إعادة بناء الشرط الاستعماري وأصل الاستسلام للقدر الإمبراطوري

2003-07-06:: الوطن

 

لا يمكن لاستمرار البعض في استخدام الأيديولوجيات الوطنية والقومية وألفاظهما البعيدة الرنين أن يخفي عن أعين المراقب السياسي واقع أن العالم العربي قد خرج أو هو في طريقه للخروج بقوة من سيطرة المبادئ والقيم التي ميزت تلك الحقبة الستينية التي تبدو للبعض مجيدة وللبعض الآخر مأساوية من تاريخ العرب الحديث. فليس هناك اليوم قوى كثيرة تؤمن بالفعل بمبدأ الوطنية وتعمل وتتعامل مع نفسها وغيرها من منطلق الاستقلال الكامل وحماية السيادة الوطنية والبعد عن كل علاقة يمكن أن تضعفها أو تؤثر سلبيا عليها. وبالمثل من الصعب العثور على قوى سياسية واجتماعية معتبرة لا تزال تعتقد أنها تستطيع المراهنة على التضامن والتعاون العربيين، أي على استغلال وشائج القربى القومية في سبيل تأمين مصالحها الأساسية سواء ما تعلق منها بالأمن أو الاستقلال أو التنمية الاقتصادية أو التغيير السياسي في اتجاه المشاركة في السلطة أو النفوذ إليها. ومعظم القوى العاملة على الساحة، على مستوى المجتمع السياسي الرسمي والأهلي أو على مستوى المجتمع المدني تشعر بأنها ليست صاحبة قرارها وأن العرب جميعا لم يعودوا أصحاب قرار.
لهذا السبب نلاحظ أن معظم أطراف الصراع الداخلي في البلاد العربية تخوض معركتها لتأكيد وجودها وضمان مصالح الفئات التي تمثلها وعينها متجهة نحو الخارج. بل تكاد جميعها تؤمن أو تثق ثقة تامة بأن مفتاح الأمر أو التحول الفعلي موجود في أيدي القوى الأجنبية التي تدعم الأنظمة وتقرر هامش مبادرتها وحدود قرارها، وأنها إذا أرادت التأثير على الأحداث فينبغي أن تفهم لغة القوى الخارجية هذه ومصالحها أيضا. لم تشذ الحكومات أو المعارضات عن ذلك في العقود القليلة الماضية. فقد كانت النخب الحاكمة تبحث بشكل علني عن دعم خارجي سياسي أو مادي لتضمن وجودها أو التجديد لها في الحكم أو لتعزز صدقية سياساتها وصحة اختياراتها السياسية والاقتصادية. ولا يشك أحد من الرأي العام العربي في أن جزءا كبيرا من قرار التغيير أو التجميد أو التعيين أو الإقالة موجود في يد الدول الكبرى الحامية أو الضامنة أو الموجهة. وبالمثل راهنت معظم المعارضات العربية في العقود القليلة الماضية في سعيها لتعزيز فرص الانفتاح والديمقراطية على دعم الدول الأوروبية أو تبدل السياسات الأمريكية. وهذا يعني أن ظاهرة المراهنة على التدخلات الأجنبية ليست ظاهرة جديدة ارتبطت بالحرب الأخيرة على العراق أو باحتلال هذا البلد العربي ولكنها ظاهرة قديمة نشأت بموازاة تدهور النظم السياسية وانفصالها عن المجتمع.

وبموازاة هذا الانفصام تزايد تقرب النخب الحاكمة من الدول الكبرى للتعويض عن تقلص القاعدة الاجتماعية الداخلية ولحصار المعارضة، وفي المقابل تصاعد الآمال عند المعارضات والرأي العام البسيط معا، على تغييرات خارجية في تحقيق تغيير في أوضاع مأساوية تبدو أكثر فأكثر عصية على التغيير ومرتهنة لتوازنات جيوسياسية وجيواستراتيجية ليس للقوى الأهلية الشعبية قدرة على التأثير فيها. وهذا يعني في الواقع أن عودة الاستعمار لم تبدأ باحتلال جيوش المارينز لبغداد ولكن قبل ذلك بكثير عندما أصبح مصير التغيير السياسي أو البقاء في السلطة ومصير الإصلاح الاقتصادي والإداري، كل ذلك يرتبط بالفعل بجدلية القوة وبالعلاقة مع الخارج الذي يشكل المنبع الرئيسي لهذه القوة أو مرجعها الحقيقي. وهذا هو جوهر ما يميز ما ينبغي تسميته بالظرف الاستعماري الجديد الذي كان احتلال العراق الثمرة الأولى أو التجسيد المادي المباشر والساطع له.
ونعني بالظرف أو الشرط الاستعماري ارتهان الحياة السياسية فعلا لعوامل وتدخلات قوى خارجية سواء أكانت تدخلات مباشرة مادية عسكرية أو اقتصادية أو كانت سياسية ومعنوية. وهو ثمرة عوامل عديدة أدت إلى تلاشي السياسة الوطنية وانحلال الوحدة الداخلية وترسخ علاقة التبعية. وما يحصل اليوم في العالم العربي بعد غزو العراق هو تعميق لهذا الظرف وترسيخ لأسسه التي تقوم على تعميم الاستقالة الوطنية : استقالة النخب الحاكمة من جهة واستقالات المعارضات أو أكثر قوى المعارضة العربية أو أفرادها بصرف النظر عن البيانات الدعائية، بل استقالة الرأي العام العربي برمته الذي يبدو أكثر من أي حقبة أخرى مستسلما لمصيره. وتتجلى هذه الاستقالة عبر التعلق المشترك والجامع بأذيال المبادرات الأمريكية الوحيدة المطروحة اليوم على الساحة والتي تكاد تشمل جميع جوانب الأزمة العربية: من مواجهة التحدي الإسرائيلي إلى مسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتطوير نظم الحكم والإدارة بل حتى إلى تحرير المرأة وإصلاح مناهج التعليم والتربية.
فبصرف النظر عن صور المقاومة القوية، نجحت الولايات المتحدة في موضعة نفسها في موقع الراعي أو الآمر الفعلي والوحيد تقريبا في المنطقة. ولا يشكل الوجود العسكري المادي للقوات الأمريكية في العراق وفي أكثر من اثني عشر بلدا عربيا آخر، إلا جزءا بسيطا من هذا الحضور الأمريكي الفاعل في المنطقة. ويأتي هذا الوضع ليتوج عقودا من السياسة العربية الوطنية والقومية الضعيفة واليائسة التي كرست عجز العرب وتخليهم عن الاعتماد على أنفسهم في حل المشكلات التي تواجههم وطنيا وإقليميا، الوطنية منها كما في النزاع العربي الإسرائيلي، أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية.
لقد سلمت البلاد العربية في الواقع منذ عقود بحقها في التأثير المباشر على الأحداث وأقرت بأن الحلول المطلوبة لمشاكلها موجودة عند الأمريكيين أو الأوروبيين، بالرغم من أنها اختلفت على ما إذا كان ذلك بنسبة 90 % كما ذكر الرئيس المصري الراحل أنور السادات أو 70 % أو أكثر أو أقل. وتضطر البلاد العربية اليوم إلى التسليم بأحقية وحتمية وفاعلية الضغوط الدولية في كل الميادين حتى فيما يتعلق بتطوير نظم الحكم المحلية.

وهي لا تملك وسيلة لتخفيف الضغوط عليها سوى الانصياع بشكل أكبر لواشنطن والاستجابة لمتطلبات سيطرتها العالمية والإقليمية والتعاون معها في تحقيق أهدافها سواء أكان ذلك في تمكين الوصاية على العراق أو تأمين الاستقرار والسلام لإسرائيل أو في التكيف مع معطيات الاستراتيجية العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية الشرق أوسطية. وما يقال عن النخب الحاكمة يقال أيضا عن المعارضة. فبقدر ما أخفقت في الخروج من العزلة والهامشية وتوسيع قواعدها الاجتماعية بوسائلها الخاصة دفعت قسما متزايدا من الجمهور التابع لها إلى المراهنة في تعويمها وإيقافها على قدميها وانتزاع حقها في المشاركة في إدارة الشؤون العمومية لبلدانها على تبني واشنطن لفكرة الإصلاح والتغيير في البلاد العربية. وبهذا تكون الولايات المتحدة قد تحولت، من دون علمنا وبعلم بعضنا، إلى السلطان الأكبر الذي وليناه أمرنا من وراء مظاهر السيادات الوطنية الشكلية.
لا ينفي هذا بالتأكيد أن هناك من يعترض على ولي الأمر الجديد ومن يكرهه وينكر عليه الحق في الولاية ولا ينفي كذلك وجود مقاومة بل مقاومات قوية للحكم الأمريكي المفروض بصورة مباشرة كما في العراق أو غير مباشرة في البلاد الأخرى، ولكن هذه المعارضات لا تحد من قوة النظام الأمريكي الجديد ولا تهدده اليوم بالفعل. وهي على درجة من التشتت الفكري والعقائدي والتنافس والتنابذ ومن انعدام الآفاق والرؤية النظرية والسياسية والأخلاقية معا تمنعها في المدى المنظور من أن تتحول بالفعل إلى قوة وطنية عربية فاعلة قادرة على زعزعة الحكم الأمريكي الناشئ أو الذي هو بصدد التكوين.
فنحن، حكومات ومعارضات ورأياً عاماً،أي مجتمعات، نسير من دون أن ندري، بل أحيانا مع استمرارنا في الرفض والتنديد والتهديد، في الخطة التي أرادتها الولايات المتحدة، نطبق تعليماتها عندما نكون في الحكم ونسلم بدورها الحاسم والضروري عندما نكون في المعارضة. وكل ذلك يظهر إلى أي مدى فقدنا الوحدة الداخلية الضرورية لتحقيق أي هدف جماعي بل لضمان الحد الأدنى من الاستقلال الوطني وتحولنا إلى شعب فقد ثقته بنفسه وبقدرته على التأثير في وجوده وقبل بتسليم مصيره لغيره.
يطرح علينا هذا الوضع أسئلة لا يمكن أن نجيب عنها بعجالة. لكن نستطيع أن نقول منذ الآن إن مفتاح فهم كيف وصلنا إلى هذا الوضع وكيف يمكننا الخروج منه كامن ـ في نظري ـ في تطور العلاقة التي قامت ولا تزال تقوم بين النخب الحاكمة والجمهور، أي في علاقات السلطة السياسية والإدارية والرمزية معا، وما يجسدها من أنظمة ومؤسسات وقواعد عمل سيطرت في المنطقة العربية على أساليب الحكم والإدارة والتوجيه منذ الاستقلال. وجوهر هذا التطور أو محركه يكمن ـ في نظري ـ في القطيعة التي ما فتئت تنمو وتتعمق بين النخب الحاكمة من جهة والمجتمع بفئاته وطبقاته المختلفة من جهة ثانية، وهي القطيعة نفسها التي دفعت الشعوب إلى التسليم بمصيرها لقوى أجنبية كما دفعت النخب الحاكمة إلى البحث عن الدعم والحماية في التحالفات الخارجية. ونخشى أن يقود القبول بمبدأ الوصاية الأجنبية لتفادي دفع ثمن التغييرات الداخلية إلى استسلام الكثير من النخب الحاكمة للاستراتيجيات الأجنبية تماما كما قاد استنجاد السلاطين في الماضي بالقوى الأجنبية لمواجهة نقمة شعوبهم أو معارضاتها إلى فتح طريق الاحتلال والاستعمار.