نظام القمع العربي وصل إلى نهاية التفسّخ والانهيار والسقوط

2006-08-02:: المستقبل

 موسى برهومة

 

توقع مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون المفكر برهان غليون تغييرات حقيقية في العالم العربي في الزمن المنظور، وقال، في حوار مع (المستقبل) أجري معه في عمّان، إن الأزمة التي تعانيها النظم العربية المحلية، وكذلك الأزمة التي يعانيها نظام الهيمنة الاستعمارية الجديد في الشرق الأوسط، تفتح آفاقا جديدة، وتبشر بمرحلة صعود حركة الرأي العام، وحركة المقاومة الاجتماعية.
وأكد صاحب كتاب (بيان من أجل الديمقراطية) أن أفكار التغيير التي دافعنا عنها حتى الآن سوف تجد، أكثر فأكثر، صدى لدى الجمهور العربي، وتساهم في رأي عام حر بالرغم من القيود المفروضة، وأشكال القمع المختلفة التي تمارسها النظم العربية القائمة. وقال إن هذه النظم لا تَصلُح ولا تُصلِح، ولذلك ينبغي تغييرها.

* تبدو من أكثر المتحمسين لقضايا الحرية والديمقراطية والتنوير في العالم العربي. وتوصف بأنك مفكر جذري. هل ترى أن مجهوداتك آتت أكلها، أم يبدو أن المستقبل مغلّف بالغموض واليأس؟

* لم أفكر، في أي لحظة، بأن جهودي الفكرية سوف تغيّر العالم بلمح البصر. وأعتقد أننا لا نستطيع أن نؤثر على الواقع إلا بالعمل. ورغم ما نقوم به من جهود فإن هناك مقاومات أكبر منا بكثير تؤثر على واقع البلاد العربية، ولا نستطيع بالضرورة أن نتجاهلها.
وينبغي أن نعترف بأن هذه القوى والنظم الشمولية، أو شبه الشمولية، أو البيروقراطية أو الأبوية السائدة في العالم العربي قد نجحت إلى حد كبير­ بالتفاهم مع الدول الكبرى ذات المصالح الخاصة في المنطقة­ في إفراغ المجتمعات العربية من أي رأي عام وحر، وبالتالي في عزل المثقفين العرب وتحييدهم.
لكن يبدو لي أن هناك تغييرات حقيقية في الزمن المنظور، وأن الأزمة التي تعانيها هذه النظم العربية المحلية، وكذلك الأزمة التي يعانيها نظام الهيمنة الاستعمارية الجديد في الشرق الأوسط، تفتح آفاقا جديدة، وتبشر بمرحلة صعود حركة الرأي العام، وحركة المقاومة الاجتماعية، والتغيير في العالم العربي.
وأعتقد أن أفكار التغيير التي دافعنا عنها حتى الآن سوف تجد، أكثر فأكثر، صدى لدى الجمهور العربي، وتساهم في رأي عام حر بالرغم من القيود المفروضة، وأشكال القمع المختلفة التي تمارسها النظم القائمة.

* ولكن هذه النظم القائمة حيّدت المثقف وأقصت دوره..

*  المثقف، بالتعريف، هو الذي يجسد الفكر النقدي، بحيث لا يصبح تقنياً أو أداة بيد السلطة. وحينها يصبح خادماً، ويفقد صدقيته لدى الجمهور ولدى السلطة نفسها. أما إذا كان ينطلق من فكر حر فلا تستطيع أي سلطة أن تحيّده، أو تهمّش دوره.

* كلامك هذا يعني أنك متفائل؟

*  لست متفائلا، ولم أقل إنني متفائل، كما أنني لست متشائماً، ولا متشائلاً، لأنني أعتقد أننا في البلاد العربية لا نزال على طريق الانحدار، لأن قوى التغيير لم تتبلور بما فيه الكفاية بعد، ولم تتحول إلى قوى قادرة على التغيير والتأثير. ولكن ذلك لا يعني أنني متشائم، لأنني أعتقد وأرى تهاوي نظام القمع العربي الذي قام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية­ وبعد تراجع الحركة الوطنية والقومية العربية­ على التحالف بين أقليات سياسية والقوى الخارجية.
نظام القمع العربي قد وصل إلى نهاية السقوط، وهو في طريق التفسخ والانهيار، لذلك أقول إنني لست متفائلا، لأنني أعتقد أن أمام المجتمعات العربية أشواطاً طويلة من العذاب بسبب فقدان الآفاق وانحسار قوى التغيير الحقيقية.
ورغم كل شيء أرى مرحلة جديدة قادمة، وبمقدار قدرتنا على التغيير فيها، يتوقف مستقبل المجتمعات العربية، أعني مستقبل التنمية والديمقراطية والعدالة والمساواة.
أعتقد أن الأمر يتوقف علينا، أي على القوى الحية والفاعلة والطامحة إلى التغيير، وهي مدعوة إلى بذل أقصى الجهد كيلا تضيع هذه الفرصة، وعليها ألا تسمح بأن يحلّ تفاهم جديد مع القوى الكبرى لملء المرحلة المقبلة واحتلالها على حساب نشوء نظم اجتماعية ديمقراطية ممثلة لمصالح غالبية الشعب. بهذا المعنى أعتقد أن هناك فرصاً جديدة علينا الاستفادة منها، كما أن علينا المساهمة في قوى التغيير، ودفعها إلى العمل والتعاون لنصبح قوة مبادرة حقيقية.

* ألا تتقاطع عملية التغيير المرتجاة مع دعوات في الأوساط العربية لتوفير بيئة للإصلاح في العالم العربي؟

*  إن دعاة الإصلاح في الغرب داخل النظم العربية ليس لديهم صدقية، لأنهم ـ أولاً ـ كانوا وراء الخراب في العالم العربي، ولا يزالون يتحكمون بمصير المجتمعات العربية. وثانياً، لأنهم لم يقدموا أي عربون أو أي مبادرة تبرهن على أن هناك إرادة إصلاحية جديدة في الأعوام القليلة الماضية التي بدأوا يتحدثون فيها عن الإصلاح.
إن دعوة الإصلاح التي تطلقها الدول الكبرى، وكذلك العديد من النخب العربية الحاكمة لا تهدف إلا إلى التغطية على تفسخ النظم القائمة سواء أكانت نظماً داخلية أو تحالفات خارجية. كما ترمي أيضا إلى قطع الطريق على التغيير، أي ليس لها أي هدف آخر سوى تخدير الرأي العام ومنعه من إدراك حالة الفساد والخراب المؤلمة التي وصلت إليها المجتمعات العربية. وفي غمرة ذلك أرى بأن لا رغبة لديّ ولا مصلحة في أن أساهم في عملية التخدير هذه.

إنني من الذين يقولون إن هذه النظم لا تَصلُح ولا تُصلِح، ولذلك ينبغي تغييرها. وليس هناك حاجة إلى ذكاء خارق حتى ندرك ما يحصل عملياً من محاولات للتفاهم الجديد بين النخب العربية الحاكمة والدول الكبرى.

* في أتون هذه البرهة بين التغيير وعواصفه المتلاطمة تستشري ثقافة قائمة على إقصاء الآخر، حتى لو اقتضى الأمر إبادته والإجهاز على وجوده الفيزيائي. من أين تستقى ذرائع هذه (الثقافة)؟

*  يستدعي الحديث عن (ثقافة) العنف في العالم العربي التنويه والإشادة بحركة مقابلة وأساسية تأتي كرد جوهري على فكرة اغتيال الآخر والمختلف، وتتمثل في صعود حركة الرأي العام الحر في العالم العربي الذي بمقدوره أن يطيح حكومات ويغيّر سياسات. وأساس هذه الحركة هو المقاومة الاجتماعية التي سوف تتنامى في أوساط الجمهور العربي ونخبه برغم كل القيود المفروضة وأشكال القمع المختلفة التي تمارسها النظم العربية القائمة التي بدأت تتعرض للإهانة والإذلال من قبل النظام الدولي، وبدأت تفقد صدقيتها، وبدأ الرأي العام يدرك كم هي في النهاية أنظمة هشّة ولا مسؤولة ومستسلمة.
الرأي العام العربي الآن في حالة قلق وترقب وحيرة، ولم يعد في حالة خنوع كما كان في السابق، ودورنا نحن أن نساعد هذا الرأي العام في الخروج من الحيرة والترقب في اتجاه تنظيم نفسه واجتراح برامجه على أسس ديمقراطية حديثة، وليس دفعه للارتماء من جديد في أحضان الوصايات الأجنبية.
إن الفظائع التي ترتكبها بعض الأنظمة العربية تعبر عن اتجاه هذه الأنظمة نحو الفاشية الجديدة التي جوهرها الأمن. وكلما ازداد الهاجس الأمني لدى هذه الأنظمة، وتعاظم طغيانها، فإن ذلك يعكس الأخطار المحدقة بها، وكذلك ضعفها، وبالتالي لا ينبغي لهذه الأنظمة أن تخيفنا فهي ليست أكثر من (نمر من ورق) على حد تعبير "ماوتسي تونغ"، حتى لو كانت قادرة على البطش والاغتيال والتنكيل.
ولا يمكن للمجتمعات العربية أن تستمر في البقاء تحت سيطرة دولة لا غاية لها سوى الإبقاء على مصالح القائمين عليها، وتخليد سيطرتهم شبه الإقطاعية، وأرى أن هذه المجتمعات الآن في مرحلة ما قبل انفجارية.

* وهل تمكنت هذه المرحلة الماقبل انفجارية في إنتاج أدواتها، أم أن المصلحين العرب ينتظرون أن تتساقط عليهم ثمرات التغيير من الخارج؟

*  أنا أقول إن التغيير يلبي، على الأرجح، مصالح القوى المغيّرة. هذه قاعدة بصرف النظر عن أي شيء آخر. فإذا جاء التغيير من قبل أميركا فسوف تستخدم مصالحها بالدرجة الأولى في هذا التغيير، وكذلك الأمر إذا جاء التغيير نتيجة ضغوط أوروبية.
لذلك نحن نريد تغييراً نابعاً من ضغوط القوى الاجتماعية العربية المحلية، حتى يكون لمصلحة المجتمعات العربية بالدرجة الأولى. أي أن يكون تغييراً اجتماعياً ديمقراطياً، وليس إعادة بناء لنظم الاستعمار الجديد مع بعض التحسينات.
الآن إذا فشلنا، نحن العرب، في بناء القوى المحلية القادرة على التغيير، فليس هناك شك في أن يأتي التغيير من الخارج ويخدم مصالح القوى الخارجية. ولن يكون علينا في تلك اللحظة ولا في يدنا أي اختيار. لكن من الخطأ الشديد أن نختار بأنفسنا طريق تجديد العقد الاستعماري وتحسينه.
إن اختيارنا هو بناء العقد الاجتماعي الوطني الديمقراطي، وتعبئة الرأي العام حول مشروع التغيير هذا، وعندما نفشل فتلك قصة أخرى.
نحن لا نختار الفشل قبل أن نقوم بالجهد. وأعتقد أن الذين يبشرون بالإصلاح الخارجي هم الذين يريدون أن يوفروا على أنفسهم بناء قوى التغيير الداخلية، ولكنهم يقطعون على أنفسهم طريق هذا البناء ويساهمون، من دون أن يشعروا، وربما بوعي في إنجاح مشاريع التغيير الخارجية، أي في اختيار نظام تجديد العقد الاستعماري بدل بناء المجتمع الديمقراطي العربي الحر والسيد.

* ألا تعتقد أن هذه النظم سدت كل منافذ الأمل. إن نظرة سابرة لأحوال جامعاتنا تظهر كيف يجري قتل الإبداع وتدجين العقل؟

* ـ أعتقد أن النظم التي قامت على تحييد الجامعات وقتل روح المشاركة والمسؤولية لديها، وعلى تدجين الإنسان وإذلاله وأسر عقله، وعزله عن العالم، قد وصلت إلى طريق مسدود، وهذا مصدر الرهان.

* وكيف وصلت إلى طريق مسدود؟

*  هناك عدة أسباب لوصولها إلى هذه الطريق، أولها الظرف العالمي، فنحن نعيش في بيئة مفتوحة نفسياً وإعلامياً واقتصادياً وسياسياً. وهذا عصر جديد لم نختره، ولم تختره النظم بصيغتها القائمة. وثانياً، لأن الفرد العربي بدأ يعيش حالة نفسية جديدة نتيجة هذا الانفتاح، فلم يعد يحتمل ما كان يحتمله في السابق. كما أصبحت لديه مطالب جديدة، ولم تعد الحرية والديمقراطية والكرامة واحترام الفردية بضاعة أقلية اجتماعية.
لقد أصبحت المشاركة في الحياة العمومية همّاً عاماً يحتاج إلى تعزيز وترسيخ. وثالثاً، لأن النظم الشمولية والأبوية والبيرقراطية القائمة قد بدأت تتداعى.

* إذن من المسؤول عن هذه المتوالية التي لا تنتهي من الإخفاق والتفتت؟

*  نحن ساهمنا مساهمة أساسية في الانهيار. نحن المسؤولون الرئيسيون عما يجري ونواجهه في العالم. ونحن ضحايا سياسات حكوماتنا، وأيضا خنوع مجتمعاتنا. وقاعدة العلاقات الدولية تقوم على أن من لا يدافع عن نفسه وعن موارده يعرّض نفسه لكل أنواع الاغتصاب والظلم. ونحن بالفعل مظلومون كعرب، وحقوقنا مغتصبة، لأننا لم ننجح في بناء النظم، وبلورة الاستراتيجيات، وتطبيق السياسات التي تساعدنا في أن نبني قوانا وندافع عن أنفسنا في عالم تحكمه القوة وليس الأخلاق ولا القانون.
فمنذ اللحظة التي رفضنا فيها أو عجزنا عن بناء هذه القوة، وضعنا أنفسنا في حالة يصعب فيها الدفاع عن مصالحنا. ولا شك في أن جهل نخبنا الحاكمة، وغياب حس المسؤولية الوطنية عنها، وشرهها وتمسكها الذليل بالمصالح الشخصية قد ساهم مساهمة كبرى في إيصالنا إلى ما نحن عليه من تمزق وفراغ وتخبط وانعدام أي استراتيجية أو أي خيارات مستقبلية سواء أكان ذلك تجاه إسرائيل أو الضغوط الاستعمارية، أو في ما يتعلق بتأمين حاجات التنمية والاستقرار الداخلي في بلداننا.
ولن نستطيع الخروج من هذه الحالات لا باستجداء الدول الكبرى لمساعدتنا، ولا بمطالبة تطبيق قرارات الشرعية الدولية، ولا بدعوة الأجداد لنجدتنا، ولا بتأكيد أننا ضحايا الظلم والاستبداد، وإنما بتحمل مسؤولياتنا وانتزاع حقوقنا، وتوحيد قوانا داخل المجتمعات العربية، وعلى مستوى العالم العربي. ومن دون ذلك سوف نبقى ضحايا، وعرضة لكل أشكال الضغط والمهانة واغتصاب الحقوق.
نحن في ميزان القوى الاستراتيجية مجتمعات فارغة من القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ونبدو من الخارج مجتمعات ليس لها إرادة ذاتية، ونبدو كما لو أننا لسنا شعوباً حية قادرة على ممارسة حقوقها الاجتماعية والسياسية، إذ لا توجد نخب قادرة على التفاهم وبلورة سياسات عقلانية.

* إننا نبدو كما لو كنا الفريسة المثالية. ونحن بالفعل فريسة مثالية لكل صاحب سطوة وطامح للسيطرة.
وما دور رجال الدين والفقهاء في هذا الاضطراب الكبير؟

*  رجال الدين جزء من هذه النخبة، وجزء كبير من هؤلاء بقي بعيدا جدا عن فهم حاجات المجتمع وتطورها وحاجات الكفاح ضد نظم الهيمنة الاستبدادية والأجنبية.
وبسبب المنحى الذي اتخذته أساليب بعض القوى المحلية المسمّاة (إسلامية) أصبحت مظاهر المقاومة نفسها التي تفرزها مجتمعاتنا تسمى (إرهابية)، وتدان من قبل جميع القوى الدولية بما فيها الصديقة للعرب. أي تحولت المقاومة للظلم إلى سبب لتبرير سيطرة أكبر على الدول العربية.

* في مقابل ذلك، ما إسهام الليبراليين العرب في التوفيق بين قيم التطرف والاعتدال؟

* ـ تحقق الليبرالية في العالم العربي بعيد جدا، والحديث عنها يعتمد على شعارات هدفها الكسب الإعلامي والسياسي. ولست في سبيل تبني منظومة سياسية ليبرالية ولا حتى منظومة اقتصادية ليبرالية. سياستنا الاقتصادية لا تزال تخضع لمتطلبات أجندة الحكم، ولا تجذب أي ديناميكية حقيقية.
أما على المستوى السياسي فليس لدينا، بعدُ، صورة واضحة، أو أي اتفاق حول مضمون النظم السياسية التي نريد لها أن تحل محل النظم الاستبداية. يعني لا نزال، باعتقادي، في مرحلة نظم التبعية الاقتصادية والسياسية. كما لا نزال في إطار اقتصادات ريعية إلى حد كبير. وما انفكت قيمنا السياسية متضاربة ومترددة بين القيم الوطنية والقيم الفردية الأنانية.

* لكن ألا ترى أن استمرار هذا التردد والتضارب يغذي نزعات العنف والتطرف لدى أفراد وجماعات عربية تهيء الأمر للعالم وكأن العنف ثقافة عربية متأصلة في الجينات؟

* ـ ثقافة العنف ليست متأصلة في الجينات العربية، والدليل أنها لم تكن موجودة منذ عشرين عاما. هذه الحالات ثمرة الأزمة العميقة التي تعيشها الحياة العربية ونظام الهيمنة الاستعمارية. كما أن هذه الظاهرة هي التعبير المادي والمباشر عن تفسخ النظم القائمة وعجز المجتمعات المدنية العربية عن إفراز قوى جماهيرية واسعة قادرة على التعبير الديمقراطي السلمي في مجتمعاتها.
وأنظر إلى ظاهرة التطرف والعنف، كما لوكانت طفحاً يعبّر عن ارتفاع درجة حرارة المريض وخطورتها. وليست، في أي حال، تعبيراً، كما يعتقد المحللون، عن ثقافة أو هوية عربية لا أساسية ولا ثانوية. إن إرادة القتل والإرهاب التي تعبّر عنها بعض الجماعات الأقلية في العالم تعبّر عن الأزمة العميقة للوضع العربي، وعن قوة الانسداد الذي حصل في هذه الأوضاع سواء على مستوى التعبير الداخلي أو الصراع الإسرائيلي، أو العلاقة العربية العالمية. هذا الانسداد المذهل والطويل في الوضع العربي، مع تراكم الاحباطات وانعدام فرص الحلول العقلانية والسلمية، هو الذي يفسر ما ينبغي أن ننظر إليه كجنون عربي يمارسه أفراد. والجنون، اصطلاحاً، خروج عن العادات والقيم والقواعد المتعارف عليها.
هؤلاء المتطرفون يغرقوننا أكثر . نحن غرقى أو على وشك الغرق، وهم يدفعوننا نحو الغرق بشكل أكبر، لأنهم يساهمون، من غير أن يدركوا، في نزع الصدقية عن قضايانا المشروعة والعادلة المتمثلة في قضايا التحرر والتنمية وحل النزاعات الإقليمية، وسواها.
في ظل غياب أي ملمح معاصر يؤشر إلى بوادر أمل في المستقبل، ينكفئ الناس إلى الماضي، ويغدون أسرى له..
لا أعتقد أن الناس في أي مجتمع يبقون أسرى أي تاريخ، وبخاصة في الفترة التي نعيش فيها التي تمتاز بالفظائع المتعددة.
نحن في عالم يتبدل بسرعة البرق، ويبدلنا معه. نحن لسنا أسرى الماضي، بل أسرى جهلنا بالحاضر، وأسرى نظمنا السياسية والتعليمية، وأسرى صراعاتنا التي لا تنتهي.
نحن، بمعنى آخر، أسرى ثقافة لم تعد تقليدية، ولكنها لم تنجح في أن تكون ثقافة عصرية. وأسرى سياسة لم تعد سلطانية، ولكنها تقود شعوباً بطريقة وحشية وأكثر امتهاناً لكرامة الناس من السياسات التقليدية.
وفوق ذلك، نحن أسرى اقتصادات لم تنجح في بناء أي قاعدة علمية تساعد المجتمعات على الاندراج في عصرها والمشاركة في بناء حضارتنا العالمية.