نحو برنامج جدید للدیمقراطیة ؟

2017-09-25:: جريدة الغد

 

هذا تعليق على كتاب "الاختيار الديمقراطي في سورية" الذي صدر عام ٢٠٠٣ أنقله هنا لتعزيز الدعوة إلى العودة إلى قراءة هذا الكتاب الذي يفسر جزءا من المآل الذي انتهى إليه الصراع السياسي السوري المرير والطويل من أجل الحرية والديمقراطية. وقد نشر في جريدة الغد الاردنية من دون توقيع.

 من "بیان من أجل الدیمقراطیـة" - ١٩٧٦- إلى كتابـه الجدید "الاختیار الدیمقراطي في سوریة"- ٢٠٠٣ - الذي یأخذ صیغة برنامج عمل من أجل الدیمقراطیة، ظل برهان غليون مسكونا بهاجس البحث عن أفضل السبل إلى الديمقراطية، وذلك انطلاقاً من أن الديمقراطية تمثل تحدياً قبل أن تكون حلاً سحرياً عجائبياً، كما نعثر عليها في خطابات المثقفين العرب، والتي تضفي على الديمقراطية هالة من السحر، وتجعل منها مفتاحاً يفتح جميع الأقفال والأبواب.

وعلى طول ھذا المسار، الذي یمتد إلى ربع قرن، ظل برھان غلیون عند قناعاته ومطارحاته الفكریة. فالدولة العربیة ھي دولة ضد الأمة (انظر كتابه "الدولة ضد الأمة، مركز دراسات الوحدة العربیة"، ١٩٩٣ ، والحداثة العربیة ھي حداثة النخبة، فقد دخلت الحداثة كحلیف لمجتمع النخبة "مجتمع النخبة" ١٩٨٥. ولم تكتف بذلك، بل قادت إلى "اغتیال العقل" من خلال سجالاتھا العقیمة، التي جعلت من المثقفین العرب حراساً لأوھام، وشرطة لعقائد وأیدیولوجیات، سعوا إلى فرضھا على المجتمع العربي عنوة، وبذلك ساھموا بحق في خلق دولتھم "الدینیة" الأیدیولوجیة، على الرغم من شعاراتھم الجوفاء عن العلمانیة والدولة الوطنیة، التي اختزلت إلى دولة الحزب والجماعة، أو دولة القبیلة الحزبیة الجدیدة، التي فاقت في مداھا كل أشكال القبلیات الموروثة والسابقة.

وعلى الرغم من ضبابیة مفھوم الدیمقراطیة لدى الجماعات (جماعات المعارضة السیاسیة في سوریة وفي مقدمتھا جماعة المجتمع المدني)، وكذلك ضبابیة مفھوم المجتمع المدني، إلا أن غلیون یرى أن سحر القول بالدیمقراطیة، الذي جعلھا شعاراً من جانب قوى المعارضة، یجعل منھا ضرورة تاریخیة، وھذا ما یبرر فاعلیة القوى السیاسیة السوریة التي تٌجمع على شعار الدیمقراطیة، ویسقط بنفس الوقت، كل المبررات التي تھدف إلى تأجیل الإصلاح السیاسي والدیمقراطي تحت حجج واھیة؛ كالقول بعدم نضج المجتمع، وأن تجربة الدیمقراطیة لا تناسب مجتمعاتنا، وأنھا بذرة غربیة لا تناسب تربتنا، وأن الأولویة للإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السیاسي... إلخ من الحجج التي تتكاثر في بلدان العالم الرابع، بحسب توصیف سمیر أمین، كفطر ذري سام. في جوابه عن التساؤل: ما ھي الدیمقراطیة التي نریدھا لسوریة؟ والذي تفرضه كثرة التبریرات التي یسوقھا البعض من حراس الأوھام وشرطة العقائد، والتي تعرضنا لھا آنفاً، یقوم غلیون، في إطار سعیه إلى تبریر فاعلیة المعارضة السوریة ومشروعیتھا، إلى التمییز بین ثلاثة مستویات للدیمقراطیة كثیراً ما یجري الخلط بینھا.

الأول، ھو المستوى النظري، أي مستوى المفھوم في صورتھ المجردة، وكما تبلور حتى الیوم في الأدبیات السیاسیة العالمیة، للتعبیر عن مجموعة متباینة من النظم السياسية التي تجمعھا خصائص واحدة أو مشتركة.

والمستوى الثاني، ھو المستوى التاریخي الواقعي، وھذا یتجاوز سابقھ بالنظر إلى الدیمقراطیة كتجربة حیة، لا مجرد مفھوم نظري، وبالتالي الالتفاف إلى مستوى التفاعل الحي بین المفھوم والواقع التاریخي. وبصورة أدق؛ كیف یتفاعل الواقع التاریخي كل مرة مع المفھوم بصورة خلاقة ومختلفة، وكیف یمكن للتحققات العینیة في تجارب عدید من الأمم أن تكون بلا حدود ولا نھایة.

أما المستوى الثالث في الخطاب الدیمقراطي، فھو المستوى الایدیولوجي، الذي یجعل من الدیمقراطیة خطاب تعبئة اجتماعیة في الصراعات السیاسیة. وفي ھذا المستوى، تكتشف جمیع أشكال الرھانات على الدیمقراطیة، وبالأخص تلك التي ترفع شعار الدیمقراطیة، لإضفاء الشرعیة على ممارسات سیاسیة، أو لتحسین ظروف معینة، أو لنیل حظوة ...الخ. یدرك غلیون أن المستویات الثلاثة السابقة للدیمقراطیة قد لا تكون واضحة بالنسبة لقوى المعارضة في سوریة، وھذا ما یفسر، من وجھة نظره، التخبط في الممارسة، وعدم وضوح الرؤیا، وغیاب بلورة حقیقیة لمفھوم الدیمقراطیة. إلا أنھ یرى أن كل ذلك لا یعیب الحركة الدیمقراطیة في سوریة، ولا یمثل بالنسبة لها عقدة نقص. فما زال المفهوم موضع جدال ونقاش على صعيد عالمي، حتى في البلدان الأوروبية، التي باتت مقياسا ونموذجاً يحتذى في هذا المجال. فالمطالبة بالديمقراطية من قبل المعارضة السوریة تنطوي وحدھا على قیمة، بحد ذاتها. وھذا لا یعني، أن المطالبة بالإصلاح السیاسي الدیمقراطي في سوریة، ھي ضرب من ترف مثقفین، وأن لا أرضیة لھا، أو أنھا دعوة في فراغ، وغیرھا من التھم الجاھزة التي تقال في كل مناسبة، بحجة الخوف على مستقبل الدولة في سوریة، وبخاصة في ھذا الظرف الصعب، الذي كثیراً ما تم الاحتكام إلیھ بحجة التھرب من الاستحقاقات السیاسیة والدیمقراطیة، والتي یجمع خطاب المعارضة على أنھا شرط لتجاوز المحنة والظرف الصعب، وبالتالي اللحاق بالعصر، ولیس الوقوف عند مستوى المحنة والبكاء على أطلالھا! یشدد غلیون مراراً على القول بأننا نحتاج، في مجال الحدیث عن الدیمقراطیة ومستقبل سوریة الدیمقراطي، إلى رؤیة واضحة، یصفھا بالرؤیة الدیمقراطیة، التي تقطع مع الوصفات الدیمقراطیة الجاھزة، وتؤسس لحالة سوریة جدیدة في التجربة الدیمقراطیة. وهو يستدرك هنا، أن هذا لا يعني اختراع ديمقراطية من العدم، بل الاستئناس بالتجارب الديمقراطية، وليس القياس عليها أو تطبيقها. ومن هنا تأكيده على أن الديمقراطية ليست حلاً بل تحدياً، وأنها ليست وصفة بل برنامج عمل ديمقراطي، هدفه وضع حد للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام، الذي أثبتت التجارب، كما يقول غليون، عجزه عن تحقيق الأهداف التي خطها لنفسه، وفي مقدمتها التصدي للفقر والاستغلال السياسي.

         ما يطمح إليه غليون من وراء برنامجه الديمقراطي هو ردم الهوة بين الدولة والمجتمع، التي انتهت بتدمير المجتمع العربي وليس السوري وحده، وتجييره من قبل السلطة، بحجة أن الرعاع يحتاجون دوماً إلى دولة الإكراه، التي يٌنظر لها أحد المثقفين السوريين بأنها ضرورة شرعية وتاريخية، لأن منطق السياسة الذي لا يقيم وزناً للأخلاق يقوم على الغلبة التي تتطلب إخضاع الرعية وقيادتهم إلى المرعى، وهذا هو حال "التكنولوجيا الرعوية"، التي يفضحها ميشيل فوكو، والتي قادت الأمة إلى رواق الحرب الأهلية العربية التي عرفتها معظم الأقطار العربية.

         من هنا تأكيده -أي برهان غليون- على أن البرنامج الديمقراطي هو عتبة للانتقال باتجاه عهد جديد، ولنقل معه عقد اجتماعي جديد، "لأنه يتضمن التزامات من قبل السلطة تجاه المجتمع، ويقدم للمجتمع وثيقة يستخدمها في مساءلة السلطة عن إنجازاتها ومحاسبته لها". ويضيف غليون: "من دون برنامج ليس من الممكن السير في أي اتجاه، ولا تحقيق أي تحويل أو تغيير، ولا وجود لأي فرص للمساءلة والمحاسبة والمراجعة على الإطلاق".

         أعود للقول، إنه إذا كان "بيان من أجل الديمقراطية، ١٩٧٦" هو بمثابة دعوة لفتح الباب على مصراعيه لمشاركة شعبية ديمقراطية، بعد أن قامت الدولة الأصولية باسم "العلمانية" بإقصاء المجتمع وإعلان الحرب عليه، فإن البيان الجديد عن الديمقراطية في سورية، إن جاز التعبير، ومن خلال تأكيده على أهمية البرنامج الديمقراطي والتحول الديمقراطي المطلوب، هو بمثابة دعوة سليمة يشدد عليها غليون، بهدف إصلاح سياسي يطال الراعي والرعية، السلطة والمجتمع.

          يقول غليون: "إن التحدي الرئيسي الذي يواجهنا اليوم ليس بناء الديمقراطية كنظام كامل، ولكن بناء عملية التحول والانتقال، الطويلة حتماً، إلى الديمقراطية، وبشكل سلمي  ومختار، بشكل واع ومنظم، يحمينا من الكوارث والمطبات التي تنتظرنا، و يجنبنا الصراعات الدموية والانفجارات الداخلية والخارجية". من هنا، ثناؤه على تجربة المنتديات السورية التي تم وأدها، والتي مثلت خطوة مهمة، ونافذة كان من الممكن لها أن تسمح بهبوب رياح جديدة ونظيفة، من شأنها أن تعيد العافية إلى الجسد الاجتماعي السوري المنهك والمشلول، والمصادر من قبل من يسميهم برهان غليون بـ"الكواسر"، من أصحاب المصالح الضيقة؟

      وطريق المصالحة الوطنية هو جزء أساسي من البرنامج الديمقراطي الذي يدعو إليه غليون. فالوطن ليس غنيمة، إنما هو ساحة للفعل الجماعي، وإطار للثقة بين أبناء المجتمع الواحد، بين الحكم والمعارضة، والذي من شأنه أن يبعث روحاً وطنية جديدة، لا يمكن لأي إصلاح أو تجديد أن ينشأ بدونها، وهنا مكمن التحديات، وأهمية هذه الإجابات التي يتقدم بها غليون في حواراته، أو لنقل في بيانه الجديد عن الديمقراطية في سورية؟

http://www.alghad.com/prints/552185-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D8%A8%D8%B1%D9%86%D8%A7%D9%85%D8%AC-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%9F?s=eed2c0fb6ae416d2803820b93d5b26b8