تأملات في الثورة

2014-4-22:: العربي الجديد

المعاناة غير المسبوقة واللاإنسانية التي يعيشها السوريون، ومن ورائهم العرب الذين ينظرون إليهم بخوف وهلع اليوم، تبيّن أن الثورات لا تحمل، في رحمها، نظاماً بديلاً جاهزاً، أو مشروع بناء جنينياً واضحاً، إنما تشكل قوة هدمٍ للنظم القديمة. لكن، بمقدار ما تهدم هذه النظم البالية، فإنها تفتح الباب أمام إعادة بناء نظام جديد. ولادة هذا النظام ليست حتمية، ولا تلقائية، فهذه الولادة، وتشكل النظام، مرتبطان بمكتسبات الشعوب ومراكماتها ونضجها، أي بالأفكار والقيم والمعايير والمبادئ والتطلعات والمشاعر والأحلام التي تختمر في قلب كل مجتمع، والتي كانت وراء اندفاعه لإسقاط النظام القديم.                         

وقد تحتاج المجتمعات، لتتجسد المبادئ الجديدة في أرض الواقع، ثوراتٍ متعاقبةً مستقلة عن ثورة الهدم، تفرز الرؤى والأفكار المتضاربة، وتجلو صورة نظام المستقبل، وتستقطب الإجماع عليه. محور هذه الثورات هو، غالباً، التفكُّر والتعلم من التجربة والتربية الذاتية والإدارة والتنظيم، فلا يصدر الأفراد، ولا الجماعات، عندما يثورون، من دوافع واحدة، ولا تحركهم مطالب وآمال واحدة.
كل ثورة تنطوي على مشاريع وتطلعات متباينة ومتناقضة، ولحظة الإجماع الوحيدة، هي لحظة الهدم وإسقاط النظام. لذلك، كل الثورات تفتح على صراعات متعددة، وإذا تأخر الحسم في إيجاد قاسم مشترك أعظم، يضمن وحدة الإرادة والحركة والاتجاه، تنتهي، لا محالة، في الفوضى وانكسار التوازن والتخبط والانفلات.
تحدد طول زمن الفوضى والانفلات، أو قصره، سرعة الوصول إلى هذا القاسم المشترك، ودرجة مقاومة قوى النظام واستعداداتها، أو استعدادات قسم كبير منها، للاندراج في مشروع النظام الجامع الجديد، والأخطر تحولها إلى ثورة مضادة، مدعومة من الخارج.
هذا يعني أن معركة البناء مختلفة عن معركة الهدم، فهذه سيرورة أخرى غير سيرورة البناء. لكل منهما استراتيجياتها وقوانينها ومنطقها، حتى لو كانتا جزئين من دورة واحدة، فما يوحد القوى في الهجوم على نظام هالك أسهل بكثير مما يجمعها، أو يمكن أن يجمعها، على تقرير شكل النظام القادم وقيمه ومبادئه ودستوره وقواعد عمله. هنا كل الجماعات والفرق والأطراف المشاركة تطمح إلى أن تجعل من تطلعاتها الخاصة نموذجاً لتطلعات المجتمع كله، حتى تفرض أسبقية مصالحها، وتحتل موقع الأولوية.
ثورة الهدم لا تحمل، بالضرورة، جنين نظام جديد. لكن، من جهة أخرى، من دون هدم النظام القديم، وزعزعة التوازنات العقيمة القائمة منذ زمن طويل، لا يوجد أي أمل في تحريك المياه الراكدة، وإطلاق تيار الخلق، وطاقات التجديد لتوليد نظام جديد.
والنتيجة، ليس هناك ثورة نظيفة، أي خالية من العنف، وليس هناك ثورة على الكاتالوغ، مبرمجة مسبقاً، أو يمكن إخضاعها لخطة مرسومة سلفاً، وليس لثورة أن تملك قيادتها، قبل أن تولد، وتباعد المطالب والتطلعات، عند الأطراف المشاركة في الثورة، قد يحول دون نشوء أي قيادة.
الثورة، بالتعريف، انفجار نظام اجتماعي قائم، فقد مقومات الحياة وشرعية الوجود، وتطايرت أجزاؤه في كل الاتجاهات، لا يقررها أحد، ولا يتحكم فيها فرد، ولا مجموع. وعلى قدر الضغوط العميقة، والمظالم التي تفجرها، تكون شدة المواجهات والحروب المتعددة الأقطاب والأطراف والأشكال التي ترافقها، أو تعقبها.
ولأن الثورات ليست نزهة، وإنما محنة وعنف محض، قد يهددان بالقضاء على كل ما راكمته المجتمعات من حضارة ومدنية في قرون، كان موضوع السياسة يدور، منذ نشأته، حول وضع أسس النظام الاجتماعي الذي يضمن الاستقرار، والشرعية، ورضى الجمهور.
وأصبحت جدارة النظم، وحقها في الحياة، يُقاسان بمقدرتها على تجنيب شعوبها الثورة والدمار المرافق لها، وتقدمت النظم الديمقراطية على كل النظم الأخرى، لما تتيحه للشعوب من فرص التغيير بالطرق السلمية، وتوفره عليها من دماءٍ ودمار، وتمكن كل فرد فيها من المشاركة في تقرير مصيره، ومراجعة قراره بصورة دورية، من دون ضغوط، ولا قيود، ولا تهديد.