الحاجة لعقد وطني يؤسس لاجتماعنا السياسي والمدني

2003-01-19:: الجزيرة نت


في ما وراء التدهور الخطير في الموقف العربي الإستراتيجي الذي تعكسه الأوضاع الفلسطينية والعراقية والعجز العربي العام، تطرح في الواقع أزمة الاجتماع السياسي العربي الحديث برمته والأسس التي قام ولا يزال يقوم عليها. وإذا كان من الطبيعي والمفهوم أن تتهرب النخب الحاكمة من طرح هذه المسألة التي لا يمكن أن تعني شيئا سوى نسف مشروعية بقائها، فإن تهافت السياسة الثقافية التي قادت إليها عقود طويلة من الحكم الشمولي الأبوي أو العسكري وسيطرة قانون الصراع من أجل البقاء على مجمل الحياة العربية، قد جعلا الحديث في أسس البناء السياسي والمجتمعي مسائل ثانوية بل زائدة على اللزوم ولا معنى لها عند قطاعات الرأي العام العربي المختلفة.

وهكذا سمحت الأوضاع للولايات المتحدة أن تكون هي وحدها الطرف السياسي الذي يطرح أسس العمل الاجتماعي السياسي العربي على النقاش، ويقدم عبر مبادرة وزير خارجيتها كولن باول البرنامج الوحيد المعلن لإعادة بناء هياكل المجتمعات العربية على أسس عصرية.

لكن من الصعب أن يصدق أحد في العالم العربي بل في العالم أجمع أن الولايات المتحدة مهمومة فعلا بمصير الشعوب العربية، وأنها مؤهلة لأن تضع للمجتمعات أسس بنائها الوطني والمجتمعي. إن ما يهمها بالفعل هو استخدام محنة الشعوب العربية لإضفاء الشرعية على سياسات الهيمنة والسيطرة المباشرة التي تهم بفرضها على المنطقة جميعا، والتي تمكنها من استغلال مواردها البشرية والمادية والجيوسياسية لتحقيق أهداف قومية أميركية محضة، لا علاقة لها من قريب أو بعيد بعملية إعادة بناء المجتمعات السياسية العربية التي دمرها العدوان الخارجي والإسرائيلي منه بشكل خاص، كما دمرها خلال العقود القليلة الماضية العدوان الداخلي من قبل نظم ونخب وأحزاب أحادية لم تتردد في استخدام وسائل الاستعمار نفسها بل ما هو أكثر همجية منها لفرط عقد الشعوب وفك عراها لتسهيل إخضاعها والتحكم بها.

وليس من المبالغة القول إن ما يجمع مشروع الهيمنة الاستعمارية الأميركية الجديدة مع نظم الاستبداد والطغيان السائدة في المنطقة هو سعيهما إلى إجهاض حركة التفكير والبحث المعمق الذي يثيره هذا الدمار والخراب المدني والسياسي، من خلال رفعهما شعارات وهمية حول التحول الديمقراطي للدول العربية وتوسيع مشاركة المرأة ودعم النمو الاقتصادي لامتصاص البطالة. إن الأمر بالنسبة للطرفين يتلخص في إقامة بعض المؤسسات الشكلية التي توحي بالتعددية والاحترام المظهري للقانون وتحديث اللغة الدعائية.

وبالنسبة للأميركيين الداخلين بقوة في معركة إعادة بناء المجتمعات العربية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بل ودينيا كما يقولون، لا يتجاوز الأمر تخصيص 29 مليون دولار يعتقدون أنها ستكون ضرورية وكافية بالطبع لتحقيق التحول الديمقراطي للعالم العربي برمته ودفع عجلة التنمية فيه وإدماج المرأة في مجتمعاته المعادية للنساء، أي إلى ما يعادل 10 سنتات للفرد الواحد.

بيد أن مبادرات النظم العربية التي تعلن اليوم جميعا رغبتها في إصلاح نفسها أكثر كرما من ذلك بكثير. فإعادة تأهيل أجهزتها الأمنية بما يمكنها من المشاركة في توسيع دائرة الحرب ضد الإرهاب الداخلي والخارجي، وهو شرط اندراجها في النظام الأمني العالمي الجديد، سيكلفها لوحده مليارات الدولارات، من دون الحديث عن تكاليف شراء الزبائن وبناء المؤسسات التي يحتاجها التحديث والتطوير، أي بناء واجهة تعددية شكلية ووزارات ووكالات إعلام خارجية تغطي على انتهاكات حقوق الإنسان وتبررها، مما أصبح شرطا لدخول نادي الدول والأمم المتحضرة أو المرضي عنها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.

ولا ننسى كذلك الثمن الباهظ الذي سيكلفه تطوير الأجهزة الأمنية والسياسية الجديدة والإضافية الموازية التي ستصبح ضرورية لموازنة اصطناع هذه الواجهة الشكلية للديمقراطية وتحييد آثارها، ومنعها من أن تستخدم من قبل المعارضات المحتملة أو أن تتحول إلى ثغرة في نظام القهر الشامل الذي ليس لأي نخبة من النخب الحاكمة أمل في البقاء أشهرا معدودة من دونه.

لكن لا الولايات المتحدة الهاجمة لقلب الأوضاع العربية وإحداث أرخص ثورة إنسانية بعشرة سنتات للفرد الواحد، ولا النظم الحاكمة تطرح مسألة الأسس التي ستقوم عليها إعادة البناء السياسي والاجتماعي هذه. فهي تركز جميعا على المؤسسات والتقنيات والآليات لا على المبادئ ولا على قواعد العمل والتعامل داخل المجتمع الواحد. بل إن القادة الأميركيين أو قسما كبيرا منهم يعتقد بأن الأمر لا حل له إلا بتعيين قائد عسكري أميركي مباشر، كما أعلن عن ذلك مرارا بشأن عراق ما بعد صدام. ولكن ليس هناك مانع من أن يعمم هذا النموذج فيما بعد على البلاد العربية الأخرى أو أكثرها. فليس هناك فرق في النوعية -لا في تصورنا نحن ولا في تصور الأميركيين- بين نظام صدام القائم على إنكار السيادة الشعبية ووضعها تحت حذائه ومصادرة إرادة البشر وفرض الوصاية العلنية عليهم من جهة، والأنظمة الأخرى التي تدوس هذه السيادة وتنتزع هذه الإرادة أيضا لكن بأحذية أكثر نعومة وبأسلوب أكثر مواربة أحيانا من جهة أخرى.

ما هي هذه المبادئ التي يبدأ منها، وهذا هو معنى المبدأ، أي بناء اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي؟ إنها نقاط التوافق والتفاهم الأساسية التي لا تقوم من دونها علاقة بين طرفين ولا يمكنها أن تستمر من دون احترامها من قبل الجميع والالتزام بها. ولا يقوم تفاهم وطني من دون القبول الطوعي بمبادئ تشكل حدا أدنى من نقاط الاتفاق على أسس الحياة المشتركة فيما بين الأعضاء المتعاقدين أو المتفاهمين، فتخلق روح الثقة وتشجع على التواصل والتبادل والتفاهم وتمكن الأفراد من الوصول معا إلى برامج وجداول عمل مشتركة.

مجموع هذه المبادئ والغايات والقيم التي توجه سلوكنا وتفكيرنا والتي ينتظر منها أن تحكم العلاقات التي سيبنى عليها الاجتماع الإنساني هو ما نسميه في العلوم السياسية بالعقد الوطني أو الاجتماعي.

فالعقد الوطني يؤسس إذن لمبادئ وقيم أساسية مطلقة تُشكل مرجعية مشتركة لنا جميعاً. فهو يحدد فيما إذا كانت الحرية الفردية مثلاً أو المساواة أو العدالة الاجتماعية أو احترام التعدد الديني أو التضامن الوطني قيما مقدسة وضرورية لاجتماعنا السياسي، ولا نسمح لأحد أن يمسها أم لا. فإذا حصل الاتفاق على عكس ذلك أو إذا لم يكن هناك اتفاق واسع -والحسابات الاجتماعية تتبع دائما قاعدة الأغلبية النسبية لا الإجماع المستحيل- على هذه القيم أو بعضها لسبب أو آخر، فلا يستطيع أحد أن يعترض حينئذ إذا ما ديست الحريات السياسية أو انعدمت العدالة، أو لم يحترم مبدأ المساواة القانونية وساد التمييز العنصري أو الديني أو الأقوامي أو الاجتماعي بين الأفراد والجماعات، وهو عين ما نعيشه اليوم.

وبالمثل هل نعتبر أن حدا أدنى من العدالة بين الطبقات والفئات والمناطق قيمة ضرورية لتضامننا الوطني, وبالتالي لا يجوز لفئة موجودة بمنطقة أن تعيش مستفيدةً دون غيرها من الموارد المحلية لتلك المنطقة, تاركة أبناء المناطق الأخرى يعيشون في حالة من البؤس والجوع أم لا؟ أي هل التضامن الوطني بما يعنيه من إعادة توزيع الثروة -بغض النظر عن مصدرها وبما يمكّن الجميع من العيش بكرامة- يشكل قيمة تجمعنا؟ وبالمثل هل يجب أن تقوم حياتنا الجماعية على أساس القانون واحترامه؟ أم على أساس المحسوبية والاستزلام والولاء العصبوي (الطائفي والديني والمذهبي والعشائري)؟ من يحدد ذلك وكيف يتحدد ذلك؟

هذا هو العقد الوطني الذي نتحدث عنه. إنه تكريس غاية اجتماعنا ومبادئه وقيمه. هل نريده مجتمع أحرار أم مجتمع عبيد وأسياد؟ هل نريده مجتمعا مغلقا على نفسه أم منفتحا على المجتمعات المحيطة به والمشكلة لحضارته وللمجتمعات الإنسانية الأخرى؟ هل نريده مجتمع تعاون ومشاركة وحوار وتفاهم وانسجام أم نريده مجتمع أنانية وشراهة وعدوانية ووحشية وصراع واحتراب؟

وليس المقصود بالعقد الوطني توقيع وثيقة بين الأفراد سرعان ما يتم التخلي عنها، وقد يتم هذا التخلي قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به. ففيما وراء هذا الجانب الشكلي يعني العقد الوطني حصول تفاهم حقيقي, وبالتالي قناعات عميقة لدى الأطراف المختلفة حول الغايات والأهداف والمبررات، ينشأ عنها إيمان عميق أيضا بصلاحية الأسس التي يبنون عليها اجتماعهم وفائدته للجميع، وبالتالي التزام فعلي وداخلي بالمبادئ والأسس التي تم الاتفاق عليها.

بهذا وحده لا يكون الاجتماع السياسي قدرا مفروضا أو إرثا قديما لا فضل لأعضائه في بنائه ولكن بناء واعيا وناشئا عن اختيار طوعي وحر من قبل جميع الأفراد المشاركين فيه أو القسم الأكبر والأوعى منهم. وبذلك فقط يكون لمثل هذا الاجتماع مبرر ومعنى وحوافز تدفع الأفراد إلى التمسك بالعيش المشترك والدفاع عن هذا الاجتماع الذي يضمن تحقيق قيم لا يمكن تحقيقها من دونه أو بزواله وفي غيره. ولا يكون سبب اجتماعنا أو بقائنا معا مجرد وجودنا بالصدفة في بقعة جغرافية، أو بسبب ولادتنا في مجتمعات معينة ولا خيار آخر لنا في ذلك، وحال ما يوجد مثل هذا الخيار يتأبط كل فرد جواز سفره ويرحل إلى بلاد أرحب تاركا الآخرين يعيشون مأساتهم لوحدهم كما هو الوضع الآن.

ولا قيمة لأي دستور إلا بقدر ما يترجم عقدا أو اتفاقا وطنيا حقيقيا والتزامات فعلية من قبل جميع الأطراف، نابعة من اقتناع الأفراد بأنه يعكس إرادتهم المشتركة ويعبر عن مصالحهم ويمكنهم من تحقيق أهدافهم. كما أنه ليس هناك أي قيمة لدستور مفروض لم يناقش ولم يعد في إطار من الحرية السياسية والفكرية، ولم يشارك في إغنائه جميع أفراد المجتمع عن طريق ممثليهم الشرعيين والمنتخبين بصورة شفافة وقانونية. فالأحكام والقواعد التي يحددها الدستور تعكس المبادئ والغايات التي تجمع الأفراد المختلفين والمتباينين وتبرر اجتماعهم معا أو تؤسس لعلاقاتهم الاجتماعية والإنسانية. فهل تقوم علاقاتنا في البلاد العربية على عقد وطني واضح يعكس التفاهم حول مبادئ وغايات وقيم مشتركة بين جميع مكونات الجمهور ويعكس المشاركة غير المباشرة بالضرورة لجميع أفراد المجتمع، أم أنها تقوم على دستور القوة وعقدها الذي يعني أن الضعيف يخضع للقوي ومنزوع السلاح للمسلح والأصغر للأكبر والأفقر للأغنى والذي لا قرابة له مع الدولة للقريب منها؟ هذا هو سؤال العقد الوطني والدستور الحقيقي المختار.

لا ينشأ العقد الوطني بأوامر عسكرية ولا يفرض من الخارج بحروب إقليمية وترتيبات إستراتيجية ولا يولد أيضا من تلقاء نفسه، ولا يستمد مباشرة من الثقافة سواء أكانت قديمة أم حديثة ولا يستخرج من أي نص مقدس أو حزبي. إنه النتيجة والثمرة الطبيعية للاتفاق والتفاهم الحاصل بين أفراد متعددين، والتتويج لتفاعل واع وغير واع بينهم، والتعبير عن خلاصة وعيهم الجمعي ومستوى نضجهم الفكري والسياسي والأخلاقي، وعن متطلباتهم المشتركة لبناء حياة إيجابية منتجة يسودها السلام وتتوج بالسعادة والرضا. ولا يمكن الحديث عن توافق وتفاهم واتفاق من دون الحديث عن التواصل الحر والمفتوح بين الأفراد أو الحوار والنقاش وتبادل الآراء والمواقف والتشاور في الصحيح والأصح والسليم والأسلم للفرد والمجتمع بشكل عام. فالعقد الوطني والحوار الاجتماعي ركنان من أركان البناء الديمقراطي. فالعقد يؤسس للمبادئ والقيم والغايات التي يقوم عليها النظام المجتمعي المنشود، والحوار يضمن بناء السبل والوسائل السلمية لتحقيق هذه المبادئ وخدمة تلك الغايات. فلا حياة سياسية سلمية وسليمة من دون اتفاق جماعي, ولا حماية لهذا الاتفاق والعقد من دون حوار مستمر, نسميه اليوم في المجتمعات الديمقراطية النقاش الوطني, يتيح لجميع القوى التفاهم -في كل مرحلة وحقبة- على المضمون التاريخي الملموس لهذه المبادئ والقيم والغايات.

وهو يفترض أخيرا أن تكوين المجتمع ليس أمرا بديهيا، أو بالأحرى أن المجتمعات لا تولد متكونة كمجتمعات ولا تنشأ بالأمر الواقع. ولا تتكون بالعصا ولا بالجزرة. إن نشوءها وتكونها هو ثمرة عمل واع ومراد ومفكر به من قبل الجميع، وينبغي أن يكون كذلك. ولا يمكن للقوة وحدها أن تنشئ مجتمعا. لا بل إن القوة لا تستطيع أن تنشئ حتى شركة اقتصادية مساهمة بسيطة، فما بالك بمجتمع حي. فكما أن وجود الرأسمال والمعدات والأدوات والأسواق والمستهلكين لا ينشئ مشروعا بذاته، وإنما لا بد للمشروع حتى يتكون من عقد واتفاق بين أطراف وأعين ومختارين ومريدين, كذلك فإنه لا يكفي لتكوين مجتمع وجود جيش ونشيد وعلم وإدارة وأجهزة أمن وأرض وموارد، وإنما لا بد من التفاهم والتفاعل والتواصل والثقة بين الناس والاتفاق على أسس تضبط علاقاتهم وسلوكهم وأفعالهم. وكما تتوقف قوة أي شركة واستمرارها ونجاح الشراكة فيها على مدى متانة عقد الشراكة ووضوح أهدافه ودقة صياغته القانونية, فإن قوة الاجتماع السياسي والمدني تتوقف هي أيضا على توافق الدستور الذي يسير أعمال المجتمع، ويترجم العقد الوطني ترجمة عملية مع المبادئ والمثل العليا والغايات الأخلاقية والمادية التي تشكل أساس وجوهر أي عقد وطني في أي مجتمع حي وناجع.