إصلاح الذات هو السبيل لوقف التدهور العربي

2002-12-04:: الاتحاد

 

 نجد أنفسنا اليوم، نحن العرب، في معظم الدول العربية، لسوء الحظ، في مواجهة ضغوط كبيرة داخلية وخارجية ولأسباب متعددة ومتباينة للانتقال نحو شكل ما من أشكال الديمقراطية التي تتماشى مع قيم ومعايير العصر السياسية التي لم نهتم كثيرا بها، ولم نولها للأسف ما تستحقه من اهتمام في الحقبة الطويلة ما بعد الاستقلال· والسؤال الخطير المطروح علينا والذي لا نستطيع أن نتجنب الإجابة عليه: ماذا نختار وكيف سيكون عليه وضعنا؟ هل سيكون انتقالنا إلى الديمقراطية عن طريق الانهيار في الحروب الأهلية أو الخارجية، كما حصل في أفغانستان وغيرها من الدول الشرقية الاشتراكية سابقا، مع ما يتضمن ذلك من مخاطر الفوضى والدمار والتبعية والسقوط تحت الوصاية الأجنبية؟ أم سيكون انتقالنا بالأسلوب السلمي، عبر التفكيك الإرادي أو شبه الإرادي للنظام الشمولي، بحيث نستطيع أن نضع، رويداً رويداً، مكان الآلة القديمة للسلطة المطلقة، آليات تَعمل على إعادة إنتاج وتكوين سلطات الدولة الأساسية التنفيذية والتشريعية والقضائية بصورة مستقلة ومتوازنة، وتساعد على تجديد الأحزاب والتيارات الفكرية في سبيل الانتقال التدريجي إلى نظام جديد؟
وواضح من هذا السؤال أن التحدي الرئيسي الذي يواجهنا اليوم ليس بناء الديمقراطية كنظام كامل وجاهز، ولكن بدء عملية التحول والانتقال الطويلة حتما إلى الديمقراطية وبشكل سلمي ومختار، بشكل واع منظم، يحمينا من الكوارث والمطبات التي تنتظرنا ويجنبنا الصراعات الدموية والانفجارات والحروب الداخلية والخارجية· ويستدعي النجاح في هذا الانتقال السلمي والتدريجي بث الثقة المتبادلة داخل المجتمع وتعليم الأفراد روح المسؤولية وتدريبهم على الخضوع للقانون الواحد وتعويدهم على التعاون والعمل الجماعي وتنمية روح التكافل والتضامن فيما بينهم، أي مساعدتهم بالفعل على أن يفكروا ويعملوا كجماعة واحدة، ما يستدعي بناء روح جماعية وأسلوب مشترك في التفكير والعمل والتنظيم والممارسة· وكل هذه مهمات كبيرة لا يمكن تحقيقها عبر المراسيم والاوامر والتعميمات الادارية، ولا بد من إطلاق يد الناشطين السياسيين والثقافيين من كل الفئات والاختصاصات والأوساط للمشاركة فيها والمساهمة في إنجازها·
هذه هي الروحية التي ينبغي أن توجه مساهمتنا في الأعوام القادمة في تنمية الحركة الاجتماعية العربية والتي سيكون الدافع الرئيسي لها شعور كل فرد ممن يشارك فيها بالمسؤولية وواجب العمل من أجل تعزيز فرص الانتقال السلمي والتدريجي نحو نظام المساواة والحرية والتسامح، انطلاقاً من اقتناع عميق لدينا إنه لا يوجد حل لمشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والتربوية والنفسية والدينية من دون الانتقال إلى الديمقراطية، وكذلك من دون الاقتناع المماثل بأن النظم الشمولية لا تمتلك الحل لأية مشكلة من هذه المشكلات المطروحة علينا، وأن استمرار هذا النمط من الحكم لم يعد ممكنا مع تطور النظرة العالمية والتفاعل الإنساني· وهذا الاقتناع لا يقتصر اليوم على من نسميهم بالمعارضة، ولكن ربما نستطيع أن نلمس أثرا لهذا الاقتناع عند جزء كبير ممن هم داخل السلطة أيضا بل داخل الأحزاب الحاكمة نفسها·
ولا ينبغي أن يغيب عن ذهننا ولا عن ذهن الكثير ممن يساهم في هذه الحركة المشكلات والمخاطر والصعوبات التي يواجهها التحول الديمقراطي كما يواجهها في الواقع أي تحول مهما كان· فالناس يميلون إلى الجمود والتمسك بما هو قائم إذا لم يشجعهم الفريق الأكثر إدراكا للمخاطر وللمستقبل ويحثهم على بذل الجهد ويبين لهم العوائد العظيمة والحتمية لجهدهم· لكن، كنا نؤمن ولا نزال بأن المشكلات لا تحل بالهرب منها وإنما بمواجهتها والتصدي لها والتفكير بالحلول الناجعة لها· ولا ينبغي أن نحلم بتحول تدريجي وسلمي ونحن جالسون في بيوتنا ومنقطعون عن التفكير بمستقبل أبنائنا· فلا تحول ممكناً إلا إذا قبلنا بتحمل مسؤولياتنا فعلاً وكانت لدينا الجرأة السياسية والمعنوية على أن نضحي من أجل بلادنا وأن نواجه بشجاعة شكوكنا و مخاوفنا ذاتها، وأن نعمل على مناقشتها واحتوائها· ولا تحول ممكنا أيضا من دون أن يحصل لدينا الاقتناع بأن الانتقال السلمي أقل مخاطر بكثير من الانتقال العنيف الذي يمكن أن يُفرض أو ستفرضه الأحداث علينا· فأن نختار سُبلنا أقل خطراً بكثير من أن نترك الآخرين من الأميركيين والأوروبيين والأمم المتحدة ربما قريبا يفرضون ما شاؤوا منها علينا عندما يجدون في ذلك وسيلة لتحقيق مآرب ومصالح خاصة بهم· فهل كان ينبغي على الدول العربية المعتبرة متوسطية أن تنتظر بدء المفاوضات مع الدول الصناعية من أجل الشراكة وجذب الاستثمارات مثلا حتى تنتبه إلى الحالة المتردية لاقتصادنا وتدرك أهمية تغيير سياساتنا الاقتصادية وبلورة برنامج الاصلاح الاقتصادي وتحرير الاقتصاد والاندماج في السوق العالمية؟
وهل ينبغي أن ننتظر حتى يفرض علينا التكتل الدولي تغيير نظامنا السياسي باسم محاربة الإرهاب أو ضبطه كما يفرضونه اليوم على السلطة الوطنية الفلسطينية علنا، وهذه سابقة ينبغي أن تحثنا على التفكير، حتى نشرع في التخلص من مظاهر الحكم التعسفي والسيطرة بالقوة العسكرية وممارسة الاعتقالات اللاقانونية ومحاكمة المختلفين في الرأي في معظم البلاد العربية؟ وهل ينبغي أن ننتظر حتى تعلن الكتلة الدولية الصناعية نفسها وصية على ممارسة الحريات وحماية حقوق الانسان في بلداننا، وهي تهم بعمل ذلك ولن يتأخر كثيرا، أم نبدأ التفكير منذ الآن، بشكل عقلاني وبحس تاريخي، ومن منطلق المسؤولية الوطنية، بتغيير سلوكنا· وبذلك نضمن لشعبنا الاستمرار والاستقرار، ونجنبه مخاطر المواجهات الدامية الداخلية ومخاطر الاعتداءات الخارجية· أعتقد أن هذا ممكن وأنه أفضل بكثير من أن نسلّم قدرنا للتاريخ وننتظر ما يأتينا به المستقبل والدول الكبرى·
ما هو الطريق الأسهل والأسلم إلى ذلك بالنسبة لنا؟
إذا آمنت جميع القوى، داخل النظم العربية وخارجها، بحتمية الانتقال نحو صيغ أكثر تفتحا وانفتاحا على مواطنيها وأكثر استعدادا لبناء أطر التعاون والتفاهم والتضامن بين جميع أبناء الوطن الواحد يكون جزء كبير من المهمة قد تحقق· فلا يعني التحول الديمقراطي في النهاية شيئا سوى القبول بالتعددية واحترام الآخر وضمان الحقوق والواجبات المتساوية للجميع، أي سوى القبول بالعدالة التي تتفق والحديث الشريف الذي يجعل من الناس سواسية كأسنان المشط·