الحرب الأميركية – الأوروبية من وراء حرب العراق

2003-02-06:: الاتحاد

 

 

فاجأ الفرنسيون والألمان في موقفهما من الأزمة العراقية فريقين متناقضين من الرأي العام العالمي· فريق كان يعتقد بأن سعيهما لبلورة موقف متميز عن الاندفاع الأميركي الجامح نحو الحرب لم يكن سوى موقف شكلي ومؤقت لن يقاوم طويلا ثقل المصالح المشتركة الذي يدفع في النهاية إلى التوافق مع السياسة الأميركية· وفريق ثانٍ كان يعتقد بأن فرنسا دخلت في صراع مع الولايات المتحدة حول العراق وأنها لن تتردد في استخدام حق النقض الذي يخوله لها مقعدها الدائم في مجلس الأمن في سبيل منع استصدار قرار يعطي لواشنطن الحق في شن الحرب على العراق· فمن الواضح اليوم أن فرنسا وألمانيا لم تتراجعا عن موقفهما المتميز في مسألة الحرب لكنهما، في الوقت نفسه، لم تسيرا بعيدا في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتردد في إعلان امتعاضها بل استيائها الواضح من موقف الدولتين الأوروبيتين الرئيسيتين·

وخطأ الذين اعتقدوا أن فرنسا وألمانيا لن تستمرا على موقفهما وستتبعان في النهاية الخط الأميركي ناجم عن التقليل من قيمة التباين في المصالح البعيدة بين الولايات المتحدة والدولتين الأوروبيتين· وهذا التباين لا يقتصر على الخلاف الظاهر في معالجة أزمة الشرق الأوسط العراقية والفلسطينية فحسب، ولكن يذهب أبعد من ذلك ليبرز التباين في تصور أسلوب معالجة المشاكل العالمية بأكملها، ويطرح بالتالي السؤال عن أسلوب القيادة الأميركية للعالم أو الطريقة البدائية التي تعتقد الإدارة الأميركية الراهنة أنها الأصلح في بناء السياسة العالمية· أما خطأ أولئك الذين راهنوا على أن تخطو فرنسا الخطوة الأخطر وتهدد باستخدام حق النقض أو تستخدمه بالفعل فهو ناجم عن مبالغتهم في تقدير الاستقلال الفرنسي تجاه الولايات المتحدة الزعيمة الحقيقية للعالم الصناعي·
والحال أنه ليس لدى فرنسا ولا ألمانيا الموحدة أي سبب يجعلهما تقبلان بأن تملي عليهما الولايات المتحدة رؤيتها فيما يتعلق بمصالحها القومية أو بمفهومها للسياسة الدولية عموما· ففرنسا تتصور نفسها على أنها القلب السياسي لاتحاد اوروبي لا تقل قوته الاقتصادية عن الاتحاد الأميركي وأن ضمان مستقبل هذا الاتحاد غير ممكن من دون تزويده برؤية سياسية متميزة تعكس مصالحه الفعلية وبإرادة استقلالية تضمن له أن ينظر إليه من الخارج على أنه قوة قائمة بذاتها وليست ملحقة بالحلف الأطلسي الذي تقوده واشنطن· وهذا الطموح ذاته لتحويل أوروبا إلى قطب مستقل للسياسة الدولية وتزويدها بصدقية تسمح لها بلعب دور خاص بها يضمن مصالحها المتميزة هو الذي يدفع المستشار شرويدر إلى الاقتراب من فرنسا بعد أن بقيت ألمانيا فترة طويلة تابعة في السياسة الدولية للولايات المتحدة الأميركية· لقد اقترب موقف البلدين الأوروبيين الكبيرين في هذه السياسة بقدر ما قاد نجاح الاتحاد الأوروبي الاقتصادي ثم المالي إلى ترسيخ الايمان بأوروبا وقدرتها على الخروج من حالة انعدام الوزن السياسي التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية· وبالنسبة لفرنسا وألمانيا يشكل ضمان بناء أوروبا السياسية وبالتالي توحيد مواقف أعضائها حول المحور الألماني الفرنسي الرهان الرئيسي في الصراع القائم اليوم بين الكتل الكبرى على بلورة مفهوم السياسة الدولية وجدول أعمالها·
لكن كما تطمح الدولتان الأوروبيتان في أن يؤدي موقفهما المتميز- من دون أن يكون المعادي بل حتى المناقض للموقف الأميركي- إلى خلق أوروبا سياسية ودفع الأعضاء الهامشيين إلى التماسك تطمح واشنطن التي ليس لها أي مصلحة في تكون قطب أوروبي مستقل ينازعها القرار العالمي إلى أن تبقي أوروبا كتلة اقتصادية فحسب وتحرمها من أمل التحول إلى قوة سياسية وبالتالي استراتيجية مستقلة أو على الأقل فاعلة· وهذا هو مضمون المناورة الكبيرة التي قامت بها واشنطن عندما دفعت الأعضاء الثمانية في الاتحاد الأوروبي، ومن بينهم ايطاليا وإسبانيا، إلى توقيع بيان يعلن عن تأييدها لموقف واشنطن من العراق·
إن واشنطن التي أزعجها جدا إصرار الدولتين الأوروبيتين الرئيسيتين على مواقفهما من الحرب العراقية لم تتوقف عند الإعلان عن عدم أخذ هذه المواقف بالاعتبار فحسب ولا اكتفت بإضعاف الموقف الدولي المناوىء للحرب عموما ولكنها استخدمت الأزمة العراقية والانقسامات الدولية بشأنها في سبيل تقويض جهود باريس وبرلين لبناء أوروبا سياسية وتوجيه ضربة يعتقد البعض أنها يمكن أن تكون قاضية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي·
وقد يكون ذلك مؤشرا إلى مضمون الحرب التي تريدها واشنطن في الخليج وأحد مفاتيح تفسيرها· فالرأي العام العالمي وقسم من الرأي العام الأميركي نفسه يستغربان إصرار واشنطن على شن الحرب بالرغم من كل الدلائل التي تثبت حسن نية العراق وخلوه من أسلحة الدمار الشامل· ولا يكاد الناس يصدقون عقولهم وهم يستمعون إلى التصريحات الأميركية الساعية إلى تصعيد الموقف في الوقت الذي تعمل فيه جميع الأطراف الدولية بما فيها بغداد على التهدئة وتدعو إلى نزع فتيل الحرب·
والواقع أن واشنطن ليست أقل معرفة بهذه الحقائق جميعا من قطاعات الرأي العام الرسمي والشعبي المختلفة·

لكن تصميمها على الحرب الذي يتعزز بقدر ما تتضاءل الأدلة على تورط العراق ليست سياسة عبثية ولا ناجمة عن خطأ أو نقص في المعلومات أو سوء تقدير للموقف· إنها سياسة محسوبة تماما· فواشنطن التي تعي تماما ما تفعله تريد عبر هذه الحرب أن تضع الدول جميعا أمام خيارين لا ثالث لهم، إما التسليم لها بالقيادة عبر الإذعان والتصديق على مبدأ عنزة ولو طارت، أو معارضتها في سياسة العسف الدولي وتحمل آثار الصواعق التي ترسلها شمالا وجنوبا· فالإدارة الأميركية تعرف، وهي هنا صائبة في تقديرها، أنها بمثل هذه الطريقة وحدها تستطيع أن تفرض إرادتها وقيادتها الحرة أو التعسفية على العالم، وليس عن طريق التقيد بالقانون والخضوع لمنطق العدالة والقبول بتحكيم العقل· وهو ما تعرفه تماما وتمارسه على أفضل وجه أيضا العديد من النظم العربية الحاكمة التي تدرك مثل الإدارة الأميركية اليمينية المتطرفة أن تسليمها بمنطق الحق والقانون والعدل لا يمكن أن يعني شيئا آخر سوى انتحارها السياسي·