الحوار الفلسطيني الفلسطيني

2002-08:: الوطن

يشكل النزاع داخل الرأي العام الفلسطيني ومعه الرأي العام العربي بين من يعتبر التخلي عن العمليات الاستشهادية داخل اسرائيل أو ماوراء الخط الأخضر استسلاما لاسرائيل وتراجعا عن الالتزام بالقتال حتى التحرير ومن يعتبر أن المصلحة الفلسطينية تقضى بحصر هذه العمليات في المناطق الفلسطينية المحتلة وحدها لكسب مزيد من التأييد العالمي الذي لا غنى عنه لاحراز أي تقدم سياسي ملموس على صعيد تحقيق الأهداف الفلسطينية موضوع الانقسام الرئيسي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية اليوم.
ولا شك أن لكل موقف مبرراته وحججه المنطقية وأنه في مثل هذه الموضوعات وهذه الظروف من الصعب لأي طرف أن يحسم تماما بالأمر من دون ان تكون لديه المعطيات الكافية على الأرض التي تسمح له بتقدير اين يكمن الخيار الأصلح والذي يقدم مكاسب أهم للقضية إذا كان الوضع يتطلب الهجوم أو الاستمرار في الهجوم أو الذي يجنبها أكثر ما يمكن من الخسائر إذا كان الوضع يتطلب التراجع الهدنة.
لكن من وجهة نظر مراقب خارجي لا يمتلك معطيات كثيرة من أرض الميدان يبدو لي أن الهدف الاستراتيجي الأول والأهم اليوم بالنسبة للقضية الفلسطينية هو تجنب أي خيار يهدد بتصديع المقاومة الفلسطينية ويدفع بالعكس في اتجاه تدعيمها في مواجهة خطة الحصار التي تحاول اسرائيل أن تفرضها عليها. وهذا يعني أن المطلوب اليوم أكثر من أي مرحلة سابقة أن يلتئم الفلسطينيون على أنفسهم ويتجمعوا ويتوحدوا ولا إلتئام ولا تجمع ولا توحد إلا بالتوصل نحو برنامج تسوية وسطي يسمح للكتلة الأوسع أن تحقق التوازن وتضمن الوحدة بين جميع الأطراف. ومثل هذا البرنامج هو الذي رمت وثيقة غزة التي لا تزال موضوع نقاش إلى التوصل إليه بسعيها إلى ربط حصر العمليات الفدائية في المناطق المحتلة من جهة وادماج الحركة الاسلامية في القيادة الفلسطينية الموحدة من جهة ثانية في مواجهة مطالب الاسرائيليين والامريكيين بضربها أو محاصرتها.
ليس هناك أي سبب يدعو الفلسطينيين والعرب إلى الشك في ما أنجزته المقاومة الفلسطينية من مكاسب سياسية وعسكرية يجعلها قادرة على رفض التراجع أو التسليم والقبول من دون نقاش بتنفيذ طلبات الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى الخضوع من دون سؤال لضغوط الدول الاوربية الصديقة. لكن بالرغم من أن العمليات الاستشهادية توجه ضربات موجعة جدا ومؤلمة للتعنت الاسرائيلي, فقد نجحت تل أبيب بسبب تقاعس العرب وانقسامهم وضعف نشاطهم الدبلوماسي والاعلامي من استخدامها دعائيا من أجل التقليل من شرعية الكفاح الفلسطيني معتمدة على ما تلقاه من تغطية سياسية كبيرة في العالم كله وما تتمع به من رصيد تعاطف قوي في العديد من أوساط الرأي العام العالمي التي عاشت الحرب العالمية الثانية وتعرضت مثل اليهود لفظائع آلة الحرب النازية.
إن المطلوب, والممكن أيضا, تسوية فلسطينية فلسطينية حقيقية قائمة على تحليل فلسطيني منطقي وموضوعي ووطني مئة بالمئة للأوضاع وعلى التفكير الحر والمستقل من منظور المصالح الفلسطينية الوطنية وحدها من دون النظر إلى طلبات البعض ومشورات البعض الآخر, لكن أيضا وفي الوقت نفسه من دون التقليل من ضرورة أخذ مواقف هذه الدول الأمريكية والاوربية والعربية بالاعتبار أيضا. ذلك أن السياسة الحقيقية الناجعة والناجحة لا تصنع بالقنابل والمتفجرات فحسب حتى لو كانت بشرية ولا تصنع بشكل مستقل عن الآخرين أو عن القوى الأخرى المسيطرة والمحيطة. والقيادة السياسية القوية هي وحدها التي تعرف كيف توائم بين الضغوط والاكراهات الخارجية والقرارات الذاتية المستقلة حتى تزيد إلى إقصى درجة من فرص مبادرتها ومناورتها الاستراتيجية السياسية والعسكرية. وبالعكس إن القيادة الضعيفة هي التي تستسلم بسرعة وسهولة للضغوط الخارجية فتفرط بقواها الذاتية أو تتجاهل الضغوط والاكراهات الخارجية تماما فتتعرض لنكسات خطيرة تجعلها تفرط بهذه الإمكانيات وفي النهاية تغلق جميع فرص المبادرة والعمل أمامها.
ومن الواضح أنه في إطار عدم نجاحنا في محاصرة الخصم الاسرائيلي سياسيا ودوليا, ونجاحه في الحفاظ على تأييد أمريكي غير مشروط وتخاذل الصديق الأوروبي وشلل المجموعة الدولية وتقهقر الإرادة العربية التي تتعرض هي نفسها لضغوط متزايدة لتنقلب على القضية الفلسطينية, لم يعد امامنا إلا الاختيار بين طريقين: رفض جميع الضغوط الخارجية العدوة والصديقة ومنها الضغوط الأوربية والضغوط العربية أيضا والاستمرار في القتال الدائر اليوم من دون تغيير. وفي هذه الحالة ينبغي مواجهة خطرين كبيرين راهنين: احتمال نجاج اسرائيل تحت مظلة التسامح الدولي معها وبمساعدة آلة الحرب الاسرائيلية المتنامية في تفتيت وتفكيك المجتمع الفلسطيني لقطع المقاومة البطولية عن جذورها وتعليقها في الفراغ. والخطر الثاني هو تعميق الانقسام الفلسطيني والتهديد بتفاقم الصراع السياسي والقطيعة وربما النزاع الدموي بين جناحي الحركة الفلسطينية, الجناح الوطني والجناح الاسلامي.
ليس هناك إذن بديل منطقي لمواجهة الموقف الراهن عن حوار وطني جدي وصحي يسمح للقوى الفلسطينية المختلفة أن توضح آراءها وأن تتوصل بصورة سلمية وصحيحة إلى اتفاق فيما بينها يضمن وحدة الحركة الوطنية ويسمح باستمرار الكفاح تحت علم واحد وبقيادة موحدة ويقطع الطريق على الخصم في إثارة الانقسام والفتنة داخل الصفوف الفلسطينية أو في دفع الحركة ذاتها نحو التصعيد والمواجهات الشاملة وربما فيما بعد نحو طريق المغامرة والفوضى والانتحار.
وحده التوصل إلى رؤية مشتركة وموحدة تضمن الحد الأعلى من التفاهم والوحدة فيما بين فصائل العمل الفلسطيني وتقلل من احتمال الانقسام والصراعات الداخلية وتضمن الانسجام في المواقف هو الطريق لتجاوز حقبة من أصعب الحقب التي يواجهها الكفاح الفلسطيني على مستوى الاختيارات السياسية المتاحة. ولن يؤثر ذلك على احتمالات وإمكانيات العودة إلى خيارات أخرى عندما تصبح الظروف مناسبة أو يتضاءل الضيق الذي تشعر به اليوم الحركة الفلسطينية تحت ضغط الانحياز الكامل للراعي الأمريكي مع اسرائيل وتراجع مواقف وقدرات الحلفاء التقليديين.
إن قبول حماس والمقاومة الاسلامية عموما بهذه الخطة الرامية إلى توحيد فصائل المقاومة الفلسطينية وجمعها حول وثيقة عمل واحدة تبين الأهداف الراهنة للنضال ووسائل تحقيقها وتفتح الباب أمام تكوين قيادة وطنية موحدة تضم إلى جانب قيادة فتح الامناء العامين لجميع الفصائل الأخرى كما اقترحت ورقة العمل التي ناقشها ممثلوا الفصائل الاثنا عشر في غزة لن يكون تخليا عن اختياراتها ولا تراجعا عن خطها ولكن مساهمة أساسية منها في تعزيز الموقف الوطني الفلسطيني وقطع الطريق على مخططات الايقاع بالمقاومة الفلسطينية واستخدام المفاوضات مع السلطة لضرب هذه المقاومة وتحييدها. ولا شك أن مشاركة حماس في قيادة وطنية موحدة فلسطينية سوف يضاعف من صدقية هذه القيادة بقدر ما سوف يحفظ لها مكانتها في تقرير الشأن الفلسطيني وفيما وراء ذلك سوف يزيد ثقة الشعب الفلسطيني بقيادته الوطنية ويضاعف من آماله بالنصر.
ليس موضوع الرهان الرئيسي للحوار الدائر اليوم بين القوى الفلسطينية تقرير أي الطرق والوسائل هي الأنجع لضرب إرادة الخصم الاسرائيلي. فهذه المسألة قد حسمت تماما وجميع الفلسطينيين والعرب, بما فيهم الأطفال يعرفون اليوم ما الذي يوجع الاسرائيليين. وفي هذا المجال لم يعد هناك ما يقال أكثر مما قيل. إن موضوع الرهان في هذا الحوار اليوم تحصين الحركة الوطنية الفلسطينية ضد التهديدات الكبيرة التي تتعرض لها: سواء تعلقت بخطر الانقسام بين الفصائل الوطنية والاسلامية المتنافسة وهو ما تراهن عليه اسرائيل لنقل المعركة إلى داخل الصف الفلسطيني أو بخطر القطيعة مع الرأي العام الدولي الشعبي والرسمي وإظهار السلطة الفلسطينية بمظهر السلطة العاجزة عن اتخاذ قرار فلسطيني وطني موحد وتنفيذه وصيانته وبالتالي إظهار الشعب الفلسطيني بمظهر الشعب العاجز عن إقامة سلطة ودولة حقيقية والتذرع بذلك من قبل الجميع لتركه لمصيره امام قوة القهر والبطش الاسرائيلية. وفي هذه الحالة لن تجد اسرائيل صعوبة كبيرة في التشكيك بصدقية ومشروعية الكفاح الفلسطيني ككفاح وطني وفي تصويره على أنه من صور الارهاب الناجم عن التعصب الديني أو العداء للسامية في البلاد العربية.
التوصل إلى تفاهم فلسطيني هو اليوم خشبة الخلاص الوحيدة للمقاومة الفلسطينية وهو يستحق التضحيات الايديولوجية والسياسية المطلوبة لتحقيقه لأنه هو الضمانة لاستمرار المقاومة ومواصلة الكفاح لتحقيق الأهداف الفلسطينية الاستراتيجية الوطنية.