إشكالية الاصلاح وإشكالاته في العالم العربي

2006-03-12:: محاضرة مركز الإمارات للدراسات الخليجية في أبو ظبي

 

طرحت مسألة الاصلاح في العالم العربي منذ السبعينات عندما اكتشف العديد من السلطات العربية حدود فعالية النماذج التنموية التي اتبعتها. لكن باستثناء البرامج التقليدية المستمدة من توصيات بعض المؤسسات المالية الدولية والأفكار العامة عن الانفتاح الاقتصادي، الذي كان أول تجربة إصلاحية عربية بعد سنوات طويلة من الانغلاق الاقتصادي والسياسات الحمائية القوية، لم يكن هناك أي رؤية واضحة لمعنى الاصلاح وأجندته ومهامه العملية في البلاد العربية. وبالرغم من أن سياسات الانفتاح لم تفض إلى نتائج ناجعة دائما، إلا أنه لم يكن هناك بدائل نظرية أخرى. واستمرت الأمور إذن في التراجع وفي مواكبتها تقهقر الحالة الاقتصادية والسياسية والمعنوية للمجتمعات.

ومنذ الثمانينات بدأت تظهر معالم الازمة المتفاقمة بسبب فشل سياسات الانفتاح الأولى. وهو ما برز من خلال ثورات الخبز التي شملت جميع الأقطار العربية الفقيرة نسبيا والتي كانت لا تزال تسمح بهامش بسيط من المبادرة الجمعية، من المغرب الأقصى حتى مصر. وقد ذهب ضحية الانفجارات الشعبية هذه آلاف القتلى والجرحى. لكن السلطات نجحت في إعادة الأمن والاستقرار من جديد لقاء تعديلات محدودة في السياسات الاقتصادية، وفي مقدمتها الابقاء على دعم بعض السلع الأساسية مثل الخبز، والقليل من التنازلات السياسية التي تلخصت بإفساح المجال أمام عمل بعض مجموعات المعارضة التي بقيت ممنوعة لفترة طويلة سابقة. وأمنت النظم القائمة بهذه الاصلاحات المحدودة فترة من الاستقرار الكاذب تزيد عن العقد. وكان من نتيجة ذلك أن عادت الأزمة للانفجار بشكل أقوى من قبل وأكثر شمولا، كما عبر عن ذلك انتشار حركات المعارضة والاحتجاج الاسلامية التي اتخذت في بعض البلدان صورة التمرد الواسع على السلطة والنظام في سبيل إقامة نظم مغايرة تعتمد مرجعية أسلامية وتنادي بشرعية جديدة.
وقد أيقظت هذه الحروب والثورات الاحتجاجية قطاعات واسعة من الرأي العام العربي كما أثارت الخوف في الدول الصناعية وعلى مصيرها، وهي التي تعتمد بشكل أساسي على النفط المصدر إليها من منطقة الشرق الأوسط. لكن رد فعل هذه الدول جاء خلال أكثر من عقد من الزمن في الاتجاه المعاكس للاصلاح. فقد دفعها الخوف من انتشار الحركات الاحتجاجية الدينية وتهديدها سيطرتها على المنطقة إلى التماهي مع النخب العربية الحاكمة والوقوف وراءها في مواجهة حركات الاحتجاج ومنعها من الوصول إلى السلطة. وهكذا بعد أن شهد عقد التسعينات الحروب الإقليمية المدمرة من فلسطين إلى العراق سوف تملأ فترة العقد العاشر من القرن نفسه الحروب الأهلية المعلنة أو الكامنة.
 

1- موجة الاصلاح الجديد: تضافر العوامل الداخلية والخارجية

قام مشروع الاصلاح الجديد الذي بدأ يتبلور بشكل واضح منذ بداية القرن الحادي والعشرين على دعامتين رئيسيتين: تنامي وزن المجتمع المدني العربي وضغوطه المستمرة من جهة، وتبدل سياسات التكتل الغربي المتنفذ في المنطقة، بموازاة السعي إلى التكيف مع حاجات العولمة الزاحفة والرد على تحديات الانفجارات السياسية والعنف المرافق لها، من جهة ثانية.

فقد أطلق التدهور المتزايد في رصيد النظم القائمة وشرعيتها، على ضوء ما شهدته الأوضاع العربية من تراجع في كل الميادين، وتفاقم الفساد، والتركيز المذهل للثروة، والاستخدام المفرط للعنف في تسيير المجتمعات وحل أزماتها المتفجرة، وتوالي الهزائم والتراجعات على الساحة الدولية، وفي مواجهة التحديات والاعتداءات الخارجية، تيارا نقديا قويا لم يكف عن النمو، منذ التسعينات من القرن العشرين، في أوساط المثقفين والشخصيات السياسية المستقلة. وعلى قاعدة هذا التيار سوف تتبلور مطالب مستمرة في الاصلاح. وقد جاءت تقارير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية في المنطقة العربية التي عملت عليها فئات من المثقفين العرب، في إطار برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية، لتجسد هذه المطالب منذ عام 2002 ولتوسع دائرة القوى المطالبة بالتغيير. وقد عبرت هذه التقارير نفسها عن حالة النضج التي وصلت إليها الفكرة الاصلاحية العربية. وهو ما يفسر النجاح الواسع الذي لقيه تقرير التنمية الانسانية للمنطقة العربية، ليس في أوساط الرأي العام العربي فحسب، ولكن في الأوساط الدولية أيضا.

وقد عززت التطورات التي عرفتها المجتمعات العربية، سواء ما تعلق منها بتدهور مواقف الدول العربية الاستراتيجية أو تباطؤ النمو الاقتصادي، إن لم يكن تراجعه أحيانا إلى رقم سلبي خلال أكثر من عقدين متواصلين، وما خلفه ذلك من تفاقم طواهر الفقر وتزايد معدلات البطالة وتدهور عمل الإدارة ومستويات التعليم وتوتر العلاقات الاجتماعية، مطالب الاصلاح هذه وجذبت إليها دوائر وأوساط متزايدة من الرأي العام. وجاءت نتائج الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في نهاية التسعينات لتؤكد الارتباط المباشر بين طبيعة النظم السياسية القائمة وسوء الأداء الاقتصادي والاجتماعي. مما دفع بشكل متزايد، إلى ربط الإصلاح، الذي اقتصر خلال فترة طويلة ماضية على الميدان الإقتصادي والإداري، بالاصلاح السياسي، ويجعل من الديمقراطية الشعار المركزي في الحركة الاصلاحية العربية، في جميع المناطق العربية، بما فيها في منطقة الخليج الغنية التي تعرضت شروط الحياة فيها أيضا للتقهقر بسبب الحروب المتواصلة بين ايران والعراق أولا، ثم بين العراق وجارته الكويت، وتكاليفها الباهظة وانعكاساتها على حركة الاستثمار والنمو عموما. واتسع الاعتقاد عند العديد من الأوساط العربية الفكرية والسياسية بالارتباط بين الاصلاح السياسي والإداري وإطلاق عملية التقدم والتنمية وردم الهوة العلمية والتقنية المتزايدة الاتساع بين المجتمعات العربية والدولية، بل ومجتمعات العالم الثالث الأخرى.

ومما لا شك فيه أن الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي جرت الكثير من الدمار وأعادت البلاد العربية عقودا إلى الوراء على مستوى العلاقات الاجتماعية والسياسية والاستراتيجية، عملت في الوقت نفسه على الاستنزاف السياسي والمعنوي للنظم القائمة، ودفعت بقطاعات متزايدة من الرأي العام إلى الانفكاك عنها. والتقى هذا الانحسار في صدقية الأنظمة وشرعيتها مع صعود موجة الديمقراطية التي أدرجت دول أوربة الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق، منذ التسعينيات في معسكر الدول الديمقراطية. وبقدر ما فتحت التطورات الدولية الأذهان على ما تعاني منه البلدان العربية من ركود وانسداد للآفاق، شجعت على إعادة النظر في طبيعة النظم السياسية القائمة، وقضت على الاعتقاد السائد بأن العالم العربي لا يملك مقومات التحول في الاتجاه الديمقراطي.

ولا يقل عن ذلك أثرا في الدفع نحو مفاهيم الاصلاح ما طرأ على البيئة الجيوسياسية والجيوثقافية العالمية من تبدلات مستمرة. فبعد حقبة طويلة من السياسات الغربية التي ثابرت على دعم النظم القائمة وتعزيز مواقع النخب المسيطرة عليها، باسم الحفاظ على الاستقرار، وتجنيب المنطقة الهزات الداخلية، طرحت تحولات ما بعد الحرب الباردة أجندة جديدة على الدول الصناعية الكبرى. ففي مواجهة الإرهاب، الذي بدأ يوسع قاعدة انتشاره في العالم، زاد الاتجاه في عواصم الدول الصناعية نحو تعزيز فرص التحول والتغيير في البلاد العربية. ودفعت الأحداث الدراماتيكية التي شهدتها نيويورك في الحادي عشر من ايلول 2001 الولايات المتحدة إلى تبني أجندة شرق أوسطية جديدة تربط بين مهام الرد على التحدي الذي يشكله الارهاب الاسلامي العالمي، ومهام إعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير، على ضوء المفاهيم والأفكار التي نشرها المحافظون الجدد، والتي تجمع بين السياسات الهجومية النشطة لتأكيد السيطرة الأمريكية على العالم وتحويل الديمقراطية إلى غاية هذه السيطرة، أي إلى مصدر لإضفاء الشرعية عليها وجعلها سيطرة من أجل الانسانية، وفي سبيل استقرارها وتقدمها وسعادتها. وقد نجحت الإدارة الأمريكية الجمهورية في فرض مبادرة الإصلاح والتغيير على الدول الأوروبية التي كانت أقل حماسا لها وجعلت من التركيز على فتح النظم وتعزيز الديمقراطية، حيثما كان ذلك ممكنا، ومن دون تكاليف كبيرة سياسية واقتصادية، في ما يتعلق بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية الأساسية. وكان الاتحاد الاوروبي قد طور قبل ذلك، في سياق تنظيم العلاقات بين ضفتي المتوسط، على ضوء تطور سياسات العولمة، مفهوم المشاركة المتوسطية التي تهدف إلى تأهيل البلدان العربية للانخراط في السوق العالمية والمشاركة فيها.

ومع دخول التكتل الغربي على خط الاصلاح، سوف يصبح التغيير في العالم العربي لأول مرة، هدفا ضاغطا ويتحول الاصلاح، شيئا فشيئا، مع انكشاف ضعف المجتمعات المدنية العربية وعجزها عن موازنة الضغوط الخارجية، إلى مشروع خارجي، طارحا بذلك إشكالية جديدة لم تكن قد طرحت من قبل، تتعلق بالعلاقة بين دور الداخل ودور الخارج في تحقيق الاصلاح وضمان تقدمه ونجاحه.
هكذا، أدى انتصار التحالف القديم بين الدول الصناعية والأوليغارشيات العربية الحاكمة في الحرب على الحركات الاحتجاجية الاسلامية ومحاصرتها، خلال ربع القرن السابق، إلى نتائج متناقضة. فقد نظرت الدول الكبرى إلى تنامي هذه الحركات على أنه إنذار خطير بالنسبة للمستقبل، وأن مواجهة العنف المتزايد الصادر عنها لن يكون ممكنا على المدى الطويل من دون القيام بإصلاحات بنيوية تطال النظم القائمة، بهدف التقليل من الضغوط الاجتماعية، وتوسيع دائرة مشاركة النخب والطبقات الوسطى المهمشة أو المستبعدة تماما عن الحياة العمومية، لصالح مجموعات مصالح ضيقة ومترابطة أصبحت مركز كل الاحتكارات. وبالعكس، رأت الأوليغارشيات العربية الحاكمة في هذا الانتصار فرصة جديدة لتجديد عقد التفاهم مع الدول الصناعية والعودة إلى مفهوم الأمن والاستقرار كمفاهيم مركزية في قيادة المنطقة وبناء النظم السياسية والاقتصادية فيها. وقد أملت هذه الأوليغارشيات في أن تشكل التهديدات الارهابية الجديدة حافزا إضافيا يدفع هذه الدول إلى تبني مواقف النظم القائمة كوسيلة وحيدة لكبح جماح المعارضات السياسية وإقامة السدود أمام طوفان الحركات الاسلامية. واعتقدت أن أقل ما ينبغي على الدول الصناعية أن تفعله معها هو أن تقوم بتجديد عقد الوكالة الذي ربطها بها سابقا، كمكافأة على الخدمات التي قدمتها لها لضمان الأمن والاستقرار والحفاظ على الوضع الإقليمي القائم وما كلفه ذلك من مخاطر تعميق القطيعة بين النخب الحاكمة العربية والمجتمع.
والواقع أن موقف الدول الصناعية لم يكن يختلف كثيرا عن موقف النظم العربية في اعتبار الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم مصلحة استراتيجية لجميع الاطراف، وبالتالي في اعتبار التحول الديمقراطي مغامرة من الأفضل تجنبها ما أمكن ذلك. ولذلك لم تكن اتفاقات الشراكة المتوسطية والتعاون الاستراتيجي بين واشنطن والعديد من الدول العربية يلحظان، حتى مطلع الألفية الثالثة، أي ضرورة لتغيير قواعد ممارسة الحكم والسلطة السياسيين في المنطقة، بقدر ما كانا يسعيان إلى تحسين الأداء الإداري والسياسي للنظم القائمة وتحديثها، عن طريق تقديم بعض الإغراءات المادية والسياسية لها. وكانت هذه الدول تعتقد حتى وقت قريب، وربما حتى الآن، أن توسيع قاعدة الانفتاح الاقتصادي وبناء اقتصاد السوق سوف يشكلان أفضل ضمانة لدفع النظم القائمة تدريجيا نحو الاصلاح والانفتاح. بيد أن هذه النظرة المعتدلة لم تستطع أن تقاوم الهزة السياسية الكبرى التي أحدثتها هجومات منظمة القاعدة على برجي مركز التجارة العالمي، ونزوع الولايات المتحدة إلى إعادة السيطرة المباشرة على منطقة الشرق الأوسط ووضعها تحت الإشراف المباشر، بهدف ضبط ما يحصل فيها من تطورات. وهذا ما يفسر تزايد الضغوط الأمريكية، في سياق الحرب ضد الارهاب، من أجل إعادة تأهيل النظم القائمة أو استبدالها بنظم جديدة تعتقد أن من الممكن أن تكون، في الوقت نفسه، أكثر ديمقراطية وأكثر ارتباطا بها وموالاة لها، كما حصل عند إطاحة حكم حزب البعث وحل دولته في عام 2003 في العراق.

 

2- إجهاض الموجة الاصلاحية الجديدة

فتح تقرير التنمية الانسانية للمنطقة العربية المناقشة والمناظرة الفكرية والسياسية حول مسألة الاصلاح في العالم العربي كما لم يحصل في أي وقت سابق. وجعل منها محور الحياة الفكرية والسياسية العربية وأولوية رئيسية في أجندة الحركات الشعبية. وقد تجاوبت هذه المناقشة العربية الداخلية مع حاجات التغيير والاصلاح كما نظرت إليها القوى الصناعية الغربية، فبدا وكان إرادة الاصلاح العربية وإرادة التغيير الغربية قد التقيا لأول مرة.
بيد أن هذا اللقاء الذي بدا لفترة قصيرة وكأنه ضمانة قوية لتحقيق الاصلاح المنتظر منذ عقود لم يحقق الوعود التي أطلقها. فقد ولد الالتقاء بين مطالب الاصلاح الداخلية وسياسات التأهيل الخارجية التباسات وفجر تناقضات لم تستطع قوى الاصلاح تجاوزها ولا ايجاد حلول ناجعة لها. ودفعت الضغوط الخارجية المفاجئة، والامريكية منها بشكل خاص، إلى إخافة النخب الحاكمة التي قرأت في أي عملية انفتاح سياسي حقيقي تهديدا لوجودها نفسه، في الوقت الذي أثارت فيه حفيظة قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الذي عززت الحرب الأمريكية في العراق مشاعر الشك التقليدي لديه في نوايا الدول الكبرى وغاياتها.
وقد استفادت النظم العربية من الموقف السلبي التاريخي للرأي العام العربي من السياسات الأمريكية في المنطقة، ومن الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة المدنية في العراق من أجل نزع الصدقية عن خطاب الاصلاح الأمريكي والأوروبي. ونجحت بالفعل في تعبئة هذا الرأي العام ضد ما أسمته الإصلاح المفروض من الخارج. وقدم لها تدهور الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي والانساني في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية نموذجا سلبيا لا يقدر بثمن لإظهار مخاطر التسليم بالتدخل الأجنبي والإنصات للنصائح الغربية. وأصبحت قطاعات واسعة من الرأي العام الناقمة على هذه الأنظمة تشك في جدوى التدخل والضغط من أجل الاصلاح وتقتنع بنظرية الحكومات التي تضع الاستقرار مقابل الاصلاح أو ترى في الاصلاح، خاصة الديمقراطي منه، عدوا للأمن.
هكذا بدا الاصلاح والتحول الديمقراطي الموعود في نظر الرأي العام مشروعا أجنبيا يهدف إلى التغطية على خطة جديدة لعودة السيطرة الغربية الاستعمارية على البلاد العربية أو للتلاعب بمصيرها. ولم يبق أمام القوى المنظمة المتمسكة بالاصلاح في إطار المعارضة الديمقراطية وهيئات المجتمع المدني الحديث سوى الارتداد إلى موقف الدفاع بدل الهجوم، وصرف الوقت والجهد في التبرؤ من تهمة العمالة للغرب او العمل في سياق الاستراتيجيات الدولية الرامية إلى تشديد الضغط على النظم العربية لانتزاع تنازلات استراتيجية أو سياسية حيوية منها.
في هذا السياق اضطرت الدول الغربية الثمانية التي اعتمدت مبادرة الشرق الأوسط المعدلة عام 2004 أن تخفف من ضغوطها وتؤكد عدم رغبتها في دفع عجلة التحولات بالوتيرة التي يمكن أن تهدد الاستقرار. وفي النهاية صرفت النظر عمليا عن هذا الضغط من أجل الإصلاح، وأخذت تبالغ هي نفسها في مغزى الاصلاحات الجزئية التي تحققت هنا وهناك، مثل إجراء انتخابات بلدية جزئية في المملكة العربية السعودية أو انتخابات رئاسية تنافسية في مصر أو انتخابات تشريعية في العراق أو تكوين مجالس شورى أو استشارية في هذا البلد الخليجي أو ذاك.
ولم تتردد النخب العربية الحاكمة من استغلال هذا التراجع الغربي الذي حصل تحت ضغط الرأي العام المعادي للتدخلات الأجنبية، وما رافقه من اعتذارات أو شبه الاعتذارات صدرت عن مسؤولين غربيين يتبرؤون من أي نية لفرض أجندة خارجية على الدول العربية، ويعلنون تأييدهم لفكرة الاصلاح التدريجي، كما اقترحت حكومات هذه الدول. ومن الواضح لكل من يتابع مسألة الاصلاح في البلاد العربية أن النظم تحاول اليوم الالتفاف على مشاريع الاصلاح، سواء بالتشهير بالجوانب الحاملة لبعض المخاطر عليها، أو بتحقيق بعض مظاهرها الشكلية، مع تفريغها من محتواها السياسي تماما. كما أنها قد بدأت في العامين الماضيين، بموازاة الإعلان عن بعض الاصلاحات الديكورية وتأكيد الالتزام التجريدي بالاصلاح من دون أي برنامج عمل واضح، كما تبرهن على ذلك "وثيقة التطوير والتحديث" التي تبنتها القمة العربية، في تونس في آذار مارس من عام 2004، عملية حصار منظمة لمؤسسات المجتمع المدني، تشمل الحد من النشاطات وتكرار الملاحقات والاعتقالات، وأحيانا التعرض بالضرب للناشطين المدنيين والسياسيين، لمنعهم من التواصل مع الرأي العام وتضييق دائرة الخناق عليهم.
وربما لا نبالغ اليوم إذا قلنا إن الانقسام الذي غذته وعملت عليه النظم القائمة، حول مسائل الاصلاح، قد أدخل الفكر والسياسة الاصلاحيين العربيين في حالة تخبط عميق، وأجهض جميع مجهودات العمل على دفع المجتمعات العربية إلى تبني مشروع الاصلاح والتضحية من أجله. وإذا لم تنجح قوى الاصلاح في انتزاع هذا المشروع وانتشاله من دائرة التناقضات التي ارتهن لها بين الداخل والخارج، والهوية والغيرية، والاستقلال والامبريالية، والسياسة والاقتصاد، لن يكون من الممكن الخروج من حالة الانسداد القائم والمراوحة في المكان. وستكون النتيجة التفاعل المتزايد للأزمة العميقة التي تعتمل داخل المجتمعات العربية، وربما توقع انفجارات مجتمعية مدوية تتجاوز في آثارها ما حصل في العقود الماضية نتيجة التهرب من استحقاقات الاصلاح والعمل ضده. وإذا كان إجهاض إصلاح السبعينات قد أدى إلى انحطاط النخب ومصادرة الدول واستخدامها أدوات لتأبيد سلطات فردية مطلقة وما نجم عنها من أزمة الثمانينات التي راح ضحيتها مئات الضحايا وآلاف المعتقلين، كما أدى إجهاض إصلاح الثمانينيات إلى انفجار أزمة التسعينات التي كلفت المجتمعات العربية مئات ألوف القتلى وعقود طويلة من التقهقر بسبب المواجهات الدامية بين الحركات الاسلامية الاحتجاجية والنظم القائمة، فإن إجهاض إصلاح بداية الألفية الثالثة سوف يكون أكثر كلفة بما لايقاس. وليس من المستبعد أن تكون نتيجتة انفجار المجتمعات نفسها أو العديد منها وتناثر شظاياه في كل الأنحاء وعلى المجتمعات الأخرى، وفي مقدمها المجتمعات الأوروبية القريبة منها.

 

3 - مسؤوليات تعثر الاصلاح

لا يكمن خطأ التحالف الغربي في ما قام به من ضغط على النظم لحثها على الانخراط في سياسة الاصلاح وإنما في ربطه الضغوط من أجل الاصلاح بأجندته الاستراتيجية الخاصة، سواء ما تعلق منها بإحكام السيطرة على منابع النفط أو بضمان الأمن والسلامة الكاملة لاسرائيل، من دون اعتبار للمصالح الأمنية والسيادية للدول والمجتمعات. وهذه هي الثغرة التي دخلت منها الحكومات العربية لتضع ضغوط الغرب من أجل الاصلاح موضع الشك، ولتبين أن ما يسعى إليه التكتل الغربي لا يتعلق في جوهر الامر في إحداث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية لصالح الشعوب العربية، وإنما هو استخدام الاصلاح كذريعة من أجل تأمين مصالح استعمارية أو شبه استعمارية. ومن هنا نجحت النظم في تحييد هذه الضغوط وقلب الطاولة على العواصم الغربية ذاتها التي أصبحت متهمة لدى الرأي العام بأنها تخطط لتصفية ما تبقى من السيادة والاستقلال العربيين.

لكن هذا الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي ارتكبه التحالف الغربي، إن لم نقل استخدام الديمقراطية بالفعل للتغطية على مشاريع الهيمنة الدولية، لا يلغي أيضا مسؤولية قوى التغيير المحلية. وتكمن هذه المسؤولية في العجز الذي أظهرته هذه القوى عن إدراك الرهانات الكبرى التي يرتبط بها الاصلاح والتي لم تخف على الاوليغارشيات الحاكمة. فقد اعتقدت هذه القوى أنها تستطيع، إذا أقنعت النخب الحاكمة ببرنامج سلمي للاصلاح لا يتضمن تغيير النظم الحاكمة، فمن الممكن أن يحصل الاصلاح في ظروف طبيعية وبتكاليف بسيطة أيضا. والواقع أن دعوة الاصلاح العربية الراهنة قامت منذ البداية على سوء تفاهم كبير، بل ربما أيضا على خداع للذات شاركت فيه القوى المحلية الداعية للاصلاح كما شارك فيه التحالف الغربي أيضا. فقد نظرت هذه القوى إلى الاصلاح على أنه مقدمة للتغيير أو محاولة لتغيير النظم من الداخل، وتقريبا بالتفاهم معها والاتفاق على برنامج عمل انتقالي يسمح بتجاوز الوضع الراهن والدخول في نظم تعددية حقيقية في مستقبل ما.
والحال أن النخب الحاكمة أدركت أن تطبيق برنامج الاصلاح المطلوب يعني إلغاء وجودها نفسه لصالح صعود نخبة جديدة وبالتالي على أنه عملية انتحارية. ووقفت بجميع الوسائل ضد برنامج الاصلاح الذي يشكل بالأحرى برنامج انقلاب على النظم واستبدالها بنظم تعددية. وبالفعل، يمكن، في إطار نظم تعتمد التحييد الكامل للمجتمع واستبعاده من أي قرار، لأي تغيير سياسي، مهما كان حجمه، أن يشكل ثغرة خطيرة في نظام هذه النخب الأمني والدفاعي والايديولوجي، فيذكر جماهير واسعة بأوضاعها ودورها، ويحول الاصلاحات الشكلية بسرعة إلى إصلاحات حقيقية. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تسد النظم القائمة الطريق وترفض منذ البداية الانخراط في أي مشروع إصلاح، بل أن لا تلتزم بأي أجندة محددة له. كما لم يكن من المستغرب أن تكون الاصلاحات التي قامت بها غطاءا لتعزيز النظام الأمني والإقصائي القائم بدل تعديله او الخروج منه. فهذه النظم ترفض الخروج من الإطار الذي رسمته لنفسها منذ البداية، والقائم على الاحتفاظ بالاشراف الكامل على كل ما يتعلق بموارد السلطة المادية والمعنوية، ويضمن احتكارها من دون أي مشاركة مع أي طرف كان، مع تحويل حركة المجتمع المدني إلى جيوب هوائية موزعة ومتباعدة، فاقدة للوزن والفاعلية، ومنقطعة عما حولها. وهو ما يفسر استمرار عجز هذه الهيئات المدنية، من أحزاب وجمعيات، عن اختراق الحواجز والتواصل مع المجتمعات التي تعمل فيها.
هكذا ضيعت القوى الاصلاحية سنوات طويلة وهي تحلم بإصلاح عن طريق الحوار والتفاهم والتفاعل الايجابي مع الاولغارشيات الحاكمة، ومن دون تضحيات، قبل أن تكتشف أن من غير الممكن تحقيق أي برنامج إصلاحي، مهما كان محدودا، ما لم يتحقق تغيير صيغ الحكم والإدارة القائمة، أي ما لم تنجح في بناء قوى مقاومة ومواجهة سياسية فعالة للسلطات القائمة، وما تمثله من نخب ومصالح سائدة. فلا ينجح الاصلاح إلا داخل نظم سليمة بالاجمال وتتميز بحد أدنى من المرونة والتعددية والتنافسية وآلية المفاوضة الاجتماعية. وهو يهدف في هذه الحالة إلى تحرير النظم التي تعرضت لعوامل الهرم والتدهور أو البيرقراطية من العوائق التي تحول دون اشتغالها الأقصى، أو إلى تعديل جزئي في قواعد اشتغالها للرد على تحديات طارئة أو جديدة تواجهها. ولذلك فهو يتحقق على أيدي الأفراد والجماعات الأكثر إخلاصا لروح النظام وتعلقا بالمباديء التي يقوم عليها، وتكون نتيجته تعزيز هذا النظام والحفاظ عليه بتحسين أدائه وتعميق الاتساق في حركته. وتصدر مشروعية الاصلاح من ميل النظم الاجتماعية الطبيعي نحو العطالة وانعدام الديناميكية والفاعلية والنجاعة، أي النزوع إلى الجمود والتكلس. ويأتي الاصلاح كوسيلة للتجديد، أي لإعادة تأسيس النظم التي فقدت فعاليتها لكنها لا تزال تنطوي على قيم ثابتة ومقبولة.
وبالعكس، يعني التغيير ايجاد نظام جديد يقوم على قواعد عمل مختلفة، إما لأن النظام القائم غير قادر على الرد على الحاجات والتحديات الجديدة التي يواجهها المجتمع، أو بسبب انهيار النظام نفسه وتوقفه عن الحركة. وهو يقوم على أساس استبدال نظام بنظام آخر ويستدعي وجود قوى منظمة تحقق هذا الاستبدال، سواء أجاءت من خارج النظام، أو من خارج المجتمع والبلاد، أو عن طريق الانقلابات والثورات المدنية. ولذلك فإن السؤال المطروح والذي لا يمكن تجنبه في مسألة الاصلاح العربي هو التالي: هل يمكن إصلاح النظم العربية أو هل النظم العربية قابلة للاصلاح ؟

 

4 - لماذا يتحول الاصلاح إلى معضلة

لا تستطيع النظم القائمة على غير اختيار شعبي، بل على تغييب الشعب والرأي العام، مهما كانت عقائدياتها وفي أي مكان وجدت، القبول بأي إصلاح يستدعي تطبيق حكم ا لقانون وإلغاء الامتيازات والأفضليات، وتعميم قاعدة الشفافية والكفاءة والمسؤولية، واحترام حقوق الأفراد ودفعهم إلى تحمل المسؤولية، من دون تهديد الأسس التي تقوم عليها، وهي الولاء والزبونية والرشوة المعممة والتعسف وطمس المسؤولية وإخفاء الحقائق عن المجتمع والاستهتار بحقوق الأفراد ومستقبلهم وفرض الأحادية الفكرية والسياسية. وأي فتح جدي للنظام، ولو ضمن حدود، بما يعنيه من القبول بالتعددية والاختلاف، والعودة إلى حكم القانون، والمخاطرة بإضعاف احتكار موارد القوة ومصادرها، وخلق ديناميكيات تنافسية على أي مستوى كان، يهدد بتقويض أسس النظام القائم. فهو يلغي آليات القمع الرئيسية التي تحفظ توازن النظام في الوقت الذي يفجر فيه تيارات الاحتجاج والمعارضة العميقة المحبوسة منذ عقود طويلة، والتي لا تنتظر إلا إشارة بسيطة أو ثغرة صغيرة كي تنفس عن احتقانها الطويل. بمعنى آخر، لا يمكن لأي خطوة في طريق الاصلاح الحقيقي، القانوني والإداري والاقتصادي والسياسي معا، إلا أن تستدعي خطوة تالية وأن تقود، بسرعة غير منتظرة، إلى التغيير. فالتغيير سيكون النتيجة الحتمية مثلا لإلغاء الخلط المتعمد والبنيوي بين السلطات، مباشرة أو عن طريق رفع الرئاسة إلى مقام قدسي وتكليفها بمهام استثنائية وجعلها فوق القانون والنقد والمساءلة، كما هو سائد في معظم الأنظمة العربية.
والتغيير سيكون أيضا النتيجة الحتمية لإلغاء سيطرة الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية عن طريق فرض حالة الطواريء والأحكام العرفية أم من دونها، ووضع جميع النشاطات الاجتماعية، السياسية والمدنية، تحت الوصاية الأمنية. وبالتالي تضخيم وظيفة الأمن في هذه النظم وجعلها محور حياة الدولة وجمتلها العصبية على حساب السياسة والقانون معا.
وسيكون التغيير هو النتيجة الحتمية كذلك لإطلاق ديناميكية المساءلة والمحاسبة والشفافية، ليس في الأمور السياسية فحسب، ولكن أيضا في المجالات الاقتصادية، وليس في ميدان القطاع العام الخاضع للدولة وإنما، أكثر من ذلك، في ميدان القاطع الخاص. فالشفافية هي العدو اللدود لنوعية الرأسمالية المضاربة التي تستند إلى التداخل بين حيازة الثروة والعلاقات السياسية الرسمية وغير الرسمية.
والواقع أن الرأسمال الأول في هذه النظم، الذي يشكل المصدر الرئيسي لتراكم الثروة ورأس المال معا، ليس رأس المال بالمعنى الحرفي للكملة، وإنما جملة العلاقات السياسية المجسدة في علاقات النفوذ، أو في التحالفات مع أصحاب القرار على جميع المستويات الرسمية والأهلية. ومن هنا لا تنبع قوة المشاريع التجارية الخاصة، حتى الصغيرة والعائلية منها، من نجاحها في تطبيق المعايير الاقتصادية والإدارية السليمة بقدر ما يكمن في ما يملكه أصحابها من علاقات تفاهم وشراكة أحيانا مع ضباط أو مسؤولين يقدمون الحماية لهم ويغطون على خروقاتهم القانونية.

باختصار لا يتفق استمرار هذه النظم، ولا إعادة إنتاجها، مع الفصل الفعلي بين السلطات واستقلال القضاء ووجود سلطة تشريعية ممثلة بالفعل لقطاعات الرأي العام وتطبيق حكم القانون وتعزيز دور المؤسسات، خاصة مؤسسات الرقابة، واحترام قواعد المحاسبة والشفافية والاعتراف بالمواطنية المتساوية للجميع. فجوهر هذه النظم هو التلاعب بالقانون في سبيل إعادة إنتاج طبقة طفيلية كطبقة أرستقراطية وارثة ومالكة معا، وغير قابلة بالتعريف لأي تغيير أو تعديل. ولا يمكنها أن تنجح في ذلك إلا بإلغاء الحراك الاجتماعي وتثبيت المواقع والمكانات، وإعادة إنتاج فكرة التراتبية الطبقية-الطائفية التي ميزت في الماضي جميع النظم التقليدية. فإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة كطبقة ارستقراطية يستدعي إعادة إنتاج المجتمع ضمن مراتب ثابتة أيضا، وبالتالي إلغاء مفهوم المواطنية والمساواة القانونية والأخلاقية وتكافؤ الفرص، لحساب تأكيد الأسبقية لفريق اجتماعي على فريق آخر وتغذية عقيدة التفوق الطييعي لنخبة ثقافية على أخرى، بوصفهما شرطان ضروريان للمحافظة على الاستقرار وضمان الأمن والسلام الاجتماعيين.
باختصار، ليس من الممكن تغيير هذا النوع من الأنظمة إلى أنظمة تعددية ديمقراطية، كما حلم الاصلاحيون، لأن وجودها نفسه يتوقف على تغييب شعوبها وإخراجها من دائرة الفعالية السياسية، وأحيانا المدنية، ودفعها نحو الكساح، في سبيل فرض الوصاية عليها، وإبعادها عن المشاركة في تقاسم الريع الذي يشكل مصدر الثروة الرئيسي فيها. فبعكس ما تحتاجه النظم الرأسمالية، ليس الاستثمار المنتج لفائض قيمة هو السائد والمطلوب هنا، ولكن عمل السخرة والشغل غير المدفوع وغير المقدر بثمن. وهذا ينطبق على مجتمعات بكاملها. وكما أن اقتصاد الريع يجر اقتصاد الاستهلاك والتبذير والانفاق الاحتفالي والرمزي الباهظ، لا يمكن للرأسمال المكون عن طريق المضاربة، إن لم يكن عن طريق السلب والنهب مباشرة، أن يتحول إلى وسيلة للاستثمار والتجديد والتطوير. إنه يجر المجتمعات بصورة متزايدة نحو القرون الوسطى، ويعيد إنتاج قيم المحسوبية والتبعية الشخصية والإمعية، ويعممها على نطاق واسع، بحيث يختفي المجتمع والرأي العام الحديثين بالفعل عند الفرد، لصالح التابع والعبد المأمور. والواقع ليس هناك في المجتمعات التي تسود علاقاتها هذه الصيغ الناشزة من الحكم إلا سيد إقطاعي واحد، أما بقية البشر فهم عبيد مأمورون، بصرف النظر عن مسؤوليتهم السياسية ومكانتهم الاجتماعية وموقعهم الديني أو الثقافي أو المدني.

وهذا يفسر لماذا أخفقت جميع خطط الاصلاح وأجهضت عندما اصطدمت بمسألة الاصلاح السياسي. فالمساس بقواعد اللعبة السياسية القائمة على خرق القانون وتعليقه وإلغاء هوية المجتمعات السياسية، أي حل البنية الوطنية والمواطنية، وتخليد المواقع والمناصب والمرتبيات، هو شرط بقاء أنظمة الإقصاء الجماعي واستمرارها.


5 - ما هو الحل؟

يبين هذا أن وراء العجز عن الاصلاح في البلاد العربية عوامل مادية ومعنوية، خارجية وداخلية لا يمكن الفصل بينها. وهي تشكل كلا متكاملا ومتضامنا ومتفاعلا تحتاج مواجهته إلى تضافر جهود جماعية، على مستوى المنطقة وبين نخبها الثقافية والسياسية والاقتصادية النافذة من جهة، وعلى مستوى المنظومة الدولية التي تلعب دورا كبيرا أيضا في توازنات الشرق الاوسط القائمة من جهة أخرى.

 

وهذا يعني في نظري
1- ليس هناك إصلاح ممكن على مستوى المنطقة العربية إذا لم تتغير اتجاهات وخيارات السياسة الأطلسية الأمريكية الأوروبية الشرق أوسطية، وذلك على الأقل في ثلاثة ميادين.
الأول هو النظرة العامة للمنطقة التي لا تزال ترى فيها منطقة نفوذ وتنازع على المصالح ولا تأخذ بالاعتبار أيا من مصالح الدول العربية الرئيسية وفي مقدمها المصالح الاستراتيجية والامنية. وهو ما سمح للدول الكبرى بتجاوزات مستمرة للأعراف والقوانين والمباديء الدولية المتعارف عليها، وشجع على استخدام وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والانقلابات ثم التدخلات العسكرية السافرة للدفاع عن مصالح خاصة حيوية وأقل حيوية. وقد قلل هذا من مفهوم السيادة الشعبية بل محاه تماما وسهل القبول بتغييب الرأي العام عن المشاركة لصالح مفهوم سيادة النخب الحاكمة المرتبطة بالخارج.
والثاني هو وضع أمن إسرائيل كهدف مطلق يتضاءل أمامه أي هدف آخر، ويبرر بالتالي التضحية بمصالح حيوية لا يمكن قيام نظام مدني أو حياة سياسية طبيعية من دون احترامها في أي بلد عربي مشرقي، بما فيها مصالح تعاون إقليمي استراتيجية. وقد ساهم هذا في تلغيم العلاقات العربية الغربية بشكل أساء إلى العرب وبلدان المشرق بشكل خاص، أكثر مما أساء للمصالح الغربية بالرغم من كل ما يسببه انتشار الارهاب وحركاته في البلدان الأوروبية. والمشكلة لا تكمن هنا في وجود إسرائيل نفسها بقدر ما تكمن في سياسات الدعم غير المشروط وغير المحدود للسياسات الاسرائيلية مهما كانت وتحويلها إلى أداة للضغط والضبط والسيطرة الخارجية على المنطقة العربية.
والثالث هو الاعتقاد بأن أفضل وسيلة لاتقاء شر صعود القوة العربية أو الاسلامية المتطرفة أو العدائية هي عزل العالم العربي وتهميشه وفرض الحجر الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي عليه، ووضعه في صندوق مغلق. كل هذا يخلق بيئة إقليمية منتجة للتوتر والعنف والنزاعات المستدامة، لا يمكن أن تشجع لا على تطوير الاستثمار المنتج، ولا على تعزيز روح الاستقرار عند الشعوب وتنمية أملها وتفاؤلها في المستقبل. النتيجة كما هو واضح اليوم اليأس والاحباط وصب النقمة على الغرب واعتباره المسؤول الأول عن المآسي العربية، بما يتضمنه ذلك أيضا من آليات التهرب من المسؤولية وتبرئة ساحة النخب العربية الفاسدة أو المفتقرة للكفاءة والخبرة والأهلية القيادية.


2- ليس هناك إصلاح ممكن باتباع استراتيجيات خاصة قطرية والتسابق والتنافس على خدمة الدول الصناعية أو تقديم التنازلات لها. كل البلدان العربية ستكون خاسرة في مثل هذه اللعبة. الاصلاح يحتاج إلى تعاون بين الدول العربية كما يحتاج إلى استراتيجية جماعية ليشكل الاصلاح في كل قطر جزءا من مشروع إصلاح شامل لشؤون المنطقة بأكملها. وهذا يعني أنه لا ينبغي الأمل في تقدم الاصلاح من دون تعاون بين الدول العربية والتفاهم في ما بينها.


3- ليس هناك إصلاح ممكن في أي قطر، من دون برنامج متكامل، يربط بين مهام التحويل الاقتصادي والانصاف الاجتماعي والتأهيل العلمي والمشاركة السياسية. فجوهر الاصلاح هو خلق بيئة سياسية وقانونية واجتماعية مشجعة على الاستثمار المادي والمعنوي وخلق توجهات واستعدادات وقيما جديدة تدفع إلى بذل الجهد وتعزز مشاعر الثقة بالذات وبالمجتمع وبالمستقبل معا.


4- ليس هناك إصلاح بمعزل عن الشعوب أو من منظور تضليلها أو محاولة الالتفاف عليها أو استخدام بعض المنافع المحدودة لتبرير فرض الحظر المستمر عليها وحرمانها من الممارسة السياسية والمشاركة في السلطة، أي في صوغ السياسات والقرارات التي تتحكم بمصيرها ومصير أبنائها. فأصل الاصلاح هو بعث روح المسؤولية عند الأفراد والجماعات وتعزيز روح التفاهم والتواصل والتضامن في ما بينهم. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون بناء الثقة الاجتماعية التي لا تنشأ إلا في مناخ من الصدق والنزاهة والتعامل المتساوي والمشاركة الفعلية التي تخلق الشعور العميق عند الجميع بأنهم شركاء فاعلون ومهمون لا يمكن الاستغناء عنهم في بناء الحياة العمومية. وهذا يعني أن التحدي الأكبر لأي إصلاح، في أي نظام كان، هو النجاح في إدخال الشعوب في العملية السياسية، ليس لأن ذلك هو الشرط الأول لتحقيق مهام التغيير المنشود من الاصلاح فحسب، ولكن أكثر من ذلك لأنه الأسلوب الوحيد لمساعدة الأفراد على تغيير أنفسهم أيضا، وتعزيز مشاعرهم الجمعية، وبناء أركان التواصل والتفاعل والتشارك في ما بينهم، مما لا يمكن أن تقود من دونه حياة عمومية أو مجتمعات مدنية.


وفي اعتقادي أن السنوات القليلة الماضية قد أظهرت فشل المجتمعات في التوصل إلى تفاهم داخلي يسمح بالخروج من حالة الانسداد الراهنة والدخول المتفق والمفاوض عليه في مرحلة التحول نحو الديمقراطية والاصلاح. ويستدعي تجاوز الانسداد وخلق مناخ جديد أكثر ايجابية، وتجنب مخاطر الانفجارات الكبرى وتفكك المجتمعات، تشكيل لجنة دولية للمساعي الحميدة تعمل كوسيط، مهمته تسهيل فتح الحوار بين الأطراف المتنابذة، وتذليل العقبات التي تحول دون تواصل هذه الأطراف وإبراز إمكانية المراهنة على الحلول السياسية المتفاوض عليها وجدواها. وفي اعتقادي أن هذه الوساطة السياسية والأخلاقية من قبل لجنة دولية مكونة من شخصيات عالمية مستقلة ذات صدقية كبيرة مثل مندلا وكثير من حاملي جائزة نوبل المعروفين تشكل البديل الوحيد عن التدخل العسكري والعقوبات الاقتصادية والمالية التي استخدمت حتى الآن من دون جدوى، وكانت نتائجها سلبية في العديد من البلدان.