لماذا لن يكون ما بعد القصير كما كان قبلها

2013-06-11:: face book

 

حتى سقوط القصير في يد ميليشيات حزب الله، بقي الطابع العام للصراع داخل سورية داخلي، يسعى فيه شعب جرد من حقوقه خلال عقود طويلة لنزع نير نظام مافيوزي وحشي قاس عن عنقه. لم تكن الأبعاد الطائفية، العابرة للحدود، ولا تدخلات القوى الإقليمية والدولية غائبة يوما، لكنها لم تكن تغير من طبيعة الصراع، طالما أنها لم تغير من رهاناته الأساسية التي هي الانتقال من نظام حكم استبدادي متوحش إلى نظام ديمقراطي. 

مع احتلال القصير من قبل حزب الله اللبناني، والحشد المتزايد للميليشيات الشيعية القادمة من ايران والعراق واليمن وباكستان وغيرها، بدأت رهانات الصراع تتغير وتتحول من رهانات داخلية إلى رهانات إقليمية. بقاء نظام الأسد لم يعد يعني الابقاء على الاستبداد فحسب، ولا هزيمة المعارضة أو نجاح الديكتاتورية. صار الانتصار في الحرب أو الهزيمة فيها يعنيان زلزالا جيوسياسيا إقليميا ودوليا يصعب على ألدول المعرضة للخسارة تحمله. 
ما سمح للأسد الأب أن يستمر هو نجاحه في تحييد القوى الاقليمية والدولية من حول سورية التي تشكل موقعا جيوسياسيا حساسا من الصعب لطرف إقليمي أو دولي احتمال أن يسمح بأن يتركه ينحاز كليا لهذا المحور أو ذاك. وكانت طريقة الاسد الأب في كسب الأطراف جميعا هو وضع سورية في خدمة الجميع، وتوزيع المصالح عليها على حساب حصة الشعب السوري الذي تحول إلى طعم ووقود للتعويم الدائم للنظام. قدم النظام لاسرائيل، الأكثر شرها في المنطقة، أثمن ما ترمي إليه، أربعين عاما من الأمن والاستقرار على ما تسميه بالحدود الشمالية. وقدم لايران الخمينية، التي لا تقل طمعا عنها، مظلة تحميها من لفظ المجموعة العربية وعدائها لها، وأهدى للخليج والبلدان العربية الأخرى التعاون والتنسيق الأمنيين الثابتين، وأغرى الدول الغربية والولايات المتحدة باحتوائه للحركات المتطرفة الاسلامية وغير الاسلامية، عن طريق اختراقها والتعاون معها. أما مع روسيا فقد حافظ على إرث كبير من علاقات الصداقة والتبادل التجاري، والعسكري بشكل خاص، يعود إلى عقود طويلة سابقة مع الاتحاد السوفييتي البائد، وهو ما تزال روسيا حريصة على الاحتفاظ به، وفي مقدمه تزويد الجيش السوري بالسلاح والاستفادة من التسهيلات التي تقدمها لها قاعدة طرطوس العسكرية. 
هذه التوازنات التي بناها الأسد الأب جعلت من النظام السوري البؤرة التي تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية وتتحيد في الوقت نفسه، وتمنع أن يتحول المركز الجيوسياسي السوري الحساس لصالح طرف ضد آخر. 
لم يكن هناك سوى خاسر واحد في هذه السياسة التصالحية مع الجميع، هو الشعب السوري. 
بعد موت الأسد الأب بدأت هذه التوازنات بالاختلال لسببين، سياسة بوش الابن التي وجدت في النظم الاستبدادية البعثية الفاسدة ثمارا يانعة وأرادت أن تحصدها لصالحها وحدها، والثانية صعود أمل الشعب السوري، في الوقت نفسه، وإدراكا لاهتلاك النظام وفساده، في تغيير موقعه في هذه المعادلة. 
وفي الحالتين جاء رد النظام السوري واحدا: الهرب إلى الأمام والاستخدام المتصاعد والمكثف للعنف. في العراق بتوريد المقاتلين الجهاديين ردا على سياسة الغزو الامريكية، وفي لبنان باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وفي الداخل السوري بتكوين فرق جديدة للقمع لم تكن سورية تعرفها من قبل، ردا على تصاعد مطالب الشعب في استعادة حقوقه الطبيعية. 
ومن أجل تأمين المزيد من القوة وموارد العنف وجد النظام السوري نفسه ينزلق بوتيرة متزايدة نحو الاعتماد على القوى الخارجية التي يمكن أن يستمد منها الدعم. هكذا عزز علاقته بحزب الله التي تحولت إلى زواج كاثوليكي، وثبت حلفه الاستراتيجي، أي أيضا انحيازه، مع طهران، و فتح لها إمكانيات بسط نفوذها السياسي والفكري والديني من دون حساب في جميع المدن والقرى السورية. 
بعد "النصر المبين" في القصير، ومشاريع التحشيد الطائفي الواسع في المنطقة لكسب الحرب الدائرة في سورية، لم تعد المشكلة في بقاء الأسد واستمرار نظامه الوحشي الفاسد، وإنما انحياز سورية وتحولها إلى مقاطعة ايرانية، تماما كما يريد لها أن تكون بعض قادة الجمهورية الخمينية ورجالات دينها. هذا يعني انقلابا اقليميا خطيرا وتهديدا مباشرا ليس لأمن الخليج واستقراره فحسب وإنما لأمن مصر والبلاد العربية برمتها ولجميع دول اوروبة التي تعتمد أكثر من الولايات المتحدة بما لايقاس على مصادر الطاقة العربية. 
لذلك أقول إن الوضع السياسي والعسكري في المنطقة لن يكون، بعد احتلال القصير الذي زاد من شهية ايران وحزب الله في ابتلاع سورية وإلحاقها نهائيا بالهلال الأخضر، كما يصفونه الايرانيون، والذي يضم ايران والعراق ولبنان بالاضافة إلى النظام السوري، كما كان قبله. ولن يقبل العرب ولا الدول الغربية أن تتحول سورية إلى محافظة ايرانية. وعلى العرب أن يقولوا الآن كلمتهم أو يخرجوا من الجغرافية. هذا يعني أننا مقبلين على أسابيع حاسمة، وأن مستقبل المنطقة وسلام سكانها وأمنها واستقرارها مرتبط اليوم، أكثر من أي فترة سابقة، بقدرة العرب وحلفائهم على رد تحدي ابتلاع سورية، قلب المشرق العربي وجملته العصبية، وضمها إلى محور الهيمنة الايرانية.