الثقافة كوسيلة للتقريب بين المجتمعات

2002-11-19:: اليونسكو

 

شاركت في الأسبوع الماضي في ندوة قام بتنظيمها اليونسكو بالاشتراك مع مركز الدراسات الدولية في برشلونة عاصمة كتلونيا في إسبانيا كان موضوعها تجاوز القطيعة الثقافية والبحث عن وسيلة للترابط الثقافي أو التفاعل بين الثقافات· وكان منظم الندوة، مدير قسم حوار الثقافات في اليونسكو، الأفريقي دودو ديين قد أعلن منذ افتتاحها بأنه يعتقد أن العالم يشهد ثلاث ثورات عابرة للثقافات أو عبر ثقافية صامتة أي تجري بصمت· تتجسد أولاها في ثورة الاعلام الذي يدفع إلى التفاعل الواسع بين جميع الثقافات والشعوب عبر القنوات الفضائية، وثانيتها شبكات الانترنيت التي تقدم معرفة مشتركة ومتقاطعة لكل سكان الكرة الأرضية الذين يتلقون خدماتها ويملكون وسائل النفوذ إليها، وأخيرا الهجرات السكانية  الواسعة التي تجري بين الشرق والغرب والشمال والجنوب وتنقل ملايين البشر كل يوم من عالم إلى عالم آخر وتدفعهم دفعا إلى الاختلاط والامتزاج والتفاعل والتواصل·

وفي نظري لا تقود هذه الثورات الثلاث العابرة للثقافات أو التي أطلقنا عليها هذا الاسم إلى تواصل أكبر بين الثقافات والمجتمعات بالرغم من تقصيرها المسافات وتسريعها في وتيرة انتقال المعلومات ودمجها مجموعات كبيرة من المختصين والرأي العام في دائرة تبادل وتداول واحدة للمعارف· إنها تعمل بالعكس من ذلك على حل الهويات الثقافية الكلاسيكية، والضعيفة منها بشكل خاص، وتفكيكها· ومن الواضح اليوم أن هذه الهويات التي تتعرض للتحلل والتفكيك هي ما أطلقنا عليه في العقود الماضية الهويات القومية أو الوطنية· فلم تعد القومية عامل توحيد قوي يسمح بتجاوز التمايزات الأقوامية والتفاوتات الاجتماعية والقانونية· لقد أصبح طموح الفرد إلى معاملة إنسانية أكثر قوة وجاذبية تحت وقع مباديء حقوق الانسان، حتى لو لم يكن واعيا لها، هو الذي يتحكم، أكثر من اللحمة الوطنية التقليدية في سلوك الناس ويميز آمال الجماعات ويعبر عن تطلعاتها ويدفعها إلى تغيير مواطن سكنها وانتماءاتها واتجاهات سيرها وانتشارها·

ونستطيع أن نقول بشكل عام إن العولمة الثقافية، بما تعممه من معارف ومباديء وقيم وبما تدفع إليه من إضعاف للقيم التقليدية الوطنية تنتج ديناميكيتين متباينتين ومتكاملتين معا· الديناميكية الأولى هي دبناميكية القطيعة أو القطائع المتعددة داخل الجماعات التاريخية· وفي هذا المجال يمكن فهم صعود الآمال والمطامح والمشاعر العصبوية الأقوامية أو الطائفية أو المذهبية في العديد من البلدان· فمع انحسار القيم الوطنية المشتركة تبرز التمايزات والاختلافات ذات الأصل الثقافي والاتني والاجتماعي والعائلي والجهوي جميعا إلى السطح ولا تجد أمامها ما يمنع من ظهورها وتفاقم تأثيرها وتحولها إلى مركز مشاعر أساسية تحتل مكان الصدارة في تحديد سلوك الأفراد المكونين أساسا للجماعة الوطنية· ونستطيع أن نعاين الكثير من ذلك فيما حصل من تصاعد للنزاعات العرقية والطائفية والمذهبية في العديد من البلدان على أنقاض نزعات قومية أو وطنية خمدت أو لم تعد ذات فعالية تذكر·

أما الديناميكية الثانية التي ترتبط بتزايد التفاعل الثقافي والتواصل بين جميع فئات الرأي العالمي عبر وسائل الإعلام وشبكات المعلومات والهجرات المتواصلة  والكثيفة بين القارات فهي ذات مفعول معاكس تماما للمفعول الأول· إنها لا تدفع إلى تفكيك طبقة الاسمنت التي تلحم الأجزاء والعشائر والطبقات المتباينة والمختلفة وتصهرها في إناء واحد، هو القومية أو الوطنية، ولكنها تعمل بشكل يومي ودائم على توحيد منظومة القيم العالمية، أو خلق منظومة قيم موحدة إنسانية تنمو جنبا إلى جنب مع منظومات القيم الخاصة بكل جماعة على تعدد فئاتها وتكويناتها المختلفة· وتدفع هذه المنظومة الجديدة الموحدة للقيم إلى نشوء مطالب أخلاقية  مشترك وقوية في العالم أجمع قائمة على مبدأ المشاركة في المصير العالمي والمعاملة بالمثل والمساواة والندية· وهذا هو مغزى تطور واتساع نطاق العمل بحقوق الانسان ومطالبة الجماعات باحترام هذه الحقوق على المستويات الوطنية والمستويات الدولية معا، وهو مغزى رفض العمل بمبدأ المعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين أيضا في القضايا الدولية والوطنية أيضا· كما أنه هو الذي يقف وراء العمل السياسي والأخلاقي المتنامي لجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني والحركات المدافعة عن بيئة إنسانية سليمة ومعافاة من التلوث  والفساد وحركات مناهضة العولمة المتوحشة أو تدجينها·

إن الظروف التي يعيش فيها العالم اليوم، تحت تأثير تيارات العولمة وديناميكيات التوحيد والتمييز في الوقت نفسه هي ظروف تطور ما يمكن أن نسميه بالوضع المفارق، أي الغني بالتناقض والتوتر الصاعد· ففي الوقت الذي تدفع فيه العولمة إلى نشوء وعي إنساني موحد ومشترك بضرورات المعاملة القانونية والاخلاقية السليمة والواحدة، تلغي عمليا شروط ممارسة أو تطبيق مثل هذه المعاملة وتفاقم من أسباب القطيعة والتباعد بين الجماعات البشرية داخل الحدود الوطنية وخارجها·

هناك طريقان لتجاوز هذه المفارقة والتغلب على هذا التناقض العميق الذي يشكل مصدر ديناميكية العولمة الراهنة· الأول هو إعادة تركيب الهويات من منظور سيطرة ثقافة الدول الكبرى المسيطرة واكتساحها للحقل الثقافي الوطني في كل البلاد الضعيفة والنامية· ولن يمكن تحقيق ذلك إلا بالقضاء على المطالب الأخلاقية الجديدة  الداعية إلى المساواة والندية والعدالة على مستوى الكرة الأرضية ومن منطلقات إنسانية عالمية أو بمحاصرتها وتحجيمها وتحويل أصحابها إلى مجموعات من الدعاة المثاليين الذين يعيشون في عالم الحلم أكثر منه في عالم الحقيقة· وفي هذه الحالة سوف يستمر الهبوط في سلم القيم الجماعية نحو المشاعر والعصبيات واللحم ذات الطبيعة القبلية والعشائرية والطائفية والجهوية· ولن تكون هناك فرص لا لإعادة تكوين الهويات الوطنية التقليدية ولا لتجاوزها نحو هويات إقليمية· وقد تساعد أنظمة القمع المدعمة من الخارج في تحقيق ذلك، بل ربما كانت ضرورية له·

أما الطريق الثاني فهو أن تؤثر هذه المطالب الأخلاقية الانسانية الجديدة والنامية في طريقة إعادة تركيب الهويات الجماعية بل أن تكون العامل الحاسم فيها· وفي هذه الحالة لا بد في سبيل خلق شروط إعادة تركيب الهوية الجماعية على أسس إنسانية ترد على الاحتياجات الأخلاقية الجديدة من الارتفاع فوق مستوى الحدود الوطنية والقومية التقليدية ومعانقة مشاريع الهويات الجماعية من مستوى المناطق الاقليمية الواسعة· وهذا هو في الواقع ما قامت به المجموعة الأوربية التي سعت من خلال الاتحاد الأوربي إلى إعادة صوغ هوياتها الوطنية المفككة من منظور هوية قارية أكثر قدرة على تجاوز المفارقة التي تخلقها ديناميكيات العولمة·

لكن مثل هذه الفرصة ليست معطاة بشكل تلقائي في التاريخ· إن تكوين عالم جديد قائم على الاحترام المتبادل بين البشر بصرف النظر عن الثقافات التي ينتمون إليها والبلدان التي يعيشون فيها يحتاج إلى أكثر من التسليم لقوانين الطبيعة، سواء أكان المقصود منها الطبيعة الاقتصادية أو الطبيعة الجيواستراتيجية· ويستدعي تدخلا مباشرا من قبل الانسان لصوغ مستقبله وتقريب المسافات النفسية الواسعة بين البشر· وهذا هو ما يهدف إليه العمل المنهجي للربط بين الثقافات ومقاومة النزعات العنصرية والعدوانية والدعوات المتزايدة إلى الحروب الثقافية والحضارية النابعة من هنا وهناك· إن التدخل عبر الثقافة والمحاورة الثقافية لاصلاح الاختلال في التوازنات الجيوستراتيجية والاقتصادية والسياسية هو السبيل الأساسي لإعادة بناء العالم الذي تفككه وتحله العولمة على أسس أكثر اتساقا واستجابة للحاجات الانسانية المشتركة والمتكاملة· وكي ما يتحقق ذلك ينبغي أخذ الثقافة بجد وأخذ العمل الفكري والثقافي أيضا على مستوى المجتمعات كل على حدة وعلى مستوى المجموعة البشرية بالجدية التي يستحقها أيضا·