الهجوم على برهان غليون: من «اغتيال العقل» إلى «اغتيال السياسة»

2011-12-17:: الحياة اللبنانية

 خالد الحروب

* محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج، بريطانيا

 

الذين يعرفون برهان غليون عن قرب وعلى مدار سنوات طويلة يعرفون إخلاص وصلابة هذا المثقف العميق لكل قضية لها علاقة بتحرر العرب من الاستبداد والدكتاتورية. ويعرفون مدى تشبثه وإيمانه بالإرادة الشعبية وقدرتها على الانفكاك من هيمنة السلطات الداخلية وتجبر القوى الخارجية. انشغالاته الفكرية والنظرية التي يعرفها مثقفون وطلاب وأكاديميون في طول وعرض العالم العربي لم تبرح قضايا تحرير العقل من الأوهام، وتحرير البشر من الاستبداد. ما كتبه عن «اغتيال العقل» و «بيان من أجل الديموقراطية» و «الاختيار الديموقراطي في سورية»، و «أدوار المثقفين»، جزء من اهتمام أوسع بقضايا استحوذت جهده وتفكيره. في منفاه الباريسي، دارساً ثم محاضراً في السوربون، كان سهلاً عليه أن يركل جانباً كل قضايا العرب ومجتمعاتهم وينحاز إلى أنانية أكاديمية تبدع في شأن من شؤون الفلسفة أو الاجتماع النظري وتبقى محلقة في أبراجها العاجية. هناك ألوف من الأكاديميين العرب في الجامعات الغربية فضلوا أن يغرقوا في علومهم المتخصصة والضيقة بأنانية الباحث المفهومة. 


كاتب «اغتيال العقل» يتعرض اليوم لـ «اغتيال سياسي» فج وبشع من قبل كثيرين قرروا اغتيال عقولهم والحد الأدنى من الإنصاف والموضوعية قبل دلق أحكامهم بالتخوين والتكفير والعمالة. إسلاميون وقوميون وماركسيون وغيرهم هجموا على برهان غليون في أعقاب مقتبسات قصيرة مترجمة بطريقة سخيفة وغير دقيقة من مقابلة في غاية الأهمية أجرتها معه «وول ستريت جورنال» الأميركية في منزله في باريس. في المقابلة المذكورة تحدث غليون وبالعمق المشهود له عن قضايا شائكة في الشأن السوري: الطائفية والمواطنة، الدولة والنظام والأجهزة الأمنية، العلمانية والشريعة، خيارات السوريين والتدخل الخارجي، سورية الجديدة بعد سقوط النظام وعلاقاتها الخارجية، وسوى ذلك كثير. في جانب العلاقات الخارجية أجاب عن سؤالين حول العلاقة مع إيران و «حزب الله»، وهي الإجابة التي أثارت عليه أعشاش دبابير حلفاء نظام الأسد والمدافعين عن جرائمه ضد شعبه. معظم التعليقات والاتهامات التي وجهت إلى برهان غليون بسبب تلك الإجابة اقترفت ثلاث خطايا في آن معاً: الأولى لها علاقة بفهم وتناقل ما قاله غليون فعلاً (نقلاً عن الترجمة غير الدقيقة للنص الإنكليزي)، مع تحريف ما قيل وتضخيمه، والثانية لها علاقة بالمنطق و «العقل» حيث يفترض النقاد أن على «المجلس الوطني» والثورة السورية وسورية ما بعد الأسد ممارسة الحب مع إيران و «حزب الله» والامتنان لهما بعد موقفهما من الثورة، والثالثة في اعتبار ما قال غليون (سواء بدقة أو محرفاً) وكأنه القول الفصل في تشكيل سورية ما بعد البعث. فهنا غليون يعبر عن رأيه وتطلعاته وبالتأكيد لا يريد ولا يستطيع حتى إن أراد أن يفرض ذلك الرأي وتلك التطلعات على كل السوريين، وإلا لتحول إلى دكتاتور آخر. كما أن من السذاجة الافتراض أن سورية الجديدة سوف تخضع لرأي شخص واحد مهما كان، بل إن في ذلك إهانة للشعب السوري وثورته والمستقبل الذي يريد.

وقبل إيراد ما ورد على لسان غليون في تلك المقابلة (استناداً إلى النص الأصلي الإنكليزي) وفي شأن علاقات سورية المستقبلية مع إيران و «حزب الله» و «حماس»، من المفيد التعريج سريعاً على واحدة من أهم الموضوعات التي وردت في المقابلة المذكورة، وهي لا تقل أهمية إن لم تكن أهم مما ذكر عن العلاقة مع إيران، وبهدف وضع الموضوع في إطار المقابلة الأوسع وعناوينها العديدة. تحدث غليون عن الوحدة الوطنية، والطائفية في سورية، وقال إن خطوط التواصل بين المعارضة والعلويين على وجه الخصوص مفتوحة تماماً وإن الكثيرين منهم يقفون وبقوة في صف المعارضة. وقد أراد النظام أن تظهر الطائفة العلوية شريكة في الجرائم التي قام بها، فيما واقع الأمر ليس كذلك. بل على العكس، فإن النظام عامل العلويين بسوء بالغ، والشريحة العلوية التي استفادت من النظام صغيرة جداً. ثم تحدث عن استغلال النظام للبعد الطائفي وتخويفه المسيحيين مثلاً من أي تغيير قد يحصل في سورية. وقال إن النظام قام عملياً برهن الطوائف المختلفة وإثارة عداواتها ضد بعضها البعض بهدف الحفاظ على السلطة لا أكثر. وعاد غليون إلى التاريخ السوري الحديث قبل سيطرة عهود حكم البعث حيث كان البعد الطائفي غائباً تماماً في الحياة الوطنية. وأشار إلى الأدوار الكبيرة التي لعبتها شخصيات بارزة في التاريخ الوطني الحديث لسورية، حيث كان المسيحي فارس الخوري أول رئيس وزراء لسورية بعد الاستقلال، وكان متصدرو الحركة الاستقلالية وقياداتها يتوزعون على الطوائف من دون أية محاصصة أو ادعاء أو انتماء طائفي، ومنهم سالح العلي - العلوي، وسلطان باشا الأطرش - الدرزي، وإبراهيم حنانو - الكردي، وحسن الخراط - السني. ثم أجمل غليون رؤية «المجلس الوطني» لسورية ما بعد الأسد إزاء المسألة الطائفية والأقليات وقال إن التمييز على أساس طائفي أو إثني سيعتبر جريمة، وانه لا فرق بين الأقلية والغالبية، والجميع متساوون على مبدأ المواطنة، وأضاف إن هناك وعياً بضرورة تفادي التجربتين اللبنانية والعراقية اللتين كرستا الطائفية. كما رفض غليون وصف ما يحدث بأنه حرب أهلية، بسبب بعض الاحتكاكات الطائفية، التي سببتها سياسات النظام الطائفية التي تحاول تأليب الناس ضد بعضهم البعض. وقال أن هناك بعض الظواهر والممارسات السلبية، لكن هناك وعياً عميقاً بعدم الانزلاق إلى الحرب الأهلية وأن شعار «لا للطائفية» من أهم الشعارات المرفوعة في كل التظاهرات في سورية.

الآن، وفي تناول ما قاله غليون بدقة، فإن إجابته عن العلاقة مع إيران هي التالية: «العلاقة الحالية مع إيران غير طبيعية، وهي غير مسبوقة في تاريخ السياسة الخارجية السورية. سورية الجديدة سوف تكون جزءاً لا يتجزأ من الجامعة العربية، وسوف تعمل على تحسين دور الجامعة العربية ودور الدول العربية إقليمياً، وبخاصة أنها (أي جامعة الدول العربية والدول العربية) اتخذت قراراً تاريخياً وغير مسبوق لدعم الشعب السوري. سورية في قلب المشرق العربي، ولا يمكن أن تعيش خارج إطار علاقاتها مع الجزيرة العربية، ودول الخليج، ومصر، والدول العربية الأخرى. نحتاج إلى دعم اقتصادي واستثماري من أشقائنا العرب في المستقبل. ومستقبلنا مرتبط بحق بالعالم العربي والخليج على وجه التحديد. وفي المستقبل سوف نحتاج إلى مساعدة حقيقية مالية واقتصادية لإعادة بناء سورية. علاقاتنا مع إيران سوف يُعاد النظر فيها مثل بقية الدول في المنطقة، كي تكون قائمة على تبادل المصالح الاقتصادية والديبلوماسية، وفي إطار تحسين الاستقرار في المنطقة، ولن تكون علاقة خاصة. لن تكون هناك علاقة خاصة مع إيران. وهذه هي القضية الأساسية، أي التحالف العسكري. إنهاء العلاقة الخاصة معناه إنهاء التحالف العسكري الاستراتيجي، لكننا لا نمانع في استمرار العلاقات الاقتصادية».

ما المشكلة في كل ذلك؟ لماذا يريد نقاد غليون أن تبقى سورية حديقة خلفية لإيران ونفوذها وسياساتها؟ ولماذا يرفضون أن تلعب سورية الجديدة دوراً مستقلاً في قلب المنطقة العربية وتعيد حشد طاقة عربية جديدة ليكون لها دور إقليمي؟ الكل يتباكى على غياب دور إقليمي عربي في ظل تقاسم المنطقة بين نفوذ تركي وآخر إيراني. أليس من المنطق تأييد توجه غليون وبأمل أن يكون التوجه الجماعي بعد الثورات العربية، أي بناء كتلة عربية مستقلة وفاعلة في الإقليم؟ إضافة إلى ذلك ما المشكلة في إنهاء العلاقة الخاصة مع إيران وأن تعود إلى شكل طبيعي متوازن؟

في الإجابة عن السؤال الخاص بـ «حزب الله» قال غليون ما يأتي: «علاقتنا مع لبنان ستكون علاقة تعاون واعتراف متبادل وتبادلات قائمة على المصالح، وبحيث نعمل مع لبنان على تحسين الاستقرار في المنطقة. وكما ستتغير علاقتنا مع إيران فإن علاقتنا مع حزب الله ستتغير. حزب الله بعد سقوط النظام السوري لن يبقى كما هو، ولبنان يجب أن لا يُستخدم ساحة لتصفية الحسابات السياسية كما كان يحصل أيام الأسد. أما حماس فقد انتقلت إلى سياسة جديدة وهي تعمل الآن مع منظمة التحرير لتوحيد الفلسطينيين، ولن تكون حماس المدعومة من قبل النظام السوري. علاقتنا مع حماس ستكون من خلال علاقتنا مع منظمة التحرير من ناحية سياسية ومن خلال علاقتنا مع المجتمع المدني الفلسطيني».

مرة أخرى، أين «الطامة الكبرى» التي استدعت ذلك النواح المقاوم الكبير على هذه التصريحات؟ أين المشكلة عندما يرسم غليون صورة لسورية ما بعد نظام الأسد وهي ترسم علاقاتها مع «حزب الله» الذي وقف ضد ثورتها، ويقول ستكون علاقتنا مع الدولة اللبنانية، وقائمة على احترام سيادتها. وأن سورية الجديدة ستكون مع الفلسطينيين موحدين وليس مع طرف منهم ضد الطرف الآخر؟ أصحاب مقامات المناحة المقاومية يريدون دولاً «ساحات» تعج فيها الفوضى وسمتها الدمار الشامل. الشيء الوحيد المُشتعل فيها هو ضجيج الشعارات التي تهدد إسرائيل والإمبريالية بالويل والثبور. في واقع الأمر يقول غليون إن من قتلهم نظام المقاومة والممانعة من شعبه، من الشعب السوري الثائر، تجاوزوا حتى الآن من قتلتهم إسرائيل في حرب تشرين. عند كثيرين هذا كله وغيره لا يهم. ما يهم هو الشعار الطنان!