بعد عام من الغزو

2004-04-06:: الجزيرة نت

الإمبراطورية الأميركية.. قوة الذات وضعف الآخر

بالرغم من أن القسم الأكبر من المحللين لم يكونوا يتوقعون قبل سنة من اليوم ما تواجهه الولايات المتحدة الأميركية -التي خرجت المنتصرة الوحيدة من الحرب الباردة- من صعوبات متزايدة للسيطرة على العراق، خاصة بعد الانهيار السريع لنظام صدام حسين، إلا أن أحدا لم يكن يتوقع أيضا أن تتم هذه السيطرة بسهولة ويسر. ولا يحصى عدد المحللين الذين حاولوا أن يبرهنوا -ونحن منهم- أن سعي الولايات المتحدة إلى بسط نفوذها الشامل وملء الفراغ الذي تركه انهيار الاتحاد السوفياتي السابق بالقوة وحدها سوف يقود العالم نحو التفكك والفوضى.

فبقدر ما عززت الثورتان التقنية والعسكرية من موارد القوة التي تمكن دولة عظمى تتحكم بتجديداتهما من التفوق الساحق على جميع خصومها العسكريين، خلقت في الوقت نفسه مناخا فكريا وأخلاقيا ونفسيا عالميا يجعل من المستحيل إخضاع الشعوب بالقوة، وبالتالي تحقيق السيطرة الخارجية أو أهدافها بالاستخدام المجرد للعنف.

 

مفارقات قانون القوة
ولعل أفضل مثال على هذه المفارقة التاريخية التي تجوّف قانون القوة في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على تفجير طاقاتها وتطوير وسائل استخدامها، هو ما يحصل في فلسطين نفسها منذ عقدين. فإذا كان من الصحيح أن إسرائيل قادرة على هزيمة أي قوة عسكرية شرق أوسطية يمكن أن تقف في وجهها، فهي عاجزة كما هو واضح للعيان اليوم عن إخضاع شعب صغير أعزل ومجرد من السلاح وليس لديها أي أمل -مهما نجحت في تعزيز ترسانة القوة- في كسر المقاومة الأهلية والشعبية التي لا تفيد معها القوة ولا يحسمها التفوق العسكري الإستراتيجي.

وكما أنه لا أحد يشك في أن الانتفاضة الفلسطينية تنهك إسرائيل وتقوض أركان وجودها المادية والسياسية والنفسية كما لم تفعل من قبل ولا تفعل أي قوة عسكرية عربية منظمة، فإن أحدا أيضا لا يستطيع أن يخفي أن ما تكبدته القوات الأميركية في مواجهة جيش العراق النظامي عام 2003 لا يمثل شيئا يذكر مما تكابده وتعاني منه اليوم في مواجهة قوى خفية صغيرة لا تحظى حتى بإجماع الشعب العراقي بكل فئاته وتياراته، على غير ما هو الحال بالنسبة لقوى الانتفاضة في فلسطين.

لكن ذلك لم يغير من حقيقة أن الولايات المتحدة مارست وتمارس اليوم دور الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وسوف تظل تمارسه في المدى المنظور على الأقل رغم كل ما يواجهها وسوف يواجهها من عقبات وما سوف يثيره اندفاعها الجامح للسيطرة من قلاقل وفوضى واضطراب. فليس هذا الاندفاع مسألة مزاجية شخصية رغم ما يمكن للمزاج الشخصي أن يلعبه في تحديد أسلوب العمل لفرض الهيمنة والسيطرة العالمية للقوة الأميركية.

إنه نابع من وجود القوة ذاتها وهو مبرر وجودها ومصدر استمرارها معا، فأي قيمة أو تبرير للإنفاق الهائل على التسلح الأميركي من دون تحويل هذا التسلح إلى مصادر للسيطرة والمنفعة وتحقيق مصالح حيوية وإستراتيجية؟ وكيف يمكن إعادة إنتاج هذه القوة وتعزيزها من دون السيطرة الخارجية وتحقيق منافع إضافية أو استثنائية لا يمكن تحقيقها بغير القوة والتفوق العسكري والإستراتيجي؟

والواقع أنه -بعكس ما يعتقده الرأي العام الشعبي بل وقطاعات واسعة من الرأي العام الرسمي والمحللين السياسيين- لا ينبع النزوع الإمبراطوري الأميركي وإرادة الهيمنة الدولية الشاملة عند الإدارة الأميركية اليوم، وعند غيرها غدا، من وجود التفوق الإستراتيجي فحسب.

 

وضع عالمي مفكك
إن مصدره الحقيقي وأصل نشوئه الرئيسي قائمان في الفراغ الأيدولوجي الإستراتيجي والسياسي الذي تعيشه الساحة الدولية، الناجم هو نفسه عن عجز المجموعة الدولية بأطرافها المختلفة عن التوصل إلى أجندة عالمية واحدة ومشتركة. وهو ما يسمح لصاحب القوة الأكبر أن يفرض أجندته القومية على العالم أو يحولها إلى أجندة عالمية.

وهذا يعني أن جذور المشروع الإمبراطوري الأميركي قائم في انهيار أو تحلل، والكتل الدولية التاريخية التي كانت تساهم في تحقيق الحد الأدنى من توازن القوة وفي مقدمها كتلة الدول النامية وعدم الانحياز التي كان يقف وراءها عدد لا يحصى من حركات التحرر الوطني الشعبية النشطة والفاعلة، هي اليوم قاع صفصف لا روح فيها.

ومنها أيضا الكتلة السوفياتية التي تبخرت في ربع القرن الأخير، في حين أن أوروبا الديمقراطية التي زاد الرهان عليها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لموازنة إرادة القوة الأميركية، تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى -رغم نجاحها في تشكيل اتحاد أوروبي اقتصادي قوي وعملة واحدة- أكثر تفككا إستراتيجيا من أي حقبة سابقة، وهي تجمع بين انعدام الرؤية الشاملة وفقدان الإرادة إن لم نقل التبعية العميقة لواشنطن في جميع المسائل الكبرى الاقتصادية والجيوستراتيجية والثقافية معا.

لا بل إن الولايات المتحدة اخترقتها من الداخل عن طريق الدول الصغيرة التي تساندها، والتي تراهن على تحالفها مع واشنطن لتعزز مواقعها داخل الاتحاد الأوروبي. أما ما تبقى من الدول القومية الموزعة في العالم من دون رابط يربط فيما بينها فهي ليست مؤهلة لبلورة أجندة أو جدول أعمال عالمي، بل إن معظمها -إن لم يكن جميعها- يفتقر إلى القدرة والإمكانية لبلورة أجندة إقليمية أو حتى وطنية وداخلية تختلف عن أجندة الحفاظ على النظام أو تأمين الاستقرار في حده الأدنى للدولة والمجتمع في المرحلة العاصفة من التحولات الدولية.

هذا الوضع العالمي المفكك من جميع النواحي، والذي لا تلحمه لا أيدولوجيات تقدمية أو رجعية كما كان عليه الأمر في الحقبة السابقة، ولا برامج عملية مشتركة معبئة كما تريد قطاعات كبيرة من الرأي العام الدولي المؤيدة لقيام حركة تضامن عالمي إنساني من أجل السلام والتنمية، هو الذي يقدم لواشنطن الفرصة والظرف المناسب لتحويل تفوقها الإستراتيجي إلى نفوذ عالمي استثنائي، ولجعل تحرير الأسواق وتطوير الاستهلاك أيدولوجية قائمة بذاتها، أعني أيدولوجية عصر كامل.


تزايد الطلب على القوة الأميركية
وهذا هو الذي يزيد الطلب العالمي على الأمركة من حيث هي تدخّل في الشؤون الداخلية في العالم، أي قيادة إستراتيجية، ومن حيث هي رؤية أيديولوجية، أي موجهة للتحولات العالمية المجتمعية، ومن حيث هي عامل توازن إقليمي بل وطني لا غنى عنه لضمان الحد الأدنى من الاستقرار والوحدة الشكليتين.

إن هذا الطلب الكبير على قوة عظمى تدخلية ونشطة وقادرة على لملمة الأوضاع الوطنية والإقليمية والعالمية هو الأساس الحقيقي للهيمنة الأميركية الإمبراطورية، وهو الذي يكمن وراء الانخراط الواسع الذي تظهره الدبلوماسية الأميركية في قضايا العالم كلها -صغيرها وكبيرها- بحيث لا تكاد تبرز مسألة في هذه المنطقة أو تلك مهما كانت محلية، إلا وتظهر واشنطن موقفها تجاهها وترسل مبعوثيها لمعالجتها.

بل إن واشنطن أصبحت عاملا رئيسيا في تركيب النظم والحكومات في العدد الأكبر من الدول المسماة وطنية، والتي أصبحت تبدي عجزا محيرا عن إفراز التفاهم الداخلي والإجماعات القومية الضرورية لاستمرار الدولة والنظام. إن واشنطن تتصرف بالفعل كقيادة عالمية أو كعاصمة للعالم، لأن العالم ككل وكأقاليم ودول أصبح يفتقر هو نفسه إلى القيادة واللحمة والسيادة والسيطرة الذاتية.

ويكفي أن نفكر في هذه المناسبة بما يحصل في منطقتنا العربية وداخل دولها نفسها أيضا، فنحن لا نكف عن مطالبة الولايات المتحدة بالتدخل لوقف الهجومات الإسرائيلية وإيجاد حل للقضية الفلسطينية منذ عقود، كما لا نتوقف عن دعوتها للمساهمة في تحقيق السلام والأمن في المنطقة.

والآن هناك عدد كبير من الدول العربية يعتمد عليها في ضمان الأمن والحماية الوطنية من خلال اتفاقات رسمية، في حين تراهن العديد من القوى الاجتماعية والسياسية على التدخلات والضغوط الأميركية لتحقيق التغيير الذي تطمح إليه ويستجيب لمصالحها المغبونة أو لآمالها. ومن الواضح أن قوة واشنطن في الشرق العربي نابعة من عجز هذا الشرق دولا ومنظمات إقليمية عن التوصل إلى تسويات وطنية حية ومستقرة تلبي مصالح الجميع وتحترمها أفرادا وشعوبا وأقليات، وكذلك إلى تسويات إقليمية قادرة على ضمان الأمن والاستقرار للجميع.

 

إرادة التوسع والتمدد الأميركي
بالتأكيد لن يمر احتلال العراق والمشاكل التي واجهتها القوات الأميركية فيه من دون ترك آثار على خطط التوسع الإمبراطوري الأميركي، وسوف يزداد الضغط الخارجي والداخلي على واشنطن لمنعها من القيام بمغامرات جديدة. لكن ذلك لن يثنيها عن إرادة التوسع والتمدد السياسيين ما دامت الظروف التي تحدثنا عنها باقية. وربما ستزيدها هذه التجربة قوة لأنها ستعلمها ضرورة الاقتصاد في استخدام العنف لصالح العمل السياسي والدبلوماسي الأكثر مردودا والقائم على تأمين السيطرة والنفوذ بشكل أكبر عن طريق التفاهم والحوار، وهو سلاح أمضى خاصة عندما تتقنه الدول ذات التفوق الإستراتيجي كما برهنت على ذلك القوة البريطانية في عصر إمبراطوري سابق.

لكن المخاطر على العالم والعالم العربي بشكل خاص لن تزول نتيجة ذلك، فمن جهة تستطيع الولايات المتحدة أن تعتمد على التفكك العميق الحاصل في العديد من أقاليم العالم ودوله لتبرير تدخلها السياسي والعسكري، كما تستطيع أن تراهن على الأزمة الشاملة التي يعيشها الاقتصاد الدولي من أجل الحفاظ على نفوذها.

وتقدم الحرب العالمية ضد الإرهاب نموذجا حيا لما يمكن لواشنطن أن تستخدمه من وسائل وتكتيكات، من أجل تعبئة الأنظمة والكتل الدولية وجرها وراءها لتحقيق أجندة سيطرتها الدولية الخاصة. فلا تكاد توجد دولة في العالم اليوم لا تجعل من الحرب ضد الإرهاب التي لم تكن تذكر في المناقشات الدولية قبل عشر سنوات، البند الأول في أجندتها الوطنية، وفي مقدمة هذه الدول الدول العربية نفسها المعنية الرئيسية بهذه الحرب أو بالأحرى المستهدفة فيها.

وفي جميع البلاد التي تعتقد الإدارة الأميركية أن السيطرة المباشرة عليها ضرورية لتحقيق السيطرة العالمية، تستطيع الولايات المتحدة أن تراهن على الشروخ العميقة التي خلفتها أنظمة القهر في بقاع عديدة من أجل تأمين قوى حليفة أو استخدامها كحصان طروادة.

ويقدم العراق نموذجا حيا لهذه التكتيكات والوسائل معا، ويشكل تكوين مجلس الحكم الانتقالي على أساس التمثيل القومي والطائفي صورة مجسدة لطبيعة التوازنات التي تسعى واشنطن إلى بنائها في بلدان السيطرة هذه، والاعتماد عليها في سبيل الإبقاء على دور محوري لها في استمرار الدول القائمة.

وما حصل لمؤتمر القمة العربية الأخير في تونس، يعبر بشكل واضح عن الإمكانيات الكبيرة التي تملكها الولايات المتحدة للتحكم بلعبة السيطرة العالمية في مناطق تفتقر إلى الحد الأدنى من التفاهم الإقليمي، وتتعرض مجتمعاتها لأزمة تفكك عميقة بعد عقود طويلة من الحكم السياسي المفروض وانهيار المجتمع المدني وعودة العصبيات القديمة الطائفية والقومية وغياب المؤسسات الوسيطة.

 

محدودية القوة وتنامي العنف
والخلاصة.. لن يتوقف الزمن القادم عن التأكيد على محدودية عامل القوة في تحقيق السيطرة العالمية، ولا عن تأكيد تنامي الفوضى والعنف وعدم الاستقرار في العالم بموازاة تطور مشروع السيطرة الأميركية الإمبراطورية. لكن ذلك لن يغير ذلك من الموقع الفعلي الذي تحتله الولايات المتحدة اليوم في شؤون العالم والسياسات الدولية.

لن تتخلى الولايات المتحدة عن سلوكها الإمبراطوري الراهن ما لم تتبلور مع الوقت -وفي مواجهة هذا السلوك نفسه وردا عليه- أجندة سياسية عالمية مشتركة بالفعل، وما لم يتحقق ما ينبغي تسميته منذ الآن عقدا دوليا تشارك فيه جميع الكتل العالمية، ويعكس التفاهم في ما بينها ودرجة كبيرة من توازن المصالح والاعتراف بضرورة السعي المشترك لحل المشاكل الخطيرة التي تواجهها المجموعة الدولية، سواء ما تعلق منها بتحقيق السلام العالمي أو معالجة مسألة التأخر وانعدام النمو أو تعميم الديمقراطية واحترام الحقوق الإنسانية.

كل ذلك يتوقف قبل أي شيء آخر على تجاوز الدول والجماعات الوطنية لأزماتها الداخلية ونجاحها في تحقيق التفاهمات الداخلية الضرورية لبقائها واستمرارها وتطورها من الداخل.

باختصار إن السيطرة العالمية الأميركية تتغذى قبل أي شيء آخر وتبرر نفسها من الفراغ السياسي والفكري والروحي الذي تعيشه الجماعات الوطنية في العالم أجمع، وتجعل من سيطرتها الخارجية تعويضا لا بديل عنه لفقدان السيطرة الذاتية في معظم بقاع الأرض.