أزمة المشروع الإصلاحي السوري

2003-01-14:: الراية

 

مصير المشروع الإصلاحي السوري

ليس هناك شك في أن التباطؤ الشديد الذي بدأ يسم مسيرة الاصلاحات السورية والتخبط الذي تعرفه سياسات الحكومة الاقتصادية وإغلاق الطريق على أي أفق سياسي يخفف قليلا من وطأة الشعور بالاستبعاد الشامل للمجتمع من كل حياة سياسية أو فكرية واستمرار الأجهزة الأمنية في التصرف بأمن الأفراد وحياتهم ومصالحهم من دون أية مرجعية قانونية، كل ذلك قد حطم أو كاد آمال التغيير التي أثارها في بداية العهد الجديد الإعلان عن حاجة سورية إلى إصلاحات جوهرية تخرجها من الركود المدمر الذي تعاني منه منذ عقود وتمكنها من الرد على التحديات المتزايدة التي تواجهها مع تغير البيئة العالمية والإقليمية. وهكذا لا تكف التيارات المتفائلة بالاصلاح عن التراجع أمام التحليلات المتشائمة التي تؤكد احتمال أن يكون تيار الاصلاح قد فقد السيطرة لصالح التيارات المحافظة التي تريد الابقاء على الأوضاع القديمة كما هي. ومما يغذي هذا التشاؤم المتزايد الأخبار المتواترة التي تنقلها الصحافة الدولية ووكالات الانباء عن استمرار الإعتقالات للكتاب والصحفيين الذين كان آخرهم ابراهيم حميدي مراسل الحياة وقناة ل بي سي اللبنانية في الوقت الذي كان ينتظر الرأي العام فيه إطلاق سراح معتقلي سبتمبر ايلول 2001 وإغلاق باب الاعتقال بسبب الرأي أو المحاسبة على الأفكار. كما يغذي هذا التشاؤم أيضا العودة الواضحة إلى سياسة التشدد الأمني والملاحقات اليومية والروتينية بعد فترة اعتقد فيها الرأي العام أن السلطة السياسية ميالة إلى تضييق هامش مبادرة هذه القوى وفرض نوع من الانسحاب الإرادي لها من الحياة اليومية للمواطنين تاركة الساحة لسلطة القانون والقضاء العادي. ومن تجليات هذه العودة للسياسات القديمة استدعاء رئيس الجمعية السورية لحقوق الانسان المحامي هيثم المالح للمثول أمام القضاء العسكري كجزء من سياسة تكثيف الضغوط التي تمارسها الأحهزة الأمنية على الناشطين السياسيين والثقافيين الجدد بقصد ثنيهم عن نشاطهم وإجبارهم على السكوت والقبول بالأمر الواقع.

 تتبادل النخبة الحاكمة, في الحزب والحكومة, وتيارات المعارضة الثقافية والسياسية الاتهامات بشأن تحديد المسؤولية عن هذه التحولات السلبية وإجهاض مسيرة التغيير واحتمال العودة بالبلاد إلى مناخات المواجهة السابقة التي دامت عقودا بين السلطة والمجتمع أو الرأي العام. وتقول أوساط السلطة القريبة من التيار الاصلاحي إن رفع المثقفين مستوى مطالبهم السياسية والحديث المتكرر والواضح عن الديمقراطية والدعوة إلى الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين ورد الاعتبار لهم وتعويضهم والكشف عن أسماء المفقودين وإخضاع عمل أجهزة الأمن للقانون وإلغاء المحاكم الاستثنائية والتقيد بالإجراءات القضائية الطبيعية التي تحمي الفرد ووضع قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع التي ينص عليها دستور عام 1973 موضع السؤال, كل ذلك قد بث الرعب في أوساط الفريق المحافظ في النظام ودفعه إلى التدخل القوي لوضع الاصلاح نفسه موضع الشك وفيما بعد لوقفه أو عرقلته.

وبالمقابل يتهم المثقفون الذين لا يزالون في واجهة الصراع التيار الاصلاحي في السلطة بضعف إرادة التغيير لديه وافتقاره لمشروع إصلاحي واضح الأهداف والمعالم وغياب أي رؤية استراتيجية لديه ورفضه الانفتاح على الطبقة الوسطى ومشاركتها وبالمقابل تمسكه الشديد بالوسائل التقليدية للحكم والاعتماد المفرط على قوى الأمن أو على الأقل عدم الرغبة في الابتعاد ولو قليلا عن هذه الوسائل والقوى التي تمثلها. وهو ما حتم في النهاية, في نظر هؤلاء, أن يخضع الفريق الاصلاحي لابتزاز القوى المحافظة والقبول بمزاوداتها والتسليم لها من جدبد بالقيادة الحقيقية.

الواقع أن وراء هذه الانتكاسة التي لا شك فيها في مشروع الاصلاح السوري أسباب موضوعية أخرى تتجاوز إرادة الفريق الإصلاحي الحكومي كما تتجاوز إرادة المعارضة المطالبة بانفتاح أشمل وقدرتها على فرض مثل هذا الانفتاح معا. فهي تمد جذورها الحقيقية في بنية النظام ذاته وقدرته على التغير والتجدد من الداخل من دون أن يخسر ذاته وربما من وراء هذا النظام في بنية الدولة السورية الحديثة نفسها.

فقد أدى عجز النخب الحاكمة منذ الاستقلال, بل قبل ذلك أيضا, عن التوصل إلى حد أدنى من الاجماع الوطني, والاتفاق على أي قواعد ثابتة ومقبول بها للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها أو ممارستها إلى حرمان البلاد من أي طبقة سياسية حقيقية بقدر ما جعل من الصراع على السلطة محور الحياة العمومية بأكملها ومآلها. فأصبح أي تنافس آخر، بل أصبح شرط التقدم في في أي نشاط إقتصادي كان أم إجتماعي أم ثقافي مرتبطا بهذا الصراع على السلطة وتابعا لها. وبقدر ما أصبح كسب جميع الرهانات متعلقا بكسب الرهان الأكبر الذي هو الإمساك بالسلطة العمومية, لم يعد من الممكن تجاوز هذا الصراع أو تحييده لتكوين رهانات أخرى، إقتصادية واجتماعية وثقافية مستقلة، تساعد على تحقيق الذات عند فئات النخبة المختلفة وتخفف من الاستلاب السياسي ومن الضغوط المتزايدة على المتاجرة السياسية. ولم يحصل أن طرحت في سورية أي مسألة من المسائل الرئيسية التي تتعلق باستكمال البناء الوطني, سواء أكانت المسألة الاجتماعية أو المسألة الاقتصادية أو المسألة القانونية أو المسألة الثقافية بعلاقتها بالهوية الوطنية من دون أن تكون رهينة إشكالية توزيع هذه السلطة أو تقاسمها أو احتكارها. وهذا ما يفسر الانقلابات المتعددة والمتتالية والسريعة التي عرفتها البلاد في السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال والذي جعل من الصراع على السلطة السياسية وتحديد قواعد النفوذ إليها والسيطرة على مؤسسات الدولة المحور الذي تدور من حوله وتغرق معا الحياة السياسية السورية وتتبلور القوى والبرامج الاجتماعية والايديولوجية. وهو الذي يفسر أيضا انعدام التراكم والتقدم في أي من ميادين النشاط المجتمعي الأخرى.

هكذا كان الهم الأول لجيل الاستقلال الذي انتقلت إليه السلطة بعد زوال الوصاية الفرنسية عام  1946 قطع الطريق على أي منافسة انتخابية حقيقية وإغلاق الباب أمام النخب الجديدة الصاعدة, وبشكل خاص الريفية منها, وذلك بالرغم من الطابع التعددي والليبرالي للحكم. فبذلك وحده كان من الممكن الحفاظ على الامتيازات والتمديد للوضع القائم الذي يضمن احتكار بعض العائلات ذات الوجاهة للسلطة والثروة معا. وفي مواجهة هذا النظام وبالاستفادة من تعدديته ومن الحريات الفردية التي سمح بها إلى هذا الحد أو ذاك سوف تنمو تيارات المعارضة الشعبوية القوية القومية واليسارية معا وتجعل من قلب السلطة وبناء نظام جديد خارج عن سيطرة النخب التقليدية المدينية والبرجوازية معا الهدف الدائم والمعلن لأي تغيير.

ولم ينجح اليمين الاصلاحي الذي حاول في الخمسينات, من داخل النظام الليبرالي التعددي, توسيع دائرة المشاركة للطبقة الوسطى والنخب المتجددة على حساب سيطرة النخب الكمبرادورية ومن أجل خلق الشروط القانونية والسياسية لبناء اقتصاد وطني مستقل, في وقف ديناميكية الاستقطاب السريع الذي فجره هذا الصراع القوي على السلطة واقتسامها. كما لم تنجح منظمة الأخوان المسلمين التي عبأت بشكل أساسي جمهور الطبقة الوسطى المدينية في أن تبلور أي برنامج اجتماعي مستقل عن برامج التيارين المتنازعين, اللهم إلا فيما يتعلق بالعمل الاجتماعي الخيري والأهلي الذي برعت أكثر من أي حركة أخرى فيه ولا تزال. وهكذا لم يمكن لمشروع الاصلاح الاقتصادي الذي قاده آخر وأكبر زعيم للبرجوازية السورية التقليدية, خالد العظم, أن يرى النور, بينما شل الانقسام المتفاقم بين النخب السياسية والاجتماعية وانهيار مقومات أدنى مستوى من التوافق الوطني والاجماع أي حياة سياسية طبيعية.

وربما كان العجز عن كسر الاحتكارات التقليدية للعوائل والأسر المحظية وتحقيق إصلاح جدي وعاجل لمسألة المشاركة في السلطة هو السبب الحاسم في إخفاق اليمين الاصلاحي السوري, العلماني والاسلامي معا, في ضمان الحد الأدنى من الاستقرار والتعاون الاجتماعي والسياسي الذين لا بد منهما لأي إصلاح. ولم يقد فشل النخب الحاكمة التقليدية في استيعاب حركة الصعود الكاسح للقوى الشعبوية الرديكالية من داخل النظام إلى تفكك النظام الليبرالي السوري الذي ولد في الخمسينات من القرن العشرين فحسب, ولكنه دفع البلاد, أكثر من ذلك, نحو أزمة سياسية هيكلية انتهت بانهيار الدولة ذاتها. ولم تكن الوحدة السورية المصرية لعام 1958 إلا ثمرة هذا الانهيار ووسيلة للتغطية عليه في الوقت نفسه. كما لم يكن لأي قوة من القوى السياسية التي بادرت إلى الالتحاق بالجمهورية المصرية ورفعت شعارات الوحدة العربية عاليا هدف آخر من هذه الوحدة سوى قطع الطريق على خصومها لانتزاع السلطة بصورة منفردة في إطار تحالف محتمل واستثنائي مع القوة الناصرية الصاعدة عربيا وإقليميا. وكانت النتيجة بالفعل حقبة طويلة من الضياع والانقلابات والانقلابات المضادة عبرت عن عجز المجتمع السياسي الاستقلالي عن تكوين طبقة سياسية وطنية الطابع ومتفاهمة حول حد أدنى من قواعد العمل العمومي. وانتهت هذه الحقبة باختطاف نخبة عسكرية صغيرة السلطة وانفرادها بها من وراء تآلف سياسي وغير سياسي يفتقر إلى التجانس يتوسطه حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ستؤول إليه شكليا مقاليد الأمور وفي النهاية قيادة "الدولة والمجتمعِِ". 

وقد زادت محورية هذا الصراع حول السلطة العليا أو سلطة الدولة, وتأكدت أسبقيته في سعي أي قوة اجتماعية إلى ترتيب أوضاعها ومصالحها الخاصة في الدولة والمجتمع, بصورة حاسمة في العقود الأربع الماضية, وذلك بقدر ما استلهم جزب البعث الذي احتكر السلطة منذ الثامن من آذار 1963 نموذج النظام السوفييتي الذي يجعل من السيطرة على الدولة قاعدة للسيطرة الشاملة على جميع موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرمزية معا. وهو نظام يعتمد المركزة المطلقة للسلطة العمومية وتوحيد جميع مصادرها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. مما يعني أن من يملك السيطرة على سلطة الدولة في مثل هذا النظام يضمن في الوقت نفسه النفوذ المباشر والحر إلى الثروة وإلى الموقع الإجتماعي ويضمن الحصول على جميع المزايا والامتيازات الثقافية والعلمية والرمزية.

في مواجهة هذا التركيز الهائل للسلطة الاجتماعية بجميع أبعادها والتفاوتات الخطيرة في شكل توزيع الثروة التي أنتجها تحولت الديمقراطية إلى مطلب يكثف في ذاته جميع المطالب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية معا. وصارت الديمقراطية بالفعل منذ ربع قرن كلمة السر الأساسية لدى حركات الاحتجاج, بما فيها تلك التي لا تؤمن بفلسفة الديمقراطية. كما أصبح تشويه سمعة الديمقراطية ووصفها بأنها ديمقراطية أمريكية, لا تصلح إلا للدول الغنية أو حتى بأنها وصفة إسرائيلية تتعارض مع تقاليدنا والخصوصية السورية, ايديولوجية السلطة الحقيقية. والديمقراطية لا تعني هنا ولم تعن في أكثر الأحيان بالنسبة للرأي العام إلا التعبير عن الاحتجاج على الصيغة الراهنة لتوزيع السلطة السياسية ومن ورائها الموارد الاقتصادية والاجتماعية والادارية والعلمية. ولا يمكن لأي مراقب أن لا يرى نتائج هذا التركيز المكثف والمذهل بالفعل للسطة والثروة الذي يجعل من البلاد مؤسسة خاصة تسيطر على جميع مواقع القرار والإرادة والثروة فيها فئة قليلة جدا من السكان انطلاقا من تفعيل الولاءات الحزبية أو العائلية أو الجهوية وتتعامل معها كما لو كانت ملكا خاصا. وفي مقابل هذا الاحتكار الواضح لمصادر السلطة والثروة الوطنية المتعددة من قبل هذه الحفنة الصغيرة من السكان ما كان من الممكن إلا أن يتفاقم الشعور بالظلم والغربة والاستبعاد والتهميش لدى الأغلبية الاجتماعية, ومن ضمنها قسم كبير من الشباب المنتمين شكلا إلى الحزب الحاكم, ليس بالضرورة في سبيل الحصول على الامتيازات التي ضاق نطاق توزيعها كثيرا, ولكن أملا في تجنيب أنفسهم مصير الاستبعاد والتهميش الشامل والحتمي الذي أدينت به أغلبية المجتمع.

باختصار لقد أصبحت إعادة توزيع السلطة السياسية, بما تتضمنه من مشاركة في سلطة الدولة وضمان حق التنظيم السياسي, موضوع الصراع الرئيسي في المجتمع السوري بقدر ما أصبحت السيطرة على الدولة والتحكم بها المدخل الرئيسي لتحقيق الثروة والمكانة والجاه ولم يعد من الممكن لأغلب الأفراد تجاوز موقع الهامشية والفراغ والموت الاجتماعي من دون النجاح في تغيير صيغة توزيع هذه السلطة ونمط ممارستها. وعلى مشكلة السلطة غير المحلولة هذه تتمفصل المسائل المذهبية والاجتماعية والاقتصادية العديدة الأخرى وتتفاقم معا. ولا يمكبن فهم أي صراع من الصراعات التي شكلت تاريخ سورية الحديثة خارج مشكلة السلطة السياسية المتفجرة دوما أي مشكلة العجز عن حل مسألة تداول السلطة وتوزيعها وأسلوب النفوذ إليها وممارستها.

يبين هذا التحليل أن نظام البعث لم يكن هو المسؤول الأول أو الوحيد عن خلق هذه المشكلة التي ترجع كما ذكرنا إلى طبيعة تكوين الدولة السورية ذاتها والظروف التي رافقتها. لكن إذا لم يكن هو المسؤول الرئيسي أو الوحيد عن تحويل الصراع على السلطة والاستفراد بها إلى محور الحياة السياسية السورية الحديثة ومصدر أزمة السياسة الوطنية, فقد كان حكمه بالتأكيد التجسيد الصارخ لها والتعبير الأصفى عنها بقدر ما انتقل بها إلى أقصى ذراها وجعل من الانفراد بالسلطة والدولة المدخل إلى السيطرة غير المحدودة على  جميع موارد البلاد وخيراتها المادية والمعنوية. وبهذا نقلها أيضا من أزمة بنيوية إلى مأساة تاريخية تستعصي أو تكاد تستعصي على الحل.
 الاصلاح السوري: السياسة في وجه الاقتصاد

 

معادلة الاصلاح السوري الصعبة

 جاء مشروع الاصلاح الاقتصادي السوري الجديد مع بداية حكم الرئيس بشار الأسد بالأصل لانقاذ النظام الواحدي الذي برهن في سورية كما هو الحال في جميع البلدان التي نشأ فيها عن قصور بنيوي في معالجة المسائل العديدة المتعلقة ببناء المجتمعات, الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية. وفي سورية عمل النظام الشمولي أكثر من أي بلد آخر على تفاقم مسألة توزيع السلطة العمومية وتعميق الصراع من حولها نظرا لما انطوى عليه من تضييق استثنائي في دائرة المشاركة في السلطة أدى إلى حصرها في النهاية في قبضة فئة محدودة من الأفراد. وقد اعتقد الاصلاحيون السوريون الجدد كما اعتقد أسلافهم في الخمسينات بأن من الممكن الالتفاف على مسألة توزيع السلطة ونمط ممارستها عن طريق الاصلاح الاقتصادي وما يمكن أن يقدمه من فرص جديدة لتحسين مستوى معيشة السكان الذين أريد لهم الاحتفاظ بصمتهم والاستمرار في تنازلهم عن حقهم في المشاركة السياسية. لكن بالاضافة إلى أن الاصلاح الاقتصادي لم يحقق نتائج تذكر في إطار السعي لتحسين مستوى حياة السكان, بل في جذب أي نوع من الاستثمارات الانتاجية, فقد ساهم هو نفسه في إعادة تفجير أزمة المشاركة في السلطة من قبل شعب جائع للمساهمة في تقرير مصيره وقلق بصورة شديدة على مستقبله ومستقبل أبنائه. فمنذ اللحظة التي فتح فيها ملف الاصلاح الاقتصادي برزت للامام وبصورة حتمية وتلقائية مسألة أسلوب ممارسة السلطة السياسية ونظام توزيعها بقدر ما تشكل هذه المسألة المدخل المباشر لفهم الحياة الاقتصادية السائدة وأزماتها.

وقد أصبح لهذا الصراع العنيف والدامي على إعادة توزيع السلطة وضرب الاحتكار الذي يحكمها اليوم عنوان جديد وعلني هذه المرة هو الديمقراطية. فهي لا تعني هنا شيئا آخر في الواقع سوى الصراع في سبيل انتزاع الحق في المشاركة الذي حرمت منه لعقود متتالية النخب الاجتماعية السورية المختلفة وفي مقدمها المثقفون.

وليس من الصعب على أي مراقب متابع لما يدور منذ سنتين على الساحة السياسية السورية أن لا يكتشف مركزية الديمقراطية وموقعها الحاسم في الصراعات القائمة بين تيارات المجتمع والفكر المختلفة اليوم. فجوهر سياسة اليمين السوري المحافظ الراهن وعقيدته, سواء داخل الدولة أو في محيطها وعلى هامشها, لم يعد الدفاع عن أي برنامج اقتصادي أو اجتماعي سواء أكان مستلهما للرأسمالية أو للاشتراكية وإنما رفض التجديد السياسي ومعارضة أي تغيير في قواعد عمل النظام بل في أشكال توزيع السلطة القائمة على نظام الولاءات والمحسوبيات. فتجميد الأوضاع كما هي هو الذي يضمن تكريس الامتيازات وتقاسم المصالح والمنافع السائدة ويزيل شبح إعادة اقتسام السلطة والثروة مع الجماعات المختلفة التي تتنازع عليها حتى داخل نظام الحزب الواحد. وينضوي تحت راية هذا التيار مجموع الأسر والعوائل والتجمعات التي تضع يدها بشكل عملي وفعلي على أهم موارد الدولة والمجتمع وتملك حق التصرف الكامل بها من دون رقيب ولا حسيب سواء بسبب نسبها أو ولاءاتها السياسية أو العائلية أو مراكز القوة الاستثنائية التي تملكها. ويدرك أعضاء هذا الفريق الذي يتصور علاقته بالدولة على صورة علاقة الارستقراطية التقليدية, أي علاقة ملكية وحق طبيعي لا علاقة وظيفة وإنتاج كما هو الحال مع البرجوازية, أن أي تغيير في النظام المجتمعي أو أي تعديل في موازين القوة, مهما كان ضيئلا, يعني لا محالة تهديد الامتيازات المكرسة والسيطرة الشاملة على موارد الدولة وحق التصرف بها كما لو كانت ملكية خاصة شرعية. وليس لدى هؤلاء أي سبب كي لا ينزعوا, في سبيل الدفاع عن امتيازاتهم هذه, الى استخدام وسائل العنف وتبرير ديكتاتورية الأجهزة والعمل يجميع الوسائل من أجل تدعيم نزوعات انتحارية داخل النظام. 

وبالمقابل, إن الذي يميز موقف قوى اليسار السورية كافة هو التشديد على أولوية التغيير السياسي بما يعنيه من تغيير قواعد اللعبة الاجتماعية وإشراك جميع الأفراد في قيم المسؤولية السياسية والمناقشة الفكرية والمساواة الأخلاقية والقانونية والاحترام المتبادل. وينضوي تحت لواء هذا التيار أفراد ينتمون في الغالب إلى الشعب المهمش والمخرج من عقود من اللعبة السياسية وكذلك مثقفون وأبناء طبقات وسطى خاصة مستبعدة من أي مشاركة وممنوعة حتى من التعرف على هويتها بل من قول رأيها في ما تفرضه النخبة المسيطرة من سياسات. ومن الطبيعي أن تشعر هذه القوى المتعددة وبالرغم من تعددها وتنوع فكرها ومصالحها بأن الديمقراطية أي تعديل عمل النظام وتغيير قواعد اللعبة السياسة لا يمكن إلا أن تكون في صالحها وأن تتيح لها فرصا أكبر للمشاركة في الحياة العمومية والتأثير في القرار العام واستعادة احترامها لذاتها وضمان حقوقها الاقتصادية المهددة. فهي تشعر عن حق أن احتكار البيروقراطية للحياة السياسة والفكرية معا يشكل تهديدا مباشرا لوجودها وإغلاقا لآفاق تقدمها ومستقبلها.

وبالعكس من ذلك, يدافع اليمين الاصلاحي الذي نما في حضن النظام, في مواجهة الخراب والفوضى وما يحملانه من مخاطر على النظام نفسه, عن نموذج للتغيير يقتصر على تحسين شروط الانتاج الاقتصادي والعمل الاداري مع الابقاء على نظام الحزب الواحد واحتكار السلطة أي مع الاحتفاظ بقواعد اللعبة السياسية كما هي. ويضم هذا التيار أفرادا ينتمون غالبا إلى الصف الثاني من النخبة المسيطرة والمالكة لوسائل الانتاج والتوزيع والسلطة والقانون, داخل الجيش والإدارة والقطاع العام والحزب والدولة عامة, أي في الواقع أبناء الطبقة الوسطى الجديدة التي أنشأها النظام أو نشأت على هامشه وبفضل سياساته الاحتكارية. فأعضاء هذه الطبقة الجديدة الصاعدة أو التي عاشت حتى الآن حقبة صعود جنوني لسرعته وقوته يشعرون أن آفاق التقدم المفتوحة أمامهم وأمام أبنائهم أصبحت محدودة جدا وأن مستقبلهم ربما أصبح أو من الممكن أن يصبح وراءهم. وهم يعتقدون بأنه من دون النجاح في كبح جماح الفريق الأول الذي يعامل البلاد والعباد كما لو كانوا ملكية خاصة مباحة ومستباحة سيكون من الصعب الاحتفاظ بالحد الأدنى من الاستقرار ومن باب أولى بالحفاظ على مستوى الحياة الذي حققوه لأنفسهم في العقود الماضية.  ومن هنا فهم يأملون أن يتيح لهم الاصلاح الاقتصادي التخلص من التكاليف الاقتصادية والسياسية والمعنوية الباهظة التي يشكلها تسلط الأسر الحاكمة على الدولة والاقتصاد. ويعتقد الكثير من أبناء هذه الطبقة الوسطى الجديدة أن الاصلاح الاقتصادي والإداري, إذا كان يتيح لهم التحرر من عسف طبقة أرستقراطية الموقع أو النازعة إلى أن تكون كذلك والذي أصبح يهدد النظام الاقتصادي كله بالافلاس والانهيار ويسمح لهم في الوقت نفسه بأن يحتفظوا بالمواقع التي يحتلونها أو يمكنهم من الدفاع عنها ويحميهم من السقوط الى مرتبة المهمشين , فإن الدفاع عن النظام البعثي وبالتالي عن قواعد اللعبة السياسية البيرقراطية من دون تغيير هو الذي يضمن لهم أن يحتفظوا لأنفسهم وحدهم بقطف ثمار ما يمكن أن يأتي به الاصلاح الاقتصادي وتجنب أن يذهب قسم كبير أو صغير منها إلى الطبقات والفئات الأخرى الشعبية. وتغيير قواعد اللعبة السياسية يعني فتح النظام السياسي والفكري والاعلامي أما تعديل قواعد اللعبة الاقتصادية والاصلاح الإداري الذين يطالب بهما اليمين الاصلاحي فهما يقتصران على فتح النظام الاقتصادي في سبيل الحصول على رساميل واستثمارات ومساهمات خارجية جديدة تحرك الاقتصاد والتجارة وتدعم السوق المحلية. فاليمين المحافظ الطفيلي شبه الارستقراطي واليمين البيروقراطي الاصلاحي كلاهما يعاديان الديمقراطية بقدر حرصهما على أن يحتفظا لأنفسهما بالسيطرة الشاملة على الموارد والمواقع العمومية أو على الموارد الجديدة المحتمل أن يولدها الاصلاح.

ومن هنا فإن مشكلة اليمين الاصلاحي, ومن ورائه برنامج الاصلاح السوري الاقتصادوي الطابع, هي أنه يعيش مفارقة شديدة ويرفض لضعفه وتشتته الاختيار. فهو يدرك من جهة أولى  أنه لا يستطيع أن يفرض برنامجه على الفئة الطفيلية التي تريد الاستمرار في التصرف بالموارد العامة كما لو كانت ملكية خاصة من دون أن ينجح في استقطاب دعم شعبي قوي وواضح يردع هذه الفئة العليا. ولكنه يخشى من جهة ثانية أن يؤدي دخول الفئات الأخرى المهمشة والمستبعدة من أي حقوق أو مشاركة في قرار الى ساحة العمل العمومي إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية ومن وراء ذلك إلى تغيير النظام. ولذلك فهو يدين نفسه بالشلل والهامشية داخل لعبة النظام ذاته وينزع إلى الجمع بين عجزين : العجز عن الاصلاح الاقتصادي الذي يستحيل تحقيقه من دون تغيير المناخات والأطر النفسية والسياسية والقانونية, وكبح جماح ارستقراطية الفتح والغزو الطفيلية, والعجز عن الانفتاح السياسي الذي يهدد بأن يغير من قواعد اللعبة السياسية في المجتمع ويهدد بإلغاء الكثير من الامتيازات المكرسة بالواقع والقانون. وهذا ما يفسر في النهاية نجاح اليمين المحافظ الرجعي والقرسطوي في استعادة زمام المبادرة بسرعة وفرض وصايته على برنامج الاصلاح.

وإذا ما ظهر أن الاصلاحيين السوريين غير قادرين على مواجهة القوى المحافظة التي تريد الابقاء على الأوضاع القائمة, كما هي, وترفض أي تغيير يمكن أن يشكل تهديدا ولو جزئيا او بعيد المدى لمصالحها أو بالأحرى لامتيازاتها الاستثنائية الكبيرة فمما لا شك فيه أن الاصلاح الاقتصادي نفسه هو الذي سيكون الضحية الرئيسية لهذه الدورة الجديدة من الصراع العنيد على السلطة والذي ربما سينتهي كما انتهى صراع  حقبة الخمسينات في تلاش ثان للدولة ومحاولة جديدة للالتحاق، وهذا انهيار ثان للنخبة الحاكمة وللطبقة السياسية.