الرد على الحملة الغربية يبدأ بإصلاح الذات

2001-10:: الوطن

قلت في مقال سابق إن انتماءنا للعروبة والإسلام ووفاءنا للأمة والحضارة العربيتين والإسلاميتين لا ينبغي أن يمنعانا من تكوين نظرة موضوعية عن واقعنا. وكما نطلب من الولايات المتحدة بحق أن تطرح على نفسها سؤالا هو: ما أسباب كره العالم لنا, علينا نحن العرب أن نطرح على أنفسنا السؤال: لماذا ينظر إلينا العالم نظرة سلبية؟ ولماذا نتهم اليوم بأننا مصدر الإرهاب وينزع العالم إلى تثبيت هذه الصورة السلبية واعتمادها لنا؟.
هناك من دون شك كما ذكرت إرادة السيطرة على دول تبدو فريسة سهلة وجاهزة. لكن هناك أيضا مظاهر سلبية في نظمنا المجتمعية لا يمكن تجاهلها, وهي ذاتها التي تفسر الضعف الشديد الذي يشل مجتمعاتنا ويحولها إلى فريسة سائغة وموضوع صراع وتنافس بين القوى الدولية. فمن الناحية الوطنية, ليس من الممكن على العقل الحديث أن يقبل أو يفهم بسهولة كيف يمكن لشعوب تجمعها لغة واحدة ويوحد أغلبيتها دين واحد ولها حضارة وتاريخ مشتركان لا ينكرهما أحد من أعضائها, وهي تنادي منذ قرن بانتمائها لأمة واحدة وتبحث عبر حركات كانت من أكثر الحركات السياسية شعبية وجمهورا عن وحدة لا تزال تشغل نخبها منذ أكثر منذ نصف قرن دون انقطاع, أن تظل مشتتة كما هي عليه الآن ولا تعرف أسلوبا للتعامل فيما بينها وفيما بين أعضائها إلا القتال والنزاع والحروب وتكاد تفتقر إلى أي قدرة على التفاهم والتعاون والعمل الإيجابي المشترك. فالتشاحن والتنابذ والاقتتال الدائم يعكس عدم القدرة على وضع قواعد ثابتة للعمل والسلوك والعجز عن التراكم والتقدم والإنجاز. وكل ذلك من صفات المجتمعات البربرية التي تفتقر إلى قواعد أخلاقية ونظم سياسية ومؤسسات مدنية فعالة وجدية تساعدها على تحقيق التفاهم وتأسيس أطر التعاون السلمي الذي يسمح لها بتطوير مواردها وتفجير طاقاتها وتأهيل مواهب أعضائها والاستفادة من كل فرد منهم. والنزوح الدائم إلى الاقتتال والحرب والتطاحن والتشاحن هو التعبير المباشر عن انعدام العناية بالمصالح الجمعية وغياب المسؤولية السياسية والمدنية وسيطرة المصالح المادية والوقتية على أي مصالح عمومية وبعيدة أو طويلة المدى وبالتالي عن رفض التفكير بالمستقبل بشكل عام ومستقبل الشعوب والمجتمعات بشكل أخص أو العجز عنه, والانغماس بدلا من ذلك في زمن اللذات الحسية والفورية. وهذا ما يفسر غلبة القيم والمتع الحسية والجسدية المادية المتعلقة بالبطن والجنس والمال على حساب كل ما تجاوز ذلك من قيم ومتع جمالية وأخلاقية وعقلية ومدنية وسياسية عند جميع الشعوب البدائية.
ومن الناحية السياسية, لا يمكن أن ننظر نظرة إيجابية إلى مجتمعات لا تزال تعج بالنظم السياسي والمؤسسات التي تجسد أقسى أشكال الديكتاتورية, فتقتل وتنكل بالأفراد وتهجر وتنفي وتلغي الحقوق السياسية والمدنية وتعتقل وتسجن وتعذب من دون حساب ولا رقيب, وتنكر على الأفراد أي حق من الحقوق الإنسانية. لقد بدأ بحر الديكتاتورية ينحسر في جميع بقاع العالم, بما في ذلك في أكثر البلاد فقرا وأقل المجتمعات موارد, في الوقت الذي لا تزال تشهد فيه أكثر حقبها ازدهارا في البلاد العربية ولا يزال التغيير يختلط بتجديد النظم الشمولية وترسيخ أركانها بدل أن يعني الخروج منها. وماذا يمكن أن يقال عن مجتمعات لا تزال النخب الحاكمة فيها تتعامل مع السلطة من منظار حق الفتح والسيطرة بالقوة وترفض الاعتراف للجمهور بأي حق من الحقوق التي أصبحت من قبيل البداهة في المجتمعات الأخرى وفي مقدمها الحقوق السياسية التي تجعل من المواطن الفرد الحر مصدر السلطة والمرجع الأخير فيها, من دون الحديث عن الحقوق الفكرية والاجتماعية والنقابية والاقتصادية. وكيف يمكن أن تنمو المدنية في مجتمع لا يزال الفرد فيه مكبلا بجميع الأغلال الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ومحروما من أي وسيلة من وسائل التعبير أو التظاهر أو التنظيم أو النقد أو الكلام, تحت طائلة العقوبات وسلطان سيف قانون الطوارئ والأحكام والمحاكم الاستثنائية والعسكرية والأمنية. وكيف يمكن أن توصف بالإنسانية أنظمة لا هم لها سوى قهر الإنسان ومسخه وإلغاء شخصيته وتجويف حسه ووعيه وفرض التبعية الشخصية الأبدية عليه سواء أجاء ذلك باسم الأمن أو الوحدة الوطنية أو الخطر الأجنبي الداهم أو الحفاظ على النظام التقدمي أو الثوري أو الشعبي أو الولاء لزعامات خنفشارية فرضت نفسها بقوة السلاح واعتقدت أنها تجسيدات أو تجليات إلهية.
فقهر الأفراد واحتقار عقولهم والدوس على حقوقهم والتنكيل بهم والتمثيل بصورهم وذواتهم وتحويلهم من بشر أحرار أصحاب إرادة ووعي وحرمة إلى أذناب ومحاسيب وزبائن وأنصاب وأزلام هو أيضا سمة بارزة من سمات الهمجية والبربرية.
ومن الناحية الأخلاقية اعتدنا نحن العرب على أن ندين الغرب لاستخدامه بحقنا معايير مزدوجة في الوقت الذي تمارس فيه مجتمعاتنا ونظمنا معايير خماسية وسداسية وسباعية. فنحن أقرب من أي مجتمعات أخرى اليوم إلى العنصرية التي نمارسها على أنفسنا بالدرجة الأولى. فنحن لا نجد حرجا في التمييز بين الناس صراحة وعلنا حسب معيار العائلة أو العشيرة أو الجنس أو الأصل أو الدين أو الطائفة أو المنطقة الجغرافية أو الثروة أو المنصب أو الموقع من السلطة والسلطان ونعتبر أن للفئات المتسلطة حقوقا وقيما ومقامات ومزايا وامتيازات مقبولة ومفروغا منها. فليس لدينا أي مفهوم للمواطنة ولا حتى للأخوة الدينية أو في الإنسانية. ومن المستحيل أن يتساوى في تفكيرنا غني وفقير ولا امرأة ورجل ولا ذو أصل مع من لا أصل له ولا ابن حاكم مع من لا سلطان له ولا حتى ابن حزبي من أنصار الحزب الحاكم مع من لا حزب له, مهما كانت كفاءات الآخر وتضحياته ومواهبه الفكرية وقيمه الإنسانية. وإذا كانت هناك سمة بارزة للمدنية والحداثة فهي سمة المساواة القانونية والأخلاقية التامة بين الأفراد بصرف النظر عن أوضاعهم الجنسية والدينية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حين لا تظهر النظم الهمجية والبربرية ولا يتجلى انحطاطها الأخلاقي والإنساني إلا عبر التمييز الدقيق والقاطع والثابت بين الأفراد والجماعات واختلاق الأعذار المختلفة الوهمية والواقعية لتعميق خطوط التمييز والتمايز وعزل الناس بعضهم عن بعض وتجميد احتمالات اختلاطهم وارتقائهم أو انتقالهم من طبقة إلى طبقة أو من درجة إلى أخرى. 
ونستطيع أن نقول الشيء نفسه في ميدان القانون. فمن سمات المدنية والحياة المتحضرة الحديثة أن تكون للأمم قواعد ثابتة للعمل والتعامل والسلوك. ويكرس هذه القواعد ويحفظها عادة دستور يصار إلى صوغه عبر نقاشات طويلة تشارك فيها الأمم على جميع مستوياتها، عبر ممثليها المباشرين مثل النواب أو غير المباشرين مثل أعضاء المجتمع المدني من صحفيين ومفكرين ونقابيين وغيرهم ممن يشارك في تطوير النقاش عبر الصحافة والكتب والبرامج السمعية أو المرئية. وعلى الرغم مما يتمتع به هذا الدستور من قدسية في تنظيم الأحكام القانونية فهو لا يعامل معاملة الكتاب المقدس والحرز الأمين والرقية ولكنه يظل على الرغم من قدسيته القانونية دستورا حيا أي موضوع نقاش عمومي هدفه التجديد والتطوير والتنقيح والتعديل كي يبقى وفيا لإرادة المجتمع وحاجاته المتجددة وقادرا على استيعاب التحولات الحضارية وصون وحدة الجماعة وتعزيز فاعليتها وفاعلية أعضائها معا. وعلى هذه الوثيقة التي تجسد الإجماع الشعبي والوطني يعتمد المشرع في إصدار القوانين وضبط أصول تنفيذها وبالرجوع إليها يتحقق من صحتها وعدالتها. وفي المجتمعات التي تشكل المساواة القانونية شرطا بنيويا لقيامها ليس للدستور ولا يمكن أن يكون له قيمة ومعنى إلا إذا كان ثمرة اختيار جماعي حقيقي ومشاركة شعبية فعلية. أما الدستور المفروض من قبل الحاكم والمدافع عنه بالقوة العسكرية المحضة فليس له من الدستور إلا الاسم لأنه يفتقر إلى جميع الأسس الأخلاقية والسياسية التي تجعل منه مرجعا دستوريا، أي مقبولا من الجميع. فالدستور المفروض من دون مشاركة شعبية حقيقية أو بأساليب انقلابية والذي يستخدمه الحاكم أداة لتمكين سيطرته الأبدية على الحكم، والقوانين التي يسندها إليه لتكون وسيلة لقهر الخصوم السياسيين والفكريين وتركيع المجتمع تحت أقدامه، والتجاوزات التي يبررها لنفسه ولقواه الأمنية نظام الديكتاتورية، يلغي مفهوم الدستور ذاته كمرجعية عمومية ويحوله إلى أداة من أدوات السلطة القمعية. وليس هناك مناقشة في أن انعدام الحياة الدستورية الحقيقية وغياب روح القانون والشرائع والتسليم في تنظيم العلاقات الاجتماعية الفردية والجماعية، بما في ذلك ما يشمل علاقات الشعب بالحكم والسلطة الدنيا بالسلطة العليا، لقانون القوة والعنف كل ذلك يشكل سمة أساسية من سمات الهمجية والبربرية. 
ومن الناحية الاجتماعية، تكاد المجتمعات العربية التي يلح دينها على التكافل والتعاون والتضامن تكون اليوم أقل مجتمعات العالم عدالة في توزيع الثروة بل في بناء نظم وشبكات العناية الاجتماعية الضرورية للتخفيف من وطأة هذا التفاوت الصارخ في توزيعها. وتكاد الشعوب تتحول بغالبيتها إلى كتل فقيرة ومهمشة ومحرومة من جميع الحقوق السياسية والمدنية والثقافية. ومناخ التوتر والعدوان المتبادل والحروب الأهلية الكامنة والمتفجرة مميزات أساسية لحياة المجتمعات البربرية.
إن تحسين الصورة الخارجية مهم للتقليل من عزلة البلاد العربية وتقليص مخاطر الاستفراد بها وتبرير ضربها. لكن تحسين الصورة العربية غير ممكن اليوم من دون تحسين الواقع. ومن الممكن أن يكون للعمل الإعلامي تأثير كبير إذا كان جزءا من مشروع متكامل للإصلاح الشامل لكنه لا يمكن أن يكون هو نفسه بديلا من تغيير واقع العرب في جميع المجالات. ومن دون تغيير الواقع نفسه بحيث تظهر الصورة السلبية المنتشرة الآن في تناقض فعلي مع الحقيقة لن يقوم الإعلام إلا بزيادة سلبيتها ذلك لأنه سيضيف إلى القبح الطبيعي الكذب الرخيص. 
باختصار إن تغيير الصورة لا يتم بالكلام أو الدعاية ولكن بالفعل. وهذا يعني أنه لا يمكن لأي استراتيجية إعلامية وتسويقية، مهما كانت نجاعتها، أن تكون بديلا عن استراتيجية تنمية حضارية شاملة. وهنا يكمن التحدي الحقيقي. وما عدا ذلك من الأمور الثانوية. وليس من الضروري أن يحظى العرب بعطف العالم إذا كانت لديهم القدرة على الدفاع بأنفسهم عن مصالحهم وحقوقهم، ولن يضيرهم أن لا ينالوا محبة الآخرين إذا كانوا واثقين من ذاتهم ويحظون بتقدير أنفسهم. فلا يؤثر كثيرا على الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أن يكون كل العالم كارها لها ولسياساتها، ولا يمنعها هذا من أن تضمن لشعبها السلام والأمن وشروط حياة من أفضل ما هو موجود على سطح الكرة الأرضية.فمشكلة العرب الرئيسية لا تكمن في الصورة السيئة التي يصنعها الرأي العام الغربي أو العالمي عنهم ولهم ولكن في واقع شروط حياتهم المحزنة التي تكاد تقرب مجتمعاتهم من البربرية وتلغي لديهم أسس أي حياة أخلاقية وقانونية وسياسية حقيقية. إنها تكمن في فقدانهم للثقة بذاتهم واستبطانهم النظرة الدونية التي تجعلهم ييأسون من تغيير واقعهم وواقع مجتمعاتهم وتوجههم نحول حلم كسب المعارك الشكلية والوهمية الخارجية.