أوروبة في ميزان السياسة الدولية

2002-04:: الاتحاد

هل هناك سياسة اوروبية مستقلة عن السياسة الامريكية الاطلسية
تلقت دول الاتحاد الاوروبي صفعة كبيرة من قبل حكومة شارون اليمينية المتطرفة عندما اضطر وفدها الرسمي الذي ذهب الى الاراضي الفلسطينية للتخفيف من حدة التوتر القائم الى مغادرة البلاد من دون ان يستطيع اللقاء بالرئيس عرفات أة أن يحقق ايا من اهدافه المعلنة. ولا يبدو ان العواصم الاوربية تفكر مع ذلك في اتخاذ أي اجراء تجاه تل أبيب يساعد الرأي العام الاوروبي على مسح الاهانة التي تعرضت لها قيادته السياسية. وتشكل هذه الحادثة مثالا على الطابع الملتبس والمفارق للسياسة الاوربية تجاه اسرائيل والقضايا العربية والشرق أوسطية عموما. وهو الطابع الذي يثير الكثير من الاسئلة حول طبيعة هذه السياسة وموقف اوربة الحقيقي من الاختيارات والاستراتيجيات الأمريكية, في المشرق العربي كما هو الحال في غيره من البلدان. فلا يستطيع المراقب السياسي الذي يرى الجهود الاوروبية الكبيرة للتميز في العديد من المواقف, كما هو الحال اليوم في أزمة الشرق الأوسط, عن المواقف الأمريكية واحيانا لاتخاذ موقف نقدي منها أن لا يلاحظ في الوقت نفسه تسليم اوربة في النهاية وفي معظم الشؤون الدولية بالسياسات والاستراتيجيات الامريكية بل والالتحاق الكامل بها.
وفي العالم العربي هناك نزعة قد يكون مبالغ فيها للتمييز بين سياسة واشنطن وسياسة بروكسيل لدرجة يبدو فيها وكأن العالم العربي بحكوماته وجمهوره يؤمن بأن اوروبة تقف بعكس الولايات المتحدة الى جانب القضايا العربية. ومن المؤكد أن تطرف الموقف الأمريكي في مسألة الصراع العربي الاسرائيلي والتأييد الأمريكي المباشر الذي حظيت به سياسة رئيس الوزراء الاسرائيلي العنصرية في الحرب الدائرة رحاها منذ ما يقارب السنتين من دون انقطاع في فلسطين، والتي يقف فيها شعب أعزل إلا من الحجارة في مواجهة أكثر جيوش العالم استخداما للتقنية الحديثة، قد دفع إلى تمسك الرأي العام العربي بوهم وجود قوة منافسة وموازنة لامريكا يستطيع ان يراهن عليها اليوم أو في المستقبل لتعديل كفة الميزان والخروج من أحادية العلاقة الطاحنة العربية الامريكية. ومما ساعد على ذلك تلك البيانات المتعددة التي أصدرها المسؤولون الأوربيون في مؤتمراتهم الأخيرة، واثبتوا فيها تفهما افضل لوجهة النظر العربية بالرغم من انهم لم يحيدوا كثيرا عن الاطر التي فرضتها عليهم الولايات المتحدة في صوغ العلاقات الدولية. ومع تزايد الضغط الأمريكي على العالم العربي يزيد النزوع لدى المسؤولين والرأي العام معا إلى المراهنة على الدور الاوروبي. ولا يكف العرب من مسؤولين ومثقفين وغيرهم عن توجيه النداء تلو النداء كي تلعب الدول الأوربية دورا أكبر في عملية السلام أو في السعي نحو ايجاد حل عادل للنزاع العربي الاسرائيلي. فهل تستطيع أوربة الموحدة أن تلعب فعلا مثل هذا الدور وهل بإمكانها أن تؤثر على القرار الأمريكي؟
هناك بالتأكيد حاجة ماسة للتمييز بين السياسات الأوربية والأمريكية. ومهما حاولنا التوحيد بينهما وهما الشريكان في حلف شمال الأطلسي يبقى أن الأوربيين الذين عرفوا العالم العربي عن قرب ولهم مصالح مهددة فيه من قبل الولايات المتحدة ذاتها أكثر استعدادا لتقديم التنازلات أو على الأقل لمراعاة المشاعر العربية من الأمريكيين الذين يسيطرون على الأرض وليس لديهم أي دافع لتقريظ العرب وتطميعهم فيهم. بل بالعكس من ذلك إن من طبيعة القوة المسيطرة أن تنزع إلى تحقير من تسيطر عليه حتى تبرر لنفسها وللرأي العام العالمي أيضا مشروعية هذه السيطرة وحتى تتمكن من إعادة إنتاجها في الفضاء العربي في الوقت نفسه.
بيد أن ذلك لا يغير من حقيقة أن أوربة لا تزال قليلة التأثير على مجريات الأمور في الشرق الأوسط ولا يبدو أنها قادرة على لعب الدور الذي يطالبها به العرب في المدى المنظور على الأقل في الميدان الاستراتيجي الذي يريد لها العرب أن تدخل منه. ولو كان ذلك بمقدورها لما ترددت فيه. ذلك أن الحرب الدائرة في الشرق الأوسط تشكل كارثة بالنسبة لأوربة التي سوف تتحمل بسبب قربها الجغرافي من المنطقة أكثر من أي دول أخرى آثار انهيار الأوضاع الاقتصادية والسياسية ومضاعفاتها الانسانية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه عندئذ هو التالي: هل يستطيع العرب الذين يجدون انفسهم في امس الحاجة لاشراك اوربة وهي الجارة القوية في السعي لايجاد الحلول العملية للعديد من المشاكل التي تعاني منها المنطقة وفي مقدمها المشكلة الاسرائيلية ان يساعدوا اوربة على لعب دور افضل وان يستفيدوا من تباين المصالح داخل المعسكر الغربي في سبيل خدمة مصالحهم العادلة الوطنية والاقتصادية على حد سواء؟
- انعدام الاستقلالية والصدقية
يبدو لي أن العرب الذين كثيرا ما يطالبون اوربة باتخاذ مواتقف اكثر عدالة من القضايا العربية يجهلون الى حد كبير العوائق التي تحول دون اكتساب هذه الكتلة السياسية الكبيرة الوزن الذي تستحقه في ميزان السياسة الدولية وبالتالي فهم يجهلون ايضا اليات التأثير على اوربة لدفعها نحو اتخاذ مواقف اكثر استقلالا عن الولايات المتحدة. وفي العديد من الحالات يشارك العرب, لعدم عنايتهم بتطوير الموقف الاوروبي في تهميش دور بروكسيل وإضعاف مبادراتها خوفا من إغضاب الولايات المتحدة التي يتعتقدون انها اصبحت سيدة مصيرهم مهما كانت سياساتها جائرة في حقهم. وإذا اردنا بالفعل ان لا نفرط بمكامن القوة الهائلة الموجودة في هذه القارة وأن نستفيد من الفرص الكثيرة التي يمكن ان تقدمها لا بد لنا من العمل على تفهم مشاكلها والسعي الى معرفة الاسباب التي تجعلها غير قادرة على مواجهة السياسات الامريكية ومن ثم معرفة امكانية الالتفاف عليها وتوظيف اقصى ما نستطيع من تناقض المصالح الاوربية الامريكية لخدمة القضايا العربية.
يرجع في نظري ضعف تأثير اوروبا ووزنها في السياسة الدولية وعدم قدرتها على مواجهة التفرد والاملاءات الأمريكية التي اصحبت سمة العلاقات الدولية المعاصرة بعد حرب الخليج الثانية إلى أكثر من سبب واحد. وربما كان أول هذه الاسباب وأهمها على الاطلاق أن أوربة الواحدة ليست موحدة سياسيا كما تبدو لنا من الخطاب والمؤتمرات والقمم التي يعقدها زعماؤها ومسؤولوها. ففيما وراء الوحدة الاقتصادية التي أصبحت اليوم حقيقة واقعة لا يزال الخلاف السياسي قويا فيما بين الدول المتحدة سواء أكان ذلك في ميدان التوجهات الاستراتيجية الكبرى أو في مجال التوجهات السياسية والفكرية. وباستثناء فرنسا التي تبدو حريصة جدا على أن تلبس سياساتها الخارجية مظهرا استقلاليا ووطنيا، حتى لو بقيت في مستوى الممارسة قريبة جدا من التوجهات الأمريكية، تخشى أغلب الحكومات الأوربية الابتعاد عن الولايات المتحدة وربما تشعر بالضياع من دونها. ومن الصعب تصور ألمانيا الاتحادية سائرة على طريق فرنسا، أي طريق التمسك بالمظهر القومي الاستقلالي للسياسة الخارجية حتى لو أرادت ذلك، كما لو أن تجربة النازية المدمرة التي بدت كامتداد مفرط للنزعة القومية قد جلعتها تهرب من أي نزعة وطنية. أما بريطانيا فيبدو أن حرصها على ضمان التفاهم مع واشنطن أسبق لديها على أي تفاهم مع الدول الأوربية نفسها.
وثانيها أن مصالح أوربة، الاقتصادية منها والاستراتيجية، وإن بدت كبيرة في البلاد العربية إلا أنها لا تزن كثيرا في مواجهة المصالح الأوربية الأمريكية المشتركة أو مصالح أوربة في الولايات المتحدة ذاتها. وفي مقدمها المصالح الاستراتيجية العليا. فهي تنظر جميعا إلى واشنطن عندما تعود إلى الحسابات الدقيقة على أنها الحصن المنيع ضد الأخطار الكبيرة الصاعدة من الجنوب والتي ليس لأي دولة أوربية أو غير أوربية أي جواب عنها. ويكفي أن نشير هنا إلى آخر حربين هامتين حصلا، أعني حرب العراق وأفغانستان، حتى ندرك أن أمريكا وحدها كانت قادرة على خوضهما وأن أوربة جميعها لم تكن تزن كثيرا في ميدان المناورة الاستراتيجية والقتال. وكلما تفاقمت الأزمة الدولية وزادت المخاطر الناجمة عن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الجنوب زاد تعلق الدول الأوربية بواشنطن وقويت المبررات لتدعيم الحلف الأطلسي وتطويره. وحتى فرنسا التي كانت قد خرجت من قيادة الحلف في الستينات وجدت نفسها مضطرة إلى العودة إليها من جدد في السنوات القليلة الماضية.
فالتحالف الأمريكي الأوربي تحالف استراتيجي بالفعل، ومهما كانت حدة الخلافات والنزاع على المصالح والنفوذ في هذه المنطقة أو تلك من العالم من المستحيل أن نتصور في المدى المنظور انفراط العقد الأوربي الأمريكي اللهم إلا إذا نجحت أوربة في تكوين قوة عسكرية موحدة وضاربة، وهو موضوع مشكوك في احتمال حصوله عند جميع الاستراتيجيين. إن أوربة قد تمتعض من السياسات الأمريكية وهي تعبر عن ذلك باستمرار، لكنها تجد نفسها مضطرة للسير وراء واشنطن والقبول بقيادتها. وهي لا تطمح إلى أكثر من أن تقبل واشنطن بإشراكها بشكل أكبر قليلا في بلورة القرار الدولي.
هذا هو الذي يجعلنا نقول إن أوربة الموحدة قزم سياسي وأن أي دولة أوربية كبيرة إذا أخذت على حدة تظل أكبر وزنا وأقوى حجة من الدول الأوربية مجتمعة في هذا المجال. ففرنسا لوحدها أقوى من أوربة الموحدة سياسيا وكذلك ألمانيا وبريطانيا وايطاليا وغيرها. وإذا أراد العرب أن يضاعفوا من دور أوربا وتأثيرها الايجابي على مجريات الأمور في الشرق الأوسط فلا ينبغي الافتتان بالقوة الشكلية لأوربة الموحدة ولكن العمل على صعيد كل دولة أوربية على حدة وكسبها واحدة واحدة وانتراع التزامات جدية منها في الموضوعات المتعلقة بالقضايا العربية الأساسية وفي مقدمها قضية فلسطين. اما من الناحية الاقتصادية فعلى أوربة الموحدة لا على دولها المنفردة ينبغي أن نراهن إذا أردنا استمالة بعض الرساميل والاستثمارات والاستفادة من بعض الخبرة والمساعدات.