المثقفون ومستقبل الديمقراطية في العالم العربي

2007-08-15:: الاتحاد

أدى فشل مشاريع التغيير الديمقراطي التي طرحت في السنوات القليلة الماضية إلى انتشار اليأس من مستقبل الديمقراطية في المجتمعات العربية. فبعد تنامي الآمال في السنوات الأولى من هذا القرن الجديد بربيع عربي ديمقراطي، عبر عنه الرأي العام المثقف ومؤسسات المجتمع المدني، وبدا وكأن العديد من النظم السياسية قد استجاب ولو جزئيا له تحت ضغط الدول الغربية، عادت الأمور اليوم إلى أسوأ مما كانت في نهاية القرن الماضي. وأصبح حلم توريث السلطة والرئاسة من قبل الحاكمين فرضية ممكنة من جديد، في الوقت الذي زادت فيه جرأة السلطات العربية على التصدي بالعنف لحركات المطالب الديمقراطية، وعدم الخوف من الاعتقالات التعسفية والجماعية ولا من تعقب المثقفين وتهديدهم ليكفوا عن الخطاب النقدي الذي بدأ يسيطر على كتاباتهم في الفترة الأخيرة. وسبب هذا التراجع كامن في السياسة الكارثية التي اتبعتها الإدارة الأمريكية القائمة. فهي في سبيل إضفاء الشرعية على مشروعها الاستعماري في العراق والشرق الأوسط عموما جعلت من الاصلاح أحد شعاراتها أو جوهر دعايتها. وادعت، للتخفيف من الانتقادات الدولية المتزايدة لمغامرتها السياسية، رغبتها في تحرير الشعوب العربية من الاستبداد. وقد ساهمت بذلك في تقويض مشروعية الكفاح الديمقراطي العربي لدى قسم كبير من الرأي العام العربي، بعد أن دعمت، خلال أكثر من ستين عاما، حسب تصريح الرئيس بوش نفسه، نظم الديكتاتورية. وجاءت هزيمتها في العراق لتعطي للنظم العربية، التي حنت رأسها للعاصفة لفترة قصيرة، فرصة الانتقام من القوى الديمقراطية المحلية وسحقها، في سياق انحسار النفوذ الأمريكي وتقلص الضغط الخارجي الموجه إليها. هذا هو ما يفسر الجزر الديمقراطي الذي تعيشه الشعوب العربية التي وقعت ضحية السياسات المغامرة واللاعقلانية والاستعمارية للإدارة الأمريكية.

ومن الطبيعي أن يدفع هذا الوضع العديد من الديمقراطيين وقطاعات الرأي العام العربي المتأثرة بهم، إلى التساؤل فيما إذا كانت لا تزال هناك فرص لاستعادة المبادرة من قبل الحركة الديمقراطية لبدء مشروع التغيير الذي تحلم به الشعوب العربية. وجوابي أن الانتصار الذي تشعر به أغلب النظم العربية اليوم قصير الأجل وملغوم بالأساس. لأنها لا تملك، بالرغم منه، أي حل للأزمات المتفاقمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية، ولا أمل لها في الخروج من مأزقها. .فهي لم تربح شيئا ولكنها تعيش على الفراغ أو الوقت الضائع الذي خلفه انحسار النفوذ الأمريكي، من دون أن تملك أي فضيلة تؤهلها لملء هذا الفراغ والإجابة على تحديات التغير السريع الذي تعيشه المجتمعات.
ولهذا، بعد الصدمة التي أحدثتها نتائج تطبيق الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبشكل خاص في العراق، سوف تعود الحركة الديمقراطية العربية أقوى مما كانت. والمطلوب، في انتظار ذلك، التغلب على مشاعر الاحباط الناجمة عن الانقلاب الحاصل في موازين القوى الإقليمية، والعمل منذ الآن على تحرير الحركة والفكر الديمقراطيين من المخانق والتناقضات والالتباسات التي ورثتها عن المرحلة السابقة. ودور المثقفين هو بالضبط دعم هذه الحركة برؤية عقلانية واضحة وتأمين التواصل مع الرأي العام الواسع. وللأدب والفن والسينما والمسرح وكل وسائل الثقافة أو ينبغي أن يكون لهما دور رائد في هذا المجال.
بالتأكيد لن يكون هناك أمل في بناء نظام ديمقراطي مستقر في البلدان العربية، خاصة في المشرق، بمعزل عن حل القضايا الوطنية الكبرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، وتوسيع هامش مبادرة الدول والشعوب تجاه الاستراتيجيات الاستعمارية الخارجية. لكن يتوقف هذا التقدم نفسه على قدرة المجتمعات على تكوين قوى ديمقراطية شعبية حية تفرض على النظم والقوى الأجنبية معا تغيير حساباتها. إن مستقبل الديمقراطية في البلاد العربية لا يتوقف على تغيير علاقات القوى داخل الدول العربية نفسها وفرض التعددية على النظم الأحادية أو شبه الأحادية فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، على تغيير علاقات القوة الإقليمية وفرض التراجع على الاستراتيجيات الاستعمارية المترسخة في المنطقة بسبب وجود أهم الاحتياطيات النفطية وإسرائيل. وبناء حركة ديمقراطية شعبية ليس عملية عفوية. ولا يحدث تلقائيا من جراء تراجع نفوذ القوى الدولية أو انحسار نفوذ النظام القائم وتداعي تحالفاته الداخلية والخارجية. إنه يتوقف على النجاح في تطوير خط جماهيري يربط بين المطالب الشعبية المشروعة والحقوق الانسانية الأساسية وبين المصالح الوطنية العليا للعالم العربي ولكل بلد من بلدانه أيضا. وفي هذا البناء تقع مسؤولية رئيسية على المثقفين الذين يمثلون الوسيط الحضاري الناقل للأفكار والدروس التاريخية، ومسؤولية لا تقل عنها أهمية على السياسيين بوصفهم الجسر الذي يربط بين عالم الفكر وعالم الممارسة,
لكن في ما وراء ذلك، يستدعي بناء الديمقراطية، كحركة ثم كنظام مجتمعي، واستبعاد روح التسلط والعسف واستسهال انتهاك حقوق الأفراد وحرياتهم من قبل بعضهم البعض، تربية مدنية لا غنى عنها في أي تجربة، غربية كانت أم شرقية، من أجل تأهيل المجتمع وإعداده لاستيعاب معنى الحرية والمسؤولية والمساواة والقانون. وهذه هي الخطوة الأولى الضرورية والشرط المسبق، ليس لنمو الحركة الديمقراطية فحسب، وإنما، كذلك، لتكوين قوى ديمقراطية قادرة فعلا على حمل النظام الديمقراطي القادم وتسييره والدفاع عنه ومنع استغلاله من قبل شبكات المصالح المالية. وربما كان دور المثقفين أهم في هذا المجال بكثير من دورهم في قيادة حركة التغيير السياسي نفسها. المهم أن نعرف أن الديمقراطية هي النظام الذي يستند إلى سيادة الشعب ومشاركته القوية، وهذا ما يفترض أولا وجود شعب. والشعب ليس مجرد أفراد يعيشون مع بعض ولكن ثقافة حية تفاعلية، ومباديء للعيش المشترك، وأخلاقيات عامة قائمة على الاحترام والمساواة والتضامن والتكافل. الشعب نظام أخلاقي وثقافي وقانوني، أي وعي وطني أو مواطني يولد إرادة واحدة. فإذا انعدمت التصورات الذهنية والرمزية المشتركة، و الأخلاقيات التضامنية والمواطنية، وتحول الشعب إلى أفراد لا رابط بينهم سوى المصالح الخاصة، لا يشعرون بالألفة ولا الثقة المتبادلة ولا الفائدة من العيش المشترك، زالت الإرادة الموحدة وانقسم الشعب إرادات، وزالت إمكانية بناء نظام سياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة. أما ما نعرفه في بلداننا من نظم فلا علاقة له بذلك. وليس فيها شيئا من نظام السياسة وإنما هي نظم عصبية طبيعية، أو سيطرة بالقوة، وفرض لإرادة مجموعة من الحاكمين المستندين في حكمهم على الأجهزة الامنية والعسكرية. ولا تملك شعوبنا لا أخلاقيات سياسية حقيقية واعية ولا إرادة وطنية. إنها تعيش في نظام التبعية المطلقة للسلطة وللدولة الأجنبيتين، حتى لو كان أعضاؤهما من أهل البلاد الأصليين. لكن لا يجمعهم جامع مع بقية أبناء جلدتهم. ولا يستطيعون ضمان استمرار سلطتهم إلا بتعليم الشعوب استبطان دونيتها، وتمثلها الحاكمين كطبقة متميزة مختلفة عن بقية السكان ومتفوقة عليهم . ولا تتردد بعض النظم الضعيفة في سبيل فرض هذا التميز والتفوق عن استخدام العنف الأعمى الذي يجبر السكان، مهما امتدت مقاومتهم، على استبطان علاقات السلطة القائمة ومنطقها، أعني منطق السيادة من جهة والعبودية من الجهة الأخرى.