إصلاح النظم العربية: من الإصلاحية الإسلامية الكلاسيكية إلى تعميق النزعة العقلية

2002-10-15:: الوطن

 

على الرغم من التقدم الكبير الذي مثلته طروحات الإصلاحية الإسلامية لنهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين بالمقارنة مع ماسبقها من تفكير إسلامي تكراري وجامد، لم يعد من الممكن، أو لا أعتقد أن العودة إلى هذه الفكرة الإصلاحية الإسلامية الكلاسيكية كافية اليوم للنجاح في إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة تتفق مع معطيات الحقبة الراهنة التي نعيش فيها. وليس سبب الضعف في هذه الطروحات اعتمادها كما يقال عادة على منطق التوفيق. فالمنهج التوفيقي أو الانتقائية المنهجية التي تعني الأخذ بعناصر مختلفة من التراث العربي الإسلامي والتراث العالمي من أجل بناء نسق جديد ثقافي هو منطق التاريخ الطبيعي العادي والممارسة الفعلية في العالم العربي والإسلامي وكل المجتمعات البشرية الأخرى بصرف النظر عما يعتقد الأفراد من أصالة وقطائع تاريخية. لكن سبب الضعف هو المنطق الذي يحكم عملية بناء النسق الجديد من العناصر المنتقاة والغاية التي توجهه.

وأعني بذلك أيضا المنطق الذي حكم عملية التوفيق الخاص الذي عرفه الفكر العربي الإسلامي منذ القرن الماضي وتبناه بقوة بين ما يعتقد أنه مكتسبات الحضارة الحديثة (المادية) وما ينظر إليه على أنه جوهر الهوية الإسلامية أو العربية. ففي ما وراء الفكرة الإسلامية الإصلاحية القائلة بأن طريق التقدم والنهوض يستدعي الجمع بين التقنية الوسائلية الغربية التي ترمز للحضارة العصرية والقيم والمبادئ والغايات الإسلامية العربية التي ترمز إلى الهوية والأصالة يكمن في الواقع سؤال كبير يحتاج إلى النقاش والإجابة حول ماهية الحضارة نفسها وماهية الثقافة والدين. هل الحضارة الحديثة هي تقنيات ونظم إجرائية تغطي القيم الثقافية والدينية الغربية التي أنتجتها وبالتالي يكفي فصلها عنها للاستفادة منها وتطويعها؟ وهل منظومة القيم والغايات الإسلامية هي جوهر ثابت يجسد الهوية التاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية ولا يمكن المساس به من دون أن نخاطر بتعميق الاستلاب وتحطيم الذاتية والخصوصية؟ هذه المشاكل هي ما ينبغي التأكيد عليه هنا في اعتقادي على سبيل التذكير والتشجيع على البحث والتعمق في الدراسة والفهم.
لا يمكن أن يكون هناك أي اعتراض على سعي الفكر الإسلامي المعاصر إلى التوليف بين القيم الإسلامية والوسائل العصرية. ولا ينبغي أن ننكر أن لمثل هذا العمل فوائد حقيقية وأن هناك طلبا حقيقيا أيضا على مثل هذا التوليف عند قطاعات واسعة من الرأي العام الإسلامي التي ينبغي احترامها أيضا ومساعدتها على التفاعل الإيجابي مع عصرها. فهو من جهة يضفي شرعية قوية على المؤسسات والنظم والتقنيات المأخوذة عن الخارج فيضمن لها الانتشار والقبول ويساهم إذن من حيث لا يدري في توسيع دائرة المجالات التي تتأثر بالمكتسبات العالمية. وهو من جهة ثانية يزيل شبهة الاغتراب والغربة عنها ويحولها إلى مؤسسات آهلة أو مؤهلة، مما يسهل التعامل معها ويزيد بالتالي من فعاليتها ونجاعة الأخذ بها أكثر مما لو بقيت في نظر الجميع مؤسسات ونظما أجنبية وغريبة.
بيد أن هذا المسعى الرمزي يمكن أن يقود في نظري إلى مآزق كثيرة ذات أثر سلبي على عملية التجديد والتحديث القائمة نفسها لأنه يخلق موقفا ملتبسا تجاه التجديدات المستقدمة من الخارج يمنع من معرفة وظائفها ومنطق عملها الفعلي ويلغي التفكير في نجاعتها، وبالتالي يحد أيضا من القدرة على نقدها بالعمق وتصحيحها وتعديلها ومن ثم توطينها الناجح في التربة المحلية. وفي الكثير من الأحيان لا تكون نتيجة الدمج بين الغايات الإسلامية المجردة من التاريخ أو المستقاة من النصوص من جهة والوسائل الحديثة المستقدمة كوسائل من الخارج من جهة ثانية التحقيق الفعلي للغايات التي طورت من أجلها هذه الوسائل التي تبدو لنا أدوات أو وسائط فحسب، وإنما التفريغ العملي للمؤسسات الجديدة أو المستحدثة من مضمونها ومهامها وتسخيرها بالتالي لتحقيق غايات أخرى لا علاقة لها بغاياتها الأصلية. هذا هو ثمن فصل النظم عن أصولها النظرية وفكها عن سياقاتها المجتمعية والتاريخية.

فمن السهل جدا نقل الوسيلة لكن من الصعب نقل الوظيفة. من السهل نقل الصحافة كمنظومة مادية تتضمن الكتابة والنشر والتوزيع للآراء والمواقف والمادة المعرفية والأدبية. لكن كما أن من الممكن أن تكون الصحافة مؤسسة تمكن الرأي العام من تطوير المراقبة على السلطة أو السلطات الاجتماعية والثقافية والسياسية عموما أو أن تجسد حرية الرأي والتعبير وتشجع النقاش الفكري والوطني وتمكن الناس جميعا من معرفة أصول الحياة المدنية والسياسية والقانونية، وتعزز، من ثم، من درجة مشاركتهم الفعلية الفكرية أو العملية في السياسة وصوغ القرارات العامة والخاصة في الحياة المدنية، يمكن أن تكون في سياق مختلف، وبقدر ما تظهر كوسيلة فحسب، أداة لتركيز السلطة وترسيخ الإرادة التسلطية ووسيلة للتغطية على اغتصابهما ومصادرة الرأي العام وتعميم الجهل والأمية السياسية والغسل الجماعي للدماغ، كما حصل ويحصل في كل النظم الشمولية اليمينية واليسارية.
ولذلك، في الوقت الذي لا أجد مانعا فيه من تبني المفكرين الإسلاميين موقفا تأصيليا كما يقولون من النظم المدنية والعقلية الحديثة, فإنني أعتقد أن الاستيعاب العميق والجدي، أي أيضا النقدي والتاريخي للحداثة، وبالتالي السيطرة على هذه الحداثة والإمساك بها من الداخل وكسر كل ما هو وحشي واستلابي وغريب فيها، يستدعي تطوير موقف نظري عقلي وعقلاني علمي منها يساعد في الإمساك بتاريخيتها والكشف عن خباياها ويفكك آليات عملها ويفهم ديناميكياتها حتى يستطيع أن يخضعها لإرادة المجتمعات المتعاملة معها وغاياتها. فالموقف العقلي هو الذي يساعد على نقد الحداثة وهضمها بالمعنى الحرفي للكلمة، أي تفكيكها إلى عناصرها الأولية حتى يمكن للعضوية الحية أن تتمثلها لتعيد بناء نفسها من خلالها بصورة جديدة. فالمطلوب في نظري ليس توطين الحداثة من حيث هي منتجات ومنجزات وإنجازات وآلات جاهزة وناجزة في البيئة العربية أو الإسلامية ولا حتى إعادة إنتاجها في هذه البيئة كما كنا نعتقد حتى الآن وكما اعتقد المصلحون الإسلاميون تحت تأثير إعجابهم الشديد بمنجزات هذه الحداثة في كل الميادين, ولكن المطلوب بالعكس تماما هو إعادة بناء المجتمعات الإسلامية والبيئة المحلية نفسها بالاستفادة من معطيات الحداثة وعناصرها المحللة والمسيطر عليها. وهذا يعني أنه قبل أن تكون مادية ووسائلية الحداثة بالأساس والعمق عقلية وفكرية وأخلاقية وفنية. ومن دون ذلك لا يمكن للحداثة إلا أن تبقى أجنبية أو مضافة إضافة شكلية مادية للهوية وأن تظل بالتالي سالبة ومستلبة، سواء أنجحنا في تلبيسها لبوسا إسلاميا أو عربيا أو مزجناها بمسك العود والريحان بدلا من عطور مدام روشا وايف سان لوران.