نـظام الـحزب الـواحد فـقد مـبـرر وجوده

2001-02-27:: BG.BLOG

 

لو اردنا ان نترجم السؤال الى لغة أكثر دقة لكان علينا ان نسأل: هل نجحت اعتقالات ايلول 2001 وما تبعها ولا يزال من ملاحقات أمنية متصاعدة للناشطين من مثقفين وسياسيين مستقلين، في وقف حركة المطالب الاجتماعية وفي القضاء على الأمل، الذي ولّدته ازمة انتقال السلطة، في اقتراب أجل النظام الشمولي وعودة الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية الطبيعية الى سوريا؟
وفي صيغته هذه سوف نكتشف كم يكون الجواب عن السؤال خطيراً ومأسوياً. فانتهاء "ربيع دمشق"، أي امكان الانتقال بوسائل سلمية نحو وضع طبيعي يلغي حال الوصاية والتجريد العملي والقانوني للشعب من حقوقه المدنية والسياسية، يعني، في الضرورة، في هذه الحال، الاقرار بفشل الحلول السياسية وتالياً اعادة البلاد الى المناخات نفسها التي ولّدت احداث حماة المأسوية.


ولعل جناحاً قوياً في النظام لا يحلم بشيء أكثر من تكرار ما حدث في الثمانينات في سبيل تصفية الساحة السياسية الوليدة في سوريا من التراكمات الايجابية التي عرفتها في السنوات القليلة الماضية والتي تنزع جميعاً الى تجريد السلطة السياسية من أي وسيلة لاضفاء المشروعية على استراتيجيا الحرب الاهلية التي تتبعها منذ عقود في سبيل الغاء أي حياة سياسية ومدنية معاً واجبار الشعب برمته على الاذعان والاستسلام الكامل والشامل لقرارات السلطة البيروقراطية وارادة الحزب او من يمثله ويتكلم باسمه.


لكن، لحسن الحظ، اذا عدنا الى السؤال وتأملنا بالفعل طبيعة التراكمات التي حصلت في الاعوام الماضية منذ ،1994 لتعمق لدينا الاعتقاد بأن التحول اصبح حركة حتمية، وهي حركة مستمرة، وسوف تبقى مستمرة، ولو تحت الارض، بالرغم من الاعتقالات وبالرغم من تراجع الحركة العلنية للمطالب الديموقراطية وانتشار الخوف وتعميم الاحباط بل واليأس لدى قطاعات الرأي العام العديدة. ومن هذه التراكمات، وفي مقدّمها الاجماع العام، بما في ذلك عند التيارات الاسلامية التي مالت في فترة ماضية الى اللجوء الى الوسائل العنيفة، على الالتزام الثابت بأساليب العمل السياسي، من حوار وندوات ومحاضرات واعتصامات واحتجاجات وعرائض وبيانات وتظاهرات سلمية ونبذ اي وسيلة تجنح الى العنف او تدعو اليه او تراهن عليه. ومنها ايضاً الانتصار الساحق والنهائي الذي حققته الفكرة الديموقراطية في اوساط النخبة السورية والعربية، كما تعبّر عن ذلك وسائل الاعلام العابرة للدول، من قبضة الاعلام المحلي الخاضع للنظام والتحطيم العملي لوسائل الرقابة الحكومية على الفكر والضمير حتى لو استمرت وزارة الاعلام في توظيف عشرات الرقابيين الاضافيين للتحقق من ضمائر الكتّاب والباحثين. ومنها اخيراً وليس آخراً، الهزيمة السياسية والعسكرية والمعنوية التي مثلتها استقالة السلطات العربية جميعاً في مواجهة الحرب التي لا تزال تشنها الولايات المتحدة واسرائيل على الشعب والمقاومة الفلسطينيين من دون ان يكون في امكان هذه السلطات وقواتها المسلحة القوية والمتحكمة غالباً بمجتمعاتها تقديم أي مساهمة تذكر لنصرة الشعب المكافح والتخفيف من عذاباته. ومن الواضح ان هذه التراكمات تنزع جميعاً الى ترك النظام عارياً أمام جميع الانتقادات المحقة وغير المحقة، وذلك سواء حصل الاصلاح الاقتصادي والاداري المنشود أو لم يحصل، بل بشكل أكبر لو حصل هذا الاصلاح.


والخلاصة ان مضمون ما نعيشه اليوم في سوريا في هذه الفترة ليس انتهاء "ربيع دمشق" ولكن قبل أي شيء آخر انهيار الثقة بالنظام وزوال الاعتقاد بقدرته على تقديم اي مكاسب او انجازات للمجتمع والدولة، اي فقدان الايمان بالنظام من حيث هو صيغة صالحة للحكم، بما في ذلك، وربما اكثر من أي فئات أخرى، لدى قادة النظام واكثرهم وعياً وصلاحاً.
للتغطية على الخوف من المستقبل وانعدام الايمان وعلى سبيل درء الأخطار الصاعدة وقطع الطريق على موجة الاحتجاج الثانية التي يعد لها لا محالة تراكم المكتسبات الفكرية والسياسية وتصاعد الاعتراض العملي على الأخطاء والنقائص والفساد، تسعى اوساط القرار، وهي اوساط يصعب بالضبط تحديدها بدقة لأنها متغيرة ومتبدلة تعكس البنية القلقة التي تميز الدوائر الحاكمة، الى تطوير استراتيجيتين متوازيتين ومتكاملتين. الاولى تهدف الى وقف حركة الاحتجاج وتفتيت النخب القيادية الوليدة وتشتيت شملها لمنعها من ممارسة اي دور قيادي مواز وذلك من طريق مباغتة الحركة الصاعدة للمجتمع بضربات قوية موجعة وتصعيد الضغوط الامنية وتعميمها على الافراد وتعزيز سيطرة الحزب والاجهزة الامنية على الدولة والادارة والقطاع الخاص بملء جميع المناصب الادارية والسياسية والثقافية والاقتصادية الشاغرة بالعناصر الحزبية والموالية. وهذا هو الذي يفسر التعبئة الامنية الشاملة التي تشهدها البلاد في هذه الفترة والتشدد الذي تعرفه في مواجهة العناصر التي لا تزال ناشطة في الحياة العمومية.


أما الاستراتيجيا الثانية الموازية فتهدف الى تحصين الموقف الداخلي خارجياً وذلك بالالتصاق بشكل اكبر من أي وقت مضى بالاستراتيجيا الاميركية العالمية و الاقليمية، وهي اليوم استراتيجيا مواجهة الارهاب او الحرب على الارهاب، والاستفادة من واجهة هذه الحرب او شعاراتها لتبرير الاستراتيجيا الداخلية وامرارها، وهي الرامية الى تصفية فرص التحول الديموقراطي والحصول على التغطية الدولية لهذه التصفية.


لكن، بعكس ما تنتظره تلك الاوساط المعادية لأي تحويل ديموقراطي سلمي للنظام، ستكون نتائج هاتين الاستراتيجيتين معكوسة تماماً، فالاحتلال المتزايد للعناصر الحزبية والموالية للمناصب السياسية والاجتماعية والادارية والثقافية والاعلامية في الدولة، وما يرافقه من ضغوط امنية متصاعدة على العناصر النشطة في المجتمع سوف يفاقم بقوة وسرعة من القطيعة التي هي اساساً عميقة بين النظام والمجتمع ويزيد شعور جميع الافراد بالغربة والهامشية والغبن والظلم في الدولة التي تقول انها تسعى الى اصلاح احوالهم. في حين ان الالتصاق المتزايد بالاستراتيجيا الاميركية سوف يلغي مظاهر التميز الوطني الذي سعى النظام الى البناء عليه لتأكيد نوع من الشرعية والقبول السياسيين. وهذا ما يدفعني الى القول، انه بالرغم من مظاهر القوة التي يمكن ان تظهر على سلوك النظام واختباراته في هذه الفترة، وخصوصاً في مواجهة المثقفين الذين حوّلوا عملياً الى اعداء وخصوم عنيدين، الا ان جوهر استراتيجياته يعكس الشعور المتزايد بالضعف والحصار. ان الحشد الأمني الجديد والمتجدد والالتقاء على سياسات المشاركة في الحرب العالمية ضد الارهاب التي يشكل العرب، وفي مقدّمهم الشعب الفلسطيني، ضحيتها الرئيسية، لا يمثل أي مخرج للنظام يمكنه من الانتصار على "ربيع دمشق"، اي على حركة التحويل الديموقراطي السلمي للمجتمع، بقدر ما يعكس سياسة الهرب الى الأمام. وهي سياسة لا يمكن ان تقود الى تحسين فرص اصلاح النظام ولا جعله اكثر قدرة على المناورة في الداخل والخارج بقدر ما تفاقم ازمته وتعمل على تضييق هامش مناورته في مواجهة الاخطار الداخلية والخارجية معاً.


من هنا، فإن "ربيع دمشق"، الذي شكل بالنسبة الى المجتمع المقيّد والمدحور أملاً وليداً في الخروج من المحنة ومعانقة الشعور بالمواطنية وامكان العودة بسوريا الى حياة مدنية وسياسية طبيعية، اي انسانية، يميل الى ان يمثل، هو نفسه، الدودة التي تنخر وسوف تستمر تنخر النظام وتفاقم الشروخ التي وسمته دائماً: بين المجتمع والدولة، بين القول والعمل، بين الوعد والواقع، وذلك حتى لو لم يبق أحد على قيد الحياة ممن شاركوا فيه. فمنذ "ربيع دمشق" والاطروحات التي نشرها والتواصل الفكري والاجتماعي الذي بعثه في صفوف نخب مهمشة ومنبوذة ومنذ عقود، اصبح نظام الحزب الواحد والفكر الواحد والرأي الواحد يبدو من دون هدف ولا رؤية ولا مبرر وجود.