التحرر من وهم الطريق الصيني

2004-10-03:: الجزيرة نت

 

اعتاد النظام السوري في تبرير مشروعه بالفصل بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي والتمسك بالأول ورفض الثاني على مثال الصين الذي لا يثبت في نظر قادته أن هذا الفصل ممكن فحسب ولكنه أكثر من ذلك مطلوب ومرغوب لما يقدمه من معدلات نمو عالية كما يحصل في الصين. ويبدو أن النظام السوري اكتشف في الصين مؤخرا بديلا جيوإستراتيجيا يحل محل أوروبا المترددة لمواجهة الضغوط والتهديدات الأميركية ولم يعد يكتفي فقط باستلهام نموذجها التنموي الذي يوفر على الحكم الانفتاح السياسي. ولا نعرف ما إذا كان السوريون الذين زاروا بكين مؤخرا قد عادوا من سفرهم أكثر إيمانا ببدائلهم هذه أم لا، لكن ربما كان من المفيد بعد هذه الجولة التمعن في حقيقة النموذج الصيني الذي يطمح إلى تطبيقه السوريون للاحتفاظ بمنطق أو بمناخ الحرب الباردة الذي يبدو أنهم يتعثرون في الخروج منه أو أنهم لا يزالون يعيشون في وهم إحيائه وتجديده لإبقاء الخيارات الداخلية القديمة للنظام.
والسؤال الذي ينبغي على السوريين حاكمين ومحكومين أن يطرحوه على أنفسهم في هذه المناسبة هو: هل ينطوي النموذج الصيني بالفعل على حظوظ أكبر لتحقيق التنمية من جهة وهل من الممكن تطبيقه على الوضع السوري؟ أي هل يمكن للنموذج ونوع السياسات التي تطبق في الصين أن تكون صالحة للتطبيق في سوريا؟
من الملفت للنظر أن الصينيين أنفسهم لا يتحدثون عن نموذج صيني ولكنهم ينطلقون من فقدان الثقة بالنماذج النظرية والسياسات الإيديولوجية القديمة ليتبنوا مواقف براغماتية تقوم على تلمس طريق التقدم عبر التجربة الحية ومواجهة العوائق وحل التناقضات الفعلية والبحث عن التوازنات والتسويات الممكنة الداخلية والخارجية، والابتعاد ما أمكن عن التصورات المسبقة.

وبالمثل فمع انهيار الإيمان بنماذج ثابتة وصالحة غير مستمدة من الظروف الخاصة لم يعد يوجد في العالم نظام آخر يقول إنه يحتذي بالصين أو بغيرها، أما النظم التي ترفض الانفتاح السياسي، وهي لا تحصى، فهي لا تعتبر الديكتاتورية مذهبا وإنما تميل إلى التأكيد على أنها إجراء مؤقت تستدعيه مخاطر محتملة تهدد الأمن أو الوحدة الوطنية. باختصار لم يعد هناك نظام في العالم ينظر إلى الديكتاتورية أو نظام الحزب الواحد المكرس بالدستور على أنه خيار إيديولوجي يمكن تبنيه والدفاع عنه. أما السوريون فقد اعتبروا أن الاحتفاظ بهذا النظام نابع من تأكيد الخصوصية السورية التي ترفض من ذاتها نظام الديمقراطية الذي لا يعبر هو نفسه إلا عن خصوصية أميركية ولا يمكن أن يمثل تبنيه سوى انحراف عن الهوية والقيم الوطنية. لكنهم وهم يميزون خصوصيتهم عن الخصوصية الأميركية نسوا الخصوصية الصينية التي هي بالفعل كذلك ولم يعد بإمكانهم إدراك العلاقة التي تربط بين نوع السياسات والإستراتيجيات التي تتبناها الدول والبلاد من جهة، وهي ما يسمونه بالنموذج، والموارد المادية والإستراتيجية والمعنوية التي تتمتع بها والشروط الخاصة التي تميزها من جهة أخرى.
والمشكلة التي يبقى على السوريين حلها لمسايرة الصين في نموذجها وسياساتها هي أن سوريا ليست قوة عظمى بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من مزايا وليس لديها القوة والمكانة والحجم والموارد والإمكانات ودرجة الاستقلال الاقتصادي والسياسي والإستراتيجي ودرجة التراكم الرأسمالي والتقني والعلمي التي تملكها. وهي تفتقر لسوء الحظ إلى طبقة بيروقراطية قومية ذات تقاليد سياسية راسخة، وإلى نخبة تكنوقراطية قديرة، وإلى دولة قانونية وعقلانية، كما تفتقر إلى طبقة رأسمالية حية مستقلة وقادرة على الاستقلال عن السلطة، وإلى سوق كبيرة قادرة على توفير فرص نمو رأسمالية مركزية وعلى تشجيع مثل هذه الرأسمالية على أن تكون مستقلة وأن تراهن على تطوير القوى المحلية.
فما تمثله الصين على مستوى التوازنات الدولية الجيوسياسية وعلى مستوى المكانة الاقتصادية وما تتمتع به من عوامل بشرية ومادية تؤهلها لأن تصبح السوق الأولى في العالم هو الذي يجعلها مركز الجذب للاستثمارات الخارجية والداخلية. وبالمقابل فإن افتقار سوريا لهذه الميزات هو الذي يفسر ضآلة الاستثمارات الخارجية التي تقصدها حتى مقارنة بالبلدان المماثلة لها في الحجم الآسيوية والأميركية اللاتينية والمنطقة السوفياتية سابقا، بل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ولا تستطيع أي سياسة تنمية سورية عقلانية أن تتجاهل إمكانات البلاد المحدودة وتاريخها المعروف، الوطني منه والانطوائي، وظروف الصراعات الإقليمية المنغمسة فيها بالرغم منها وتلك التي تنخرط فيها بإرادة حكامها، فهي لا تفتقر للسوق الاقتصادية الواسعة والرساميل والتقنيات فحسب، ولكن أيضا، نتيجة سياساتها الخاطئة الماضية، إلى الكوادر الفنية والمؤهلات الإدارية والتقنية والعلمية.
وليس لدى سوريا المفقرة بالفساد وتصدير الأموال للخارج ما يكفي من الموارد المادية والبشرية لإطلاق دينامية تنمية رأسمالية مستقلة تجعلها قادرة على مقاومة ضغوط الدول والشركات الكبرى أو التفاوض معها من مركز القوة لنقل التقنيات المتقدمة، كما أن سوريا تأخرت 30 سنة عن دول عربية عديدة في عملية تأهيل نفسها اجتماعيا وفنيا واقتصاديا للدخول في السوق الرأسمالية، مثل مصر والمغرب وتونس والأردن بل وبلدان الخليج العربي. لكن ما هو أهم من ذلك أن سوريا تفتقر إلى الأداة السياسية القادرة على بلورة برنامج واضح وعقلاني ومنظم للإصلاح، أعني القوة المنظمة التي تملك السيطرة الفعلية لا الشكلية الاسمية على المجتمع والدولة وتستطيع توجيه العملية الانتقالية.
هذا هو ما يفرق بين الحزب الشيوعي الصيني وحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في دمشق، فليس هناك شك في أن الحزب الشيوعي هو المحرك الرئيسي لعملية انتقال سريعة وواعية ومنظمة للصين من النظام البيروقراطي القديم نحو نظام جديد رأسمالي ومندمج في السوق العالمية. وهذا الحزب هو الذي يقوم بالفعل بدور الرافعة للرأسمالية الصينية الجديدة مع الاحتفاظ بمركزية الدولة الصينية ووحدتها، وما ينجم عن ذلك من مزايا التسريع في نشر المعرفة وتعميم التجارب الناجحة وإعادة توزيع عوائد التنمية في إطار تحول رأسمالي صاعق في بلد مترامي الأطراف والأصول الإتنية بحجم الصين، وهو بالفعل صاحب قرار ومركز التفكير والاقتراح وإطلاق المبادرات المتعددة التي يحتاجها الانتقال. وإذا كان الحزب الشيوعي الصيني قد لعب ولا يزال الدور الرئيسي في الخروج من الشيوعية والمبادرة بتفكيك نظام البيروقراطية الاقتصادية وإطلاق قوى الرأسمالية الخاصة فذلك لأنه لم يكن في العمق، حتى عند تبنيه الاشتراكية عقيدة ونظاما، إلا حزبا وطنيا كرس نفسه للدفاع عن مصالح الصين العليا ومستقبلها، ولم يخلط هذه المصالح لا بمصالح الحزب ولا بمصالح القبيلة ولا بمصالح العشيرة.

وبالمقابل لا يلعب حزب البعث الحاكم في سوريا إلا دورا ثانويا وهامشيا منذ تولي الرئيس حافظ الأسد الحكم في بداية السبعينيات، وهو أقرب إلى أن يكون دورا إيديولوجيا منه إلى أي شيء آخر. كما أن بنيته الاجتماعية تجعله أقرب إلى أن يكون حزب الطبقة أو بالأحرى المصالح الزبائنية المتنوعة والمتضاربة أو الخاصة التي تمتلكه بامتياز ولا تترك فيه مجالا ولو محدودا للحسابات الوطنية. إنه إطار جمع وتوحيد فئات المصالح والإقطاعيات المتنافرة والمتضاربة التي تحكمه وتتحكم بجهازه، وهو أداة في يد سلطة تسيطر عليها بشكل رئيسي القوى العسكرية والأمنية المتحكمة بالأجهزة والمحتكرة لموارد القوة والعنف، لا مركز قرار وسلطة خاصة مستقلة.
لذلك كان دائما وزعاماته الصامت الأكبر، إذ ليس في قدرته ولا حتى من صلاحياته بلورة سياسة سورية، بل التفكير في السياسة بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو لم يقدم منذ عقود أي اقتراح في أي اتجاه. وليس فيه منظمة حية تفكر تفكيرا جماعيا وتقرر وتمارس أو تشارك بالفعل في ممارسة السلطة، ولكنه يمثل لفيفا من الجماعات المتعايشة والمتعيشة في ظل سلطة تتقرر خارجه وبمعزل عنه، ولا تعتمد السلطة بالتالي في وجودها على الحزب. وبالمثل لا يشكل أصحاب المصالح المرتبطين بالنظام أو الذين ينميهم النظام طبقة رأسمالية مؤمنة بنفسها كطبقة فاعلة ومنتجة وقائدة للمجتمع وبالتالي مفتوحة على التطور الذاتي، إنهم بالأحرى مجموعات من المستفيدين والمنتفعين الذين يعتمدون في تراكمهم الرأسمالي على الدولة ونفوذهم فيها لا على تنمية القدرات والكفاءات الإنتاجية والقوى المنتجة.
ولأن هؤلاء لا يعملون حسب قوانين السوق ولا يثقون بمستقبلهم فيها فهم لا ينظرون إلى السوق السورية إلا كرافعة للوصول إلى السوق الدولية، وليس لهم أي مصلحة في الابتعاد عن الدولة أو الاستقلال عنها، فنفوذهم السياسي هو الذي يضمن لهم تطبيق معايير استثنائية، من الاعتماد على الرشوة إلى الغش إلى السرقة إلى استخدام النفوذ، لا يمكن ضمان نجاحهم من دونها. ولا يمكن المراهنة في إطلاق دينامية تنمية رأسمالية حقيقية على مقاولين متنافسين ومتنافرين ومشتتين في وعيهم الجمعي وإرادتهم وتكوينهم، يشعرون أنه لا حظ لهم حتى داخل سوقهم المحلية إلا بقدر قرابتهم العائلية أو ارتباطاتهم الشخصية بالسلطة أو بالتبعية للدول الأجنبية، ولا يجدون صيغة أكثر ملاءمة لتطوير مصالحهم من تلك التي تضمن تداخل الحزب بالدولة بالعصبية القبلية بالأجهزة الأمنية. فالنمط الاقتصادي الذي يسم نشاط هؤلاء هو رأسمالية المضاربة الفردية لا بناء السوق الرأسمالية الوطنية أو العالمية كالرأسماليات المركزية، لا على مستوى ما تعنيه السوق من منافسة حرة ولا من ضبط لهذه الممارسة على قاعدة احترام مصالح الطبقة الكلية.
كل هذه العوامل تجعل من الوهم الرهان على الورقة الاقتصادية كما تفعل الصين في إطلاق دينامية التنمية الإنسانية، فهي الورقة الأضعف بالمقارنة مع الورقة السياسية والجيوسياسية والمجتمعية التي تراهن على تعبئة المجتمعات وإيجاد التكتلات الإقليمية الفاعلة وإطلاق طاقات الشعوب من خلال تعميق التفاهم بين مكوناتها وتطبيق قيم ومبادئ العدالة والحرية والمساواة والمشاركة. إن كل ما يمكن أن يسفر عنه مشروع الانفتاح الاقتصادي السوري في غياب المشاركة المجتمعية واستمرار السيطرة لحزب الأقلية الزبائنية هو تقهقر متزايد في مكانة سوريا الاقتصادية والدولية وتراجع عن مستويات المعيشة القائمة وتفاقم العيوب والمخانق التي يظهرها النظام الراهن.
ولن تكون نتيجة هذا الانفتاح الاقتصادي تحديثا إداريا وتطويرا تقنيا كما هو منتظر ولكن مزيدا من التداخل بين مجموعات المصالح الخاصة والمافيات الدولية مع مجموعات البيروقراطية المسيطرة على مفاصل القرار الإداري والمالي والسياسي في الدولة، دون أن يكون هناك أي أمل في نشوء أرضية قانونية تنسق بين مصالح هؤلاء وتوحد بينهم وتؤهلهما لتكوين طبقة تحسب على مستوى الساحة الوطنية وبحسابات تتجاوز المكاسب الفورية. ربما شهدت البلاد نموا اقتصاديا عشوائيا في هذه السنة أو تلك تسنده بعض الاستثمارات الخليجية، لكن الطابع المشوه لهذا النمو سوف يحول دون تطبيق أي سياسة تنمية وطنية واجتماعية، ولن تكون نتيجته الفعلية إلا تنمية القوى الاقتصادية والاجتماعية التي ستكون أكبر عقبة أمام تطبيق القانون وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والمساواة الفردية.

هذا هو النمو الذي سينشأ من تقليد ما يسمى بالنموذج الصيني نفسه أي بتبني سياسات الدولة الكبرى من قبل دولة صغيرة وفقيرة معا، فلن يشهد الاقتصاد نموا كبيرا لسبب بسيط هو أن السوق السورية لا تستطيع أن تمارس قوة جذب مماثلة لقوة جذب السوق الصينية في الاستثمارات، كما أن الدولة السورية ليست من القوة بحيث تفرض على الشركات الصناعية بل على الدول الصناعية اتفاقات تفضيلية خاصة. أما عوامل عدم الاستقرار التي تسيطر على منطقة الشرق الأوسط فهي تمنع، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، من رؤية أي عملية اقتصادية بمعزل عن الخيارات السياسية والإستراتيجية. وفي هذه الظروف فإن أشد ما يخشى منه في حالة الانفتاح الاقتصادي غير المسيطر عليه اجتماعيا هو تدعيم نهر تدفق القيم والرساميل والكفاءات إلى خارج البلاد، هربا من حالة القهر والفوضى والتسيب وعدم الاستقرار وغياب شروط الحياة المدنية والقانونية والسياسية السليمة.
والخلاصة أنه لن يخفي التعلق بأوهام الحلول الاقتصادية والاختباء وراء نماذج أجنبية ناجحة غياب الرؤية والبرامج العقلانية المنظمة للإصلاح، ولن تجد سوريا حلا لمشاكلها الاقتصادية بالهرب من مشاكلها السياسية أو الوطنية أو الاجتماعية. كما أنها لن تستطيع بإقامة تحالفات خارجية قوية ومتماسكة أن تغطي على الفراغ الهائل الذي تعيشه السلطة عندما تفقد أي علاقة مع المجتمع ولا يعود لها أمل في تأكيد وجودها والتذكير بهيمنتها سوى التقليص المستمر من حريات مواطنيها وحقوقهم واقتناص الفرص لمعاقبتهم والتنكيل بهم.