الثورة الثانية أو فك الحصار

2013-10-09:: face book

 

لنعترف أن المزاج العام لقوى الثورة السورية، من مقاتلين وناشطين سياسيين وغيرهم ليس على مايرام منذ عدة أسابيع. والسبب أن الأمل بقرب الخلاص من جحيم الحرب الدائرة منذ ثلاثين شهرا، قد تبخر بعد تراجع الدول الغربية عن توجيه ضربات عسكرية لإضعاف قوة الأسد، وحل محله احباط عمقه على الفور الاعلان عن الاتفاق الروسي الأمريكي حول نزع السلاح الكيماوي السوري. وزاد في الطين بلة بدء الحوار الأمريكي الايراني عقب الانفتاح الشكلي الذي أبداه الرئيس روحاني تجاه مفاوضات الملف النووي وبقية الملفات العالقة الأخرى، بما فيها الملف السوري نفسه.
وفي سياق هذه الصدمة التي جاءت على شكل مزحة غادرة من قبل الغرب، اكتشف السوريون، وعلى رأسهم المقاتلون، وهم يواحهون من جديد الهجومات المتصاعدة للنظام الذي تحرر من الضغط، الحقيقة المرة لتراجع الحلفاء عن كل الوعود، التي لم يكفوا عن تردادها لأشهر طويلة، باقتراب أجل إمدادهم بالأسلحة النوعية التي تمكنهم من تغيير ميزان القوى.
وبعد ان قايض الغربيون معاقبة الأسد على استخدامه الاسلحة الكيماوية، بتعاون الجاني في عملية تدميرها، وأصبحوا يكيلون له الثناء لالتزامه بهذا التعاون، لم يعد لديهم قضية أخرى سوى الحديث عن عقد مؤتمر جنيف ٢، ودعوة المعارضة إلى الاسراع في تأكيدها حضوره.

بعد خذلانهم في توفير السلاح الموعود، والضغط على الدول العربية لعدم تسليمهم الأسلحة النوعية، وحرمانهم حتى من الذخيرة اللازمة لمواجهة الهجومات المتعاقبة لميليشيات الأسد، بدا الالحاح على عقد مؤتمر جنيف في أسرع وقت، وكانه مقصود لاستثمار الوضع الناشيء وإضعاف المعارضة المسلحة، لخدمة النظام، وإجبار الثورة على التنازل في المفاوضات عما حققته من مكاسب بتضحيات أبنائها.
هكذا بدأت الغيوم بالتلبد، واختلط الغضب والسخط على الدول "الحليفة"، بالخوف من تفريط المعارضة السياسية الممثلة بالإئتلاف بمصالح الثورة العليا، وصعد التوتر بشكل مفاجيء وعميق بين المقاتلين السياسية التي لم تدرك عمق الاحباط الذي يعيشونه، ولم تقم بالتواصل اللازم معهم حتى تضمن مشاركتهم في القرار وتبديد مخاوفهم من تحويل مؤتمر جنيف إلى مناسبة لبيعهم أو المساومة عليهم.
كل ذلك أدى إلى ردود فعل قوية من قبل قوى الثورة المقاتلة، عبرت عن نفسها في بيان ال١٣ فصيل، وهو ما ذكرنا بأجواء الانقلابات العسكرية التي نعرفها. وكان نتيجة ما حصل تعزيز الشكوك بقيادة المعارضة السياسية وأضعاف الثقة بها، ليس بين المقاتلين فحسب، وإنما في أوساط واسعة من الرأي العام السوري أيضا. وقد ضيق هذا كله من هامش القيادة السياسية التي أصبحت الآن وكأنها فاقدة لاستقلالها ورهينة بين يدي المقاتلين وبالتالي حريصة على إرضائهم، وغير مستعدة أو قادرة على القيام بأي مبادرة تعبر عن حد أدنى من الاستقلالية.

من هنا، لم يكن الشعور بغياب القيادة السياسية قويا لدى الرأي العام الثوري مثل ما هو اليوم، ولم يكن الخوف على الثورة والقلق من احتمال الالتفاف عليها أو اغتيالها من قبل الأطراف الدولية، بما في ذلك التي تعتبر نفسها صديقة أو داعمة لها، كما هو عليه في هذا الوقت. وهو ما يزيد في إحباط القوى الثورية والرأي العام ويعمق مشاعر التململ والسخط ويخلق حالة من الاضطراب والتوجس والاستعداد للذهاب في كل الاتجاهات، كما يعزز دور المنظمات الرديكالية التي لا تراهن أو لم تراهن على الدعم الخارجي، ولا تعتبر نفسها معنية بأي مؤتمر دولي أو حكومة انتقالية أو حتى دولة ديمقراطية..
لم يكن لدى المعارضة أية أوهام حول استعداد النظام لقبول أي انتقال ديمقراطي كما ينص عليه بيان جنيف١، ولا حول وقف القتل وإطلاق سراح المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي، ببساطة لأن ذلك يعني نهايته ومعه العصابة التي تلتف حوله. كان الأمر يتعلق بعملية علاقات دولية لا أكثر، ومنع النظام من تسجيل كسب جديد أمام الدول على اعتبار أنه هو وحده، بعكس المعارضة، الجاهز لعملية تفاوضية .
لكن سياق الأحداث التي ذكرت، والمناخ الذي ساد نتيجة سياسات الدول الغربية المتخاذلة، والتي لم تف بوعودها، والاتفاقات التي وقعت، وغياب التشاور بين الأطراف جميعا، ما كان يمكن له إلا أن يبعث الخوف والشك والريبة في أي تحرك تقوم به المعارضة السياسية والائتلاف.

مع ذلك يبقى أن ما حدث في الأسابيع القليلة الماضية كان غنيا بالمعاني، لما أظهره من غياب الثقة بين المكون القتالي والمكون السياسي من جهة، وبين الإئتلاف والراي العام الثوري من جهة أخرى. ولن يكون هناك إمكانية للتقدم في الأشهر القادمة، على المسار العسكري أو السياسي، من دون تجاوز انعدام الثقة هذا وبناء قيادة العمل السياسي والعسكري على قواعد واضحة وفعالة. وهو ما لم يحصل في الثورة منذ بدايتها حتى الآن، طالما ان كل فصيل يقود نفسه بنفس،ه ولا يخضع لأمرة أحد، ولا لأي خطة أو خريطة طريق موحدة وجامعة. فمن دون ذلك لن نستطيع مهما قمنا به من تضحيات الامساك بالمبادرة وقيادة الأحداث وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالح الثورة وتقرب اجل الحسم.

لاستعادة المبادرة على الأرض وفي المجال السياسي والعلاقات الدولية نحتاج إلى تحقيق هدفين كبيرين. الأول استعادة ثقة القوى المقاتلة بالقيادة السياسية، وفي مقدمها الائتلاف. والثاني استعادة ثقة الرأي العام السوري، والثوري منه بشكل خاص، بالثورة وقياداتها السياسية والعسكرية معا، وهذا ما يعيد بعث الأمل الذي تعرض لامتحان كبير في الأشهر الماضية بسبب المراوحة في المكان، في التقدم والنصر.

للوصول إلى الهدف الأول ينبغي البدء ببناء هيكل القيادة العسكرية أولا، وإعادة تشكيل الائتلاف ليكون ممثلا للقوى الفاعلة على الأرض، عسكرية وغير عسكرية، لا للتيارات والايديولوجيات المختلفة. وهذا يعني تلقائيا أعادة الوزن فيه لقوى الداخل، على حساب من يدعي تمثيلها في الخارج.

وتستدعي إعادة تشكيل هيكل القيادة العسكرية عملا ابداعيا منظما ينسق بشكل خلاق بين نشاطات القوى والفصائل المختلفة، من دون ان يقضي بالضرورة على استقلالها، ويدمج القوى العسكرية المهنية بالقوى المقاتلة من أصول مدنية، من دون أن يزعزع قيادتها المكتسبة بالخبرة والقتال. كما أن على كل تنظيم تجميعي أن ينطلق من القوى الفاعلة على الأرض، ولا مانع أن يضيف إليها،

أما تحقيق الهدف الثاني فلم يعد ممكنا إلا بعودة المعارضة إلى الداخل، أو على الأقل تحويل مركز الثقل في إئتلاف المعارضة السياسية نحو الداخل، والاحتفاظ في الخارج بأنتينات للتواصل مع العالم فقط. ويستدعي إعادة إدخال الأطر السياسية إلى داخل الوطن الأم، إعداد مواقع تتمتع بحد أدنى من الحماية الذاتية، والقدرة على التحرك والعمل في المناطق المختلفة. ومنذ الآن يستطيع الائتلاف، إذا أراد ذلك، تعيين مراسلين له في المناطق والمدن والأحياء، من نشطاء الداخل تمهيدا لدخول أطره الخارجية.

بل إن حركة العودة إلى الداخل ينبغي أن تكون منذ الآن محور نشاط الحركة السياسية الثورية، وأن يعد لها بكل الوسائل، ليس على مستوى المعارضة فقط وإنما على مستوى ملايين الشباب والرجال والنساء الذين هاجروا أو تركوا البلاد نتيجة الخوف على أبنائهم أو على أنفسهم. فلم يعد هناك أمل كبير في المراهنة على دعم أكبر من الخارج، وسوف يستمر الكذب وتستمر المماطلة على الأغلب لأنه ليس من مصلحة أحد أن يستعيد السوريون بلدهم ووطنهم واستقرارهم. إن من أكبر واجبات المعارضة السياسية والعسكرية اليوم تنظيم الزحف المعاكس نحو الداخل، وتأمين وسائل دعمه وتمكينه. هذا هو الامل الحقيقي في استمرار الثورة ودفعها إلى الأمام وانتصارها.