نفسه خلال الشهر الماضي. وكررت هذه التصريحات رفض دمشق للسياسات الأمريكية واستعدادها للحوار مع الولايات المتحدة فقط عندما تكون مطالب واشنطن معقولة ومنطقية. وفي الوقت نفسه ظهر التوتر على الحدود الإسرائيلية اللبنانية وعاد النشاط الإعلامي الذي هدأ لفترة سابقة إلى حزب الله. وبدا أن السلطة السورية مستعدة للتصدي لسياسات الإخضاع والإكراه الأمريكية.
بالتأكيد لم تصدر هذه التصريحات عن فراغ وينبغي أن تكون المطالب التي وجهتها واشنطن لدمشق كبيرة ومؤلمة كثيرا حتى تعلن دمشق بأنها غير مستعدة للنقاش فيها أو في بعضها. لكن السؤال الذي كانت تطرحه العودة إلى خط التصعيد القومي والوطني من السياسات الأمريكية هو: على ماذا كانت تراهن دمشق في انخراطها في خط التصعيد الذي يدفع إليه اللوبي الإسرائيلي في واشنطن؟. ولم يكن لدى أحد جواب على ذلك. فجميع المعطيات السورية والإقليمية والدولية تشير إلى استمرار الإدارة الأمريكية في التمسك بموقف الغطرسة والانفراد والقوة. وحتى الدول الصناعية والكتل الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي أو الصين أو روسيا حرصت على الرغم من نزاعها العلني مع واشنطن، على تجنب خطاب التحدي والتصعيد والمواجهة وثابرت على معركتها لفرض نفسها على الأمريكيين بروحية التواضع والحوار ولم تقبل القطيعة معها. وكان من باب أولى أن تقوم دمشق بذلك وهي على مرمى حجر من القوات الأمريكية المتمركزة في العراق وعلى مرمى المدافع الإسرائيلية المتربصة بها في إسرائيل.
لا أدري من هو الذي أشار للقيادة السورية بتبني هذا الخط ولا أين تصنع السياسة الخارجية السورية: في القصر أم في وزارة الخارجية أم في القيادة القطرية، أم وزارة الدفاع أم في جميعها معا. لكن بالتأكيد كانت المبالغة في تقدير الموقع والقوة وفرص المبادرة هي السبب في دفع سوريا إلى مأزق المواجهة مع واشنطن وتسهيل العمل على اللوبي الإسرائيلي كي يمرر سياساته المعادية لسوريا في الكونجرس. ويبدو لي أن مصدر سوء التقدير هذا هو أن المسؤولين السوريين لا يزالون بعيدين عن فهم التحولات العميقة التي شهدتها الجيوسياسة الدولية ولا يزالون يعملون من منظور الحرب الباردة القديم والذي أكل عليه الدهر. فقد أوحى لهم الصراع القائم بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين بأن بإمكانهم أن يسندوا ظهرهم إلى حليف كبير ليتجنبوا انتقام القوة الأكبر. وأن المصاعب الكبيرة التي تواجهها القوات الأمريكية في العراق تمنع واشنطن من الحركة والمغامرة في دمشق، بل ربما تسمح لهم بأن يفرضوا أنفسهم كلاعبين في الملعب العراقي، وأن ما يملكونه من أوراق ونفوذ في العراق يؤهلهم ليكونوا شركاء هناك كما فرضوا أنفسهم من قبل شركاء في لبنان، ويبادلوا تعاونهم الأمني والسياسي بتفهم أمريكي واضح لمشكلاتهم الداخلية والخارجية.
والحال أن أوروبا ليست في موقع الاتحاد السوفييتي السابق، وهي لا تقبل ولا تريد وليس لها مصلحة أن تضع نفسها في موقع المواجهة مع أمريكا حتى لو تعلق الأمر بالدفاع عن مصالحها الخاصة ذاتها. فهي تدرك إلى أي حد تستطيع واشنطن أن تضغط عليها وتؤثر على استقرارها ونموها الاقتصادي. وبعكس ما قرأه السوريون كان عليهم أن يدركوا أن المصاعب التي تواجهها أمريكا في العراق تزيد من مخاطر تحولها نحو سوريا لا العكس سواء أكان ذلك للتغطية على المصاعب أو لنيل مساعدة إضافية للحد منها. وبالمثل كان يمكن لدمشق أن تفاوض مع واشنطن على أوراق نفوذها في العراق أوفي غيره لو كانت هناك علاقات ثقة متبادلة وعميقة بين الطرفين، ولو لم يكن هناك فريق في الإدارة الأمريكية يعمل لصالح إسرائيل، لكن هذه الثقة ليست معدومة فحسب وإنما تعتقد الولايات المتحدة أن لها ديونا على سوريا، هي أنها تركتها وشأنها وليس عليها أن تقدم لها تعويضا مقابل تخليها عما تسميه أسلحة الدمار الشامل أو دعم المنظمات الجهادية أو السماح لمقاتلين عرب أو سوريين بعبور الحدود السورية نحو العراق. ولعل الشعرة التي قصمت ظهر البعير في العلاقات السورية الأمريكية تكمن في نظري في التنشيط الكبير الذي مارسته دمشق لعلاقاتها مع المجتمع والحكومة العراقيين في الشهر المنصرم. فلم تكف العاصمة السورية خلال أسابيع عن استضافة مسؤولين أو زعماء عشائر أو قادة سياسيين عراقيين، من دون أي تنسيق مع واشنطن. وهو ما كان من الممكن لواشنطن أن تترجمه في مناخ القطيعة والتوتر المتزايد إلا على أنه سير على أقدامها في العراق وتدخل في شؤونها الحميمة في أسوأ فترة تمر فيها سلطة الاحتلال الأمريكية.
لا تكف القيادة السورية على سبيل الرد على الأمريكيين عن القول إن من حقها الاتصال بالعراقيين مهما كانوا بسبب وشائج القربى التي تربط الشعبين. كما لا تكف عن التذكير بأنها مستعدة للتخلي عن أسلحتها الاستراتيجية على شرط أن يطبق ذلك على جميع دول الشرق الأوسط، وتردد أنها هي التي تعرضت أكثر من غيرها للإرهاب وهي التي قدمت أكبر مساهمة أمنية ساعدت واشنطن على مواجهة الإرهاب، لكن الضروري التفريق بين المقاومة والإرهاب، وأن الحرب ضد الإرهاب لا ينبغي أن تقتصر على وسائل القوة والقمع.
كل هذا صحيح والتصريحات السورية على كامل الحق، لكن العجيب في السياسة السورية أنها وهي تعمل حسب مبدأ القوة ولا تعرف بديلا عن ميزانها في ترتيب البيت الداخلي، حتى تجاه مثقفين يعبرون عن رأيهم لا إرهابيين، تخفق على مستوى بلورة السياسة الخارجية في إدراك أننا لا نزال لسوء الحظ بعيدين جدا عن أن نعيش في ملكوت الحق. وأن العدالة ليست من المفاهيم المتداولة كثيرا في ترتيب العلاقات الدولية، وأن الندية ليست معطاة للدول بالطبيعة وبصورة تلقائية أو خطابية ولكنها تحتاج إلى عمل وترتيب وتنظيم وتدعيم، وأن الحق في ساحة العلاقات الدولية، كما أظهرت ذلك جميع الحروب والنزاعات التي عرفتها البشرية في ربع القرن الأخير وبعضها لا يزال متفجراً في قلب منطقتنا، لا يستقيم من دون القوة.