الاسلاموية والجهادية ليست مشكلة أمنية فحسب

2015-04-17:: face book

 

أثار مقال بعنوان خطوة بناءة مهمة على طريق وحدة المقاتلين والثوار ردود افعال متباينة كما هو متوقع. والسبب أنني تطرقت بسرعة إلى موضوع خطير لم يطرح بعد لمناقشة معمقة في أدبياتنا السياسية، وهو التعامل مع الحركات الجهادية التي استقر الرأي على التسليم بالمعالجة الأمنية، أي الاستئصالية لها فحسب، من دون أي معالجة فكرية أو سياسية. وإن دل هذا على شيء فهو يدل على صعوبة طرح مثل هذا الموضوع في أجواء مشحونة تسيطر عليها أجندات الدول الغربية التي لا يهمها مصير الشعوب العربية بمقدار ما يقودها هوس الحفاظ على أمنها حتى لو كان ثمن ذلك تدمير أسس قيام شعوب أخرى أو تقويض أركان وجودها. وهذا ما هو حاصل بشكل واضح في بلداننا.

 

السؤال هل هناك مواجهة سياسية ممكنة، بالإضافة إلى المواجهة الأمنية التي يصرح قادتها أنفسهم أن أقصى طموحها هو وقف تمدد الحركات الجهادية وتقليص دائرة تأثيرها، في الوقت الذي تبرهن الأحداث على أن الاقتصار على هذه المعالجة لم ينجح إلا في صب الزيت على النار ونقل الحروب الارهابية من مكان إلى مكان مع توسع دائرة انتشارها وزيادة إضرامها، حتى تحولت الجهادية من رديف لحرب إقليمية في بداية الأزمة الأفغانية إلى حركة عالمية تملك شبكات تواصل وتنظيم على مستوى القارات المختلفة، وصارت مع تفاقم أزمة الربيع العربي قوة إقليمية تطمح إلى بناء دولة وخلافة جديدة أو ما يشبه الدولة. وإن عبر هذا عن شيء فهو يعبر عن فشل التناول الأمني الوحيد الجانب لظاهرة تجد منابعها في أشكال مختلفة من الأعطاب والامراض الفكرية والتشوهات في النظم السياسية وتصدعات في النظم الإقليمية والدولية معا.

 

ما هي ملامح معالجة سياسية موازية للمسألة الجهادية التي تشكل اليوم أحد أكبر مصادر التوتر والنزاع في العالم، وموضوعا لحرب دولية دائمة هي الحرب ضد الارهاب وخزانا لحروب إقليمية لا أفق واضحا بعد لكيفية الخروج منها في الشرق الاوسط حيث يتنازع شيعة الاسلام وسنته على كتابة التاريخ من جديد، أو تصحيحه، وتزعزع صواعقها أركان الدول والنظم العمومية القائمة داخل المجتمعات العربية والاسلامية؟

بعكس المعالجة الامنية التي لا تفرق داخل الحركات الاسلامية بين تيارات وتشكيلات وتوجهات، وتضع الجميع تحت قبة واحدة وتخضعهم لمعالجة واحدة، تعني المعالجة السياسية التدقيق في التفاصيل داخل هذه الحركات وتمييز تباين تكويناتها وتنوع دوافع انتماء الجماعات والافراد إليها، وطبيعة التوترات التي تجتازها والتناقضات التي تعيش فيها لترصد امكانيات تفكيكها الفكري والسياسي معا، أي توليد عناصر إعادة تحويلها من الداخل وتحييد قوى فيها أو تقريبها من طريق السياسة ونبذ منطق الحرب الشاملة التي يشكل الاجماع عليها أساس وحدتها وتماسكها. والهدف الرئيسي في النهاية هو عزل نواتها الصلبة وكتلتها النارية الأساسية عن بقية القوى المنجذبة إليها والملتفة عليها لأسباب ومطالب مختلفة يمكن التدقيق فيها. فقط عندما نصل إلى هذا الوضع نستطيع أن نقول إن القضية قد انتهت وأننا خرجنا من الحرب، التي هي حرب ارهاب بالنسبة للدول الغربية البعيدة، لكنها حرب تدمير ذاتي وإبادة جماعية لشعوبنا.

 

وبالعكس، كلما تعامينا عن التنوعات والتفاصيل التي تتشكل منها هذه الكوكبة من الحركات والمجموعات والقوى التي تتحالف وتتآلف في الواقع تحت راية الجهادية أو تستخدم هذه الراية لتعميق تحالفها والتفافها على بعضها، وأنكرنا الدوافع والحوافز المتباينة التي تشد الأفراد إلى الالتحاق بهذه الحركات، وطبيعة التحالفات  المتعددة المسويات والمعقدة القائمة داخلها، نساهم في تفاقم المشكلة وقدرة الجهادية على لف مجموعات اخرى ناقمة وضائعة وحائرة او يائسة من حل مشكلتها حولها. من دون ان نساعد المجموعات المفتقدة للافق  والتي لا ترى حلا لأزماتها وتملك استعدادا متزايدا للانخراط في منطق الشهادة او الحرب كحل ، لن يكون هناك اي امل بوقف الحركة والسيطرة على منطق توسع نفوذها وانتشارها.  في نهاية المطاف اعتقد ان  نفي جذور الجهادية يوجد اليأس وانعدام الامل لدى قطاعات متزايدة من المجتمعات باي مخرج او حل للمشاكل المعقدة والمركبة، العقيدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها.

 

وبينما ينبغي الادانة القاطعة والفورية لاي شكل من اشكال الممارسة الطائفية والعنصرية  لا ينبغي اغلاق اي باب امام اي بارقة امل تظهر تجاوز منطق الحرب واليأس عند اي طرف من اطراف الاسلاموية والجهادية. وهذا يعني ان مسألة الجهادية في البلاد العربية ليست مسألة عسكرية  فحسب، بل ليست اساسا مشكلة عسكرية وانه لا امل في مواجهة مخاطر توسعها واستمرارها من دون فهم اعمق لنوابضها العميقة الحقيقية. وعلى مستوى الصراع العسكري والسياسي على الارض في اطار ما انتهت اليه الثورة السورية تطرح هذه المقاربة مسألة علاقة القوى الوطنية بمروحة واسعة من الجماعات والقوى والتجمعات ذات العقيدة السياسية الاسلامية المتنوعة والمتباينة.  وفي تصوري، أن الذي يحدد علاقة قوى الثورة، أو من يدعي الانتماء إليها، بالقوى الأخرى المشاركة في القتال، بتنوعاتها الاسلامية والجهادية، ليس ولا ينبغي أن يكون أفكارها، وإنما موقفها من الهدف الرئيسي للثورة وهو تحرر الشعب من الوصاية، وبالتالي قبولها الاعتراف بحقه في تقرير مصيره وفي أن يختار، بعد التحرير، من يمثله، وطبيعة الحكم والمؤسسات والقوانين التي يريد أن تحكمه ويحتكم إليها.

 

أفهم أن لا يتناول الغرب مشكلة الاسلاميين إلا من حيث هم إرهابيون أو معتدلون، ولا ينظر إلى تفاصيلهم وتنوعات مواقفهم واختلافاتهم وتناقضاتهم وحيرة وضياع الكثير منهم أيضا.  فمصيرهم لا يعنيه كثيرا، فهم ليسوا جزءا من نسيجه الاجتماعي، وليس لهم جذور في تربته، ومصير بلدهم ليس من مسؤولياته. يمكنه ببساطة التعامل معهم كقوى أجنبية أو خارجية وهذا ما يفعله. لكن، بالنسبة للمجتمعات العربية، ليس الأمر كذلك. وما لم نتعامل مع الاسلاميين، على مختلف تنوعاتهم، كجزء من مجتمعاتنا، ومشكلة تعني شعوبنا، حتى لو ان الأزمة الراهنة جذبت عناصر أجنبية كثيرة إليهم، وما لم نشعر بالمسؤولية عن مصيرهم ومستقبلهم، فلن نخرج أبدا من الحروب الأهلية التي يشكل الخلاف حول فهم الاسلام وموقعه والعلاقة به احد منابعها العميقة اليوم.

هذا يعني ان من غير الممكن تجاوز طاحونة الحرب التي نعيشها ما لم نجعل التفكير في مصير الاسلاميين من أبنائنا، أحد مراكز اهتمامنا الرئيسية، ومشكلة من مشكلاتنا الحقيقية والأصيلة، لا كما ينظر إليها الغربيون، كمشكلة خارجية وبالتالي أمنية. ولن ننجح في أن نجد لها الحل ما لم نتجاوز موقف الإدانة القاطعة والشاملة والجامعة ونقبل بان نفتح للآخر المختلف، وليس لصاحب الرأي المماثل، فرصة الخروج من مخنقه، وامكانية الاندماج، بشروط مقبولة، في النظام العام، وإشعاره بأنه جزء منا، وأن لديه فرصة حقيقية للدفاع عن أفكاره من خلال هذا النظام الجديد وبالانضواء تحت جناحه والقبول بقواعد عمله.

 

هذه هي الخطوة الأولى على طريق تفكيك فتيل الحرب الأهلية الطويل، والتي نعيش منذ سنوات أقسى فصولها. ولا أعني هنا الحرب التي تشنها الطغم الحاكمة ضد الشعب، وإنما تلك التي تستعر تحتها، داخل صفوف الشعب نفسه، بين أنصار التطلع الاسلاموي وأصحاب التطلع الوطني المدني، والتي توظف فيها النظم الطغيانية وتستثمرها لبناء شرعيتها وتستمد منها وقود حروبها التي لا تنقطع ضد الشعب كله منذ اكثر من نصف قرن.

لن يقضي الاسلاميون على العلمانيين، ولا العلمانيين على الاسلاميين. لكن الصراع الطويل سوف يعلم كلا منهما كيف يتغير حتى يستطيع التعايش مع الآخر، وسوف يولد، في موازاة ذلك التغيير، النظام السياسي الذي يستطيع أن يستوعب الجميع ويوحد غاياتهم، تماما كما استوعبت النظم الديمقراطية في أوروبة ما بعد الحرب العالمية الثانية المعارضات الشيوعية. وكان ذلك سببا رئيسيا في نجاحها ورسوخ اقدامها واستقرارها واقتلاع أسباب القطيعة والحرب السياسية التي زعزعت، خلال قرن كامل، منذ منتصف التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، استقرار المجتمعات الاوريية وكانت مصدرا لحروب لا تنتهي داخلية وإقليمية بين يسار متطرف وناقم رديكالي، واحيانا إرهابي، ويمين انعزالي مغلق ولا مبال، وأحيانا فاشي.

 

من السهولة بمكان أن نمارس الإدانة القاطعة ونخفي انعدام المسؤولية وراء التهم الجاهزة بالتطرف والارهاب. لكن هذه ليست سياسة، وبالتالي ليست مواجهة جدية لقضية خطيرة تنخر في عظام مجتمعاتنا وإنما تشريع لحرب مستمرة قد تطول سنوات ولن نكون نحن أصحابها وإنما ضحاياها، وليس لنا حيلة فيها سوى تسليم أمرنا إلى القوى الأجنبية والاستعانة بالتدخلات الخارجية.

بالمقابل تعني السياسة أن نتحمل مسؤولياتنا ونتجرأ على فتح باب غير الحرب الدائمة والاستئصال حتى ننجح وينبغي أن ننجح في حل عقد الحقد والكراهية والسيطرة على روح الانتقام التي فجرتها سياسات الأنظمة الارهابية والفاشية في أحضان مجتمعاتنا، ومن ثم تهدئة البراكين المشتعلة في داخلها، وفتح أبواب السلام والتفاهم والرحمة بين أفرادها وجماعاتها المتعادية.

 

من مصلحة نظام الفاشية والقهر تغذية منطق الحرب واطلاق كل انواع الحروب الممكنة بين صفوف الشعب. وهذه كانت استراتيجيته وهو ما سمح له بالاستمرار . ومن مصلحته من اجل النجاح في ذلك تسهيل توسع نفوذ الحركات الجهادية وزيادة قوتها، كوسيلة لخلق شروط التحالف مع الدول الغربية وجرها إلى التدخل لدعمها، من جهة وفي سبيل خلط الأوراق وإجهاض نضالات ومقاومات وثورات الشعوب على الظلم من خلال زرع الفتنة والانقسام في صفوفها وحرمانها من الشرعية وفرص النجاح. لكن هذه ليست مصلحة القوى الشعبية والوطنية ولا مصلحة الثوار والوطنيين الذين تتمدد الجهادية على حسابهم وتغلق آفاق التغيير عليهم وتدفع الدول الغربية إلى الانقلاب عليهم لصالح النظم الجائرة. ولم يعد خافيا التناغم الكبير بين قوى التطرف الاسلامية وقوى النظم الارهابية، والتحالف الموضوعي في ما بينهم والتآمر ضد الثورات الشعبية، حتى لو ان مشاريعهما ليست واحدة. فكلاهما لا يعيشان إلا بالقضاء على أمل الشعوب بالتحرر ونزع الوصاية بكل أشكالها في الوقت الذي يترصد فيه دعاة الثورة المضادة اي اشارة او كلمة أو أي تقاطع للمصالح، مهما كان ضئيلا ومؤقتا بين القوى الوطنية وبعض قوى الجهادية حتى يتهمونهم بالارهاب والتحالف مع الجهادية والتفاهم مع القاعدة.