الرأسمالية العشائرية clanique 

2004-08-16::

 أو النموذج  السوري للانتقال نحو إقتصاد السوق

 

 -1 أربع سنوات على الاصلاح والتحديث

نهاية عهد أم بداية عهد

 منذ وفاة الرئيس  حافظ الأسد في حزيران  2000  أضحى الإصلاح والتغيير موضوع النقاش السوري الوحيد في سورية.  والمسألة التي  دارت من حولها جميع المناقشات ولاتزال تتعلق بمعرفة فيما إذا كان هناك أمل حقيقي في التغيير أم لا، وما هي حدود هذا التغيير الممكن أو المحتمل. وبالرغم من أن هذه النقاشات بقيت محصورة بين أوساط محدودة ولم تبلغ في أي فترة مستوى النقاش الوطني العلني والمنظم، إلا أن ما تنشره الصحافة السورية واللبنانية لمثقفين أو سياسيين سوريين متبايني المواقف والاتجاهات يدل على حالة الفوضى الفكرية والسياسية التي يعيشها الرأي العام المشدود بين الأمل بتغيير يعتقد أنه في حدود الممكن واليأس من استمرارية أوضاع يبدو اقتلاعها من باب الخيال.

  راهن أصحاب الاصلاح على بشار الأسد الذي حظي في بداية عهده بتعاطف لاشك فيه. واستند الرهان على مجموعة من الحجج التي تدعم الأمل بالتغيير وتجعل منه خيارا لا مهرب منه حتى لو كانت ملامح تحقيق هذا الخيار غير واضحة بعد.  ومن هذه الحجج ما تعلق بشخص بشار ذاته ومواهبه.  فقد نسب إليه التمتع بذكاء حاد وحنكة كبيرة وحذر شديد كذلك الذي كان يميز سلوك والده من قبل. وإلى هذا الحذر يرجع البعض البطء الظاهر في وتيرة التغيير. وتتغذى هذه الصورة الاصلاحية مما يعزى أيضا للرئيس الجديد من إدراك  لعمق الخراب الذي تعيشه البلاد بعد أربعة عقود من رميها لقمة سائغة لبيرقراطية صاعدة نهمة ومفترسة.  ومن هذه الحجج أيضا ما يتعلق بطبيعة هيكل السلطة الذي ورثه عن أبيه. فكثيرون يعتقدون أن النظام الأتوقراطي الفردي القائم يؤهل الرئيس، بما يعطيه من سلطات استثنائية، كي يكون المحرك الأول للدولة، كما ينفي أي حصانة عن أي مسؤول آخر مهما علا كعبه. وهو هيكل يمكن الرئيس، حيثما يريد وعندما يريد، كما مكن أباه من قبله، من اقتلاع أي مركز نفوذ أو قوة ضغط في النظام، واستبعاد أي شخصية غير مرغوبة أو معرقلة من السلطة، من دون أن يكون لها أي فرصة للقيام برد الفعل أو إظهار التحدي.  فجميع المسؤولين البيرقراطيين موظفين  يعتمدون في وجودهم في مواقعهم على قرار الرئيس، فهو الذي يعينهم وهو الذي يستطيع أن يقيلهم.  فليس لأي منهم شرعية اجتماعية ولا حتى بالضرورة كفاءة فنية ومن باب أولى صفة سياسية.  fg ليس لديهم أي مطامح أو رؤى أو منظورات عمومية ولا هموما تتجاوز خدمة وصيانة امتيازاتهم ومصالحهم الخصوصية.  ولم يحصل أن طلب منهم أحد أن يشاركوا في السياسة أو يفكروا في قرار أو يطرحوا سؤالا يتعلق بالشأن العام والمصير الوطني.  إنهم أدوات تنفيذية لا يمكن أن ترتفع مهما علت إلى مستوى رجل السياسة لتفكر بمنطق صاحب الرأي الحر والمستقل والإرادة المنسجمة مع مطامح الجمهور العامة أو المستمدة منها.  وهذا ما يجعل منهم بالضرورة أداة طيعة لا روح ولا عقل لها، تصفق للقائم وبإمكانها أن تغير مواقفها من الضد إلى الضد للبقاء في المواقع التي تحتلها، كما تستطيع من دون أي تردد أن تنقل ولاءها من زعيم إلى آخر ومن عقيدة إلى أخرى إذا وجدت في ذلك مصلحتها. فإذا بقي الكثير من رجالات البيرقراطية الفاسدة اليوم في الحكم فليس ذلك بسبب ما يمثلونه من مركز قوة يستعصي على الرئيس أو بسبب ما يتمتعون به من قدرة على المقاومة أمام التغيير، ولكن لأن من غير الممكن  والعقلاني أن يطرد الرئيس الجديد جميع أفراد الحرس القديم من سراياه دفعة واحدة من دون أن يغامر بتهديد أسس استقرار النظام ذاته. ومن الحجج التي قدموها أيضا لتعزيز أطروحة حتمية انتصار تيار الاصلاح والتغيير الاجراءات العديدة التي اتخذتها كل من حكومة محمد مصطفى ميرو وناجي العطري والمراسيم المتواصلة التي يصدرها الرئيس ومناخ الانفتاح النسبي الذي جسده ترك العديد من المثقفين والسياسيين يعبرون بحرية نسبية عن ارائهم من دون أن يطاولهم كما هي العادة سوط الاعتقال أو الملاحقة أو التحقيق.

لكن بعد مرور أربع سنوات من حكم الرئيس الشاب لم تعد الاعتقادات الأولى على ماكانت عليه من الصلابة. وأخذت الثقة التي كانت قوية بالتغيير في مطلع العهد الجديد تتآكل شيئا فشيئا أمام ما يبدو بالنسبة لرجل الشارع من  إخفاق واضح في عملية التغيير وجمود مقلق في كل الأوضاع بل من تقهقر في العديد من شروط الحياة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية،  وتراجع مستمر عن مناخ الانفتاح النسبي الدي إبداه النظام في سنته الأولى والعودة بالمقابل إلى العديد من التقاليد الشمولية القديمة، بما في ذلك قمع المثقفين والملاحقات المستمرة من قبل أجهزة الأمن للناشطين ونهاية الحديث عن حملة مكافحة الفساد وإظهار أنصار النظام ومشايعيه العداء العلني لمباديء الاصلاح والتغيير ووضعها في مواجهة الفكرة الوطنية أو على النقيض من معاداة السياسات الاستعمارية. ويسود شعور متزايد، بالرغم من بعض القرار ات الايجابية المتعلقة بزيادة نسبية لمرتبات العاملين في الدولة وفتح مصارف خاصة بأن مضمون شعارات التطوير والتحديث التي يصر الحكم على استخدامها ضد شعارات الاصلاح والتغيير وكبديل عنها والتي لا تكف الأجهزة الاعلامية عن تردادها، لم يتعد بعض التعديلات الطفيفة التي تهدف إلى التخدير  أكثر مما تهدف إلى معالجة المرض ذاته.  وفي مكان الحجج التي كانت تغذي الأمل بالمستقبل وبالتغيير تتراكم  أكثر فأكثر حجج أولئك الذين يعتقدون أن التغيير لن يكون سوى وهم محض، وأنه لا ينبغي في ظروف النظام الراهنة توقع أي تغيير حقيقي.

ويقوم الاعتقاد الجديد المتنامي على أدلة متزايدة منها استمرار سيطرة الأشخاص ورجال الحكم السابقين، وعدم حصول أي تغيير في دور المؤسسات والأجهزة المختلفة التي يعتمد عليها النظام منذ عقود، مثل الحزب الحاكم والجبهة التقدمية والأجهزة الأمنية. وبالرغم مما يتمتع به الرئيس من صفات وصلاحيات لا شك فيها جعلت منه محور آمال التغيير، أطهرت التجربة أنه ليس بإمكان فرد، مهما كانت مقدراته، مقاومة ثقل وعطالة الأجهزة أو التحرر تماما من ضغطها. وهو لا يستطيع أن يقف في النهاية في وجه هذه الأجهزة أو يرفض تلبية  مطالبها وحاجاتها وبالأحرى أن يتحرر منها في الوقت نفسه الذي  يستند إليها في حكمه ويستمد منها القوة والشرعية.  وباستثناء السعي إلى ضم بعض عناصر الشباب المفردة إلى حاشيته وتعيينها في بعض المناصب لإطهار الرغبة بتوسيع قاعدة المشاركة الاجتماعية، لم يبد العهد الجديد أي رغبة في  بناء قوى اجتماعية جديدة أو إعادة ترتيب القوى القائمة بما يسمح له بالاستقلال عن الأجهزة الأمنية والبيرقراطية لضمان عمله واستقراره وايجاد الأدوات التي تمكنه من تطبيق سياسة جديدة. وكثير من المدافعين عن هذا التحليل يعتقدون أن الرئيس الجديد قد وقع أسير الأجهزة والمؤسسات والقوى التقليدية التي تسيطر عليها وتريد أن تقطع الطريق على أي تغيير.  وهم يعتبرون أن مشروع الاصلاح قد أجهض أو ولد ميتا منذ اللحظة التي نجح فيها الحرس القديم في السيطرة على مؤتمر الحزب وفرض التركيبة القيادية التي  أسفر عنها.  ومن الحجج الأخرى التي يقدمونها أيضا استقرار أوضاع القيادات التقليدية وتثبيتها في مواقعها، والعجز الظاهر عن اتخاذ القرارات الصعبة، والتخبط الذي تعيشه بعض الوزارات والإدارات الرسمية وضعف تطبيق الاجراءات المتخدة وغياب أي تعديل في أساليب عمل المنظومة السياسية والاعلامية.

وهكذا، بالرغم من ضعف المعارضة وعدم وجود أي خطر داخلي منظور واستتباب الأمن نسبيا في كل أنحاء البلاد، لم يتقدم العمل بالوعود التي أطلقها خطاب القسم حول الشفافية واحترام الرأي الآخر وتوسيع هامش الحريات، ولم يظهر أي بريق أمل بانفتاح سياسي يشير إلى تغيير ولو جزئي في منهج ممارسة الحكم.  وظل الحكم متمسكا بموقفه التقليدي الذي ينكر على أي فريق، بما في ذلك أحزاب الجبهة التقدمية الحاكمة مع حزب البعث، الحق في وجود شرعي.  وبقيت التعددية كلمة محرمة في وسائل الإعلام كما بقيت الرقابة كلية وشاملة على الفكر والضمير ولم تظهر في السنوات الأربع الماضية أي بادرة للسماح بنشوء صحافة حرة إو تحرير الصحافة الرسمية من التبعية المطلقة للحزب المسيطر على الدولة أو لإشراك أي رأي مختلف في التوعية الوطنية عبر الوسائل الإعلامية السمعية البصرية.  ولا يختلف الأمر عن ذلك في مسألة أصدار قانون  الجمعيات الأهلية الممنوعة وتحرير المجتمع المدني من نير السلطة البيرقراطية الحزبية والعسكرية، بما في ذلك جمعيات الدفاع عن البيئة أو الجمعيات الخيرية. وظل النظام يحمي نفسه وافتقاره للدعم الشعبي الحقيقي وللشرعية القانونية والسياسية بالتمسك الأعمى بقانون الطواريء وبالأحكام العرفية التي تكاد تصبح الدستور الحقيقي الوحيد للبلاد. كما ظلت السلطة تتمسك بالسيطرة المطلقة على القرار، وترفض القيام بأي مبادرة في اتجاه الاعتراف بحقوق المجتمع السياسية وبحقوق المواطنين في الانتماء لتنظيمات سياسية ونقابية حرة ومستقلة، بل حتى بالوقف العملي لآلة الاعتقال المنهجي والمنظم الذي يهدف إلى إرهاب الناشطين السياسيين والمدنيين وردعهم عن أي نشاط غبر خاضع مباشرة لأجهزة ومؤسسات الدولة الشمولية.  بل إن بعض أطراف المعارضة يزيد فيشير إلى أن خبرة  السنوات الماضية تبرهن على أن الهدف من إجراءات النطام المسماة تطويرية أو تحديثية ليس شيئا آخر سوى إعادة الحياة للنظام البعثي، بمؤسساته وقواعد عمله وتصوراته التي أكل عليها الدهر، وأوصلت البلاد إلى ما هي عليه، وأن هذا الأسلوب يعكس بوضوح غياب أي تصور جديد للحكم ويؤكد استمرار منطق الوصاية على المجتمع والتقرير عوضا عنه أو بالنيابة عنه.

ولم يقلل التخفيف الواضح من درجة استخدام العنف في معاملة المعارضين من قساوة التهميش والاستبعاد والعزل السياسي والمدني الذي يطال المجتمع بأكمله ولا من شدة قبضة النظام وشمول المراقبة والمنع جميع شؤون ونشاطات الحياة الفردية والجماعية. وأجهزة الأمن التي كادت تختفي من الواجهة منذ منتصف التسعينات عادت من جديد إلى مقدمة الحياة السياسية والمدنية وأصبح لها، أكثر من قبل، اليد الطولى في تسيير شؤون البلاد وضبط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية والإعلامية. وقد زادت في الحقبة الاخيرة بشكل غير متوقع الاعتقالات والملاحقات اليومية لأصحاب الرأي. وعمل تجريم الندوات  والحوار، حتى داخل القاعات المنزلية المغلقة التي كانت السلطة تغض النظر عنها منذ أكثر من عقدين، على تحطيم جميع آمال الأجيال الجديدة في التغيير السلمي وأعاد الحياة بقوة إلى مشاريع الهجرة الداخلية والخارجية. ولا شك أن السياسات الإعلامية الستالينية والقصيرة النظر قد أجهزت على كل الوعود التي قدمت لاحترام الرأي الآخر، بما في ذلك الرأي الآخر داخل صفوف الحزب الحاكم نفسه. ولم يحصل في أي حقبة سابقة أن بدا مصير البلاد مرتبطا كما هو عليه اليوم بمنطق واحد هو منطق الضبط الأمني على حساب أي منطق منتج آخر إقتصاديا كان أم إداريا أم سياسيا أم علميا أم ثقافيا أم وطنيا أيضا. ولم يحدث أن ألحقت  نشاطات المجتمع كافة، الجمعية والفردية، بالأجهزة الأمنية وأخضعت لحساباتها ومخاوفها وتقديراتها كما هو حاصل اليوم بحيث أصبح منطق الأمن هو المنطق الوحيد الذي يسيطر على الحياة العمومية ويقضي في الوقت نفسه على أي حياة خاصة وعامة، اقتصادية وسياسية ومدنية. 

وليس الوضع أفضل من دلك على المستوى الاجتماعي الذي شهد تراجعا كبيرا حتى بالمقارنة مع الأوضاع التي كانت سائدة قبل إطلاق وعود الاصلاح والتغيير في التسعينات. فقد تفاقمت ظواهر الفقر الذي لا يزال يزداد انتشارا وتوسعا كما أن الهوة لا تزال تتسع بين الشرائح الدنيا التي تشكل أغلبية المجتمع اليوم والقلة من المنتفعين من النظام، بموازاة انخفاض القوة الشرائية لمتوسطي الدخل وعدم تناسبها مع كلفة تأمين الحاجات الأساسية. ولا تزال الزيادة في المرتبات بعيدة جدا عن أن تمتص صدمة العجز الكبير الذي أحدثه تجميد الأجور خلال أكثر من عقد ونصف سابقين. ولم تتمكن الإجراءات المحدودة التي اتخذتها هيئة مكافحة البطالة وما كان لها أن تتمكن من أن تقلل من تزايد نسبة الباطين باطراد مع فشل الإجراءات التحريرية للاقتصاد في جذب استثمارات جديدة وتقاعس  الدولة من جهتها عن الاستثمار العام أو عن فتح مجال المنافسة الفعلية أمام الاستثمارات الخاصة. 

وعلى المستوى الإدادي لم تر شعارات محاربة الفساد التي أطلقها العهد الجديد في بدايته  أي تطبيق عملي وما حصل هو تعميم متواصل لهذا الوباء بشكل غير مسبوق مع تزايد سيطرة أصحاب المصالح الفئوية على الدولة واستشراء  تقاليد اللجوء إلى علاقات النفوذ والمحسوبية والزبائنية الحزبية والعائلية والعصبوية لملء المناصب الشاغرة في مناخ من الانسداد الاقتصادي وتضاؤل فرص العمل وتعاظم ضغط شبكات المصالح الجزئية على المصالح العامة الوطنية.

أما على المستوى الاقتصادي فلا يزال التردد بين الاختيارات الاقتصادية يعيق أي عملية إصلاحية حتى في هدا المجال الذي جعل منه العهد الجديد مركز اهتمامه ومحور التغيير المنشود. ولا يزال النظام يفتقر لأي خطة أو برنامح إصلاح إقتصادي بعد مرور أربع سنوات على العهد ونشر العديد من الخطط والمشاريع التي وضعت جيمعاعلى الرف بسبب الاختلافات المستمرة داخل صفوف القيادة السياسية1. وهو ما يفسر استمرار الجمود الاقتصادي وعدم تنامي الاستثمارات الخارجية المنتظرة وتفاقم مشكلة هجرة الرساميل المحلية إلى الخارج. 

 

2 -  تآكل النظام وتبدل البيئة الدولية  

 لا ينبغي للجمود الظاهر في بنية النظام العامة ولا لتعثر عملية الانفتاح الاقتصادي ولا للتمسك بأساليب العمل القديمة وسياسات الحرب الباردة الخارجية أن تقودنا إلى خطأ الاعتقاد بأن كل شيء ساكن وراكد في سورية. فبالرغم مما تفيده الملاحظة السطحية  ليس الجمود وغياب التغيير هو الطابع المميز للأوضاع الراهنة.  كما أنه ليس من الثابت صحة ما تعزوه العديد من دوائر القرار العالمية المهتمة بهذه الأوضاع لقوى بيرقراطية الدولة والحزب أو ما تسميه بالحرس ا لقديم من مقاومة شرسة للتغيير. فما يجري في سورية منذ سنوات عديدة، وبشكل خاص منذ عام 2000 ، هو، بالرغم من التعثر الواضح، عملية تغيير حقيقية  تطال طبيعة النظام واختياراته الرئيسية وتوازن القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة فيه ومكانته الاقليمية والدولية أيضا. والقوى النافذة من بيرقراطية الدولة والحزب هي التي تشرف على هذه العملية وترعاها وتسهر على تقدمها ونجاحها.

يستند هذا التغيير وما يرافقه من إرادة واعية أو ضمنية على عوامل موضوعية مستقلة عن إرادة السوريين الحاكمين والمحكومين معا. العامل الأول هو تغير توازنات النظام الداخلية بسبب ترهل القوى القديمة التي اعتمد عليها النظام في مرحله قيامه ونشوئه الأولى، وتفريخه، هو نفسه، خلال العقود الطويلة السابقة من السيطرة الكلية على مقدرات البلاد الاقتصادية والسياسية والثقافية، لقوى جديدة لا تحتاج لإعادة إنتاج نفسها وتأمين سيطرتها إلى الشروط السياسية والاقتصادية والقانونية ذاتها التي ضمنت سيطرة آبائها وسطوتهم . فعلى أنقاض الطبقة الوسطى التي تعرضت لعملية إفقار وتهميش منهجية أفرز النظام البعثي الذي ولد عام 1963 طبقة جديدة من أبناء المسؤولين استفادت من تماهيها مع الدولة لتحقيق تراكم استثنائي وسريع في الرساميل الخاصة جعلها تشكل اليوم النواة الرئيسية في أي نظام جديد لاقتصاد السوق يمكن أن يظهر في سورية. وبالرغم من أن هذه الطبقة لا تزال بعيدة عن أن تملك عناصر وحوافز استقلالها عن الدولة إلا أنها بدأت منذ الآن تستعد وتخطط لوراثة النظام القائم عبر فتحه بشكل مضبوط ومقنن، أي حسب الطلب، على السوق العالمية.  وهي تأمل في أن يمكنها التحرير الاقتصادي الراهن، مع الاحتفاظ بالعيش لفترة أطول في شرنقة النظام البيرقراطي المطلق وتحت حمايته ورعايته، من تأمين موقع احتكاري في السوق الخاصة الجديدة يضمن لها النمو السريع والقوي الذي يمكنها في مرحلة لاحقة من  فرض سيطرتها وسيادتها بوسائلها الخاصة. لكن هذا الوضع المفارق الذي يتم فيه الانتقال نحو إقتصاد السوق مع الاحتفاظ باحتكار الثروة والسلطة معا من قبل الفئة ذاتها لا ينبغي أن يمنعنا من ملاحظة أن النظام البيرقراطي الشمولي أصبح اليوم يعمل لخدمة الجيل الجديد من رجال المال والأعمال بالدرجة الأولى بعد أن كان يعمل لصالح بيرقراطية الدولة والحزب. وأن هذه الشريحة من رجال المال والأعمال هي التي تستخدمه لتحقيق أقصى ما تستطيع من التراكم البدائي وتحتمي به. وهذا هو المقصود  بتغير التوازنات الداخلية للنظام. فالمضمون الجوهري للتحول الجاري اليوم هو انتقال مركز الثقل في النظام من الطبقة البيرقراطية، المدنية والعسكرية التي اعتمد عليها الحكم في العقود الماضية وخدمها معا إلى الطبقة الخاصة الجديدة التي امتصت وتمتص بشكل مكثف أكثر اليوم موارد الدولة لصالح تكوين رأسمالها وملكيتها الخاصة2 . ولا يغير في مضمون ما يحصل كون شريحة رجال المال والأعمال مرتبطة ارتباطا وثيقا عبر العلاقات العائلية والعشائرية ببرقراطية الدولة المدنية ولعسكرية السائدة. بل إن هذا الارتباط هو شرط التحول القائم ومحركه الرئيسي بقدر ما هو شرط أن لا يقود الانتقال نحو إقتصاد السوق إلى انتقال مواز في الثروة والملكية من العائلات المسيطرة ذاتها.

 أما العامل الموضوعي الثاني الذي يدفع نحو التغيير ويحدد اتجاهه في سورية فهو يتمثل في  تغير البيئة الدولية. فمن الواضح أن البيئة الجيوسياسية التي نشأ فيها النظام القائم في سورية والتي ساهمت في إعادة إنتاجه على مدى عقود طويلة هي بيئة النظام الدولي ثنائي القطبية وما تميز به من سيطرة مناخ الحرب الباردة الثقيل. وقد استفاد النظام من هذا المناخ ومن  اصطفافه خلف المعسكر الشيوعي في سبيل الحصول على الموارد المادية والتقنية والاستراتيجية والعقائدية الضرورية لبقائه واستمراره.  وبانهيار النظام السوفييتي وزوال الحرب الباردة فقد النظام جزءا كبيرا من موارده الخاصة المادية والاستراتيجية والايديولوجية الأساسية. وبالرغم من أن النظام سعى إلى آن يعيد اصطناع مناخ الحرب الباردة من خلال تضخيم التنافس ونزاع المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبة التي اصطف وراءها إلا أن النتيجة لم تكن كما كان ينتظره.  فقد اكتشف أن أوربة ليست قطبا مناوئا أو معاديا للولايات المتحدة وإنما هي شريك منافس ومضارب معا. فهي لا تختلف في خياراتها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية عنها، أعني في تبني السياسات النيوليبرالية واستراتيجية الحرب ضد الارهاب وحتمية وضرورة القيام بالإصلاحات السياسية والإدارية التي تطلق عليها اسم الحكم الرشيد أو ترشيد الحكم والإدارة. وربما كان اكتشاف هذه الحقيقة هو الذي دفع الحكم إلى استكشاف آفاق استعادة مناخ الحرب الباردة التي لايزال أسير صيغتها الجامدة في ممارسة السلطة وفي العلاقات الدولية معا في الصين البعيدة.

ويرتبط بتغير البيئة الدولية تغير عميق في البيئة الإقليمية أيضا. فمع إعلان نهاية الحرب الاسرائيلية العربية والاسرائيلية السورية واعتبار السلام خيارا استراتيجيا لدمشق لم يعد من الممكن الاستفادة بالقدر نفسه من استثمار الايديولوجية الوطنية المعادية لإسرائيل وللامبريالية. ولا يغير كثيرا في هذا الواقع تبني الحكم الدفاع السياسي عن القضية الفلسطينية في مواجهة سياسة شارون العدوانية المتطرفة. وبالمثل أدى انهيار النظام العربي وتفككه أمام الضغوط الخارجية وفقدان السيطرة التي أظهرها امام اكتساح القوات الأمريكية للأراضي العراقية والعجز الفاضح عن تقديم يد العون للمقاومة الفلسطينية في مواجهة إرادة التصفية الاسرائيلية إلى تفكك الايديولوجية القومية العربية وذوبانها.  وهي الايديولوجية التي بقي يعيش عليها النظام ويستمد منها المشروعية ويغطي من خلالها على الافتقار للشرعية الديمقراطية3.

كل ذلك غير في شروط إعادة إنتاج النظام وفي طبيعة القوى الاجتماعية التي يدعمها ويعتمد في وجوده عليها. فكما كان وجوده يتوقف في الماضي على إنتاج طبقة بيرقراطية موحدة داخل الحزب والدولة ومتحكمة بموارد المجتمع المادية والمعنوية جميعا ومحتكرة لها تحت غطاء الملكية العامة، تتوقف إعادة إنتاجه اليوم، أي استمراره واستقراره، على إنتاج طبقة المصالح الخاصة والمتمولين والمتعهدين المتوالدين من صلب النظام والأكثر تلاؤما في طريقة إنتاج شروط وجودهم كطبقة مالكة ومسيطرة معا مع حاجات ومطالب الدول الكبرى الراعية وشروط اقتصاد السوق المعمم والعولمة الزاحفة والتسوية النهائية للنزاعات العقائدية والسياسية والاقتصادية العالقة مع القوى الخارجية.

لم يحصل هذا التغيير الذي يمس قواعد العمل وأشكال الملكية وعلاقات السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بسبب ضغط الجمهور السوري أو الرأي العام الداخلي أو الخارجي ولكن بسبب غياب هذا الضغط بالذات وتمكن النظام من الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى نوع من إقتصاد السوق المقيد، وفي ما وراء ذلك، من نقل الثروة والسلطة والجاه من جيل الآباء إلى جيل الأبناء، من دون الحاجة إلى  تقديم أي تنازلات مادية أو  سياسية أو معنوية للجمهور العريض، ولا إلى القيام بأي مراجعة نظرية أو  تبرير.

ويترافق هذا التحول في صلب النظام مع انسحاب الدولة من مسـؤولياتها والتزاماتها الاجتماعية التقليدية في مجال التوظيف والخدمات وتبينها لسياسات التحالف العلني مع شريحة رجال المال المرتبطين بها أو القادمين من الخارج كما يترافق مع  تآكل قواه التقليدية المادية والمعنوية، وتراجع هيبة مؤسسات النظام السياسية والمدنية والاقتصادية والفكرية وتفككها وتحولها إلى قواقع فارغة وكذلك مع تراجع مكانة الاقتصاد المخطط الناجم عن ترك شركات القطاع العام تعيش على حافة الإفلاس والموت البطيء بعد أن كانت الدولة تنفق على تعويمها مئات مليارات الليرات السورية.  ويتجلى هذا التحول أيضا داخل النظام عبر الغياب المتزايد للحزب في الحياة السياسية لصالح مراكز القوى وأصحاب المصالح، مثلما يتجلى عبر انكفاء الجمهور والمجتمع على نفسه وعلى عصبياته الدينية أو العشائرية وابتعاده عن الأطر السياسية والقانونية والعقائدية الرسمية التي فقدت في نظره أي محتوى أو مضمون مواطني ووطني. وهو ما أظهرته مستويات المشاركة المعدومة تقريبا في الانتخابات البلدية والتشريعية التي جرت عام 2002، كما  يتجلى عبر شلل الدولة العملي وغياب أي سياسات واضحة ورؤية متسقة للخيارات الاستراتيجية، وانكفاء السياسة الحكومية وتركيزها الأحادي على مسألة الأمن وضبط حركة السكان وتحركاتهم وأقوالهم فحسب. ويتجلى أيضا عبر انحسار إيديولوجية الاشتراكية والتقدمية والقومية وإعادة تفعيل قوانين الطواريء واستخدام الأحكام العرفية لردع الأصوات المخالفة أو النقدية. ويعكس كل ذلك التفكك العميق الجاري في النظام والفرص المتزايدة التي يقدمها هذا التفكك لتوسيع هامش مناورة ومبادرة قوى الرأسمالية الجديدة النابعة من تحالف الدولة مع القطاع الخاص الاحتكاري وتسخيرها له . فبموازاة تبخر سلطة الحزب وسطوته تحللت أيضا الشعارات والمصطلحات التي كان النظام السابق يعتمد عليها لبناء ايديولوجيته الخاصة التي يستمد منها الشرعية. وهكذا حلت محل ايديولوجية البعث، في الوحدة والحرية والاشتراكية وحكم العمال والفلاحين والقضاء على الاستغلال ومحاربة الامبريالية والاستعمار، ايديولوجية جديدة محور شعاراتها وأهدافها الاستثمار وفي مواكبته وكشرط له ضمان الأمن والاستقرار والاستمرار. وهي ايديولوجية متماشية مع مصالح فئة الشريحة الجديدة من رجال المال والأعمال الناشئة في حضن البيروقراطية القديمة وبمباركتها.

لكن بصرف النظر عن المظاهر العديدة التي توحي بالاستمرار والاستقرار، قطع هذا الانتقال السلمي للنظام، وبالتالي تشكيل العهد الجديد، في السنوات الأربع الماضية، شوطا كبيرا  بالرغم من العقبات التي وضعهتا الطبقة البيروقراطية القديمة.  وقد ساعد على ذلك التعديلات العميقة التي أدخلت على القوانين الاقتصادية والتي فتحت الطريق واسعة أمام الاقتصاد القائم على رأس المال  >الخاص< والمدول معا. ولا يغير تأكيد الحكومات المتعاقبة على رفض تخصيص شركات القطاع العام من هذا الواقع ولا يمنع من تحول الاقتصاد الحديث إلى المركز الرئيسي للاستثمار4.

بالتاكيد لا يمكن لهذا التحول في توازنات النظام الداخلية وصعود شريحة رجال المال وأصحاب المصالح الخاصة في حضن الطبقة الزبائنية المغلقة أن لا يولد توترات وتناقضات وصراعات داخل النظام. كما أنه ما كان من الممكن أن يمر من دون أن يثير مقاومات اجتماعية، خاصة في وسط الطبقة الوسطى وممثليها من أصحاب النزعة الليبرالية أو الاشتراكية5. ومما لا شك فيه أن قطاعات واسعة من بيرقراطية الحزب والدولة والجيش التي لا تستفيد من الانفتاح الاقتصادي لا تنظر بعين راضية إلى عملية الاتفتاح الاقتصادي هذه التي تبدو وكأنها عملية إثراء منظم لفئة، تحت الحماية السياسية والقانونية والإعلامية الشاملة التي يؤمنها لها إلغاء الحياة السياسية والفكرية والحكم بقانون الطواريء. وهذا ما يدفع النظام الذي راهن باستمرار على تعبئة العصبية العشائرية من أجل البقاء واعتمادها كأساس لوحدة السلطة واتساقها على على جميع المستويات وفي كل المجالات أن يبدع آليات احتوائية جديدة محورها السماح بهامش ضيق لوجود شريحة تكنوقراطية6. وكما ساهمت الاستراتيجية العصبوية في التغطية على الانقسامات والتوترات الداخلية، ومنعت من حصول أي فرز سياسي في حضن بيرقراطية الحزب والدولة القائمة غطت التعيينات الجزئية في بعض المناصب الإدارية لأبناء الطبقة الوسطى المدينية على الجمود المستمر في صيغة الحكم الشمولية التقليدية وأعاقت نشوء تيارات إصلاحية حقيقية من داخل النظام. ولعل التأكيد على رفض تخصيص القطاع العام وعلى ضرورة الاحتفاظ  به  وإصلاحه نابع هو نفسه من الحرص على مراعاة مصالح وبالأحرى حساسية قطاعات واسعة البيرقراطية المهددة التي تخشى عن حق من أن يقود التحول الراهن إلى تهميشها السياسي وإلحاقها بالفئات الشعبية والوسطى المستبعدة والمحرومة. ويبدو الابقاء على وهم وجود القطاع العام وسيلة لطمأنة هذه البيرقراطية على نفسها لكسب حيادها وربما تأييد قطاعات واسعة منه في المعركة القائمة حول طبيعة الانتقال، وبالتالي  للحفاظ على حد أدنى من توازن المصالح داخل النظام ومن ورائه على توازن النظام نفسه في مرحلة دقيقة من مراحل تحوله. وهو ما ينطبق أيضا على مراعاة وضع الحزب ومكانته في الدولة في الوقت الذي يصبح فيه من الواصح يوما بعد يوم أنه، بالرغم من استمراره إطارا لمرجعية شكلية على سبيل تأكيد الاستمرارية والتغطية على التحولات الحقيقية، لم يعد للحزب الحاكم أي سلطة فعلية بل ولا حقيقة سياسية موحدة، لا على مستوى العقيدة والايديولوجية ولا على مستوى التنظيم ولا على مستوى ممارسة السلطة والقرار السياسي. ولم يكن واجهة لسلطة تتقرر خارج صفوفه ومؤسساته في أي وقت كما هو عليه اليوم.

 والواقع أن ما حصل للنظام البعثي في سورية لا يختلف عما حصل للنظم الشيوعية في الدول السوفييتية، أعني انهيار الثقة بالنظام بسبب إفلاسه وإفلاس النموذج العالمي الذي احتذى به القائم على سيطرة الحزب الواحد وإلغاء الحياة السياسية والفكرية وصب المجتمع كله في قوالب حديدية، وعلى مذهب الاقتصاد المخطط المستند إلى إدارة بيرقراطية على حساب المبادرة الخاصة لطبقة أصحاب المشاريع والأعمال الرأسمالية. وهو النظام الذي تبلور في القرن العشرين في أكثر من منطقة في العالم.  وليس النظام الذي أقيم في سورية منذ عام 1963 إلا أحد تجليات هذا النموذج، وهو كبقية النظم المماثلة لم يظهر قدرة أكبر على ايجاد حلول ناجعة للمسائل الداخلية والخارجية التي واجهت ولا تزال تواجه المجتمع السوري،  سواء ما تعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو العدالة الاجتماعية أو المساواة القانونية أو مسايرة التحولات والتجديدات الحضارية أو مواجهة التحديات والإعتداءات الخارجية الماسة بالسيادة الوطنية. وقد طرح هذا الإفلاس على المسؤولين أنفسهم قبل غيرهم مسألة إعادة هيكلة هذا النظام أو بنائه بما يتفق مع الأوضاع الإقليمية والدولية الجديدة، ويوفر لهم موارد إضافية مادية ومعنوية للاستمرار والحفاظ على الوضع القائم من السقوط. وهذا هو الذي دفع منظري الإصلاح إلى اختيار مصطلح التحديث والتطوير لوصف طبيعة التغيير الذي يريدونه وربطه بالجانب الاقتصادي البحت، أي بالانتقال من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق، في مواجهة مصطلح ومفهوم الاصلاح الذي يبدو وكأنه يشير بشكل أساسي إلى تغيير في العلاقات الاجتماعية والسياسية، أي في طبيعة السياسة والحكم.

كل هذه التطورات خلفت عند الرأي العام شعورا عميقا ومفارقا معا يوحي بأن كل شيء تغير أو في طريقه للتغير وفي الوقت نفسه لا شيء يتغير. والسبب أن احتضار النظام القديم لم يترافق بنشوء نظام جديد مختلف فعليا عن السابق. فإعلان نهاية عهد اقتصاد الدولة لم يقد إلى ولادة إقتصاد سوق فعلي قائم على المنافسة والشفافية. وتراجع أشكال المعاملة القاسية التي كان يتعرض لها الأفراد، وهو ما يعترف به المثقفون والناشطون المدنيون، لم يؤد إلى توسيع دائرة ممارسة الحريات على مختلف أشكالها، كما أن الإنجازات التي لا تكف السلطة عن التذكير بها تبدو وهمية  بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام. ويبدو الوضع كما لو أن عملية تطوير النظام وتحديثه  لم تكن سوى محاولة لتجديده اجتماعيا من خلال إحياء القيم والسلوكات الماضية أو استعادتها والعودة الأبدية إلى نموذج واحد من حكم الوصاية والإكراه. والواقع ليست شريحة رجال الأعمال الجديدة التي يشكل صعودها القوي السمة الوحيدة البارزة في عملية التطوير والتحديث، والتي يفضل تسميتها بأرستقراطية المال لتمييزها عن الرأسمالية التنافسية الطبيعية، أقول ليست هي نفسها، سوى ثمرة الافراز الطبقي الذي حصل داخل بيرقراطية الدولة والحزب في العقود السابقة لصالح الفئة الأكثر قربا من أصحاب السلطة ومالكيها.

 

-3  من رأسمالية الدولة الاحتكارية إلى رأسمالية العشيرة

من الواضح إدن أن جوهر التغير الحاصل في سورية لا يختلف عن عملية التغيير في السياسات الاقتصادية التي تجري منذ عقدين أو ثلاثة داخل بلدان العالم بأجمعها وتتخذ من التكيف مع حاجات الاندماج في السوق العالمية ومع السياسات النيوليبرالية محورا أساسيا لها. هذا ما جرى في دول الكتلة السوفييتية السابقة وأوروبا الوسطى وأمريكا اللاتينية ولا يزال يجري في بلدان جنوب شرق آسيا وأفريقيا.  لكن ما يميز هذا التغيير في سورية هو أن انحسار نموذج رأسمالية الدولة قد تم لصالح نشوء رأسمالية خاصة ليست نابعة من أحشاء الطبقة البيروقراطية فحسب ولكنها مرتبطة بها عائليا أيضا. وهذا ما يعطي لعملية الانتقال طابعها الوراثي كعملية تفكيك لدولة الاقتصاد العام لصالح دولة المصالح الخاصة العائلية والعشائرية والزبونية.

وبعكس ما يشير إليه البعض وما يسعى إلى تأكيده قطاع من الطبقة الحاكمة، لا يمثل الانفتاح الاقتصادي الجاري في العهد الجديد قطيعة مع ما كان قد بدأ يحصل في ظل النظام السابق ولكنه يشكل بالأحرى استكمالا له وتسريعا في وتيرته. فقد بعثت وفاة الرئيس الأسد واختفاؤه من المسرح السياسي آمالا قوية لدى فئات المصالح الخاصة المافيوزية التي نمت على هامش قطاع الدولة واعتمادا على نهبه منذ تبني إجراءات الانفتاح بالمرسوم 10 لعام1991.  لكن هذه الرأسمالية الخاصة جدا المرتبطة برجال الحكم والنظام الاشتراكي أنفسهم وجدت في وفاة الرئيس الأسد فرصتها التاريخية للخروج من القمقم الذي فرضته عليها الاختيارات السياسية للحرب الباردة والتعبير عن نفسها بحرية عبر عهد يشكل ماديا ورمزيا معا قطيعة كبيرة مع العقد السابق واستمرارية فعليه له في الوقت نفسه. فكما حررت وفاة حافظ الأسد النظام بأكمله من  الالتزامات العقائدية القديمة البالية رفع استلام الرئيس الجدية مقاليد السلطة الغطاء عن بيرقرطية الدولة التقليدية لصالح شريحة رجال الأعمال الجدد المولودين في أحشاء النظام نفسه وأخضعت للسؤال موضوع سيطرتها الشاملة. وهذا هو أصل نشوء خطاب التطوير والتحديث الذي طوره العهد الجديد ودافع عنه.

والحقيقة أن ما حصل في سورية هنا أيضا لا يختلف كثيرا عما حصل في البلدان السوفييتية الأخرى. ففي جميع تلك البلدان وعلى رأسها الاتحاد الروسي، كانت مافيات المال والأعمال هي التي ملأت الفراغ الذي تركه تراجع نفوذ بيرقراطية الدولة وسيطرتها.  وفي جميع هذه البلدان ولدت خلال سنوات محدودة امبرطوريات مالية فعلية على يد جيل من الشباب الذين عرفوا كيف يستفيدون من علاقاتهم العائلية والحزبية ليضعوا يدهم على أهم موارد البلاد ومؤسساتها الانتاجية.

لكن ما يميز الوضع السوري هو أن الانتقال نحو اقتصاد السوق لم يحصل في سياق انهيار النظام الشمولي وزوال سلطة الحزب الواحد والدولة البيروقراطية ولكن بوجودهما وبرعايتهما. وقد أعطت هذه الظروف الاستثنائية لأهل الحكم فرصة التحكم الكلي بعملية الانفتاح ووتيرتها كما مكنتهم من إدارة دفة توزيع المصالح بصورة منهجية. وهكذا تم الانتقال هنا ولا يزال يتم في إطار  من السرية والنجاح في تجنب أي درجة من التعددية السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية ومع الاحتفاظ بنمط ممارسة السلطة السياسية وأحاديتها تماما. ولهذا لم يتخذ الانتقال وجهة تكوين رأسمالية تعددية حرة ولا حتى مافيوزية عامة وإنما اتخذ شكل تكوين ما يمكن تسميته رأسمالية العشيرة التي تحتكر فيها بعض الأسر في إطار تحالفات عشائرية أو حزبية أو زبونية عملية نقل الملكية أو تخصيص الاقتصاد وآليات تراكم الثروة ورأس المال. فلا يمكن لهذا الاحتكار أن يحصل من دون الامساك معا وفي الوقت نفسه من قبل الطبقة الجديدة نفسها بالسلطتين الاقتصادية والسياسية. فهذا هو الشرط الضروري لتأمين نقل الملكية بصورة سريعة وفورية واستثائية كما يضمن تحييد جميع الأطراف الاجتماعية الأخرى بما فيهم رجال الأعمال والرأسمالية التنافسية الوطنية وإخراجهم من دائرة المنافسة. والواقع أن ما نطلق عليه رأسمالية عشائرية  claniqueليست إلا شكلا منحطا من رأسمالية المضاربة ومن الرأسمالية المافيوزية التي تنبع من التلاعب بقوانين اقتصاد السوق والالتفاف عليها لتحقيق التراكم أكثر مما تعبر عن نشوء رأسمالية بالمعنى الموضوعي والتاريخي للكلمة يعتمد التراكم فيها على تثمير العمل وزيادة الانتاج وتحسين الانتاجية عن طريق التقدم التكنولوجي. إنها بالأحرى تعبير عن فساد الرأسمالية وإفسادها. وهي تشكل التربة الملائمة  لولادة ارستقراطية مالية تعتمد علي موقعها السياسي وموفعها الاحتكاري لتأمين وجودها واستمرارها أكثر مما تعتمد على كفاءتها الاقتصادية التنافسية وتجعل من عملية التحرير الاقتصادي عملية تقاسم جديد للثروة والنفوذ وتوزيع مجالات القطاع الخاص على أهل العصبية والحظوة والقرابة. 

في هذا النمط الخصوصي والزيائني من الانتقال نحو اقتصاد السوق العالمية أو المعولمة نجد التفسير والتبرير الوحيد للابقاء على نظام الوصاية الفكرية والمدنية والسياسية التي يجسدها نظام الحزب الواحد أو إلغاء الحياة السياسية ورفض إجراء أي تعديل أو تغيير أو إصلاح على قواعد العمل العمومي القائمة والتقوقع بشكل أكبر على مفهوم السلطة الأحادية والشاملة. وفيه نجد أيضا معنى حرص أصحاب المناصب بمختلف مستوياتهم على البقاء في مناصبهم إلى النهاية مع الأمل والعمل أيضا على توريثها لأبنائهم. 

ويترتب على هذا التطور الاستثنائي نشوء رأسمالية من طبيعة خاصة تستغل علاقات المصاهرة والقرابة والزبونية لضمان توافق السلطتين الاقتصادية والسياسية وتأمين السيطرة البسيطة على آلية تراكم رأس المال، وبالتالي، وفي السياق ذاته استمرار الافتقار إلى طبقة رأسمالية ذات تقاليد ووعي وطني ومواطني  ورؤية استراتيجية شاملة وطويلة المدى. وتميل الطبقة الجديدة إلى أن تتكون على شكل شبكات مصالح متضاربة ومتنافسة تتنازع للحصول على مناقصات الدولة التي تحدد هي نفسها هامش الريع المرتبط بها، أي تتصارع على تقاسم الثروة العامة واقتسامها لا على مراكمتها عبر تطوير الاستثمار وتوسيع دائرة الانتاج والانفاق لتطوير القاعدة التقنية والعلمية. وهذه هي إحدى آليات تكون الرأسمال العولمي انطلاقا من إلحاق أصحاب الرساميل وفئات البرجوازية المبتورة الرأس والمعدومة الانتماء أو الولاء به وضمها إليه. وهي كذلك مصدر الفوضى السياسية التي تعيشها وستعيشها بشكل أكبر المجتمعات الفقيرة باعتبارها الشرط الضروري لإعادة إنتاج سلطة أرستقراطية رثة وطبقة وسطى زبائنية مكونة من شبكات المصالح والولاء العشائري والعائلي والجهوي، غير منتجة ولا مبدعة  ومفتقرة في سلوكها الفردي والعمومي لأي معايير موضوعية ووطنية وأخلاقيات عامة.

أما الحجج التي ترددها الارستقراطية المالية الجديدة لتبرير رفض الاصلاح السياسي والانفتاح، وما تدعيه من حرص على جعل الأولوية في خياراتها لتأمين لقمة الخبز وفرص العمل للعاطلين والنمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة لا لتوسيع ممارسة الحريات الفردية فهي ذرائع محضة للتغطية على عملية نقل الثروة والسلطة من جيل الآباء إلى جيل الأبناء لا غير ولا علاقة لها بأي سياسة عملية.  والأمر نفسه ينطبق أيضا على ما يشاع من ذرائع حول خطر الفوضى الكامن وراء الانتفاح السياسي والاختباء وراء النموذج الصيني7.

وليس رفض الاصلاح والانفتاح السياسي الذي يضع مسألة الاقتصاد بمعزل عن السياسة اختيارا تقنيا أو فنيا. فاختيار الإطار أو النظام السياسي ليس أمرا محايدا ومستقلا عن الاختيار الاقتصادي ولا مفصولا عنه. وكما أنه لا يوجد نشاط اقتصادي في الفراغ فإن كل اقتصاد يتكون ضمن إطار سياسي يعين قواعد العمل المتبعة وعلاقة الفئات الاجتماعية في ما بينها ومواقعها وقدراتها على العمل والمبادرة الجمعية وبالتالي آفاق تحولها وازدهارها.  ومن هنا أطلق المنظرون المعاصرون اسم الاقتصاد السياسي على الاقتصاد الحديث واعتبروه بحد ذاته سياسة كبرى. ونحن لم نعد نتحدث اليوم إلا في السياسات الاقتصادية.

إن الاحتفاظ بالنظام التسلطي القائم في إطار تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي  يشكل أفضل إطار لنمو وازدهار الارستقراطية المالية التي تشكل نواة السلطة العشائرية وقاعدة الرأسمالية المافيوزية الجديدة التي تسيطر على القسم الأكبر من البلاد العربية.

وهو الشرط الأول لضمان نقل الثروة ورأس المال الذي كانت تسيطر عليه الطبقة البيروقراطية تحت غطاء الملكية العامة لوسائل الانتاج إلي إطار الملكية الخاصة.  وبفضله تضمن الارستقراطية الجديدة وقاعدتها العشائرية والزبونية أن لا يتحول الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق إلى مناسبة لبروز طبقة رجال أعمال جديدة رأسمالية بالمعنى الحقيقي للكلمة تنازعهم على ما أصبح يبدو لهم نوعا من الملكية الشخصية الموروثة أو التي يمكن وراثتها. فهو يقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية فعلية مستقلة عن السلطة والإدارة وبالتالي وبالضرورة طبقة حاملة لإمكانية ولادة قوة سياسية جديدة تعبر عنها تفرض إعادة النظر في طبيعة السلطة وقواعد ممارستها وتضع موضع السؤال الاستمرار في احتكارها. فليس هناك شك، وهذا ما تراهن عليه القوى الخارجية التي تدعم الانتقال نحو اقتصاد السوق، أن نشوء طبقة رأسمالية قائمة على المنافسة الفعلية والسوق الحرة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أي رأسمالية ذات مضمون سياسي لا يمكن أن لا تهدد على المدى البعيد، بل المتوسط، احتكار السلطة وواحديتها وبالتالي نظام سيطرة النخب العائلية الجامدة كما كان عليه الحال في القرون الوسطى. فكما آن  الفصل بين السلطة السياسية وأصحاب المصالح الاقتصادية هو من سمات الدولة القانونية الحديثة ومصدر الحراك الطبقي في مجتمعات عصرنا يشكل الاندماج بين السلطتين سمة أساسية من سمات الدولة أو السلطة  الإقطاعية القديمة التي كانت تقوم على منع الحراك الاجتماعي وتثبيت السكان والفئات الاجتماعية في مراتب جامدة وتكريس السلطة والثروة معا كحق محسوم وثابت لارستقراطية وراثية محصورة في جزء محدود من العائلات التي نجحت عن طريق تفوقها في تنظيم الميليشيات المسلحة في وضع يدها على السلطة ولا تزال تملك القوة الكافية للاحتفاظ بها.

ومن هنا، يعمل الاستمرار في إخضاع السوق إلى منطق السيطرة السياسية العسكرية، بقدر ما يولد ارستقراطية مالية جديدة ويكرس سيطرتها الآلية، على تفريغ الدولة الحديثة من مضمونها، أي من مفاهيم الوطن والمؤسسة والمواطنية والقانون والحرية الشخصية. وهو ما يفسر العودة القوية في إطار السلطة القائمة إلى تعبئة العصبيات العشائرية والعائلية وتكريس قانون القرابة والولاء والانتماء الخاص والتمديد له إلى ما لانهاية. فمن خلال اختراق الدولة الحديثة من قبل البنيات والقيم الزبائنية فقط تستطيع الارستقراطية الجديدة أن تحول مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية إلى ما يشبه ميليشيات القرون الوسطى التي تضمن لها التفوق والاستمرار. وهكذا تتحول الدولة الحديثة من إطار قانوني وسياسي يضمن للمجتمع المكون من أفراد أحرار ومتساوين تنظيم شؤونهم وتجاوز تناقضاتهم وحلها بالوسائل السلمية، ومن ثم تحقيق وحدتهم وتضامناتهم مع تجنب الحرب والصراع الأهليين، إلى أداة لإخضاع المجتمع بالقوة واستخدام العنف الشرعي لقهره وتركيعه.

هذا ما آلت إليه في الواقع عملية الانتقال من اقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق في ظروف الإبقاء على نظام السيطرة الشمولية المعتمد على تعليق القانون وإلغاء المراقبة والمساءلة الوطنية وتكريس العلاقات الزبونية.  وهو الذي يفسر أن الانفتاح الاقتصادي لا يقود هنا إلى نشوء آليات سوق رأسمالية قائمة على درجة أو أخرى من التنافسية والشفافية وحرية الحركة للقوى الاجتماعية وإنما إلى نشوء سوق رأسمالية مقيدة ومحكومة بالتوازنات العشائرية والسياسية والأمنية وبالتالي مفتقرة بالضرورة للشفافية والمنافسة القانونية معا. وهي تسير جنبا إلى جنب مع تحلل عناصر الدولة الحديثة القانونية والموطنية وتنامي القوانين والإجراءات المقيدة للحريات جميعا والقائمة على التمييز والرشوة المنظمة. وبقدر ما يعكس هذا الوضع افتقار رأسمالية العائلة والعشيرة الناشئة في أحشاء بيرقراطية الدولة إلى أي حافز للتغيير السياسي يؤكد راهنية الإبقاء على أنماط الحكم العسكري والأمني وحتمية إعادة إنتاجها. وكما أنه لا أمل لهذه الرأسمالية في الوجود والاستمرار مع تشغيل أليات ووسائل المراقبة والمحاسبة والشفافية والمساءلة القانونية والسياسية، فليس بإمكانها التطور والنماء من دون االاستخدام المعمم للعنف الذي يضمن لها وحده  لجم القوى الاجتماعية المنتجة والعاطلة والمهمشة والاستمرار في الاستفادة من الميزات الاستراتيجية نفسها التي استفاد منها جيل آبائها للانتقال من حال البؤس إلى مصاف الطبقة الارستقراطية المكرسة، أي احتكار السياسة والاستخدام المعمم للعنف العملي أو الرمزي المستبطن .

وبعكس ما يراهن عليه الاتحاد الأوروبي الذي يعتقد أن تدعيم القطاع الخاص مهما كان نوعه لا بد أن يفتح باب التعددية السياسية والديمقراطية في المستقبل، وليس من الضروري الاصرار منذ البداية في إطار التعاون مع دول الجنوب التمسك بملفات الديمقراطية وحقوق الانسان، أظهرت التجربة أن الدمج بين السياسات النيوليبرالية الجديدة والسلطة العشائرية الارستقراطية التسلطية لا يقود في  أي مرحلة لاحقة إلى الانفتاح السياسي ولا إلى تجديد قواعد عمل النظام والطبقة الحاكمة. فرأسمالية العشيرة مدانة حتما بالاعتماد الدائم على تعبئة العصبية  العائلية والعشائرية وتفكيك اللحمة الوطنية وتذريرها. وهي بالضرورة رأسمالية   Clanique أرستقراطية ومافيوزية معا تعتمد التلاعب بالقوانين والمداخلات الشخصية. ولذلك فهي غير منتجة وليس في برنامجها ولا مشروعها ولا طاقتها إطلاق علمية التنمية أو خلق فرص عمل جديدة. ولا يكمن السبب فقط في أن تكوين هذه الطبقة الزبونية لا يتم إلا على حساب نشوء الطبقة الوسطى المنتجة ولكن في أن هذا التكوين لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقطع الطريق على نشوء طبقة رأسمالية عمومية نشيطة وحية مكونة من رجال الأعمال الأكفاء والمنتجين والمبادرين. والرأسمالية العشيرية ليست في الواقع إلا نوعا من رأسمالية المضاربة التي برزت في سياق عملية الانتقال البسيط للثروة، ومن دون جهد ومن دون منافسة، داخل قائمة العائلات والأسر نفسها التي سيطرت على الدولة واستغلت نفوذها فيها لتحقيق طفرتها التاريخية.

يلقي هذا التحليل بالمقابل بعض الضوء على مسألة استشراء الفساد وغياب أي سياسة جدية لمكافحته أو الحد منه. فالفساد لا يصدر هنا عن انحراف أو نقص فعالية في النظام وإنما هو قانون النظام الحقيقي، أي الأساس لنشوء التراكم الرأسمالي بالنسبة لرأسمالية ارستقراطية مرتبطة بالسيطرة السياسية وتابعة بشكل جوهري لها. لذلك ما كان من الممكن للتحرير الاقتصادي أن يعني هنا تراجع الفساد بقدر ما عنى تفاقمه بموازاة تقدم عملية التحرير بل تحوله هو نفسه إلى قاعدة نمو الاقتصاد الجديد ومحركها.  فتحقيق هذا التراكم على أكمل وجه وفي أسرع شكل هو الذي يقود سياسات تحديث النظام القائم وتطويره وليس أي حساب اجتماعي آخر أو مصلحة وطنية عامة. فمحرك نشاط وعمل ارستقراطية الدولة والسوق المبتورة القائمة لا يرتبط لا بالتفكير في مستقبل البلاد ولا يتطور الانتاج ولا بتوسع استثماراتها في الداخل وإنما جمع أكثر ما يمكن من الثروة قبل أن يحين وقت تصديرها على شكل ودائع واستثمارات إلى السوق العالمية. وهي تريد أن تستفيد من كل يوم يمر  قبل الانفجار الاجتماعي الذي تنظر إليه كقدر لا بد منه وتعد قوى الأمن لتحقيق الانتصار عليه. إنها تعيش في حرب مستمرة كامنة مع المجتمع. وليس النظام السياسي وتشكيلات السلطة التي طورتها إلا  تعبيرا وتجسيدا لإرادة التعايش  بشكل دائم، سياسيا وفكريا، مع هذه الحرب. 

لكن إذا كان استمرار النظام التسلطي والشمولي شرطا لنشوء الرأسمالية العشيرية وأرستقراطية المال ولأعمال المافيوزية فهو ليس ثمرة لها. إن استمراره لا يمكن تفسيره إلا بوضعه داخل  دائرة العلاقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية التي حددت شروط تكون الدول وبلورة القوى السياسية وتوازناتها داخل البلاد العربية8.

والمهم أن ندرك أنه، ما لم يتعرض نظام الاحتكار المطلق للسلطة السياسية والاقتصادية والثقافية الذي يمثله الحكم في إطار قوانين الطواريء وحرمان المجتمع من أي حياة مدنية أو سياسية للانهيار من تلقاء نفسه، كما حصل في البلاد الأخرى الشمولية، أو أن يواجه معارضة قوية وقادرة من طرف المجتمع، لن يكون هناك أي أمل بأي تغيير جدي سياسا كان أم إقتصاديا. فليس للطبقة-العشيرة أي مصلحة في أن تعدل في آليات السيطرة الكلية والاحتكار المرتبطة بالنظام الشمولي أو تأهيلها. فهي تقدم لها أفضل الشروط لتحقيق التراكم السريع أو بالاحرى لتمديد مرحلة التراكم البدائي القائم على استخدام القوة المجردة لرفع عوائد ريع الموقع السياسي إلى حدها الأقصى، وإذا أمكن، مراكمة الثروة ورأس المال من دون أي استثمار آخر سوى الرشوة الضرورية لكسب المحاسيب والأعوان قبل الاستثمار في الخارج. فكيما تضمن لنفسها الانطلاق من ضيق الاقتصاد الوطني الصغير نحو رحابة السوق العالمية التي تشكل منذ الآن امتدادا طبيعيا لها ليس عندها خيار آخر سوى تحقيق المعادلة الصعبة:  أقصى معدلات التراكم بأسرع وقت وبأدنى تكلفة. وهو ما يقود إلى منطق عمل السخرة ونمطه.

 

 -4  التغيير الراهن وغياب آفاق التحولات الديمقراطية

ذكرت أن ما تعيشه سورية والعديد من البلاد العربية الأخرى من سيطرة السلطة العائلية وتحييد السلطة الوطنية أو حلها لا يختلف بشكل نوعي عما عاشته البلدان التي شهدت إفلاس وانهيار النظم الشيوعية والاشتراكية. ففي جميع هذه البلدان نجحت شبكات المصالح الخاصة والضيقة المرتبطة عائليا بشبكات السلطة البيرقراطية والسياسية في وراثة الدولة الشمولية وتحويل ملكيتها إلى ملكية شخصية.  لكن بعكس البلدان العربية،  حصل هذا الانتقال نحو اقتصاد السوق المعولم في سياق انهيار النظام الشمولي. وبالرغم من أنه قاد أيضا إلي سيطرة شبكات المصالح الضيقة ذات الطابع المافيوزي لكنه ترافق، وهذا هو الآهم، مع نشوء نظم تعددية وديمقراطية سوف تسمح في المستقبل بتعديل الوضع الناشيء عن أزمة الانتقال، كما تشير إليه محاولة الرئيس الروسي بوتين الراهنة لمحاصرة امبرطوريات المال في روسيا الاتحادية.  في حين يقود الانتقال نحو الرأسمالية الخاصة في ظل استمرار الحكم الشمولي في البلدان العربية نحو تخليد سيطرة شبكات المصالح العائلية نفسها والتمديد في عمرها مع انسداد أي أفق للاصلاح أي للتغيير في الأحوال المعيشية والسياسية والقانونية والنفسية للبلاد.

ولعل العامل الأهم الذي شجع دول الكتلة السوفييتية السابقة على اتباع هذا المنحى التعددي إلى جانب انهيار النظام نفسه ما حظيت به هذه البلدان أيضا، لأسباب جيو استراتيجية مختلفة، برعاية خاصة أوروبية أمريكية جعلت من الرهان على التعددية رهانا مثمرا ومفيدا بالنسبة للنخب الجديدة.  وهكذا أمكن بفضل تهاوي النظم الشمولية وضمان المساعدات المالية والاقتصادية ثم السياسية، بالنسبة لبلدان أوروبا الشرقية، فتح طريق  أقرب إلى الديمقراطية في هذه المنطقة. وبالرغم من ذلك لم تحسم المعركة بعد ولا يزال الصراع بين الخط المافيوزي والخط الديمقراطي هو الذي يتحكم بالحياة السياسية لجميع هذه البلدان، بما في ذلك روسيا الاتحادية التي يسيطر فيها أباطرة لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد على موارد أسطورية انتزعت من الدولة السوفييتية وصودرت في ليلة لا ضوء فيها.  والدول الوحيدة التي تمكنت من التحكم النسبي بهذه الظاهرة هي تلك التي نجحت في ايجاد مكان لها في الاتحاد الأوروبي يعزز تحولها الديمقراطي ويفتح للنخب فيها آفاقا جديدة بقدر ما يبشر بالانفتاح على مصادر جديدة للتقدم والارتقاء المادي والمعنوي أيضا.

وبالعكس أدى الانتقال نحو اقتصاد السوق في البلاد العربية مع الاحتفاظ بالنظام التسلطي وغياب أفق المساعدات الدولية لتشجيع اختيار التعددية، بسبب تقديرات جيواستراتيجية أوروأمريكية مختلفة للوضع في المنطقة، في مقدمها رعاية المصالح الاسرائيلية والنفطية، إلى استبعاد خط التطور الديمقراطي بل التعددية السياسية الشكلية أحيانا في العالم العربي. فبينما استهدفت الضغوط والمساعدات الخارجية القوية توسيع دائرة المشاركة السياسية، في بلدان المعسكر السوفييتي السابق لاتزال الضغوط الموجهة نحو البلاد العربية تعمل حتى اليوم على إضعاف القوى الديمقراطية والوطنية لصالح القوى المافيوزية والمتعاملة مباشرة مع الدول الصناعية والولايات المتحدة منها بشكل خاص. وبينما اضطرت النخب الجديدة في الديكتاتوريات الشيوعية الأوروبة السابقة، في سعيها للتغطية على مصادرتها لموارد البلاد بطرق لا شرعية أو شبه شرعية إلى تبني صيغ ديمقراطية او على الأقل تعددية للحكم ، تسعى النخب العربية الجديدة إلى تأكيد وجودها وتعزيز مواقعها من خلال انخراطها في الحرب العالمية ضد الارهاب لصالح الدول الصناعية وضمان موافقة هذه الدول على بقائها واستمرارها.

وهكذا يشكل الإطار الجيوستراتيجي للتحول نحو اقتصاد السوق عاملا شديد التأثير في تكوين طبيعة هذا الاقتصاد الجديد والطبقات والقوى الحاملة له. وكما أنه لا يمكن تفسير الدفع نحو الخيار الديمقراطي في أوروبة الشرقية من دون النظر إلى هدف الادماج في الاتحاد الأوروبي وقبول البلدان الشرقية ضمن العائلة الواحدة، في إطار قطع الطريق على عودة الحرب الباردة وإعادة بناء الامبرطورية الروسية، لا يمكن تفسير الخيار التسلطي في المنطقة العربية من قبل التحالف الأطلسي من دون النظر إلى مشاريع الهيمنة الخارجية والسياسات الاستعمارية الجديدة التي لا تزال من نصيب البلاد العربية بوصفها مصدرا للمواد الأولية وأسواقا للتنافس ومناطق لتقاسم النفوذ وأدوات للاستراتيجيات الدولية.  وقد ترتب على هذين الاختيارين المتباينين نتائج متباينة أيضا. فقد استفادت القوى الوطنية  في بلدان أوروبة الشرقية وروسيا من آليات التعددية والديمقراطية لإطلاق علمية اندماج موسعة في الاقتصاد الحديث العالمي وجذب المساعدات والاستثمارات الأجنبية مما مكنها ولا يزال من تقليم أظافر الرأسمالية المافيوزية وفرض سيطرة الدولة والمجتمع عليها تدريجيا. لكن الحال يختلف عن ذلك في سورية وبقية البلاد العربية المشابهة لها. فقد ساهم التجديد لنظم الوصاية التسلطية الأبوية والبيرقرطية بسبب استمرار المخاوف الخارجية من أن يؤدي الانفتاح إلى بروز القوى الاسلامية المعادية لاسرائيل وللغرب إلى إضعاف فرص الانفتاح الاقتصادي نفسه وتعزيز حظوظ القوى المافيوزية في وضع يدها السريع والكامل على اقتصاد البلاد وسلطتها العمومية ومصادرة الدولة ذاتها من قبل الارستقراطية المالية الجديدة.

وعلى الأغلب، إذا استمر الدعم الأروبي الأمريكي لنظم الحكم التسلطية في المنطقة ولم يحصل انفجار ما بسبب التقهقر السريع في الأوضاع المعيشية والمعنوية للأغلبية من السكان، وهو انفجار متوقع بقدر ما أن شره النخبة الجديدة يمنعها من رؤية هذا التقهقر ويجعلها تعتقد أنها تستطيع أن تتحرك من دون اعتبار لأي ضغوط خارجية أو داخلية،  فإن ما سيخلف النظام الشمولي القديم ليس نظاما تسلطيا إصلاحيا أكثر انفتاحا واعتدالا وإنما نظاما أقرب إلى الفاشية، أكثر فظاظة وعدوانية بكثير مع استبدال الايديولوجيات الاجتماعية والقومية التقليدية بايديولوجيات نخبوية سوقية. وسوف يتأسف الجمهور الواسع على عصر الدولة الشمولية العمومية الذي سيرتبط بتحقيق بعض الاستقرار والمكاسب الاجتماعية المادية، وبشكل خاص تجنيبه جزءا من السكان الانحدار إلى حافة البؤس الشديد والمجاعة.

وهذا يعني أن احتمالات التحول الديمقراطي لا تزال وسوف تبقى محدودة جدا. وهي ترتبط بقدرة أصحاب المصالح المغبونة والمهمشة وفي مقدمتهم الطبقة الوسطى على بلورة تصورات واضحة ووعي سياسي قوي وعلى التفاهم في ما بينها لتكوين جبهة اجتماعية عريضة هي وحدها التي تستطيع الوقوف في مواجهة المصالح والممارسات المافيوزية المسيطرة القائمة على السلبطة والسطو والسرقة المقنعة لموارد البلاد من وراء شعارات التخصيص والتكيف والتفاهم مع القوى الاقتصادية الدولية وفي خفية عن أي مراقبه ومساءلة شعبية أو اجتماعية.

هذا هو الدور الذي يقع على كاهل المعارضة الديمقراطية في سورية كما هو الحال في البلاد العربية الأخرى بمختلف مكوناتها وما لاتزال بعيدة جدا عن تحقيقه.  فقد قضت هذه المعارضة وقتها في السنوات  الماضية في استجداء  التحويل الديمقراطي من لدن نظم لا قدرة لها على البقاء وتجديد نفسها إلا بمنع هذا التحويل وشل كل أمل في تحقيقه.  ولن يغير واقع هذه الحال تزايد الضغوط الخارجية اللفظية ولا  التبخير من قبل المعارضة للنظام أو لبعض أطرافه أو مناشدتهم وتذكيرهم  بمصير أترابهم والاتعاظ بهم. ذلك أن مثل هذه الضغوط وذاك الحث على الحوار والتفاهم الوطني كان من الممكن أن يحدثا أثرا بالفعل لو كانت قوى النظام الرئيسية لا تزال تفكر بمنطق المصالح العامة أو تملك القدرة على التفكير فيها.  والحال، لا يمكن للنظام البيرقراطي القائم على المحسوبية والزبونية والتسلط، أن ينتج نظام مواطنية وعدالة ومساواة وحرية. إنه لا يمكن أن يلد من ذاته إلا نظاما فاسدا ومشوها مثله ولو كان ذلك في شروط وأشكال مختلفة.  فما يجمع بين النظامين هو قيم الفساد والغش وتعليق القانون والسطو على المال العام والخاص وانعدام روح المسؤولية الوطنية والقيم الإنسانية وغياب أي فضيلة أو مثال.  ولكن يفرق بينهما شكل الملكية، أي نوع المغارة التي يخزن فيها أو يخفي فيها علي بابا ما تسطو عليه يديه من غنائم.

لا ينجم خطأ المعارضة عن تبنيها للحلول السلمية ولا من متابعتها الدعوة للحوار، لكنه ينبع من تحويلها الحوار إلى استراتيجية قائمة بذاتها أو بديلة لاستراتيجية العمل السياسي والشعبي والجماهيري الحقيقية.  وهكذا أصبح محور نشاطها كتابة العرائض والنصوص التي تناشد فيها السلطات وتترجاها أو البيانات التي تثني على أعمال السلطة أو تنتقدها وإطلاق التصريحات التي تشجب أو تدين أو تحفز أو تدعو السلطة لمراعاة المصالح الوطنية وتلافي مخاطر الانكشاف على التهديدات والقوى الأجنبية. لقد جعلت من الحوار غير الرسمي على صفحات الجرائد والنشرات المكتوبة والاليكترونية بديلا عن العمل الشاق لبناء قوى التغيير الفعلية، أي تنظيم القوى الأهلية وتكوين التنظيمات السياسية القادرة على مواجهة القوى المعادية لأي تحول ديمقراطي للانتقال بالنظام الشمولي نحو نظام جديد أكثر عدالة ومساواة سواء أكان ذلك في مستوى توزيع الثروة الوطنية أو في المشاركة في الحياة السياسية والمدنية.

والنتيجة أنه، مع استمرار الدعم الجيوستراتيجي الخارجي لنظم التسلط المحلية في مواجهة الارهاب شكلا، وللحفاظ على صيغة السيطرة الاستعمارية الجديدة في المنطقة عمليا، وفي غياب قوى اجتماعية قادرة على التدخل لفرض وجهة مخالفة للتحولات القائمة، ليس من المحتمل إحداث أي تغيير ايجابي في النظام في المستقبل القريب. فلا تستطيع الشعوب العربية حتى لو نجحت في بناء الجبهة الديمقراطية القوية أن تحقق أهدافها ضد إرادة الدول الكبرى ذات النفوذ الاستثنائي في المنطقة، كما أنها لن تستطيع أن تحقق شيئا بالاعتماد على الدول الأجنبية والركون لوعودها. فكما أنه لا يمكن لدولة ولا لشعب أن يقيم الديمقراطية في دولة أخرى ولشعب آخر وليس هذا من أهدافه وهو لا يستجيب لأي منطق سياسي أو جيوستراتيجي، كذلك لا تستطيع أي قوة محلية مهما كانت منظمة وقوية أن تقيم نظاما ديمقراطيا تقف ضده بقوة وترفضه القوى الدولية الأوروبية الأمريكية التي يعتمد اقتصاد المنطقة اليوم وأمنها أيضا بشكل أكبر فأكبر عليها.

ومن هنا يحتاج التغيير الديمقراطي أولا إلى بناء جبهة ديمقراطية عريضة تضم جميع القوى المتضررة أو التي سوف تتضرر من نظام الرأسمالية المافيوزية وقي قوى واسعة وكبيرة. كما يحتاج إلى استراتيجية ديمقراطية دولية قادرة على تحييد الأثر السلبي للقوى الدولية الأوروبية الأمريكية المناوئة للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية، وهي قوى واسعة آيضا ومنتشرة بين جميع التيارات والاتجاهات السياسية الغربية. وبقدر ما يستدعي بناء الجبهة الديمقراطية تنمية روح التعددية داخل صفوف المعارضة نفسها وتشجيع حركة التداول الفكري والسياسي والمنافسة بين أطرافها وتنمية ثقافة ديمقراطية حية ومتنوعة، يستدعي بناء استرتيجية دولية ديمقراطية العمل مع جميع القوى والأحزاب والتجمعات المدنية الدولية في سبيل تغيير العقيدة الغربية السائدة حول حقيقة مطالب وطموحات وآمال الشعوب العربية وجوهر ثقافتها كما يستدعي كسر التفاهم الاستعماري الاستبدادي وتأكيد رغبة الشعوب العربية ومصلحتها معا في إقامة شراكة دولية حقيقية من أجل السلام والأمن والتنمية الديمقراطية في إطار نظام عالم جديد يحكمه قانون التعاون والتضامن لا الحرب والصراع.

بهذه الوسيلة فقط يمكن تأمين أوراق الضغط اللازمة لإجبار النظم الاستبدادية العائلية العربية على تغيير منهج حكمها، وقبل أي شيء آخر، دفع النخب السياسية جميعا إلى الاعتراف بشعوبها والسعي إلى التفاهم معهم من أجل البقاء في الحكم  بدل استخدام إخضاعهم والسيطرة عليهم كجسر للتفاهم مع دول الهيمنة الاستعمارية الجديدة. ولا يجدي  في هذا المجال الاستمرار في استجداء النظم ولا المراهنة على تطورها الداخلي كثيرا.  إن النظام الذي تتبلور ملامحه اليوم في سورية والبلاد العربية هو الابن الشرعي الوحيد والممكن لنظام التمييز بين المواطنين وتقييد الحريات وتحريم العمل السياسي أو تجريمه وإلغاء المجتمع المدني، أعني النظام الذي لايزال ينشر الخراب في المجتمعات العربية منذ أربعة عقود.

لا يلغي هذا التأكيد على أهمية بناء الجبهة الديمقراطية إمكانية المراهنة على احتمال تفكك النظام وانهياره بسبب تعارض المصالح داخله كما أنه ليس من الخطأ الاعتقاد بأن إفلاس سياسات النظام يمكن أن تخلق فرصا جديدة للعمل الديمقراطي. لكن لا يشكل الرهان على احتمال ضعيف استراتيجية عمل مقبولة وناجعة للقوى الديمقراطية كما أن تسليم النظام بإفلاس الحلول والسياسات القديمة لا يعني بالضرورة وبصورة عفوية التفاهم مع المعارضة على السياسات والحلول الجديدة التي يمكن أن تساهم في إخراج البلاد من الأزمة. وفي نظري أن المعارضة السورية لم  تصب عندما بنت استراتيجيتها على الاعتقاد بالفعل آن هناك إمكانية حقيقية للتوصل إلى تفاهم مع قوى النظام، التي هي قوى متعددة ومختلفة الرأي في ما بينها من دون شك، على طبيعة الحول المنشودة.  فما دامت الضغوط ضعيفة في صالح التحولات الديمقراطية سوف يستمر النظام في البحث عن حلول تجنبه دفع الثمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي يضمره تبني الحلول الديمقراطية وسوف يجد دائما حلولا جانبية أقل كلفة للبقاء في الحكم والهرب من الاستحقاقات الكثيرة الوطنية والشعبية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ولا ينبغي على المعارضة الديمقراطية أن تنسى أن موضوع الصراع الاجتماعي الرئيسي اليوم هو بالضبط بلورة هذه الحلول أو السياسات المطلوبة للخروج من الأزمة. فكما أن النظام يسعى إلى تقديم الحلول التي تضمن مصالح استمراره كما هو واستمرار المصالح القائمة من دون تغيير، تسعى قوى المعارضة أو عليها أن تسعى، وهذا هو أصل الخلاف مع النظام، إلى فرض حلول تعكس مصالح الفئات والطبقات المهمشة أو المستبعدة والمغبونة. كما لا ينبغي لها أن تنسى أن لكل طبقة أو فئة اجتماعية مصالحها الخاصة ولكل واحدة منها رؤيتها المستقلة واستراتيجيتها المتميزة في استغلال الأزمة التاريخية للنظام الشمولي الراهن في سبيل تحسين مواقعها وضمان ازدهارها في المستقبل.  وكما سعى المثقفون ممثلين للطبقة الوسطى، منذ الأيام الاولى لانتقال السلطة إلى الرئيس الجديد، إلى استثمار ارتباك النظام في المرحلة الانتقالية من أجل فرض التعددية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية واحترام حرية التعبير والتنظيم، ولو في مستوياتها الدنيا وعلى صعيد الجمعيات الأهلية والمدنية، سعت الطبقة الجديدة المتولدة في أحشاء بيرقراطية الدولة والحزب والجيش إلى استثمار الوضع نفسه للتسريع في عملية تراكم الثروة العامة وتركيزها وتحويلها إلى ملكية خاصة بعد أن بقي احتكارها لها يتحقق ضمن إطار الملكية العامة.  وضمان هذا التراكم السريع يفترض بالنسبة لها، بعكس ما تحتاجه الطبقة الوسطى، تعديلات قانونية تكسر احتكار الدولة لصالح الاحتكارات الخاصة من جهة وتمديد فترة الأحكام العرفية، أي حقبة غياب القانون ومبدأ المحاسبة والمسؤولية والمراقبة العمومية التي تمثلها الصحافة الحرة والنقدية، أي باختصار القضاء على فكرة الاصلاح من جهة ثانية.  ولأن الطبقة الوسطى لم ترم بنفسها بقوة في معركة التغيير، ولم تنج في توحيد نفسها وخطابها ورؤيتها للتغيير والنجاح في فرضها أو فرض جزء منها على الأقل على السلطة العمومية، نجحت أرستقراطية المال والأعمال العائلية في أن توجه التغيير في الاتجاه الذي يخدم مصالحها بصورة تكاد تكون كاملة، وحولت السلطة العمومية نفسها إلى أداة بيدها. ويرجع السبب في ذلك من دون شك إلى الضعف البنيوي للطبقة الوسطى السورية التي مزقتها خلال العقود الماضية النزاعات والانقسامات الجهوية والسياسية والعقائدية والاتنية والطائفية كما شتت شملها وحطمتها سياسات القمع المنهجي والعزل المنظم لممثليها السياسيين والاجتماعيين وإلغاء الحياة السياسية والمدنية وملاحقة الأحزاب ومنهج السيطرة الأمنية على الجمعيات وفرض عقيدة عبادة الشخصية والرأي الواحد على البلاد بأكملها. وهكذا لم تعمل التحولات التي سيشهدها النظام في العهد الجديد في سعيه للخروج من أزمته التاريخية إلى تحسين فرص هذه الطبقة وحصولها على نصيب أكبر من العدالة والمساواة والحياة القانونية والسياسية والمدنية السليمة ولكنه سيقلل منها لصالح الصعود الكاسح لجماعات الضغط والاثراء أو لأصحاب الحظوة . وهو ما يفسر حالة الإحباط العميق التي بدأت تعيشه اليوم بعد فترة ارتفاع الآمال فئات واسعة من هذه الطبقة ومن المثقفين الذين حلموا بقيادتها نحو عهد جديد. 

ومهما كان الحال، يصطدم الاختيار الذي انتهى إليه النظام في تحديد ماهية التغيير وطبيعته وسوف يظل يصطدم بشكل قوي بمصالح الطبقة الوسطى وممثليها السياسيين والفكريين. ولن ينطوي على أي حل دائم لإفلاس النظام الشمولي.  وبقدر ما سيسير في اتجاه تعزيز موقع القوى العائلية التي تطمح إلى أن ترث النظام القديم وتجير أدوات حكمه وتحكمه الشمولية لصالح بناء نمط من رأسمالية المضاربة التي تعتمد وضع اليد والمحاصصة والربح السريع وتهرب من العمليات الانتاجية سوف يكتل ضده وفي مواجهته أوسع القوى الاجتماعية وسوف يظهر لا محالة وأكثر فأكثر كرفض للتطوير والتحديث بالرغم من الخطاب الشعاري وسيطرة بالقوة أو تبرير للسيطرة بالقوة على موارد البلاد من قبل فئات مصالح مفترسة لا تخضع في ممارساتها الاقتصادية إلى  أي أصول قانونية أو مراقبة سياسية أو قواعد موضوعية.  ومن هنا لا يمكن للاختيار الاقتصادي والسياسي الجديد إلا أن يدفع الأزمة الراهنة الذي فتحها إفلاس النظام الشمولي إلى المزيد من التفاقم وأن ينقل الصراع الاجتماعي والسياسي إلى المزيد من الالتهاب. وسيجد النظام صعوبات أكبر فأكبر في مقاومة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة في اتجاه السير نحو مشروع تغيير ذي منحى ديمقراطي يكون أكثر قدرة على الرد بصورة ايجابية على حاجات تطور المجتمع وضمان مصالح أغلبية سكانه.

 

 

 

----------------

  1- وضع أول تقرير وطني في إطار تحديث السياسات الاقتصادية من قبل لجنة ال 18  التي شكلها الرئيس في خريف عام 2000 ثم أعقبها تقرير لجنة ال 35 التي كلفت بإعداد تقرير حول إصلاح القطاع العام في ربيع 2001 وفي ربيع 2002  شكلت لجنة وزارية جديدة لوضع المسودة الأولى لبرنامج الاصلاح الاقتصادي وقدمت تقريرها في حزيران يونيو من العام نفسه ثم شكلت لجنة وزارية ثانية في ربيع 2003 من قبل رئيس مجلس الوزراء لإعادة صياغة مشروع برنامج الاصلاح السابق وقدمته في حزيران يونيو 2003 إضافة إلى مشروع برنامج سورية 2020 الذي عمل عليه وزير التخطيط ثم وزير الصناعة عصام الزعيم.

 -2هذا ما يفسر آيضا مقاومة هذه البيروقراطية بوسائل عديدة للصعود الصاعق للرأسمالية المافيوزية الجديدة التي تضم الجيل الثاني من أبناء المسؤلين. وفي إطار هذه المقاومة يمكن أيضا وضع نشر مسؤول كبير سابق مثل وزير الدفاع مصطفى طلاس مذكراته الأخيرة عن صراع رفعت الأسد من أجل السلطة، وهو النموذج الأصلي الرائد لجيل الرأسماليين الجدد الذين يتصرفون بموارد البلاد باعتبارها ميراثا عائلياشرعيا وصافيا معا.  

-3 انظر كتابنا (حوار رضوان زيادة)  العرب وتحولات العالم،  المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء 200

4- أنظر بالفرنسية >نهاية الثورة البعثية< مجلة روافد متوسطية، باريس، ملف ربيع دمشق، ربيع 2003

-5 شكلت حركة المنتديات الفكرية السياسية التي ظهرت في عام 2001 المظهر الرئيسي لهذه المقاومة التي كانت تهدف إلى قطع الطريق على صعود رأسمالية السوق المحجوزة والمافيوزية. كما شكل اعتقال رياض سيف وعارف دليلة ورفاقهم في ايلول 2001 الضربة القوية التي وجهت لحركة الانفتاح الديمقراطي ليس بالمعنى السياسي فحسب ولكن الاقتصادي أيضا، أي لحركة نشوء رأسمالية سورية وطنية على حساب الرأسمالية المافيوزية.

6- هذا هو المقصود من التعميم الذي أصدرته القيادة القطرية والقاضي بعدم حصر جميع مناصب الدولة بأعضاء حزب البعث الحاكم والسماح لغير حزبيين باحتلال بعض المناصب الإدارية. وهذا هو الانتفاح الوحيد الذي حصل في اتجاه إشراك غير البعثيين في الحكم وهي النافذة الصغيرة التي يحاول العهد من خلالها مغازلة البرجوازية المدينية التي كانت مستبعدة تماما من السلطة وإضفاء طابع التغيير والإصلاح على النظام في مواجهة الانتقادات الأوروبية والأمريكية للجمود والابقاء على السياسات الستالينية.

  7- انظر مقالنا >وهم التعلق بالنموذج الصيني<، موقع الجزيرة نت، وجهات نظر، يوليو 04

8- حول مسألة تأخر ظهور المطالب الديمقراطية في البلاد العربية أنظر >المصائر المأساوية لعملية تحقيق الديمقراطية في البلاد العربية<، بالفرنسية، مجلة روافد متوسطية، باريس، ربيع 2004

 ---------`