التحولات الديمقراطية ودور النخبة الثقافية في العالم العربي

2001-10-28:: أمارجي


محاضرة في نادي العروبة في إمارة البحرين .


1 -ماذا تبقى من حلم الديمقراطية العربية؟

بالرغم من أن الديمقراطية قد فقدت الكثير من جاذبيتها لدى الرأي العام العربي الشعبي والسياسي معاً في السنوات القليلة الماضية، لا يزال التطلع إليها والتأمل في موضوعها والحديث عن قيمها من الانشغالات الرئيسية للفكر العربي الراهن. ومما يؤكد على ذلك الطلبات الكثيرة التي لا تزال توجه إلى المثقفين لإقامة ندوات أو نقاشات حولها. والأسئلة المتكررة والمتواترة التي يطرحها الجمهور بصددها في جميع المناسبات الفكرية، حتى عندما لا يكون النظام السياسي هو الأمر المطروح على النقاش.
ووجه المفاجأة أو التساؤل في هذا الموضوع راجع لحقيقة أن معركة الديمقراطية التي بدأت في العديد من الأقطار العربية في بداية عقد الثمانينات من هذا القرن انتهت قبل أن يختم هذا العقد سنواته العشر، وأسفرت إما عن انتصار الاتجاهات السلطوية المحافظة على النظام، ولو من خلال القيام ببعض العمليات التجميلية الشكلية، أو عن اندلاع الحروب الأهلية الشاملة أو الجزئية واستمرارها، مما يعكس الصعوبات التي يواجهها نظام الحفاظ على الوضع القائم أكثر مما يشير إلى احتفاظ الخيار الديمقراطي بأية حظوظ جدية.
ومن الواضح أن الطلبات الجديدة المطروحة على الديمقراطية العربية المنشودة تختلف اليوم كثيراً عما كان عليه الأمر في الماضي، منذ عدة سنوات. فقد كان الطلب الشعبي قوياً على أدبيات وتحليلات تنحو نحو نقد نظم الاستبداد والتشهير بها. وكان وراء هذا التوجه اعتقاد عميق وإن لم يحظ بقسط وافر من التأمل بأن عصر النظم السلطوية قد انتهى بانتهاء الحرب الباردة ودخول العالم أجمع، عقائدياً على الأقل، حقبة العولمة، وما يسمها من سيطرة الفكرة الليبرالية الكلاسيكية أو المجددة.وجاءت حرب الخليج في مطلع هذا العقد لتزيد من هذا الاعتقاد باعتبار أنها كانت موجهة بالدرجة الأولى نحو تحطيم أحد النظم المطلقة والشخصية الرئيسية في المشرق. لكن جميع هذه الاعتقادات لم تصمد أمام الواقع العملي. وبدأ يسود الوعي العربي اعتقاد متزايد بأن من الممكن أن يكون قطار الديمقراطية قد فات العرب تماماً.
من هذا الخوف على مستقبل الديمقراطية ومن الأمل بأن لا يكون الطريق إليها قد أغلق تماماً، تنبع الطلبات أو التساؤلات الجديدة. إنها لا تنشد معرفة حقيقة السلطة القائمة ولا تبحث عن حجج أقوى لتفكيك شرعيتها أو تبرير العمل على تحويلها أو بالأحرى تغييرها، ولكنها تبحث عن تطمينات ولو جزئية على إمكانية وجود الديمقراطية أو توطينها في البيئة العربية. فهي مهتمة بتطوير حجج تقاوم بها ما أخذ يشيع على أيدي المحللين العرب والأجانب بعد نكسة الديمقراطية العربية من أن العرب بخلاف جميع الشعوب الأخرى هم أكثر الناس بعداً في ثقافتهم وقيمهم وتقاليدهم عن الديمقراطية. بل ليس لديهم أي حظ لا الآن ولا في المستقبل في الوصول إليها.
إن إشكالية الديمقراطية في العالم العربي لم تعد تطرح من زاوية كيف يمكن تحقيق الديمقراطية، كما لو كانت المعركة السياسية ما تزال قائمة، ولكن من زاوية ما هي آفاق الديمقراطية في العالم العربي، وهل هناك أمل بعد في الخروج من سيطرة النظم السلطوية أو تحويلها إلى نظم تعددية ونظم حرية. باختصار إنها تبنى على الإجابة عن السؤال التالي: هل للديمقراطية مستقبل في العالم العربي أو ما هو مصير الديمقراطية العربية المأمولة، هل ماتت نهائياً، أم أنها لا تزال قائمة كإمكانية تاريخية؟ لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال الكبير، أو بالأحرى في التمهيد للإجابة عنه، لا بد من الإجابة عن عدة أسئلة أخرى أساسية وسابقة. ما هي الديمقراطية التي نقصدها بالضبط؟ ما هي الشروط التي سمحت بولادتها وتطورها في المجتمعات الحديثة، وهل هذه الشروط متوفرة أو يمكن توفيرها جزئياً أو كلياً في المجتمعات العربية المعاصرة؟ ما هي شروط العمل من أجل التغيير الديمقراطي، أو ما هي متطلبات تحقيق الخيار الديمقراطي في العالم العربي؟ بالتأكيد ليس المقصود من السؤال الأول فتح باب التعريفات الكثيرة والمتباينة للديمقراطية، ولكن تحديد السياق والعناصر الرئيسية التي تسمح لنا بإدراك ما يشير إليه الجمهور عندما يستخدم مفهوم الديمقراطية. ففي أي سياق خرجت فكرة الديمقراطية إلى الوجود في العالم العربي، وما هي العناصر والقيم التي تحملها بالارتباط مع ظروف هذه النشأة الخاصة، والتي تجعل منها مطلباً إيجابياً لدى القسم الأكبر من الرأي العام الذي يستخدمها؟ ليس هناك شك في أن الديمقراطية بدأت تظهر وتحظى بالاستخدام المتكرر منذ ما يقارب العقدين من الزمان وبعد هجوع طويل وأن ظهورها حصل في سياق تصاعد الرغبة بالتغيير السياسي. وبدت منذ ذلك الوقت على أنها التعبير عن نظام سياسي جديد أو مختلف عن النظام السياسي السائد. أما العناصر التي جعلت من هذا النظام مطلباً إيجابياً أو هدفاً جماعياً فيمكن حصرها في ثلاثة أو أربعة رئيسية. الأول هو المساواة أمام القانون، أو كما نقول أحياناً سيادة القانون. وعكسه ليس غياب القانون بالطبع ولكن التطبيق الذاتي أو غير النـزيه للقانون، وبالتالي الكيل بمكيالين أو إذا شئنا التوضيح أكثر التمييز بين المواطنين أمام القانون. ويتخذ هذا التمييز مظاهر عديدة يومية ودائمة مثل التلاعب بالقانون لحماية بعض الأفراد أو وجود جماعة أو جماعات تعتبر نفسها، بسبب قربها من السلطة أو تحكمها بجزء منها، فوق القانون أو القانون نفسه، وتطبيق معايير مختلفة في النفوذ إلى السلطة أو الوظيفة أو المنافع المادية والمعنوية، اجتماعية (التمييز القانوني بين الفقراء والأغنياء) وطائفية ومذهبية وأيديولوجية بحيث لا تكون كفاءة الأفراد هي المعيار الرئيسي في الاختيار بينهم ولكن انتماءاتهم الطبقية أو الطائفية أو المذهبية أو الجهوية أو العرقية أو العقائدية. بل هنا حالات يصاغ فيها القانون فقط لصالح فئات معينة، وأحياناً لتحقيق مصلحة فرد واحد، ويعني ذلك غياب تكافؤ الفرص بين المواطنين، وتفضيل بعضهم على بعض، وتقريب قسم منهم من السلطة واستبعاد أقسام أخرى، بحيث تصبح الدولة دولة الأقوى أو المرتبط أكثر بالسلطة والقوة، وذلك عكس دولة القانون.
ووراء هذا المبدأ الكبير الذي هو سيادة القانون أو المساواة بين جميع الأفراد أمام القانون بحيث يصفح عن القوى ويعاقب الضعيف للذنب نفسه أهم ظاهرة سياسية، هي نشوء الأمة أو الجماعة السياسية الموحدة القائمة على الولاء الجماعي والطوعي للقانون وليس على القهر والغلبة المادية وما يرتبط بها من الولاء للحاكم والتعلق بأذياله واستدرار عطفه ورحمته خوفاً من انتقام أنصاره وزبانيته. فالأصل في تكوين الأمم، وتضامن الأفراد فيما بينهم للحفاظ عليها، هو خضوعهم لقانون واحد. والأصل في نشوء الأمة بالمعنى الحديث للكلمة وتحولها إلى دولة قومية هو، بإضافة إلى وحدة الخضوع للقانون، التطبيق المتساوي للقانون على جميع الأفراد، أو المساواة في مكانتهم القانونية جميعاً بحيث لا يعود هناك فرق في المعاملة بين الغني والفقير والرئيس والخادم. فجوهر الأمة الحديثة ليس في وجود المساواة أمام القانون لجماعات تختلف في المكانة والموقع، ولكن في وجود قانون المساواة الشاملة والكلية بين جميع أعضاء الجماعة، أي في توحيد أوضاع جميع الناس، الخاضعين لسلطة دولة واحدة، بصرف النظر عن أصولهم الدينية أو العرقية أو الطبقية أو الجنسية، أمام القانون الواحد. وبالعكس تتسم العلاقات في الأمم القديمة بأنها تخضع لقانون يميز منذ البدء بين الناس حسب طوائفهم وأصولهم وموقعهم الاجتماعي، ولو عامل هؤلاء معاملة واحدة أما القانون حسب وضعيتهم الخاصة: أما الجماعات التي تتشكل من شتات بشري لا يربط بين أعضائها أي رابط قومي، فهي تفتقر لوجود القانون أو أن تطبيق القانون يتسم فيها بسمة عشوائية وذاتية ولا يخضع لأي معايير موضوعية وواضحة وثابتة. إنه قانون العرف القبلي الذي تجسده حكمة الشيخ أو الرجل الكبير والخبير، زعيم العشيرة وكبيرها وسيدها معاً، أو هو الإمام والعالم والفقيه عند الجماعات ما قبل السياسية أو ما قبل القومية القبلية والدينية، وهو الهوى الشخصي للحاكمين ومن ارتبط بهم عند الجماعات التي تحللت فيها العلاقات العشائرية والعصبية الدينية الجامعة من دون أن تنجح في بناء علاقات بين الأفراد وبين هؤلاء والسلطة من طبيعة وطنية أو مواطنية، أي قانونية ولا تبدأ التشكيلات الجامعية العصبوية، الدينية أو العشائرية، بالتحول إلى روابط قوية وإقامة علاقة وطنية أو قومية إلا عندما تتحرر من أشكال التمييز المختلفة داخلها، وينضج فيها معنى القانون بوصفه معيار العلاقات الموضوعية أي غير النابعة من العرف أو الدين أو المزاج أو الهوى ولا تنبع من الغربة في ضمان المصالح الفئوية العائلية والعشائرية أو الدينية. ولذلك يبقى تحرير العبيد العلامة الفارقة على ولادة الدولة الحديثة القومية، والشرط الأول لبزوغ أي إمكانية موضوعية للديمقراطية. وبالعكس لا بد للتمييز، مهما كان نوعه، إذا لم يجد ما يمكن أن يوقفه عند حد، من أن يقود إلى قتل القانون وإلى إعادة إنشاء مجتمع عبودي، سواء أحصل ذلك بشكل سافر أو مقنع. ومعيار العبودية اليوم هو وجود أعضاء لهم كل الحقوق وبيدهم كل المسؤوليات، وأعضاء آخرين عليهم كل الواجبات ومصيرهم الطاعة والانصياع في كل ما يصنعون ويمس مصائرهم الجماعية.
والعنصر الثاني وهو لا يمكن أن ينشأ إذا لم ينشأ العنصر الأول، هو ظهور أطر مؤسسية أو مؤسسات. وهو ما نطلق عليه عادة عبارة دولة المؤسسات. والذي يميز هذه الدولة هو خضوع مؤسساتها العمومية، في إنشائها وفي عملها، إلى قواعد ثابتة وموضعية لا تنبع من رغبات الأفراد وهواهم، ولكن من مواصفات جماعية تعكس مصالح كلية. وهذا هو الذي يسمح لها بالاستقرار وإعادة إنتاج نفسها بشكل دائم من جهة، وتسمح لجميع أعضاء المجتمع التي يعتمد عليها بفهم هذه القواعد وتمثلها، وبالتالي بالتعامل الموحد معها.
وعكس البنية المؤسسية التي تضمن قيام علاقات موضوعية واضحة ومقننة وصحية بين أعضاء الجماعة الواحدة هي هيمن العلاقات الشخصية سواء أكانت هذه العلاقات من طبيعة أبوية أو زبائنية. إن المؤسسية هي عكس الهياكل القائمة على المحسوبية. وبقدر ما تقود المحسوبيات سواء أكانت هذه العلاقات من طبيعة أبوية أو زبائنية. إن المؤسسية هي عكس الهياكل القائمة على المحسوبية. وبقدر ما تقود المحسوبيات إلى تدعيم السلطة الشخصية وتحرم المؤسسة من قواعد مرعبة ثابتة وشرعية، وتساهم بالتالي في تنمية العسف وخرق القانون أو تجاوزه أو الالتفاف عليه تلبية لعاطفة أو لمصلحة أو لعقيدة ذاتية، تقود سيادة الروح المؤسسية إلى تطوير قواعد ثابتة ومعروفة مسبقاً من الجميع، وتسمح بالتالي من تراكم القيم التنظيمية وتقاليد العمل الجماعي واستقرار المؤسسة بصرف النظر عن تبدل الأفراد المتعاقبين عليها. ويساهم كل ذلك في تثبيت القانون وتطبيقه واحترامه، وبالتالي في تدعيم العدالة التي كان جميع الفلاسفة القدماء، المسلمين وغير المسلمين، يعتبرونها أساس الملك وشرط الحياة السياسية السليمة. وليس المقصود بالملك هنا الحكم، كما يفسر عادة خطأ، وإنما المقصود بالملك الدولة. إن نشوء الدولة واستقرارها ومرتبط عضوياً بنشوء روح المؤسسة المرتبطة بنمو مفهوم خضوع جميع الأفراد العاملين في مؤسسة واحدة لقواعد تتجاوز إرادتهم وعواطفهم جميعاً، وتستمد شرعيتها من قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة لها بشكل فعال وبالتالي من صلاحيتها لإعادة إنتاج المؤسسة وضمان استمرارها على مستوى الفاعلية المطلوبة. وهكذا تصبح المؤسسة حقيقة اجتماعية تتجاوز إرادة الأفراد الذين يحتلون مناصب المسؤولية فيها، بل ترتبط بقدرة هؤلاء على التضحية بمصالحهم الخاصة وأنفسهم في سبيل حمياتها وضمان بقائها. وأول هذه المؤسسات التي لا تقوم الجماعات الحديثة من دونها، وأهمها قاطبة هي الدولة ذاتها بوصفها مؤسسة المؤسسات، أي المؤسسة التي تكفل بناء واشتغال جميع المؤسسات الأخرى، بما تمتلكه من صلاحيات يعطيها لها موقعها كمركز السلطة السياسية، وبما يتوفر لديها من موارد تستطيع من خلالها أن تؤثر على مصير المؤسسات والمصير العام معاً. والأشخاص الذين تكرسهم الأدبيات السياسية العالمية كرجال دولة هم بالضبط أولئك الذين ينجحون في خلق مؤسسات مستقلة قادرة على أن تعمل بنفسها، وتستمر بعد موتهم، أي قادرة على توليد إرادة جماعية حية خاصة بها ومستقلة عن مجموع الإرادات الفردية التي تعتمد عليها في اشتغالها. وهي لا تكون بذلك أعلى من جميع أفرادها،ولكنها قادرة أكثر من ذلك على أن تخضعهم لإرادتها وتدفعهم إلى التضحية من أجلها، وبالتالي إلى تجاوز مصالحهم الذاتية من أجل مصلحة عمومية. ولم تتكون الدول القوية إلا مع نشوء مثل هذه المؤسسات القوية التي تسمح بنشوء وحدة حال جماعية وتشجع الولاء لقواعد وإجراءات ثابتة، وتدفع إلى تطوير مفهوم الشرعية باعتباره تطابق إرادة الأفراد مع هذه القواعد والإجراءات المرعبة.
وبالعكس من ذلك، تقوم سلطة رجل العصبية أو العشيرة على جاذبية الشخصية وما تثيره من احترام لدى الأفراد بسبب سلوكها او علمها أو حكمتها أو محسوبياتها أي المصلحة التي تضمنها للمحاسيب والتابعين والزبائن أو الرعب الذي تبثه عن طريق ميليشياتها. وهي تستخدم المؤسسات كأدوات للترويج للعلاقات الشخصية أو توسيعها أو فرض الزعامة وتلميعها، وبالتالي إلى تفريغ هذه المؤسسات من أي محتوى موضوعي وعام ومجرد وهكذا تتحول العلاقات داخل مؤسسات الدولة الحديثة من علاقات موضوعية مجردة وقانونية مبنية على تراتب المسؤوليات والصلاحيات إلى علاقات عصبية وعائلية من نمط العلاقات التي تربط بين أعضاء القبيلة أو العشيرة الواحدة، أي علاقات القرابة والتقريب الأبوي. والسبب أن زوال روح ومنطق الخضوع لقواعد ثابتة ومعروفة ومجردة وعامة تفرض نفسها على أي إرادة فردية، أي تفرض على أي فرد يعمل فيها أن يحترم أهدافها العليا التي تتجاوز مصالحه الشخصية والآنية، يدفع لا محالة إلى نشوء منطق الولاء الفردي والشخصي لصاحب السلطة باعتباره القاعدة الوحيدة لضمان الالتحام والتفاعل بين الحاكم والمحكومين وأداة الربط بينهم. وليس من الصعب على أي منا أن يميز، بالعين المجردة، بين نماذج الحكم أو السلطة التي نعرفها في منطقتنا وحدها تلك التي تقوم على منطق الولاء الشخصي ومقارنتها بتلك التي تستمد قوتها من منطق الخضوع لقواعد موضوعية مجردة ينظر إليها على أنها أعلى وأكثر قدسية من جميع الأفراد التي يعملون فيها، مهام كان موقعهم وقدراتهم. وهذا هو الذي يفسر أن إخضاع المسؤولين السياسيين من مستوى رئيس دولة كما حدث في الولايات المتحدة مع كلينتون إلى أي وزير أو مسؤول آخر للمحاكمة وإدانتهم لا تزعزع من قدسية الدولة ولا تهز أركانها ولكنها بالعكس تساهم في تدعيم الولاء لها وإضفاء القدسية عليها. والواقع أن المجتمعات الديمقراطية قد أدركت بالخبرة التاريخية أنه لا دولة ولا عقلية دولة وبناء سياسي مستمر ودائم لي جماعة من الجماعات من دون تنامي روح المؤسسة والخضوع لقواعد موضوعية مجردة وعمومية تقف قبل الأشخاص مهما كانت قدراتهم وفوقهم معاً.
والعنصر الثالث، وهو الذي يوظف العنصرين المذكورين أو بالأحرى يشغلهما ويحول الدولة الحديثة إلى دولة ديمقراطية هو مبدأ السيادة الشعبية. والمقابل أو المناقض لمبدأ السيادة الشعبية هو سيادة الفرد أو الجماعة الملهمة سواءً أكان هذا الإلهام ثمرة صفة دينية) سلطة الحق الإلهي (أو صفة ما فوق إنسانية، بطولية أو عبقرية فردية استثنائية، أو ما يسميه ماكس فيبير الشخصية الكارزمية.
ومبدأ السيادة الشعبية جوهري في نشوء الديمقراطية، ذلك أنه يشكل نقلة نوعية في مفهوم السياسة ذاتها وطرق ممارستها. فهو يعني أن السياسة، أي ممارسة الحكم وأخذ القرارات التي تهم الجماعة ليست قضية أو حرفة محصورة في فئة معينة من الناس، مهما كانت قدراتهم ومواهبهم وصولهم، وإنما هي أمر عمومي يشارك أو يجب أن يشارك فيه جميع أعضاء الجماعة لأنه العمل المؤسس لهذه الجماعة باعتبارها جماعة متساوية وحرة والذي يتحقق عبره يومياً وفي كل لحظة هذا التساوي وتلك الحرية، فهو المبدأ الذي يحول الفرد من رعية للسلطان، أي مادة في يده يستخدمها حسب رؤى ومصالح يحددها لوحده، إلى مواطن، أي إلى إنسان حر مسؤول عن مصيره، وهذه المسؤولية تتجسد في مشاركته في تقرير شؤون حياته مع أقرانه. من هنا تصبح السياسة تحت تأثير مبدأ السيادة الشعبية سياسة جماعية، وطنية، ويصبح رفض المشاركة في إنضاج القرارات السياسية قولا وعملاً، بل التهرب منها تخلياً عن وضع المواطنة ونكوصاً بالفرد إلى مصاف الوضعية الرعوية والتابعية.
ولأن هذه المشاركة لا يمكن أن تكون بالإكراه وإلا أصبحت عبودية كانت الحرية السياسية هي مظهر الديمقراطية وواجهتها الأبرز. فهي التي تسمح للمبادئ الثلاثة بالحياة والعمل والتفاعل معاً. فالديمقراطية بعكس ما هو شائع عنها تماماً لا تعني بالحرية السياسة الشكلية بصورة جوهرية ولكنها تعني مشاركة الجميع في القرارات العمومية، أي السياسية، التي لا تتم من دون الحرية الفردية فهذه الحرية هي الشرط الضروري لوجودها وتشغيل جميع عناصرها الأخرى. فلا يمكن تحقيق مبادئ السيادة الشعبية، ولا الدولة القانونية، ولا المؤسسة الموضوعية، وضمان اشتغالها جميعاً خارج جو الحرية الذي يتيح لجميع الأفراد ممارسة المراقبة والمحاسبة على أصحاب المناصب السياسية في الوقت نفسه. فالحرية السياسة هي وعاء الديمقراطية والهواء الذي تتنفسه. ومن دونها ليس من الممكن نشوء فكرة المسؤولية الوطنية كواجب فردي، ولا مراقبة تطبيق القوانين بنزاهة، ولا ضمان عدم استتباع المؤسسات للإرادات الفردية التي تتحكم بها. لكن الديمقراطية لا يمكن أن تخفض إلى مستوى الحريات الشكلية فحسب وتصرف النظر عن اشتغال العوامل القانونية والموضوعية والسيادة التي تحدثنا عنها الديمقراطية هي إذن النظام السياسي الذي يقوم على المساواة القانونية والسلطة المؤسساتية والسيادة الشعبية. وهو ليس نظام الحريات السياسية الفردية والجماعية، إلا بقدر ما يحتاج تحقيق مبادئ المساواة والسيادة والإدارة العقلانية الموضوعية، أي المؤسسية، وجود شروط تتيح لجميع الأفراد التدخل بحرية في الشؤون العمومية، بالقول أو بالفعل. فالحرية هي شرط وجود الفرد كمواطن يحمل مسؤولية جماعية، وبالتالي شرط وجود الأمة نفسها كمجتمع من الأفراد الأحرار، وشرط وجود الديمقراطية كنظام لممارسة هذه الحرية.
لكن كيف نشأ هذا النظام، وهل له أسس أو يمكن أن يكون له أسس في المجتمعات العربية؟ وما هو حقيقة التحولات التي جرت في البلاد العربية في السنوات الأخيرة التي أعقبت زوال الحرب البادرة وتزايد الطموحات والمطالب الديمقراطية في العالم العربي كما هو الحال في العالم أجمع؟

 

2 - موقع الديمقراطية في السياسة العربية:

على ضوء تعريفنا للمقصود بالديمقراطية أو بشعارها في البلاد العربية يمكن لنا أن نقيم واقع الديمقراطية الفعلي أو موقع هذه الديمقراطية في المجتمعات العربية وبالنسبة لأنظمة الحكم. فهذا التقييم هو الذي يساعدنا على معرفة أي وصلنا على طريق تحقيق الأهداف التي يحددها شعار الديمقراطية المطروح عربياً، وما هي الخطوات التي ينبغي علينا استكمالها للسير بنظمنا السياسية شوطاً آخر على طريق تلبية الاحتياجات الشعبية من جهة والتوافق بشكل أكبر مع معايير السياسة العالمية الراهنة من جهة ثانية.
وكما هو الحال في العديد من المشاكل المطروحة على العالم العربي، تتردد المواقف بسبب ضعف المنطق الموضوعي والفكر النقدي من النقيض إلى النقيض. فالقسم الأقل من المثقفين والممارسين السياسيين القريبين من النظام أو الراغبين في التقرب منه، يدافعون عن الأطروحة التفاؤلية القائلة بأن النظم العربية تسير نحو الديمقراطية،وأن قسماً منها قد قطع شوطاً طويلاً على طريق تلبية شروط الانتقال نحو الديمقراطية. وفي هذا السياق يشير هؤلاء المثقفون باستمرار إلى ما تبديه العديد من الأنظمة من تسامح مع وجود أحزاب سياسية متباينة الرأي على الساحة. ويشدد الكثير منهم على الإجراءات أو الخطوات الإيجابية التي اتخذتها بعض السلطات العربية للإفراج عن المعتقلين السياسيين أو لتوسيع هامش حرية الرأي والتعبير في الصحافة المحلية. وهم يغضون النظر عادة عما لا يزال مستمراً من تراث المراقبة والحجز والسيطرة وحكم أجهزة الأمن أو خضوع الحياة السياسية الوطنية برمتها إلى معادلة الأمن ومنطقه بشكل عام. ويعتبر بعضهم أن ما تحقق حتى الآن من انفتاح هنا وهناك يشكل قفزة حقيقة وهامة، بل ربما يصل بنا إلى السقف الذي لا ينبغي أن نتجاوزه إذا لم نشأ أن نفقد السيطرة على العملية برمتها ونعرض الدولة لمخاطر سيطرة أو اختراق المجموعات المتطرفة والإرهابية. وهم يردون على كل نقد لقصور إجراءات الانفتاح عن الحدود الدنيا المطلوبة بشعار اصبح كثير التردد اليوم يقول أن المجتمعات العربية لا ينبغي أن تقلد وليس عليها أن تقلد في الديمقراطية الصيغ الغربية. ولا بد لها أن تأخذ بالاعتبار الشروط الخاصة والصعبة التي تمر بها شعوبها والتي تتميز أساساً بانعدام أي وعي وطني ديمقراطي حقيقي لدى هذه الشعوب. وبعض هؤلاء ينظر للاستبداد باسم الحفاظ على الدولة القوية وبناء الدولة القوية قبل الاهتمام بالمجتمع.
وفي المقابل، هناك فئة كبرى من المثقفين والممارسين السياسيين لا ترى في ما يحصل وما يحصل من خطوات وإجراءات جديدة على طريق الانفتاح أي حركة إيجابية قوية بل إنها تعتقد بان النظم السياسية الراهنة غير قابلة للإصلاح والتعديل والتطور. وأنه لا أمل في أي تغيير في اتجاه الديمقراطية من دون تغيير هذه الأنظمة بشكل مسبق. والقسم الأكبر من هؤلاء يكاد يصل إلى حالة اليأس وانعدام الثقة بأي أمل في إجراء تحولات حقيقية في المستقبل. وهم ميالون اليوم إلى الحديث عن هزيمة الأمة العربية حضارياً ونهائياً وزوال أي احتمالات لإخراجها من الحالة المتخلفة واليائسة التي تعيش فيها من غير حصول معجزة ما. وفي انتظار مثل هذه المعجزة تراهم يهجرون العمل السياسي أو يتجنبونه ويلجئون إلى النقد الدائم ويحمون أنفسهم وإيمانهم في المستقبل بالتمسك الأعمى بشعارات واعتقادات وتحليلات غالباً ما تكون قد بليت وتجاوزها الزمن.
وفي نظري ليس هناك حتى الآن ما يدعو إلى التفاؤل أبداً في ما حصل من انفتاحات بسيطة وسطحية هنا وهناك. ذلك أن هذه الانفتاحات بالرغم من المظاهر أحياناً لم تمس إطلاقاً بأسس السلطة القادمة ولا بآليات إعادة إنتاجها. إنها تهدف بالعكس من ذلك إلى التغطية على عملية التمسك بالسلطة والرغبة في التمديد لأنظمة الحكم البيروقراطية المتكلسة والمتسلطة. عن الديمقراطية ومظاهرها الخارجية تستخدم هنا كوسيلة للتغطية على إرادة رفض التغيير، وكتعويض شكلي عن هذا التغيير وعزاء أو سلوى فقيرة عنه.
لكنني لست متفقاً أيضاً مع الفريق الآخر الذي لا يرى أي معنى في ما حصل في إجراءات انفتاحية شكلية، ويوطن نفسه على الانتظار غير المنظور أو الطويل ويستسلم لليأس والإحباط. فبالرغم من أن الخطوات الحاصلة لا تثر في حقيقة النظام، لا من حيث إرادته في الاستمرار، ولا من حيث آليات السيطرة القسرية التي يعتمد عليها في إنتاج نفسه، فهي ذات مغزى كبير، وتشكل مع ذلك نقلة لا ينبغي الاستهانة بها، ولا بد من البناء عليها. ومغزى هذه الخطوات أن الأنظمة العربية الديمقراطية بدأت تفقد ثقتها بنفسها من جهة وتدرك حقيقة الأزمة العميقة والتاريخية التي تعصف بها من جهة ثانية. وهي لا تقبل باتخاذ هذه الخطوات الخجولة انطلاقاً من شعورها بالقوة والرسوخ، ولكن بالعكس بسبب إدراكها ضعفها السياسي المتفاقم ورغبتها في التغطية على هذا الضعف أو في التنفيس عن الكرب الذي يشعر به الرأي العالم تجاهها وبسببها. إنها تساوم بهذه الانفتاحات الصغيرة على بقاء النظام وتعتقد أنها تستطيع أن تكسب من خلالها المزيد من الوقت لإخراج هذا النظام من أزمته العميقة.
لكن ليس هناك في نظري لنظم البيروقراطية التسلطية الراهنة. في سائرة لا محالة نحو المزيد من التفسخ السياسي والأخلاقي والاجتماعي معاً. وفي موازاة هذا التفسخ والانحلال سوف يزيد تناقضها الذاتي وحرجها وترددها بين اللجوء المتزايد إلى القمع للحفاظ على نفسها من التهور أو زيادة الانفتاح المظهري للتغطية على ذوبان مشروعيتها السياسية وبالتالي حاجتها إلى مشروعية شكلية ـ ديمقراطية ـ مستعارة أو زائفة.
يؤكد هذا التقييم لموقع الديمقراطية من أنظمة الحكم العربية إذن أمرين. الأول عدم وجود أي تحول جدي في اتجاه الديمقراطية الفعلية. والمقصود بالتحول الجدي حصول تغير أو تبدل حقيقي في القواعد المتبعة المعروفة في ممارسة السلطة سواء من حيث تكوين السلطة العمومية أو من حيث الأهداف التي تخدمها وسبل خدمتها. ولن يكون هناك أي تغير ذي مغزى ما لم يتعلق الأمر بإجراءات تخص مفهوم السيادة الشعبية. أي ما لم تضمن زوال الوصاية وعودة السلطة كلياً أو جزئياً إلى الشعب وارتباطها بقراره المعبر عنه بوسائل واضحة انتخابية وتمثيلية.
لكن الأمر الثاني الذي يؤكد عليه هذا التقييم هو أن احتمالات العمل من أجل الديمقراطية وآفاق المستقبل قد تبدلت في اتجاه الأفضل بالرغم من مراوحة الأنظمة في مكانها أو عدم قدرتها على التغيير. وسبب زيادة هذه الاحتمالات او الظروف الموضوعية للتغيير الديمقراطي هو أزمة نظام السلطة الواحدية التي تحدثنا عنها، وغياب آي آفاق حقيقية لتجاوز هذه الأزمة مع الإبقاء على قواعد عمل النظام كما هي.
والواقع أن النظام السياسي القائم في العالم العربي قد ربح الجولة الأولى من المعركة التي تفجرت منذ الثمانينات من القرن العشرين وعمت آثارها العديد من الأقطار العربية في الوقت نفسه، وكان مضمونها الرئيسي إيجاد تغيير ديمقراطي بالمعنيين السياسي والاجتماعي معاً. والنجاح في كسر الحركة الديمقراطية الأولى هذه أو إذا شئنا في صد الهجمة الأولى في اتجاه التغيير هو الذي سمح لهذا النظام أن يستعيد بعض الأنفاس التي تسمح له في الوقت نفسه بتقديم تنازلات شكلية ذات صفة ديمقراطية، من تعددية حزبية وتوسيع هامش حرية الرأي والتعبير وأحياناً التنظيم، ومن تقليص قبضة منظمات وأجهزة الأمن والميليشيات الرسمية والخاصة التابعة للسلطة أو الخاضعة لإرادتها، ومن إطلاق سراح قسم من المعتقلين، وباتقائه خطر نشوء معارضة قوية قادرة على استغلال هذه الإجراءات والضغط من خلالها.
لكن إجهاض الموجة الأولى من العمل من اجل الديمقراطية العربية لا يعني أن مصير الموجة الثانية سيكون شبيها بمصير الأولى أو مماثلاً له. فمن جهة نستطيع ان نقول إن الأنظمة البيروقراطية القائمة لم تربح المعركة من دون أن تدفع ثمناً غالياً هز أركانها المادية والسياسية والمعنوية معاً، فقد كشف الاستخدام اللامحدود للعنف عن الطبيعة الحقيقية لهذه الأنظمة وحدود المصالح الضيقة والأجنبية التي تقوم عليها. وقد اضطرت العديد من هذه الأنظمة إلى إقامة تحالفات خارجية لحماية نفسها وحفظ مصالحها أضعفت جداً مشروعيتها وجردتها من الكثير من صفات الوطنية القديمة التي كانت لا تزال عالقة بها. أما القسم الآخر الذي لم ينجح بسرعة في إخماد حركات المعارضة والاحتجاج أو القسم الذي أثارت أساليبه الهوجاء في معالجة الأزمة السياسية والاجتماعية تناقضات عميقة قائمة أو فجرتها، فقد سار بنفسه نحو الحرب الأهلية. ومنذ الآن هناك عدة أنظمة عربية مضطرة إلى أن توطد نفسها على العيش مع الاقتتال والإرهاب المستوطنين كما هو الحال في بعض دول أمريكا اللاتينية أو آسيا، أو كما كان عليه الحال حتى فترة قريبة قبل أن تشرع هذه الدول في تفكيك أنظمة حكمها التقليدية الأحادية وتخل في دائرة التقاليد والنظم الديمقراطية.
وهذا يعني أن النظام العربي البيروقراطي والتسلطي قد تعرض لهزة قوية بدأ يضعف سياسياً ومعنوياً على الصعيد الوطني وعلى الصعيد العربي العام والإقليمي والعالمي معاً. وسوف يزيده إخفاقه في إيجاد حل مشرف وعادل للنزاع العربي إسرائيلي ضعفاً في المستقبل.
ومن جهة ثانية، فإن الهزيمة الفعلية التي منيت بها الحركة الديمقراطية العربية في الثمانينات قد فجرت وسوف تفجر بشكل أكبر في المستقبل حركة نقدية عميقة ذاتية سوف تساعد لا محالة على إعادة بناء القوى الديمقراطية على أسس نظرية وعملية جديدة أكثر واقعية وعقلانية. وسوف تزداد العودة نحو هذه الحركة الديمقراطية والاستثمار فيها في المستقبل بقدر ما سوف تظهر قوى المعارضة الدينية حدود قدرتها على التغيير العملي من جهة وإخفاقها في فهم حقيقة التحديات التاريخية التي تواجهها المجتمعات العربية وعجزها عن إيجاد الحلول الفعالة والناجعة لها من جهة ثانية.
باختصار، ليس للديمقراطية بعد أي موقع في النظام السياسي العربي القائم، ولكن أمام الحركة الديمقراطية فرص تاريخية كبيرة لتعيد بناء نفسها وسن أسلحتها النظرية والسياسية استعداداً لمعارك الموجة الثانية القادمة والحاسمة معاً. ومن الواضح منذ الآن أنها لن تواجه إلا أنظمة منهكة مادياً ومعنوياً لا حول لها ولا قوة اللهم إلا الحماية الخارجية. لكن يبقى السؤال: هل تملك المجتمعات العربية الشروط الموضوعية لنجاح الديمقراطية؟ هذا ما ينبغي الرد عليه في المستقبل.


3 - الاختيار الديمقراطي وموقف المثقفين:

التحفظات على الديمقراطية في البلاد العربية بالرغم من أن الحديث عن الديمقراطية والدفاع عن قضيتها قد اصبحا من محاور العمل والنقاش الرئيسية في الحياة العربية، إلا أن موقف النخب العربية، الثقافية والسياسية معاً، لا يزال شديد الالتباس. ويبدو كما لو أن الكفاح من اجل الديمقراطية لا يرد علي إيمان حقيقي بالقيم التي تتضمنها ولا بحظوظ توظيفها في البلاد العربية أو نجاحها إذا طبقت، بقدر ما هو وسيلة لإضفاء الشرعية على الكفاح ضد النخب الحاكمة، سواء أكان ذلك في سبيل الحلول محلها أو ربما التقرب منها والمشاركة معها. هذا ما يظهر من مطالعة العديد من المساهمات التي تعرض مواقف بعض التيارات الفكرية والسياسية من مسألة الديمقراطية. ولذلك فإن الحديث الدعائي عن الديمقراطية يترافق مع الكثير من التحفظات المثارة في الثقافة والسياسة العربيتين المعاصرتين من قبل التيارات العلمانية والإسلامية معاً.
ويمكن تلخيص هذه التحفظات في ست رئيسية:

1 - إن الديمقراطية تحمل تهديدات ومخاطر كبيرة للدول النامية والفقيرة والسبب في ذلك أنها تحتاج كي تستقر إلى درجة معينة من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وإذا لم يتحقق ذلك فهي تؤدي إلى وثوب المغامرين الغوغائيين إلى السلطة مستغلين سذاجة الرأي العام أو جهله.
2 - إن الديمقراطية لا تساعد بالضرورة على التقدم الاقتصادي والاجتماعي فهي غالباً ما تتيح استلام السلطة من قبل نخب غير مخلصة وضعيفة وكاذبة.
3 - إن الديمقراطية في هذه الدول النامية ضعيفة التطور تهدد وحدة الأمم واستقرارها. كما أن الديمقراطية تضعف الدول لأنها تشجع على الحلول الوسط غير الفعالة وعلى الحكومات الائتلافية الهشة في المجتمعات التي لم تعمل فيها المؤسسات البيروقراطية أبداً بصورة جيدة أولاً. ويقود إضعاف الدولة إلى كوارث حقيقية ففي المجتمعات غير المتطورة تؤدي التعددية إلى تعميق ومأسسة التقسيمات العرقية والإقليمية القائمة. وافضل مثال على ذلك ما حصل ليوغوسلافيا عندما أصبحت ديمقراطية فتمزقت أوصالها بينما نجحت رومانيا ذات السجل الأسود في الديمقراطية في الاحتفاظ بوحدتها. وينطبق الأمر ذاته على أفريقيا جنوب الصحراء وما شهدته من حروب تظهير عرقي. ثم إن الدول لم تتشكل أبداً من خلال الانتخابات، لكنها تشكلت من خلال الجغرافية والتاريخ وصعود البرجوازية المتعلمة.
4 - ليس لها حظ من النجاح في مجتمعات تفتقر إلى الطبقة الوسطى. وفي البلاد النامية لا يكاد يوجد طبقة وسطى ومن الصعب في هذه البلاد النامية تجاوز الخيارين الوحيدين: الفوضى الديمقراطية والطغيان.
5 - وبالإضافة إلى ذلك تعاني هذه المجتمعات من التخلف الشديد ومشاكلها الرئيسية لا علاقة لها بالديمقراطية بقدر ما هي مرتبطة بأزمة الهوية والتخلف المجتمعي وغياب استراتيجية واضحة للمستقبل عند النخب الحاكمة، والتخلف الثقافي والانحطاط والنتيجة أن الديمقراطية في ظل التخلف العربي الراهن لن تأتي بدعاة النهضة بل إن المنطق يقول إنها قد تأتي بالأكثر غوغائية والأعلى صوتاً، والأكثر كذباً، والأسوأ من هذا وذاك أنها قد تأتي بقوى فاشية معادية للتقدم وللديمقراطية ذاتها.
6 - الديمقراطية في مجتمعاتنا فكرة مستوردة وليست ثمرة تطور مستقل للظروف الذاتية والموضوعية. وهي تواجه تاريخاً فكرياً تسم بالجمود واستمرار الأطر الاجتماعية المعرفية السلبية التي لا تزال سائدة بصرف النظر عن الأشكال السياسية التي تأخذها الدولة ولها فيها سطوة كبيرة فلا تزال السلطة تستمد شرعيتها منه.
وإذا أردنا الاختصار قلنا: إن الديمقراطية لا تفيد في بلادنا لعدة أسباب فهي لا تناسب تطور مجتمعاتنا، ولا تتلاءم مع الثقافة السائدة فيها، وهي مضرة بتكوينها الوطني ومضعفة له وغير ملائمة لما تعرفه هذه المجتمعات من تعددية دينية أو أقوامية، وليس لها حظ من النجاح وليس هناك طبقة وسطى يمكن أن تستند إليها. وفي النهاية ليست هي ما نحتاج إليه إن حاجتنا الحقيقية الآن هي لمشروع نهضوي شامل، وهذا المشروع يتحقق بشكل أفضل من قبل حاكم مطلق مستنير، وأسباب النهضة هي الثقافة فهي خط الدفاع الأول، وهي العروة الوثقى.
ويمكن أن يستنتج المحلل من هذه التحفظات أن النخب العربية تحبذ الديمقراطية وتقدرها وتجد أنها تمثل تقدماً كبيراً من الناحية السياسية والأخلاقية، بيد أن هذه النخب تخشى منها على الدولة والوحدة الوطنية والتقدم والتنمية في البلاد العربية، ولا تؤمن بإمكانية تطبيقها، أو على الأقل في الوقت الراهن . وتميل هذه النخب بشكل عام إلى موقف التشكيك في قدرة المجتمعات العربية على استيعاب قيمها وتبنيها فهم يؤكدون أنه لا يمكن للديمقراطية مهما فعلنا أن تطبق عندنا، وإذا حصل وطبقت فستكون انتخابات فحسب، أي مفرغة من مضمونها. والنتيجة التي تخلص إليها هذه النخب هي أنه في هذه الحالة، وإذا كان الاختيار الموجود هو بين الفوضى الديمقراطية أو الطغيان، فمن الأفضل إرجاء والإبقاء على ما هو قائم.
ينطبق هذا التحليل في نظري بشكل مباشر وقوي على الكثير من النخب الخليجية، ويعكس موقف الحياد السلبي تجاه الديمقراطية الوضع الذي تعيش فيه النخب المثقفة والطبقة الوسطى الخليجية التي تجد في أنظمة الحكم الراهنة غير الديمقراطية بتاتاً لكن المتسامحة سياسياً وأحياناً فكرياً افضل حاجز ضد التيارات التي يمكن أن تخدمها الديمقراطية والتي تهدد بزعزعة الاستقرار العام، سواء أكانت دينية أو، من قبل، قومية عروبية، وكل تغيير في اتجاه أو آخر قد يهدد أو سيهدد حتماً الدولة الضعيفة والقوام الوطني الهش. فهذه النخب تجد فيما هو قائم ما يستجيب بالضبط لواقع الحال: لا ديمقراطية الفوضى ولا طغيان العسكر والفاشية.
بيد أن الأمر أكثر تعقيداً في بقية البلاد العربية فإذا كان هناك بعض الدول التي تبيح هامشاً من الحرية النسبية على الأقل في ميدان التعبير إلا أن هناك دولاً أخرى تلغي كل حياة سياسية بل عمومية وتنزع إلى البطش اليومي ولا تتردد أمام مصادرة الحياة العمومية إن لم نقل استباحة المجتمعات وإعلان الحرب الدائمة عليها. وهذا ينطبق على القسم الأكبر من الدول العربية. وإذا وجدنا كثيراً من التحفظات المذكورة آنفاً ذات صدى عميق أحياناً لدى نخب الفصيلة الأولى من البلدان المشابهة في تسامحها النسبي مع الإنسان لا مع المعارضة بالضرورة فالأمر مختلف تماماً لدى الطبقات الوسطى أو النخب المثقفة في البلدان التي تعاني من نظم اقرب إلى الطغيان والسيطرة الحيوانية منه إلى الإدارة السياسية فليس موضوع الصراع هنا الحفاظ على توازن داخلي دقيق مستند إلى وضعية جيوسياسية ودولية خاصة، أي توازن مكفول أساساً من الخارج مغذى بقدرات كبيرة على رشوة الطبقة الوسطى وخلقها، وإنما بالعكس من ذلك تماماً: إنه تغيير أنظمة الطغيان ودفعها إلى التغيير فليست النخب هنا أمام خيار آخر سوى الاستسلام للطغيان والخضوع له أو العمل لدمقرطة الحكم والنظام ولذلك فإن المنظور يختلف تماماً والتجربة المعاشة أيضاً ومعها التساؤلات.
فبينما تركز النخب المرشوة مادياً أو زبائنياً، في الخليج بشكل خاص، لكن في كثير من البلاد العربية الأخرى، على الطبيعة الشريرة للإنسان عموماً والتي تدفع إلى التشاؤم من مستقبل الديمقراطية، تركز النخب العربية غير الحاكمة في البلدان الشمولية على الطبيعية الشريرة للأنظمة الاستبدادية وسدنتها، وتكاد تكون متفائلة جداً بأن مستقبل هذه الأنظمة أصبح وراءها وأنها فقدت شرعيتها وأصبحت على خط الدفاع المباشر عن نفسها وعن مصالح الفئات، وهناك إيمان عميق لديها بأن موجة التحول الديمقراطي التي عمت أجزاءً كبيرة من العالم، موجة عميقة ومستمرة وأنها لن تتأخر قبل أن تغمر أجزاءً كبيرة من المجتمعات العربية.
وبينما تركز النخب التي اشترت الحقوق السياسية والمشاركة ببعض الامتيازات المادية على المخاطر الناجمة عن وثوب مغامرين غوغائيين إلى السلطة، تشير النخب العربية المسحوقة إلى أهمية الديمقراطية من اجل تكوين رأي عام ناضج ومسؤول هو وحده القادر على وضع حد الفساد المستشري وتقليم أظافر الفئات التي وضعت يدها على الدولة والمال العام.
وبينما تركز النخب المستفيدة على ضعف الديمقراطية في دفع حركة التنمية لأنها تتيح استلام السلطة من قبل نخب غير مخلصة وضعيفة، تؤكد النخب العربية على أن غياب الديمقراطية لم يعط لا حرية ولا تنمية وترفض مقايضة واحدتهما بالأخرى أو طرحهما كما لو كانتا في تناقض حتمي.
وبينما تركز النخب المحمية على خطر الديمقراطية على وحدة الأمة وقوة الدولة، تركز النخب المنسية على أهمية الديمقراطية من أجل تدارك الانفجارات والانقسامات العرقية والدينية والجهوية. وما حصل يف يوغوسلافيا لا يبرهن على مخاطر الديمقراطية على الوحدة الوطنية بقدر ما يدل على نتائج عقود طويلة من الحكم الاستبدادي الذي يفرض الوحدة الوطنية بوسائل أمنية بدل ان يسمح للمجتمع بتطوير ما يسمونه اليوم صراحة بالعقد والتعاقدات الاجتماعية: إن الأنظمة المستبدة لم تدعم الدولة ولا قوت الأمة ولكنها غطت بالعكس على تناقضاتهما ومنعتهما من النمو والتطور وهذه التناقضات هي التي قضت على النظام الاستبدادي ذاته قبل أن تتفجر داخل الأمة أما بخصوص الطبقة الوسطى، فالنخب العربية الديمقراطية التي تنتمي جميعاً إلى هذه الطبقة تعتبر أن النظم الاستبدادية في طريقها إلى القضاء الكامل عليها إن لم تكن قد فعلت ولا تشعر أبداً أن مصيرها معلق بها، بقدر ما تشعر بأن تغيير هذه الأنظمة هو طريق التحرر والخلاص والنمو الوحيد لها؟ أما التساؤلات التي تثيرها هذه النخب فهي من طبيعة أخرى لا يعبأ بها أصلاً من يستبعد من ذهنه خيار الديمقراطية وهي تشمل:

1 - العلاقة ين الديمقراطية وضمان السيادة الوطنية، أي كيف العمل حتى لا تترجم الديمقراطية بتزايد نفوذ الدول الأجنبية الكبرى وتلاعبها بالمصير الوطني.
2 - العلاقة بين الديمقراطية والمسألة الاجتماعية وضمان أن لا يكون التقدم الذي تحققه مجرد تقدم على مستوى الحريات ولا يضمن دمج الطبقات الشعبية والفقيرة في العملية الديمقراطية، أي كيف تتحول الديمقراطية من ديمقراطية سياسية (وهذا ليس أمراً لا قيمة له) إلى ديمقراطية اجتماعية.
3 - العلاقة بين الديمقراطية والحركات الإسلامية، أي كيف يمكن للديمقراطية أن تتجنب أسلوب الإقصاء والاستبعاد لطرف من الأطراف الاجتماعية من دون أن تساوم على طابعها المواطني القائم على حيادية الدولة مذهبياً وتعاملها المتساوي مع جميع المواطنين.
4 - العلاقة بين توطين الديمقراطية وأشكال الصراعات الإقليمية، أي كيف يمكن تطوير وتعميق، بل تحقيق الديمقراطية في إطار من الصراع العربي الإسرائيلي المستمر والضاغط ومن الصراعات العربية العربية، فالديمقراطية بحاجة كي تستقر وتزدهر إلى بيئة مستقرة وسليمة لا يعني ذلك أنه لا توجد لدى هذه النخب الديمقراطية أو بعضها بالأحرى تحفظات، لكنها تختلف حسب التيارات العقيدية المختلفة فتحفظ اليساريين عموماً يتركز على خطر استخدام الديمقراطية للتغطية على تهميش الأغلبية الشعبية، وتحفظ العلمانيين يدور حول خطر أن تكون وسيلة لصعود الإسلاميين إلى السلطة.
لكن، لأن النخب الحاكمة تردد التحفظات التي تضمنتها ورقة الرميحي فليس هناك مندوحة من التأمل فيها بجدية والرد عليها: 1 - ففيما يتعلق بالتحفظ الأساسي الذي يشير إلى ما تحمله الديمقراطية من مخاطر بالنسبة للشعوب النامية وغير الناضجة قومياً أو ذات الدولة الضعيفة فهي قائمة، لكن الواقع أن ما نقوله عن مخاطر الديمقراطية ينبغي قوله عن مخاطر كل أنماط الحداثة فهي كلها، من الصناعة إلى الدولة الحديثة مروراً بكل أشكال البضاعة والاستهلاك تأتي بآثار جانبية قد تكون مدمرة للمجتمعات وقد حصل ذلك أيضاً مع المجتمعات الغربية التي أعيد تشكيلها على ضوء العصر الصناعي والرأسمالية. وقد دمرت الصناعة الحرفة والإنتاج المحلي في الدول ما قبل الصناعية، كما كان الحال في الند والبلاد العربية، ومكنت أوربة الصناعية من السيطرة على هذه الدول وخلقت الاستعمار والتبعية وبالمثل، أدى إنشاء الدول الحديثة إلى تفكيك الأمم السابقة أو إعادة بناء أمم لم يكن لها وجود، وبالتالي إعادة تشكيل المجتمعات السياسية بقدر ما فتتت الأسس التقليدية للإمبراطوريات أو السلطنات السابقة وأكبر منطقة عانت من ذلك هي المنطقة العربية ودول الخليج الصغيرة هي أكبر تعبير عن لا عقلانية التشكيلات التي أفرزها توسع نطاق انتشار نموذج هذه الدولة الحديثة شبه الاستعمارية معاً، والديمقراطية التي هي نمط من أنماط الحداثة تزعزع أركان الدول والوطنيات الضعيفة التي نشأت بعد الاستعمار ولم يكن لها أي وجود من قبل وسوف تطرح إعادة بناء الفضاءات السياسية أيضاً، لكن السؤال هو أولاً: هل نستطيع أن نوقف حركة تأثير الصناعة والدولة الحديثة والديمقراطية، وثانياً: هل نعتبر أن الديمقراطية والصناعة والدولة الحديثة أنماطاً تحمل، بالرغم من التهديدات، قيماً إيجابية أفضل من الأنماط التي سبقتها أو لا؟ إذا كان الجواب نعم على السؤال الثاني فالموضوع يصبح: كيف نوطن هذه القيم ونحول مجتمعاتنا من البنيات والهياكل القديمة غير الفاعلة وغير المجزية إلى البنيات الحديثة وليس صحيحاً أن وضع هذه المجتمعات، والعرب منهم، كان أفضل قبل نشوء الدولة الحديثة لا من الناحية المادية ولا من الناحية السياسية ولا من الناحية الاجتماعية ولا من الناحية الأخلاقية، لقد كانت مجتمعات أقل تبعية للخارج بالتأكيد لكن كان الفرد أكثر تبعية بكثير للسيد الإقطاعي أو السلطان وأكثر اعتماداً على الظروف المناخية، وأكثر فقراً ومرضاً وجهلاً وتوحشاً.
ويطرح توطين الأنماط الجديدة، إذا اعتبرناها حاملة لقيم إنسانية أفضل، مشكلة السيطرة على النموذج الجديد، وعندئذ لا تكون المشكلة هي المفاضلة بين الديمقراطية والاستبداد والاستبداد المستنير ولكن معالجة المشاكل الحقيقية والمخاطر التي تثيرها عملية التحويل، سواء أكانت تتعلق بالتحديث أو دمقرطة الحياة السياسية والسؤال يكون عندئذ: ما هي تصوراتنا لإزالة الآثار الجانبية أو التخفيف منها لإدخال نمط جديد من التنظيم أو الإنتاج.
وبالنسبة للتحفظ الثاني المهم، المتعلق بارتباط الديمقراطية أو نجاحها بدرجة تطور معينة للمجتمعات ووجود طبقة وسطى واعية فهو يكمل ذاك التحفظ الذي يقول إن الديمقراطية فكرة مستوردة ومفروضة في النهاية من الخارج ولذلك من الصعب توطينها.
وبصرف النظر عن معرفة كيف ومن يحدد درجة تطور المجتمعات وما هي نسبة الطبقة الوسطى في المجتمع الصالح لتطبيق الديمقراطية فإن السؤال الذي يطرح هنا هو كيف تنشأ أنماط للحكم السياسي وما علاقة هذه الأنماط بالفعل بتطور أو درجة تطور المجتمعات الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى الثقافي ويبدو لي انه يوجد هنا تصور مبسط يتجاوز التاريخ عندما يصور أن لكل مجتمع نمط حكمه السياسي فالواقع أن أنماط الحكم تنشأ في حضن مجتمع ما أو بعض المجتمعات بسبب تضافر عوامل مختلفة، وينشأ كطفرة، ثم لا يلبث أن ينتشر في العالم كله، هذه هي جدلية كل تطور حضاري: لا تعيد كل المجتمعات اختراع العجلة والدولة والصناعة والحاسب الإليكتروني، إنها تعمم انتشاره فالإبداعات التاريخية المادية والسياسية مثل نظم الحكم الجديدة تفرض نفسها على المجتمعات التي لم تبدعها حتى لو كانت ظروفها الخاصة ليست ناضجة لها تماماً، وهذا هو فحوى كل ما تعيشه مجتمعاتنا من أزمات، فلم تكن مجتمعات العرب في منتصف القرن العشرين ناضجة لقيام جمهوريات ديمقراطية ومع ذلك فقد اختارت النخب نمط الحكم الدستوري الديمقراطي بعد الاستقلال بنفسها لأنها أدركت كغيرها أنه هو النموذج الصالح اليوم الذي يستجيب لقيم العصر، ولم يكن ذلك خطأ. واليوم نحن نعمل المستحيل لتوطين أنماط التقنية الحديثة، خاصة الحاسب الإليكتروني والانترنيت مع العلم أننا في مستوى علمي أقل بكثير من ذاك الذي أنتجها، لأننا نعتقد أن ذلك ضرورياً لنا من أجل البقاء في العالم والتفاعل معه والتبادل من المعايير ذاتها. ونحن بحاجة إلى توطين كل أنماط التطور العلمي والتقني والسياسي والأخلاقي بالقدر نفسه، ونحن نكافح من أجل توطين مفهوم حقوق الإنسان بالرغم من أن ما نعيشه في مجتمعاتنا وربما بسبب ذلك أيضاً، هو نفي جذري لمفهوم الفرد والمواطن وحقوقه وسيادته وكرامته .ليس اختلاف النمط الحضاري عن تجربتنا التاريخي سبباً في رفضه إذن المهم هو النظر إلى الظروف الخاصة عند تطبيقه وإعادة أقلمته مع هذه الظروف ودرجة تطور المجتمعات لا تلغي ديناميكية انتشار الإبداعات الحضارية ومهمة النخب الاجتماعية هي أن تهيئ لهذا الانتشار أفضل الظروف لا أن تقف في وجهه لأنه غير متفق مع ما هو قائم في مجتمعاتها. في هذه الحالة الأخيرة لو فعلت تحكم على مجتمعاتها بالجمود وتكون رافضة للتقدم والتطور ومسايرة الحضارة هناك في نظري موقفان خاطئان تجاه الديمقراطية ومتفقان بالرغم من تعارض طروحاتهما: الموقف الرافض للديمقراطية كليه لأنه يتصورها مصدراً للتهديدات والمخاطر والفساد والانحطاط، والموقف القائم على الإيمان الساذج بها باعتبارها وصفة تشفي جميع الأمراض. فإذا لم تكن صالحة لإزالة التخلف والجهل والمرض ولبناء الأمة والدولة وطرد الإسرائيليين من الأراضي العربية المحتلة فهي لا قيمة لها ولا تهمنا، فهذا الموقف يريد وصفة تبرر له الاستقالة التاريخية الكاملة الديمقراطية ليست وصفة سحرية لمعالجة جميع علل المجتمعات، ووجودها لا يغني أبداً عن بلورة استراتيجية اقتصادية وجيوسياسية وعلمية وتقنية وعسكرية لتحقيق التنمية والتحرير، إنها مثلها مثل المكاسب الحضارية الأخرى، تجيب على أسئلة محددة وتحل مسائل محددة أيضاً، تتعلق أساساً بأسلوب ممارسة السلطة وما يرتبط به من تصور لحريات الأفراد ودورهم ومشاركتهم في القرار السياسي ومسؤوليتهم، أي بتكوين الفرد المواطن أو كمواطن وهي تحتاج كي تتوطن إلى أن نستثمر فيها وأن نضحي من أجلها وليست قادرة على تقديم تضحيات للتنمية أو للتحرير هي مهمة إذا اعتبرنا أن تحويل الأفراد من رعايا خانعين إلى مواطنين مسؤولين مفيد اجتماعياً واقتصادياً ومبرر أخلاقياً أو بالأحرى مطلوب أخلاقياً.
ومشكلة بعض النخب العربية هي أنها تتردد بين التشكيك بصلاح الديمقراطية أصلاً كفكرة والأخذ بها كوصفة. نعم هي غير صالحة لحل جميع مشاكل المجتمعات لكنها تعبر عن تطور نظرة جديدة للإنسان تضعه في إطار المشاركة وتراهن على عمقه الأخلاقي الإيجابي.