الديمقراطية ليست بديلا للوطنية

2005-11-29:: الاتحاد

في سعيهم المفهوم والمشروع معا لتقويض الأسس السياسية والفكرية لمشروعية النظم العربية التي لا تزال تربط نفسها بشكل أو آخر بالحقبة الوطنية والقومية السابقة التي عرفتها العديد من البلدان العربية في الخمسينات والستينات، وتحت تأثر ديناميات العولمة القوية، يطور قسم كبير من المثقفين والرأي العام أيضا رد فعل عنيفة وعاطفية ضد مصطلحات الوطنية وقيمها. فيبدو كل ما كان له علاقة بالفكرة العربية أو بالمواقف الوطنية وكأنه تعبير عن الجمود العقائدي والضياع السياسي والانغلاق الحضاري وهو يتناقض مع الديمقراطية. وبالمقابل يبدو كل ما يوحي بالتخلي عن هذه الأفكار والقيم والتنكر لها وكأنه تعبير عن الروح العصرية والتصالح مع العالم والخروج من المحنة التاريخية. ويخشى إذا استمر الأمر على ما هو عليه من افتقار للروح النقدية وانتقال متهور من النقيض إلى النقيض في مواقفنا وسياساتنا أن نخسر معركة الديمقراطية كما خرسنا ممن قبل معركة القومية، ليس لأننا آمنا بقيمها وأفكارها كما حصل لجميع شعوب العالم، وإنما لأننا بالغنا في هذا الايمان حتى القداسة، فلم نعد نرى خارج التكرار الفارغ لشعارات التلاحم والتماهي والاعتزاز القومي شيئا آخر يستحق الذكر، لا علاقات دولية ولا قيما ديمقراطية ولا حتى معايير عقلية.
والحال لا تتناقض الديمقراطية مع التمسك بقيم الوطنية الحقيقية القائمة على التضامن القوي بين أبناء الوطن الواحد، ولا مع التعلق بالفكرة العربية التي تقوم على الاعتقاد بالمصالح المتبادلة للتعاون بين الشعوب العربية وبنجاعة هذا التعاون وضرورته للوصول إلى تنمية عربية مستديمة. فالديمقراطية التي أصبحت الآن عن حق هدفنا المركزي، مع أهدافنا الجماعية الأخرى العديدة، ولا يغني تحقيقها عن تحقيق التنمية الاجتماعية وعن ضمان الإستقلال والأمن والكرامة لمجتمعاتنا في العالم وداخل هذه المجتمعات ايضا. ولا يتم بناء هدف بالتضحية بهدف آخر مرتبط به ولا باختزال معركة التحرر والانعتاق العربية إلى معركة سياسية فحسب.
فبعكس ما يميل إليه الشعور العام اليوم من نزعة إلى تسويد صفحة الماضي القريب، لم تكن الحقبة الوطنية العاصفة التي عرفتها المجتمعات العربية في الخمسينات والستينات، بالرغم من جميع ماشابها من مغالاة وأخطاء، خالية من المعنى أو فقيرة بالاصلاحات والتجديدات والمكتسبات الاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية. فقد شهدت هذه الحقبة تحولات كبيرة على جميع المستويات، بدءا بتغيير البيئة النفسية التي كان يعيش فيه العرب كأفراد وجماعات منذ دخولهم في العصر الاستعماري، وانتهاءا بتحديث الهياكل والبني الاجتماعية، مرورا ببناء مؤسسات الدولة الحديثة وإرساء أسس التحول الصناعي، وتحديث الإدارات وبناء المنظومات التعليمية الوطنية، وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية الأخرى للسكان ودمجهم في سياق وطني واحد. وقد أشرت إلى تغير البيئة النفسية في المقام الأول لأن تأثير ذلك كان عاملا قويا في تحرير المجتمعات العربية، أفرادا وجماعات، من روح التسليم بالأمر الواقع والاستسلام للقضاء والقدر نتيجة حال العبودية التي كرستها عقود طويلة من الاستبداد السلطاني وما أضاف إليها السقوط تحت السيطرة الاستعمارية من شعور بالدونية والعجز عن مسايرة الحركة التاريخية. لقد كان الاستقلال أول إنجاز يعيد إلى الشعوب التي عرفت القهر والذل لقرون طويلة الثقة بالنفس ويحثها على استعادة أو استنبات مفاهيم وقيم المسؤولية التاريخية والسياسية ويفرض عليها أخذ مصيرها بيدها.
وقد ارتبط باستعادة الثقة بالنفس والتصالح مع القيم التاريخية والتعود على فكرة الشعب الحر المسؤول عن مصيره إعادة بناء الهوية على أسس أكثر ديناميكية. ومكنت حركة التحول الشاملة الفرد من تجاوز التماهيات أو استراتيجيات التماهي العائلية والعشائرية والطائفية العصبوية القديمة، التي كانت تعبر عن الركود الاجتماعي والاقتصادي العام، وضعف التواصل بين مكونات المجتمع، وغياب الاقتصاد الحديث، نحو استراتيجات تماه وطني عام. وبعكس ما تشير إليه تحليلات بعض المؤرخين المعاصرين، لم يصطدم هذا التماهي الوطني مع التماهي القومي العربي الذي انتشر بشكل كبير في حقبة الستينات من القرن الماضي بل كان أساسا له. فما كان من الممكن انطلاقا من الشعور العشائري أو الطائفي الارتقاء نحو شعور عربي يجمع كل الناطقين بالعربية. وبهذا المعنى جاءت الهوية العربية كامتداد للهويات الوطنية وتعزيز لها بقدر ما رسخ أمل الوحدة العربية الشعور بالقدرة على مجاراة قيم العصر وتحقيق التنمية الاقتصادية وتأكيد السيادة والاستقلال والندية والمساواة مع المجتمعات الكبرى الأخرى.
وفي إطار هذه الثقة المتجددة بالنفس وبالمستقبل وبقدرة الشعوب على بناء أوطان حديثة مشابهة للأوطان الحديثة الأخرى نشطت النخب الوطنية الجديدة، بشقيها الليبرالي والاشتراكي، في تعميم مباديء الدولة الحديثة وتعزيز مؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية. وهكذا ترافقت الاستقلالات بإقامة الجمهوريات في القسم الأكبر من البلدان العربية وتبنت النخب معايير حديثة للفصل بين السلطات وتطبيق مبدأ استقلال الدولة عن الدين، حسب شعار الدين لله والوطن للجميع، وما يعنيه من مساواة جميع المواطنين مبدئيا أمام القانون، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والفكرية. وحتى عندما ألغت النخب الرديكالية القومية هذا الفصل بين السلطات لم تتراجع عن تأكيد استقلال الدولة عن السلطة الدينية.
وشهدت المجتمعات العربية تحولات عميقة في نظمها الاجتماعية والتعليمية والصحية. وقادت السياسات الاشتراكية والاجتماعية إلى تقليل الفوارق بين الطبقات وتراجع كبير في معدلات الفقر جعلت من العالم العربي حتى الثمانينات أفضل المناطق في العالم في عدالة توزيع الدخل. كما بذلت حكومات المنطقة في ذلك الوقت جهودا بناءة في سبيل نشر التعليم الحديث وتعميمه وإدخال المرأة في الحياة العامة.
وبالرغم مما كانت تمثله المسألة الاسرائيلية - التي نشأت عن الإعلان أحادي الجانب عن قيام دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية، وتشريد معظم أبناء الشعب الفلسطيني - من ضغط متواصل على الدول الفتية، فقد نجحت الحكومات العربية في احتواء التوسعية الاسرائيلية وفي المقابل الانخراط بشكل أكبر في عملية البناء الداخلي.
باختصار لقد شهدت البلاد العربية في حقبة ما بعد الاستقلال، في إطار التوازن الجديد للقوى الذي أفرزه انهيار النظام الاستعماري القديم، تحولات قوية وايجابية في ميادين تأكيد هامش مناورة استراتيجية كبيرة إقليمية عزز السيادة الوطنية لدولها، كما شهدت ترسيخ الهوية الثقافية بعد قرون من التردد والتوتر بين العصبيات المحلية والولاءات الدينية والفكرة الوطنية، وأرست دعائم دولة ومؤسسات حديثة منفتحة على المشاركة الشعبية، سواء أجاء ذلك عن طريق المشاركة الانتخابية أو الانخراط في الحركات التجديدية الانقلابية، وساهمت من خلال خططها التنموية الهادفة في خلق قاعدة اقتصاد صناعي حديث كانت البلدان العربية تفتقر إليه بالإضافة إلى الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها في ميدان الخدمات الاجتماعية الصحية والتعليمية والإنسانية الأخرى. ومجموع هذه الانجازات جعلت من هذه الحقبة تبدو وكأنها استعادة لمجهود النهضة العربية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر وموجة ثانية من موجات التحديث التي نقلت العالم العربي من حالة الهامشية والركود والخضوع للأجنبي إلى حالة التحول والتغير السريع والشراكة العالمية. ولذلك بدا الجهد المتواصل والمتنوع الذي عرفته الدول العربية في مجال التحديث في ذلك الوقت وكأنه مشروع النهضة الثانية الذي قادته مصر الناصرية بعد مشروع التحديث الأول الذي كان لمصر أيضا قصب السبق فيه.

من هنا، ليست الحقبة التي نعيشها منذ الثمانينات من القرن الماضي امتدادا طبيعيا كما يعتقد الرأي العام، لحقبة مابعد الاستقلال الوطنية التي تحدثت عنها أعلاه وإنما تشكل خيانة كاملة لها بقدر ما تجسد الارتداد على خياراتها الأساسية جميعا والعودة عنها نحو رهانات مناقضة لها ومختلفة جذريا عنها. وربما كان السبب في الاعتقاد بأنها امتدادا للحقبة الوطنية هو أنها تأتي تتويجا لها وثمرة إخفاقها، مما يوحي بإمكانية أو احتمال أن يكون أصحابها وقادة مشروعها هم المسؤولين أيضا عن ما حصل بعد إخفاقها. وبالفعل، قاد فشل عملية التحويل السريعة والجريئة والطموحة التي تصدت لها النخب السياسية والثقافية القومية المنبثقة عن الحركات الوطنية، والتي تشكل امتدادا طبيعيا لها، إلى وضع يشبه كثيرا ما قاد إليه إخفاق تجربة محمد علي التحديثية في أواسط القرن التاسع عشر، إعني إلى نشوء أرستقراطية مالية وعقارية قوية تحتكر السلطة والثروة في البلاد وتحول دون أي مشاركة شعبية وتصادر الدولة كما لو كانت أداتها الخاصة لصيانة مصالحها وجعل البلاد مزرعة خاصة بها، وإلى اتباع سياسات كمبرادورية قائمة على التبعية والعمل تحت إمرة الشركات والدول الأجنبية ولحسابها ضد مصالح التنمية المحلية.
وكان من نتيجة ذلك الإفقار والتهميش الجماعي للسكان على جميع المستويات والانحطاط بمعايير الانتاج والعمل والإدارة والسلوك العام واحتواء المؤسسات الرسمية عن طريق تعميم المحسوبية والزبونية والعائلية وإحداث قطيعة نهائية بين النخب السائدة والحاكمة والمجتمع وتكريس أو تشريع
ممارسة سياسات التمييز العنصري أو شبه العنصري تجاه الأغلبية الاجتماعية. لكن ذلك ليس ثمرة الالتزام بالقيم الوطنية ولا تحقيق الوحدة العربية، ولكن بسبب التنكر لهما وعدم الوفاء بالالتزامات المترتبة عليهما، لصالح خدمة المصالح الشخصية لنخب لم تعرف يوما أي معنى للمسؤولية، الفردية منها والجماعية.