تجديد عهد الثورة

2013-08-07:: face book

 

أمام المقاومة الاسطورية التي وجهتها مجموعات صغيرة من شباب الجيش الحر، المحاصرين، منذ أشهر طويلة، في حمص، قبل أن تنسحب عن مواقعها إلى مواقع جديدة، وحجم القنابل والمتفجرات الذي وجه لهم، ونوعية الاسلحة التي استخدمت لكسر إرادة الصمود لديهم، أصبح تقدم قوات النظام ومرتزقته بضعة أمتار في حي الخالدية الشهير برهانا على الفشل والعجز والقصور لجيش النظام، أكثر من أي شيء آخر. ووسام الشرف يرجع قبل أي فرد إلى هؤلاء الأبطال الحماصنة الذين لا يزالون يروون بدمائهم، من دون حساب، شجرة الحرية التي زرعها أطفال سورية منذ الأيام الأولى للثورة المجيدة، في درعا وإدلب ودير الزور والرقة والقامشلي واللاذقية وبانياس وحلب ودمشق وغيرها من مدن سورية الصابرة والصامدة. وإذا قارنا حجم القوات وتسليحها، والتفوق الساحق لقوات النظام، بالاسلحة والقذائف والصواريخ والطيران، في مواجهة شباب لا يملك سلاحا سوى ايمانه وثقته وفدائيته، فالاسم الحقيقي لما أنجزه مرتزقة النظام هو الهزيمة، حتى لو ترجمت هذه الهزيمة بالتقدم بضعة أمتار على الأرض.
في مثل هذه الحروب التي يكون هدفها ومحور عملها كسر إرادة الخصم قبل أي شيء آخر، لا أهمية كبيرة لكسب هذا المتر المربع أو ذاك، وإنما النتيجة النهائية للحرب. ومنذ الآن، وبالرغم من بعض التراجع الذي شهدته قوات الثورة في بعض المناطق، لكن من دون نسيان التقدم الكبير الذي أحرزته في أكثر من منطقة، لا ينكر أحد أن الجيش الحر قد وجه لجيش القتلة ضربات هدت عزيمته وكادت تخرجه من المعركة قبل أن تسعفه ايران وموسكو بالمرتزقة العرب والأجانب وبمئات الأطنان من الأسلحة الجديدة.
لكن بعد تأكيد هذه الحقائق، وهو أمر ضروري لفهم المشهد بكليته، وعدم إضاعة البوصلة، ينبغي أن نقر بأن أخطاءا كثيرة ارتكبت ولا تزال ترتكب في معسكر الثورة جعلها تتباطأ في وتيرة تقدمها، وتخسر الكثير من زخمها، وتنكفيء في بعض المناطق على نفسها وقواها الأساسية بدل أن تستقطب المزيد من قطاعات الرأي العام السوري التي كانت مترددة أو على الحياد. ومن أكبر المظاهر لهذا الوضع حصار حمص نفسها لأكثر من سنة، من دون أن ننجح في وضع خطة لفكه، بينما كان مرتزقة النظام لا يكفون عن تعزيز حصارهم على شبابنا ومدينينا.
هناك الآن توافق على أن الجيش الحر تأخر في أن يحقق ما كان عليه أن يقوم به ليتحول من قوى مدنية للمقاومة والدفاع عن النفس في الأحياء والمدن التي تتعرض للهجومات الاجرامية إلى جيش تحرير بالمعنى الحرفي للكلمة. ونعني بالجيش المنظم أولا أن تكون هناك قيادة مركزية وهيكيلية للقوات بحيث تندمج كلها في قوى منظمة واحدة يكون من السهل تحريكها من مكان إلى مكان وتسليحها بالأسلحة النوعية والثقيلة وتحويلها إلى قوات قادرة على التحرير المنهجي للمواقع والأرض، وثانيا أن ترتبط المعارك والمقاومة بخطة واستراتيجية طويلة المدى وتكتيكات مدروسة تمكن الجيش من الضرب في الأماكن الموجعة، ورسم طريق النصر العسكري خطوة خطوة. وكل هذا يتنافى مع بنية الميليشيات التي تعتمد على قائد فرد يعمل لوحده وفي منطقته المحدودة من دون تنسيق مع الميلشيات الأخرى ولا دمج عمله في خطة شاملة للتحرير الوطني. والنتيجة ان مقاومتنا بقيت اسطورية كما كانت عندما كنا نتعرض للهجوم، لكن قدرتنا على استثمار تراجع خصمنا وانهياره كانت ضعيفة جدا لدرجة اننا بعد أن دمرنا جيش الخصم، راوحنا في مكاننا وتركناه يستعيد انفاسه ويقوي مواقعه بالمرتزقة الأجانب.
ولأننا أخفقنا في أن نعيد هيكلة ميليشيات الثورة في الوقت المناسب، تحولت الانتصارات التي حققتها الميليشيات المحلية إلى عامل سلبي بدل أن تصبح منصة للقفز إلى تحرير البلاد وطرد السلطة الغاشمة من دمشق وإلقاء القبض على المجرمين الذين وضعوا أنفسهم في سدة الحكم وهم ليسوا أكثر من لصوص وقتلة. فقد تحول كل قائد ميليشيا إلى زعيم قائم بنفسه، ولم يعرف المخلص منهم كيف يشارك في معركة الخلاص النهائي لأنه لم يكن هناك من يخطط لهذه المعركة، اما ضعفاء النفوس فقد تحولوا إلى أمراء حرب في المناطق التي يسيطرون عليها ولم يعد همهم سوى استغلال سيطرتهم لتعظيم قدرهم وتكبير أنفسهم ومد نفوذهم.
ومما ساعد على ذلك ما فرضه أخوتنا وأصدقائنا العرب وغيرهم من أسلوب في تأمين العدد والعتاد والمال للمقاتلين. فقد تركز الدعم، لأسباب مفهومة أحيانا لكن غير مبررة، على مجموعة صغيرة من الكتائب أو الألوية التي نجحت في أن تسوق بشكل أفضل لعملياتها أو التي كانت ذات مقدرة أكثر على القتال، بينما حرمت الأغلبية الساحقة من الكتائب المحلية الموزعة على اتساع الأرض السورية من أي دعم. وكانت النتيجة ترسيخ عقلية الزعامة المتفردة والتنافس بين الزعامات عند الألوية والفرق المحظوظة أو المحظية، وتحول البعض منهم إلى أمراء حرب، وفي الطرف الثاني بث روح الإحباط واليأس والظلم عند القسم الأكبر من كتائب الجيش الحر الذين وجدوا أنفسهم من دون ذخيرة ولا سلاح، واضطروا أحيانا إلى القتال في شروط كانوا يدركون فيها أنهم سوف يستشهدون لافتقارهم للذخيرة والسلاح المناسب.
كل ذلك أضعف قدرتنا على تطوير الحرب في اتجاه تحرير المزيد من المواقع وحسم الصراع لصالح الشعب. وهذا هو الذي مكن النظام من استعادة انفاسه والاستعانة بالمرتزقة الأجانب، بل والتفكير في هجوم شامل يقلب فيه موازين القوى لغير صالح الثورة ويمكنه من فرض الأمر الواقع على الثوار ومن ورائهم على الشعب السوري الثائر كله. ولعل من مظاهر هذا الضعف الذي طرأ علينا وعرقل تقدمنا ما شهدته حمص نفسها ومقاتلوها من حصار لا يزال قائما منذ أكثر من سنة لم ينجح قادة الجيش الحر في هيئة الأركان في ايجاد الوسيلة لفكه وتحرير المدنيين والمقاتلين.
تشتت القوى وغياب القيادة المركزية والخطط الميدانية والتدريبات اللازمة للمقاتلين، بالإضافة إلى نقص الأسلحة والذخائر أو تركزها في حضن كتائب أو مناطق معينة، كل ذلك أساء كثيرا للثورة ميدانيا وسياسيا وأثر كثيرا على نفسية المقاتلين، المستفيدن منهم والمحرومين.
لا تقع المسؤولية على قادة الكتائب الذين كانوا يبدون تمسكا شديدا باستقلالهم ويرفضون الاندماج في هيكل تنظيمي أوسع منهم، وإنما على هيئة الأركان نفسها التي لم تنجح في ايجاد الصيغ الكفيلة بدمج القوات تدريجيا، ومارست على مستوى التسليح والتذخير سياسة اثارت التناقض والتنافس أكثر في ما بينهم. وتقع كذلك على الممولين والمزودين بالسلاح من الأفراد والدول الذين بتقديمهم البعض واستبعادهم البعض الآخر رسخوا عقلية الولاء ومنطق الممالأة والمحاباة، بدل تعميق روح التضامن والتكافل والأخوة بين المقاتلين جميعا. منذ بدء ولايتي الثانية في رئاسة المجلس الوطني كان همي الرئيسي هيكلة الجيش الحر وتنظيم قواته تحت قيادة مركزية واحدة. ورعيت مفاوضات وحوارات طويلة مع قادة الجيش الحر في ذلك الوقت نجمت عنها اتفاقات ووثائق موقعة ذهبت كلها إدراج الرياح لأن الذين وقعوها لم يكونوا مؤمنين بها، ولم تكن لديهم الإرادة لتطبيقها. بل لقد كان البعض ينفي على الإعلام ما كنا قد وقعنا عليه البارحة. ولم يكن الدافع لذلك روح الفردية والانفراد التي تبدو لي اليوم وكانها سمة من سمات ثقافة الديكتاتورية التي تحرم التنظيم والعمل الجماعي وتعلم الناس عدم الثقة ببعض فحسب، وإنما تعزيز الولاءات الخارجية من قبل الدول الداعمة وحرص هذه الأخيرة على أن يكون لكل منها قوى مرتبطة بها ومخلصة لسياستها.

بعد أشهر طويلة من الصراع الذي أبلى فيه مقاتلو الجيش الحر بلاءا لا نظير له في أي تاريخ، زعزع أركان نظام القتلة ووضعه أمام حتفه، قبل أن تهرع قوى الشر لانقاذه، تمر الثورة الآن في منعطف حقيقي، فإما أن نعيد تنظيم أوراقنا ونعد أنفسنا وقواتنا إلى معركة حاسمة نفرض فيها على السلطة الغاشمة التي لم تترك سلاحا ثقيلا لم تستخدمه لكسر إرادة شعبنا وتدمير بلادنا، أو أن نبقى نقاوم على الطريقة القديمة، من دون امل بالحسم، مع تزايد ضغط الدول علينا للدخول في مفاوضات سياسية لن يكون نتيجتها سوى الفشل، لأن أحدا منا لن يقبل بتسوية مع النظام، ولأن النظام لن يقبل بالانسحاب من المسرح طالما كانت لديه القوة الكافية ليستمر في اضطهادنا.

لا يكفي أن نمنع النظام القاتل من الفوز. وهو لن يستعيد نفوذه وسلطته مهما فعل، لا على سورية كاملة ولا على جزء منها كما يتوهم هو ويخشى البعض. لكن هذا لن يكون أبدا عزاءا لنا. لأن عدم الحسم، واستمرار الصراع على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، يعني تمديد اجل القتل والدمار وفي المحصلة نهاية سورية. هذه ستكون هزيمة لنا، أعني لشعبنا ووطننا وبلدنا وحضارتنا. وهذا ما ينبغي أن نرفضه ونعمل على تجنبه بأي ثمن، ومهما كان الثمن.

.وتشكل معركة حمص الدائرة اليوم وصمود أهلها ومقاتلوها امتحانا لنا جميعا على مقدرتنا على الارتقاء إلى مستوى التحديات وحمل المسؤوليات الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة والحاسمة. وعلينا أن نبرهن من خلالها على قدرتنا على إعادة بناء قواتنا وتنظيم صفوفنا وتقديم مصالح الثورة والشعب على أي مصالح أخرى. إن التحامنا مع أهالي حمص ومقاتليها في هذه الأيام الفضيلة والحاسمة هو الخطوة الأولى على طريق تجاوز أخطاء الماضي، والتغلب على نقائصنا، وتوحيد أنفسنا لبدء المرحلة الثانية من ثورة الحرية والكرامة، ووضع الخطط الناجعة لبدء مرحلة الحسم وتخليص شعبنا ووطننا من هذه المحنة العظيمة.

أدعو جميع قوى الثورة والمعارضة، داخل الإئتلاف وهيئة أركان الجيش الحر، وكل أنصار الثورة في كل مكان، إلى الاتحاد والعمل المشترك لتعزيز جبهة حمص، والدفاع عن أهلها، ودعم المقاومة البطولية لمقاتليها البواسل، والعمل يدا واحدة، داخل سورية وعلى الصعيد العالمي، وحث المنظمات الدولية والدول الصديقة على وضع حد لسياسة الأرض المحروقة والدمار الشامل التي يطبقها النظام ضد الشعب السوري، وعلى حمص واهلها اليوم بشكل خاص. وأدعو جميع المؤسسات والقوى المعنية الإقليمية والدولية، والمثقفين ورجال القانون وجميع المدافعين عن العدالة وحرمة الحياة الانسانية وحقوق الانسان، إلى التنديد بكل ما لديهم من قوة بأعمال القتل والتدمير واستباحة حياة الأفراد ومقدساتهم التي يقوم بها نظام القتل والجريمة في سورية كلها، والتي تستهدف اليوم حمص، عاصمة الثورة وقلبها النابض.