أبعد من معركة القدس وفي ما وراءها

2002-10-09:: الاتحاد

 

مثل توقيع الرئيس الأميركي جورج بوش في الأول من أكتوبر 2002 على القانون الذي فرضه عليه الكونغرس الأميركي لتكريس القدس أميركياً عاصمة لإسرائيل، ضربة قاسية للقضية الفلسطينية والقضية العربية والقضية الاسلامية معا كما مثل صفعة قوية لجميع أولئك الذين لم يقطعوا الأمل بعد بإمكانية التوصل إلى حل سياسي للصراع الطويل والدامي في الشرق الاوسط· ولا تقلل من قسوة هذه الضربة وألم تلك الصفعة كلمات العزاء التي لجأ إليها الرئيس الأميركي ليغطي على عمله هذا بالتذكير بأن موقف واشنطن من مسألة القدس لم يتغير· فالقانون قد صدر ووقع من قبل الرئيس وأصبح وثيقة رسمية بيد أولئك الذين قدموه وحاولوا منذ سنوات طويلة فرض ما يمثله على جميع الإدارات الأميركية السابقة·
وإضافة إلى ما يمثله هذا القانون المشؤوم من استهتار صارخ بقرارات عديدة لمجلس الأمن، صدرت طوال عام ،1980 التي تنص جميعا على أن القدس جزء من المناطق الفلسطينية المحتلة يسري عليها ما يسري على بقية الأراضي، والتي رفضت قرار الضم والالحاق الاسرائيلي واعتبرته لاغيا ولا يمتلك أية قيمة قانونية، أقول بالاضافة إلى هذا الخرق الواضح للقانون الدولي، يشكل التوقيع على القانون الأميركي الجديد تنكرا للمواقف الأميركية المعلنة والرسمية التي تشير إلى أن مسألة القدس ينبغي أن تحسم من خلال المفاوضات وهو ما يفسر رفضها حتى الآن نقل سفارتها إلى المدينة بناء على ذلك· بل إنه ينزع المصداقية عن كل السياسة الأميركية الشرق أوسطية التي تصر في مواجهة الفلسطينيين والعرب على رفض أي استخدام للقوة وتطالبهم بالقبول، مهما كان الثمن، بالاحتكام إلى لغة المفاوضات السياسية· فأية قيمة للحديث عن مثل هذه المفاوضات إذا كان مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة يقرر في الكونغرس الأميركي ولا يعترف لا بمبدأ المفاوضات للتوصل إلى تسوية مقبولة من الأطراف ولا بالطرف الأساسي الذي يطالب باحترام حقوقه في أراض لا ينازع أحد، باستثناء المحتل، على نسبتها إليه، وفي مقدمة ذلك الشرعية الدولية·
ما كان لمثل هذا التعسف الأميركي بحقوق الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي أن يحصل ويستمر من دون التقاء ثلاثة عوامل أساسية· العامل الأول هو الاتجاه المتزايد لمطابقة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط مع السياسة الإسرائيلية لدرجة لم تعد هناك إمكانية للتفريق بين مطالب واشنطن ومطالب تل أبيب من العرب والفلسطينيين· وقد تفاقم هذا التطابق كما لم يحصل في أي وقت مضى مع وصول اليمين الأميركي واليمين الإسرائيلي القومي والشوفيني إلى السلطة وتعاظم الاعتقاد في وسطهما بفاعلية اللجوء المكثف إلى القوة لحل الخلافات الدولية وتحقيق ما يسمى بالمصالح القومية المقصود بها تأكيد التفرد بالهيمنة والتفوق ووضع اليد عندما يمكن ذلك على موارد الآخرين وحقوقهم الأساسية·
والعامل الثاني هو تزايد نفوذ اللوبي المؤيد لإسرائيل في الكونغرس ونجاحه في السيطرة على المؤسسة التشريعية الأميركية ليس بفضل ما ينفقه من أموال لشراء أصوات الشيوخ والنواب والحصول على تأييدهم فحسب ولكن أكثر من ذلك بفضل ما يبذله من جهود سياسية وإعلامية مديدة وما يقوم به من تعبئة مستمرة ودائمة لصالح إسرائيل وما ينجح في تعميمه من المواقف والتحليلات والمعلومات المضللة التي لا علاقة لها بالواقع الشرق أوسطي من قريب أو بعيد·
والعامل الثالث هو أيضا الكسل وضعف الشعور بالمسؤولية، الذي أدى إلى ما يشبه الشلل في نشاط الدبلوماسية العربية على الساحة الدولية والأميركية بشكل خاص· وهو ما جعل الساحة خالية تماما أمام اللوبي الإسرائيلي لتضليل الرأي العام الأميركي والعالمي وتمرير الدعاية الصهيونية عليه· ويبدو هذا التقصير الدبلوماسي العربي أكثر إيلاما عندما نعرف أن معركة القدس ليست جديدة ولا جاءت مفاجأة ولكنها مفتوحة منذ سنوات إن لم نقل منذ عقود ولا يكاد اللوبي الإسرائيلي في واشنطن يترك فرصة من دون أن يعود إليها ويحاول المستحيل لتأكيد سيطرة إسرائيل الكاملة عليها·
لقد بقيت الدبلوماسية العربية مكبلة خلال السنين الطويلة الماضية ولم تحاول لحظة واحدة تجاوز تشتتها وضياع رؤيتها وانقسامها من أجل التفاهم حول استراتيجية طويلة المدى للتأثير على الكونغرس والرأي العام الأميركيين· وكل ما قامت به هو رد فعل وقتي ولفظي على الهجومات الدبلوماسية القوية والمركزة لـاللوبي الإسرائيلي في الكونغرس وخارجه من الأروقة الأميركية والدولية· والحال أن ردود الفعل لا تدوم سوى أيام أو أقل قبل أن تعود الأمور إلى مجراها· إن ما حصل منذ بداية هجوم اللوبي الاسرائيلي في الكونغرس لفرض الاعتراف بتهويد القدس على الإدارة الأميركية يبرهن على أن الدبلوماسية العربية الكثيرة العدد والعدة معا تفتقر إلى العمل المنهجي والمنظم وطويل النفس ولا تعيش إلا في اللحظة الراهنة أو الآنية· وهي تبدو وكأنها تعتقد أن مجرد تأجيل الموضوع يعتبر حلا له أو كسبا كافيا، بانتظار أن تطرح المسألة من جديد بعد فترة قد تطول أو تقصر·
والواقع أن شلل الدبلوماسية العربية لا ينبع فقط من الكسل وانعدام الخبرة وفقدان القضية عند أغلب العناصر التي غالبا ما يقع الاختيار عليها في أحسن الأحوال لأسباب سياسية وفي الكثير من الأحيان لدوافع مختلفة عائلية أو مرتبطة بتحقيق منافع شخصية أو فئوية· إنه ناجم إلى حد كبير أيضا عن انعدام الرؤية وغياب أي جدول أعمال فعلي عند الدول العربية فيما يتعلق بالقدس وغيرها من المسائل الوطنية الكبرى على حد سواء·
لكن في ما وراء ذلك جميعا ينبغي القول إن تمرير قرار الاعتراف بضم القدس لإسرائيل في أروقة أكبر مؤسسة تشريعية مؤثرة في السياسات الدولية ما كان من الممكن أن يحصل لولا مناخ العداء السائد في الولايات المتحدة ومناطق أخرى عديدة في العالم للعرب والمسلمين بشكل عام منذ سنوات عديدة· وقد تضافرت في العقدين الماضيين عوامل مختلفة لتشويه صورة العرب تشويها كبيرا وإظهارهم بمظهر الشعوب أو الأمم الناشزة أو الشاذة المخالفة للطبيعة والمألوف في اعتقاداتها وعاداتها وأسلوب تفكيرها وممارستها الداخلية والخارجية· فهي في نظر الغرب شعوب متخلفة تستمرئ العنف وترفض التعامل المتساوي مع الآخرين ولا تعرف قيمة للحريات المدنية والسياسية ولا للديمقراطية· وهي تعيش تحت سيطرة أنظمة توصف أكثر فأكثر بأنها استبدادية فاقدة للشرعية والكفاءة والصدقية، تقوم على انعدام أية قيمة أخلاقية أو إنسانية عند سكانها ولا تستمر إلا بفضل العنف الذي تمارسه على هؤلاء السكان أنفسهم الذين يقبلون بها ويصفقون لانتصاراتها· فهي بالتالي مسؤولة مثل شعوبها المتأخرة عن تقهقر الأوضاع العــــربية والاسلامية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالتالي عن تفاقم التنـــاقضــات والتــوترات والحــــروب الداخـــلية التي ميزت حياتها في السنوات الماضية ووسمـتها بطابع العنف والدموية· وبانهيار الثقة بالنظم وتفاقم الاعتقاد لدى الرأي العام الدولي بعجز الشعوب عن الأخذ بقيم الحضارة العصرية وبتمسكهم المتزايد بعادات وتقاليد تنتمي إلى القرون الوسطى أصبح العرب مكشوفين استراتيجيا وسياسيا وأخلاقيا، أي أصبحت بلدانهم ومواردهم مستباحة عمليا لمن لديه القدرة على النهش منها أو انتزاع نصيبه من مناطق النفوذ والقوة فيها·
هكذا فقدت الشعوب العربية الحماية المعنوية بعد أن كانت قد فقدت الحماية المادية في استراتيجيات قطرية ضعيفة ومترددة غير قادرة في أي ظرف كان على التصدي للتحديات والمخاطر الكبيرة الناجمة عن تغير البيئة الدولية وتفاقم نزعة السيطرة والهيمنة العالمية· وكما أن سقوط البقرة يزيد من عدد السكاكين التي تستهدفها لانتزاع نصيب منها، كما يقول المثل العربي، فإن انكشاف العرب وزوال الحماية المعنوية والمـــادية عنهم شجع وسيشـــجع أكثر فأكثر أقل القــــوى الدولية وزنا وقدرة على تحديهم والصدام معهم لتحصيل ما يمكن أن تحصله من مكاسب سياسية أو معنوية أو مادية· لقد أصبحت العرب فريسة سائغة لجميع من يقتنص الفرص أو يهوى القنــص ولم تعد تبدو أن لها رباً يحميها كما كانت مكة ما قبل الإسلامية·
ساهم في تحقيق انكشاف الموقف العربي الأخلاقي والسياسي، وما نشأ عنه من تزايد نزعة العدوان عليهم، بعض المثقفين الذين جعلوا من معركتهم في سبيل الحداثة معركة لتشويه صورة الثقافة والتراث والقيم العربية لدى الرأي العام المحلي والدولي· وساهمت فيه أيضا بشكل أكبر التنظيمات والحركات والقوى التي استمرأت العنف واستسهلت استخدامه واللجوء إليه من دون حساب للأثمان والخسائر المعنوية، ورأت فيه، مع غياب الرؤية السياسية والفكرة الإنسانية الكامل عنها، الحل السحري أو السريع والبسيط لحسم معارك العرب الداخلية والخارجية الكبيرة· فكانت النتيجة كارثة أخلاقية بالمعنى الحرفي للكلمة جعلت من العرب الموضوع الرئيسي للعنصرية الكامنة والعلنية في عالم اليوم· وساهمت فيه أخيرا وبصورة أكبر نخب سياسية حاكمة اعتقدت أنها في مأمن من أي حساب أو مساءلة فأخضعت شعوبها لمعايير حكم وإدارة يجمعان في معظم الاحيان بين البدائية وغياب القانون وتسخير الشعب لمصالح شخصية واحتقار كل ما تقدسه الحضارة المعاصرة من قيم العدالة والحرية والمساواة الفعلية والاستقلالية الفردية واحترام الإنسان وحقوقه الأساسية· كلنا مسؤولون عن الصورة الكارثية التي رسمت لنا وأصبحت ذريعة لإضفاء الشرعية على نزع حقوقنا وضرب مصالحنا وتبرير أي عدوان يستهدفنا، لأننا مسؤولون عن الكارثة الحقيقية التي تمثلها أوضاع مجتمعاتنا الحقيقية بما تشهده في العديد من المناطق من انعدام الإدارة السليمة وسيطرة الأقوى أي قانون الغاب وتراجع شروط الحياة الانسانية السياسية والقانونية والأخلاقية السليمة والطبيعية وسيطرة منطق الانانية والقوة واللامسؤولية الجماعية· وليس لنا أي أمل بالوقوف الفعلي في وجه الهجومات التي ستتزايد علينا لتجريدنا من إرثنا وتراثنا ومواردنا، بل من ثقافتنا، ما لم نعد ألى أنفسنا ونهزم في داخلنا تلك الهمجية، أي التفكك والاستهتار بالقانون وبحياة الانسان وحقوقه وكرامته والهرب من المثابرة على العمل وبذل الجهد الناجع، التي أصبحت قانوننا الحقيقي واللغة الوحيدة التي نعرفها في عصر الثورة المدنية·