الإمبراطورية الأميركية.. صعود أم سقوط؟

2003-10-25:: الجزيرة نت


ليس هناك شك في أن الحدث الأبرز على الساحة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانحسار الشيوعية التي بقيت تشكل الشبح الذي يقض مضاجع الدول الصناعية الكبرى خلال أكثر من قرن، هو الصعود الثابت والمستمر للولايات المتحدة الأميركية إلى قمة الهرم العالمي وتبوؤها الفعلي، إن لم يكن موقع القيادة والقرار بالمعنى الشرعي للكلمة، فعلى الأقل موقع التفوق والريادة في العديد من الميادين الإستراتيجية أو ذات الأبعاد الإستراتيجية بالنسبة لعالمنا المعاصر.

ويتجاوز حجم الاستثمارات الأميركية 40% من مجموع الاستثمار العالمي في حقل المعلوماتية حيث يبلغ نصيب الفرد الأميركي من الإنفاق على تقانة المعلومات وحدها ضعف الإنفاق الأوروبي وثمانية أضعاف الإنفاق العالمي. ويشبه ذلك وضعها في ميدان البحث والتطوير التقاني بشكل عام.

أما العامل الثاني فهو من دون شك التفوق العسكري الذي جعلها منذ الحرب العالمية الثانية تظهر بوصفها القوة القارية الاستثنائية الوحيدة القادرة على حسم المعارك والحروب الدولية ووضع حد لها سواء أكانت في أوروبا أو خارجها. ومن هنا وبعكس ما قد يبدو للرأي العام من مظاهر مفاجئة، لم يبدأ الصعود في وزن الولايات المتحدة الإستراتيجي مع نهاية الحرب الباردة في التسعينات ولكنه بدأ قبل ذلك بكثير، وكان البرهان عليه هو الدور الكبير والحاسم الذي لعبته هذه الدولة في الانتصار على ألمانيا النازية.

وفي ما وراء هذه الهزيمة التي كرست التفوق الإستراتيجي الأميركي وأخرجت أميركا خارج حدودها القارية، أتاحت هذه الحرب للولايات المتحدة أن تفرض نفسها كقائدة للمعسكر الرأسمالي منذ ذلك الوقت بقدر ما كشفت عن هشاشة الأسس التي كانت تقوم عليها سيطرة الإمبراطوريتين السابقتين الفرنسية والبريطانية اللتين تحكمتا في مصير العالم خلال القرن السابق.

وبتقويضها لهاتين الإمبراطوريتين الخاويتين وإجهازها -في طريقها- على جنين الإمبراطورية الألمانية الصاعدة للحلول محلهما، نقلت الحرب العالمية الثانية مركز القوة والثقل في العالم بشكل حاسم من القارة الأوروبية إلى القارة الأميركية.

ومن الواضح أن معادلة القوة لم تختلف منذ ذلك الوقت. فموقع الأرجحية الجيوستراتيجية الذي انتزعته الولايات المتحدة على الساحة الدولية بفضل مساهمتها الرئيسية والمحورية في حسم الحرب العالمية الثانية، لا تزال تحتله إلى اليوم بفضل مساهمتها الفعلية في حسم الحرب الباردة التي وضعت المعسكر الشيوعي خلال عدة عقود في مواجهة معسكر الرأسمالية، وهو الموقع الذي لا تزال تحتله أيضا إلى اليوم أي بعد عقدين أو أكثر، لأنها لا تزال الدولة الوحيدة التي تمتلك من وسائل العنف المادي والنفوذ المعنوي معا ما يمكنها من حسم أي حرب أو نزاع في أي منطقة من مناطق العالم، في حين لا تستطيع أكبر دولة تأتي بعدها أن تفعل ذلك حتى لو عبأت جميع قدراتها لتحقيقه. ويكفي أن نذكر بأن المنظومة الإستراتيجية الأميركية لا تزال تحظى اليوم بمخصصات تتجاوز في الحجم مخصصات جميع القوى العسكرية التابعة للدول التي يمكن أن تنافسها وتقارب مبلغ 400 مليار دولار.

هذه هي العناصر التي تستند إليها السيطرة الأميركية، وهي التي تجعل من الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة القادرة اليوم على بلورة إستراتيجية عولمية أو على مستوى العالم. وهذه الإستراتيجية العولمية أو الميغاستراتيجية هي التي تسمح للولايات المتحدة بأن تموضع نفسها ونشاطاتها الداخلية في إطار عالمي، وأن تربط بين مصالحها الخاصة القومية والسياسية وحركة تحول وتشكل العالم، أي أن تجعل قيادة العالم وتوجيه حركته جزءا من أجندتها القومية.

وليس هناك حتى اليوم في مواجهة الولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل قوة عظمى أو قطبا منافسا بالمعنى نفسه، أي دولة أخرى قادرة على وضع إستراتيجية عولمية أو صوغ أجندة دولية أو تأمين وسائل تحقيقها المادية والمعنوية. لكن رغم هذا التفوق الأميركي الذي لم يأت كما رأينا من فراغ ولكنه جاء نتيجة إمكانيات الولايات المتحدة وحجم استثماراتها أيضا في ميادين النشاط الاقتصادي والعسكري والتقني والعلمي الرئيسية، لم يكن أحد يشعر بخطورة هذا التفوق أو خطره قبل نهاية الحرب الباردة. بل لم يكن أحد يرفض هذه القيادة أو يعترض عليها.

ولا يزال الاعتقاد قويا لدى الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي، بأن المنظومة الدولية ما كانت لتقوم من دون الدعم المادي والمعنوي للولايات المتحدة، وعلى رأس هذه المنظومة هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية، وأن انسحاب الولايات المتحدة من إحدى هذه المنظمات يمكن أن يقود إلى تقليص كبير في نشاطها إن لم يؤد إلى شلها.

ومن هنا لا تبدو القيادة الأميركية للعالم طبيعية في الحقبة التاريخية الراهنة في نظر الرأي العام فحسب، ولكنها ربما بدت ضرورية أيضا. فليس هناك قوة أخرى قادرة على صوغ أجندة عالمية وحل الخلافات وضبط النزاعات الدولية وبالتالي المساهمة في ضمان الأمن والاستقرار والقانون في العالم غير القوة الأميركية.

وليس لهذا الموقع علاقة برغبة الولايات المتحدة وإرادة زعمائها ولكنه ثمرة طبيعية وانعكاس مباشر للوزن الفعلي العسكري والاقتصادي والسياسي الذي يسمح لها بحيازة هيبة وسمعة ونفوذ لا يمكن لأي قيادة أن تقوم من دونهما. وليس هناك قوة اليوم، لا في الدول الصناعية الكبرى ولا في الدول النامية تتمنى أن تنسحب الولايات المتحدة من الشؤون العالمية وفي مقدمتهم الدول العربية التي لا يضمن وجود معظمها واستقراره النسبي إلا الغطاء الأميركي، بما في ذلك بلدان غير أميركية النزعة، ليس تجاه التوسعية والعدوانية الإسرائيلية فحسب ولكن تجاه بعضها البعض أيضا. وليس هناك قوة أيضا في العالم ترفض هذه القيادة أو تعترض عليها. إن ما يثير حفيظة الرأي العام العالمي في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والعالم العربي معا ويدفعه للوقوف في وجه السياسة الأميركية اليوم هو بالأحرى الطريقة التي أصبحت الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة تمارس بها دورها القيادي العالمي هذا الذي تعترف لها به المجموعة الدولية.

فالواقع أن الولايات المتحدة التي قادت العالم الرأسمالي أو الليبرالي خلال نصف قرن في مواجهة النازية ثم الشيوعية قد جنحت -بعد زوال الحرب الباردة- ومع انسحاب القطب الثاني المنافس من المسرح، أعني القطب الشيوعي، إلى تحويل القيادة التي هي عمل تفكير وتنظيم ومسؤولية جماعية وبالتالي مساهمة إيجابية، إلى سيطرة أو تسلط على الشؤون العالمية.

وهذه الطفرة التي دفعت الولايات المتحدة إلى استغلال موقع القيادة لتحقيق السيطرة العالمية، والذي جعلها تتصرف في العالم أجمع كما لو كان حقل صيد تصارع فيه بكل قوتها الاستثنائية لتحتكر عناصر وموارد قوته المادية والمعنوية، لم تكن النتيجة الطبيعية لزوال الحرب الباردة. كما أنها ليست المحصلة الحتمية لغياب قوة ثانية مكافئة في الوزن تقف في مواجهتها.

إن سببها الرئيسي هو الأزمة العميقة التي دخلت فيها الديمقراطية الأميركية لأسباب داخلية تتعلق بمأزق النمو الاقتصادي الذي تواجهه الرأسمالية العالمية والأميركية بشكل خاص، وخارجية ناجمة عن التهديدات المتصاعدة التي تمثلها التكتلات والقوى الدولية المتنامية، سواء في أوروبا التي نجحت في تحقيق وحدتها، أو في الصين التي تسير بخطوات عملاقة لفرض نفسها كأحد الاقتصادات الأكثر نماء في العالم. وقد أرادت الولايات المتحدة أن تستخدم الموقع القيادي والهيمني المتميز الذي تحتله منذ نصف قرن من دون منافس في سبيل حل مشاكلها الداخلية، سواء من خلال السيطرة على الموارد العالمية الحيوية مثل الطاقة أو عبر تبني سياسة هجومية تردع الدول الأخرى وتساهم في تعبئة الروح القومية والتغطية على الأزمات الداخلية. وهذا هو في الواقع مضمون السياسة الإمبريالية الجديدة التي وسمت بالإمبراطورية.

وليس هناك شك في أن الإدارة الأميركية الجمهورية المحافظة قد وجدت في أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 المأساوية فرصة لا تعوض لتضفي على سياستها هذه بعض الشرعية بقدر ما أتاحت لها هذه الأحداث أن تظهر سياساتها الهجومية والتسلطية الجديدة المنفلتة من أي التزام قانوني أو أخلاقي على أنها ضرورية في سبيل القضاء على الإرهاب العالمي وإزالة أسلحة الدمار الشامل التي تهدد الأمن والسلام الدوليين.

يتطلب فهم مصير السيطرة الأميركية إذن التمييز بداية بين الأسس التي تقوم عليها القوة الأميركية والتي تؤهلها للعب دور مركزي ومحوري في سياسات العالم -بل تفرض عليها مثل هذا الدور- من جهة، والظروف الاستثنائية التي دعتها إلى أن تستخدم دورها المركزي هذا لتطوير سياسة هجومية وانفرادية إمبراطورية معتمدة بشكل رئيسي على القوة والتهديد بالقوة تسببت لها بخلافات عميقة حتى مع أقدم حلفائها العسكريين والسياسيين وشركائها الاقتصاديين في أوروبا من جهة ثانية.

وإذا كان أحد لا يشك في أن الولايات المتحدة ستبقى القوة الأعظم في جميع ميادين النشاط الاقتصادية والعسكرية والتقنية والعلمية على مدى العقدين القادمين على الأقل، وبعض الباحثين يعتقد أنها ستحافظ على تفوقها خلال القرن الواحد والعشرين كله، فإنني من الذين يعتقدون بالمقابل أن السياسات الجديدة التي تبلورت على يد الإدارة الأميركية الجمهورية في عهد الرئيس جورج بوش الابن لا يمكن أن تستمر ومن الممكن أن تقود الولايات المتحدة إلى مآزق عديدة.

وبدل أن تساهم في حل الأزمات التي كانت وراء بلورتها وهي قطع الطريق على نشوء عالم متعدد القطبية تدخل فيه بعض القوى الكبرى شريكة للولايات المتحدة في تقرير المصائر العالمية وصوغ الأجندة السياسية الدولية والتحكم بالموارد الخارجية الإستراتيجية لحل أزمة النمو والتوسع الرأسمالي الداخلية، سوف تؤدي إلى تعميقها. فهي بقدر ما توحد المجموعة الدولية ضد واشنطن تهدد أسس الهيمنة والقيادة الأميركيتين القائمتين على النفوذ السياسي والمعنوي أكثر من قيامهما على القدرة العسكرية. ولابد لهذه السياسات الهجومية والإمبراطورية أن تدفع بالتالي إلى تكوين رأي عام رسمي وشعبي يفرغ الانفراد الأميركي من مضمونه ويفرض على واشنطن أن تراجع حساباتها وتقبل بمشاركة الأطراف الدولية الأخرى. وفي هذه الحالة يمكن للسياسات الأميركية المغامرة والممقوتة أن تكون السبب في التسريع بولادة نظام عالمي تعددي وقانوني معا.

وبالمثل فإن تورط الولايات المتحدة المتزايد في الحروب الإقليمية البعيدة عنها سوف يشكل لها استنزافا ماديا ومعنويا يحرمها من فرص الاستفادة من التوسع العالمي والتحكم بالموارد الإستراتيجية في سبيل حل مشاكلها وأزمتها الاقتصادية الداخلية.

وفي جميع الأحوال يبدو لي أن المحتوى الأعمق للسياسة الأميركية الخارجية الراهنة هو هرب واشنطن إلى الأمام تحت قيادة تياراتها اليمينية وفي مواجهة استحقاقات السياسة الداخلية والعالمية، وأنه حتى لو نجحت إدارات الولايات المتحدة في تأجيل هذه الاستحقاقات أو حرف انتباه الرأي العام الأميركي والعالمي عنها لبعض الوقت فلن تنجح في إلغائها، أعني استحقاقات بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب تستطيع جميع القوى والمجتمعات أن تعبر فيه عن نفسها ويتفق مع المتطلبات الموضوعية للعولمة الزاحفة ولحاجات إيجاد حلول جماعية للمشاكل الدولية يستدعي لا محالة -هو نفسه- مساهمة جميع الأطراف وإشراكها في المسؤولية.

بيد أن القول بأن سياسة الإدارة الأميركية الإمبراطورية هذه لا يمكن أن تستمر وسوف تصل إلى طريق مسدودة، لا يعني أن الولايات المتحدة لن تستمر فيها أو أنها لا تملك الإمكانيات المادية والمعنوية لخوض معركة الاحتفاظ بقيادتها المنفردة للعالم حتى النفس الأخير. فمن المؤكد أن واشنطن قادرة على خوض حروب طويلة ولديها القدرة على ذلك. بل ربما شكلت هذه الحروب اقتصاديا وسياسيا المخرج الوحيد للأزمة العميقة والبنيوية التي تعاني منها الرأسمالية الأميركية التي لم تظهر بعد مشاكلها الحقيقية كلها.

ولذلك إذا كان من الصحيح أن أميركا لن تنجح في إخضاع العالم وقطع الطريق على بناء عالم جديد وأنها سوف تقع في مطبات عديدة وتواجه مقاومات فعلية تكلفها غاليا هنا وهناك، فإن من الخطأ أن نستنتج من ذلك أن واشنطن سوف تتراجع بسهولة أو أنها لا تملك النفس الطويل للاستمرار واستيعاب الهزائم والعودة مجددا للقتال. ولا تمنع الصعوبات التي سوف تواجهها هنا وهناك الولايات المتحدة من خوض معارك أخرى وتوسيع دائرة الحرب العالمية التي تخوضها بالفعل من دون أن تذكر اسمها. بل العكس هو الصحيح.

إن جموح الإدارة الأميركية إلى توسيع دائرة الحرب تحت أسماء مختلفة كالحرب ضد الإرهاب أو من أجل تأمين السلام ونزع أسلحة الدمار الشامل أو ضد الأنظمة الدكتاتورية سيتزايد بقدر ما تواجهه من صعوبات ومقاومات هنا وهناك. ولذلك فإن من يراهن على صعوبات واشنطن في منطقة من المناطق متأملا أن تتراجع عن سياستها الهجومية سيكون واهما جدا، على الأقل في مدى السنوات القليلة القادمة.

والنتيجة أن القدرات والإمكانيات الكبيرة التي تملكها الولايات المتحدة بالإضافة إلى الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية الأميركية والتي تتجسد بشكل أساسي في تراجع مردود الاستثمار بشكل كبير، تدفعني إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة لن تتراجع بسهولة عن سياساتها الهجومية الراهنة، وسوف تستغل إمكاناتها الكبيرة لمتابعة الهجوم الخارجي. فهذا الخيار هو الذي يضمن لها ترويض الرأي العام الداخلي الذي سيكون هو نفسه ميالا أكثر إلى الخيارات اليمينية مع تزايد الصعوبات الداخلية، وفي الوقت نفسه تحريك الآلة الصناعية عن طريق تعظيم الاستهلاك العسكري والسيطرة على الأسواق الخارجية.

وهذه التوقعات هي التي تدفعني إلى الخوف من أن يتجه العالم تحت ضغط هذه السياسة المتطرفة والمقاومات التي سيثيرها حتما، نحو مزيد من التفكك والفوضى بدل أن يتجه -كما كنا نأمل وكما تعد الإدارة الأميركية- نحو مزيد من ضبط النفس والسيطرة على التناقضات الداخلية وبناء نظام عالمي قائم على التعددية والعلاقات الديمقراطية والقانون.