إحياء الوطنية العربية الخامدة

2002-10-23:: الاتحاد

 

يبرز إلى السطح في العديد من البلاد العربية، مع تصاعد حمى الهجوم الأجنبي على العراق والمنطقة عموما، شعار الوحدة الوطنية وتجاوز الخلافات والتناقضات الاجتماعية والفكرية، وهو شعار تاريخي ويبقى صالحا بالرغم من تقادم الزمن، لأنه يشير إلى أحد الشروط الرئيسية والأساسية التي لا غنى عنها عند أي شعب لمواجهة المحن التاريخية والانتصار عليها، فهو أساس التضامن الجمعي والمحرك العميق لمبدأ التكافل داخل الجماعة الواحدة في مواجهة الأخطار الخارجية·
ولا شك أن ما تواجهه الشعوب العربية اليوم، ويمكن أن تواجهه لفترة طويلة قادمة هي مخاطر محدقة لا تهدد استقلالها ولا تمس بمصالحها العليا فحسب، وإنما يمكن أن تؤدي أيضا بكياناتها الهشة· لكن بالرغم من أن أصوات المثقفين والسياسيين الوطنيين المطالبين بالوحدة الوطنية والاجماع ضد العدوان الأجنبي ترتفع من كل جهة، لا يكاد المرء يسمع صدى من أي نوع لهذه الأصوات القوية الهادرة في الجانب الآخر من الصورة· وربما كان السبب في ذلك أن الأحزاب والجماعات الحاكمة تجد صعوبة في إدراك المخاطر القادمة أو لا تعتقد بجديتها أو أنها لا تشعر أن هناك فعلا قيمة لشعارات عفا عليها الزمن، وأصبحت مجرد وسيلة تستخدمها بعض فئات المعارضة الصغيرة والضئيلة العدد والقوة لفرض نفسها في الشارع، بل ربما لانتزاع تنازلات من قبل الحكومة تمكنها من المشاركة في السلطة· وربما أن هناك من يعتقد من بين قادتها بأن ما وحدته القوة لا يمكن أن تفرقه السياسة ولا الخطب القومية عن الوحدة والتضامن والتكافل بين أفراد المجتمع الواحد في وجه الأخطار ولن يتأثر بها·
وإنه ما دامت البلاد تحت السيطرة فليس هناك سبب لتغيير منطق الممارسة ولا ابتداع كلام وتعبئة قوى لا قيمة لها، ولن يكون بإمكانها الحسم في أية معركة قادمة حقيقية أو محتملة·
والواقع أنه، كما أن هناك داخل الجماعات المعارضة من يرفع شعار الوحدة الوطنية ويتظاهر بالتمسك به أملا في أن تكون هذه الوحدة الطريق الأسهل لنيل الصدقية السياسية والوطنية لدى الرأي العام، هناك داخل النخب الحاكمة من يرى في شعار الوحدة الوطنية مزايدة بل شركا منصوبا لها لا يهدف إلا إلى تقليص سيطرتها على مقاليد الأمور ومشاركتها في اقتسام السلطة والثروة العمومية· وهو يخشى مثل هذه الوحدة وشعارها أيضا أكثر مما يخشى التهديدات بل الاعتداءات الخارجية· وبالفعل، إن تحقيق مثل هذه الوحدة، إذا أخذ على محمل الجد، لا يعني شيئا آخر، في الشروط التي تعيش فيها مجتمعات العرب اليوم، سوى التنازل عن أنماط من الحكم قائمة على التهميش الشامل للمجتمع، والتمييز الرسمي وغير الرسمي بين فئات المواطنين، والتلاعب بالقانون، واحتكار التمتع بثروات البلاد الاساسية على حساب الجمهور الأوسع وحساب مصالحه·
ومن هنا، وإذا أردنا بالفعل أن نخرج من الحلقة المفرغة ونضمن الحد الأدنى من الاتحاد أو الاجماع داخل صفوف الرأي العام الوطني العربي في مرحلة من أصعب المراحل التي تمر بها شعوبنا بل دولنا ذاتها، ينبغي أن نسعى إلى إخراج مسألة الوحدة الوطنية من مستوى الشعار أو بالأحرى مستوى استهلاك الشعارات عند المعارضة وعند أطراف السلطة معا، وبالتالي إلى تجسيدها ضمن خطوات عملية وواضحة في انعكاساتها المادية الاقتصادية والسياسية والفكرية على الرأي العام الواسع· فليس هناك وحدة وطنية من دون عمل ومن دون جهد وبالتالي من دون ثمن· وقبل أن نطلب من الجمهور أو كي يحق لنا أن نطلب من الجمهور التضحية والتبرع بجهده وعرقه في سبيل حماية الوطن، وأن نتوقع منه بالفعل الاستجابة لهذا الطلب ينبغي علينا أن نشعر هذا الجمهور أولا أن لديه وطناً أو أن الأرض التي يعيش فيها وعليها هي وطن له لا منفى يغترب فيه ولا سجناً يضيق به· ومن دون ذلك لا يمكن للخطاب الوطني المتصاعد اليوم في المشرق العربي، من دون أن تحرك النظم المطالبة بالتعبئة الوطنية ساكنا، إلا أن ينتج مفعولا معاكسا وينقلب على من يستخدمه من قوى الحكم والمعارضة معا·
فالنظم التي تشحن الناس بالوطنية وتستمر في ممارسة التمييز على أساس العقيدة الدينية أو السياسية، لا فرق، لا تعمل إلا على تعميق الشعور القائم باستمرار عملية الابتزاز الايديولوجي الذي يخدم وجودها في السلطةو ويقدم لها ذريعة إضافية لقطع الطريق على الاصلاحات والتحولات المستحقة والمفروضة عليها التي تهرب أو تتهرب منها· والمعارضة التي تستمر في ترديد شعار لا يجد صدى لدى الطرف الآخر لا بد أن تبدو بسرعة في نظر الرأي العام أحد أمرين: إما أنها تتسلى بالكلمات والشعارات ولا تدرك معناها أو أنها تستغل الظرف الوطني للتهرب من مسؤولياتها ووضع جدول أعمالها الخاص على الرف، بعد أن تعبت من الدفاع عنه والكفاح من أجله مخفية وراء برنامج الوحدة الوطنية انضواءها تحت برنامج السلطة (الوطني) نفسه· فهي تقترف في نظر الرأي العام خطيئتين في الوقت نفسه: الوقوع في حبائل الخطاب المغشوش للسلطة وهو تعبير عن السذاجة، والتخلي عن برنامج المعارضة باسم الوحدة الوطنية وهو تعبير عن الاستقالة السياسية· والنتيجة انعدام ثقة الجمهور بالقادة السياسيين وعزوفه الكامل عن السياسة والعمل الوطني·
يكفي لإدراك هذا العزوف المخيم اليوم في العالم العربي، مقارنة سلوك الجمهور الفلسطيني العريض في الأراضي المحتلة مع سلوك الجمهور العربي الواسع تجاه الحدث نفسه، وما يجري في فلسطين عامة· لقد كان نزول الفلسطينيين العفوي إلى الشوارع لانقاذ القادة الفلسطينيين المحاصرين والمهددين بالموت تحت أنقاض المقاطعة في رام الله في سبتمبر الماضي أكبر تعبير عن حيوية الوطنية الفلسطينية وقوتها، وبالعكس تماما كان غياب التحرك العربي الكامل التعبير الحي عن خمود جذوة الوطنية في البلاد العربية الأخرى، بسبب ما ذكرناه من انعدام الثقة العام الذي نجم عن الشروخ والجراحات العميقة التي تعرضت لها على يد أكثر الداعين لها أو المحسوبين عليها من التيارات والأحزاب·هناك بالفعل مراحل في التاريخ تفرض على الشعوب أن توحد فيها كلمتها وتتجاوز نزاعاتها الداخلية أو على الأقل تجمدها حتى تتمكن من توحيد طاقاتها جميعا وتوجيهها لمقاومة الاعتداءات والضغوطات الخارجية· وربما لم نكن نحن العرب أحوج إلى هذه الوحدة مما نحن عليه الآن لتأمين دفاعاتنا الوطنية في مواجهة حربين معلنتين في كل من فلسطين والعراق، وحروب أخرى قادمة يؤكد عليها سعي الولايات المتحدة الأميركية لدفع مجلس الأمن، الى التصويت على قرار يسمح بالحرب الدفاعية الوقائية· ولا يعني تعزيز الوحدة الوطنية شيئا اليوم في البلاد العربية سوى إعادة إحياء الوطنية العربية الخامدة والمجهضة معا عن طريق إعادة العمل إلى المبادئ الأساسية التي لا تقوم من دونها وطنية ولا يتحقق أي إجماع، وفي مقدمتها المساواة الحقيقية بين المواطنين واستبدال منطق الحوار بين أبناء الجماعة الواحدة محل منطق الحرب والعداء والصراع والإقصاء المتبادل·
وللأسف لا يأتي الإصرار على رفض الحوار والتفاهم والمساواة من قبل الأطراف التي اضطهدت وهضمت حقوقها في المعارضة أو في المناطق وضمن الأقليات المغبونة بقدر ما يأتي، كما يشير إلى ذلك مثال العراق، من طرف الحكومات التي يبدو أنها تستسهل اليوم أكثر من أي وقت مضى الإقصاء والنفي والاستبعاد، معززة موقفها بالاسترخاص بمواطنيها واتهام معارضيها بالعمالة الأجنبية·
ينبغي أن ندرك، أنه سيكون من غير الممكن لنا، أن نضمن لأنفسنا في السنوات القادمة حدا أدنى من التماسك الوطني في مواجهة الأخطار الحقيقية القادمة، من دون أن ننجح في الوصول إلى حد أدنى من الاتحاد الوطني الداخلي يزيد من قدرة جميع الأطراف على التعاون فيما بينها، ويمكننا من توحيد الجهود وتطمين الجماعات والأفراد ودفع الناس إلى التضحيات الكبيرة التي سيتوجب علينا القبول بها، ليس من أجل مجابهة مخاطر خارجية فحسب، ولكن حتى في سبيل مواجهة مخاطر انهيارات متنوعة داخلية كبيرة ناجمة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والبيئية والتقنية والإدارية والاجتماعية والثقافية والنفسية معا في مجتمعاتنا وتضاؤل فرص التنمية الانسانية·
ولا يمكن تحقيق هذه الوحدة من دون نكء جراح الماضي والعودة بالمجتمعات إلى منطق الحوار والتفاهم والتعاون والتكافل والقبول المتبادل، فهذا هو طريق إعادة بناء الوطنية العربية في جميع الأقطار· ولا شك أن إعادة إحياء أو بناء الوطنية العربية تتطلب تضحيات من قبل جميع الأطراف، لكنها يلقي مسؤوليات خاصة على النخب الحاكمة التي تملك وحدها مفاتيح الحياة القانونية والإعلامية والسياسية والفكرية وأحيانا الاقتصادية جميعا، ويستدعي تحقيق هذا الهدف الأساسي وتأمين حد أدنى من التفاهم الداخلي وتجنب الانقسام والتناحر والانتحار الذاتي تنازلات مشتركة حقيقية· ولا يمكن الوصول إليه من دون الاعتراف المتساوي بالمواطنة لجميع الأفراد ومعاملتهم معاملة واحدة أمام القانون·