المؤسسات الاجتماعية ودورها في التنمية أدوات جديدة لتنمية بشرية جديدة

2001-01-02:: محاضرة قدمت في جامعة مسقط

 

1 - في مفهوم المجتمع المدني وجذور الدعوة لتفعيل المؤسسات الاجتماعية

قد يحتاج الأمر حتى يكون الكلام في هذا الموضوع واضحا إلى بعض التدقيق في المفاهيم الأساسية المستخدمة هنا، أقصد مفهوم المؤسسات الاجتماعية ومفهوم التنمية معا· فمن المعروف في علم الاجتماع أن المجتمع يقوم على مؤسسات وأنه لا يمكن فهم عمله وحركته من دون دراسة هذه المؤسسات التي اعتبرها الوظيفيون ثابتة ومرتبطة ارتباطا مباشرا بالحاجات الأساسية للمجتمع أو لانتاجه· ومن هذه المؤسسات ما يستجيب لحاجات انتاج الحياة المادية للمجتمع مثل الصناعة والزراعة والتجارة، أي المؤسسة الاقتصادية، ومنها ما يستجيب لحاجات الانجاب والتوالد والتكاثر، مثل الأسرة، ومنها ما يستجيب لحاجات التواصل مثل اللغة، ومنها ما يستجيب لحاجات بناء النظام العام مثل الدولة، ومنها ما يستجيب لتنظيم العلاقات بين الأفراد وحل الخلافات فيما بينهم مثل القانون، إلى غير ذلك من المؤسسات العديدة التي نجد نماذج عنها في كل المجتمعات· بيد أني لا أعتقد أن هذا هو المقصود من العنوان إذ لو كان الأمر كذلك لكان السؤال: ما دور النظام الاجتماعي والاجتماع السياسي في تحقيق التنمية· ومن الواضح أن هذا السؤال لا يمكن أن يكون ذا معنى إلا إذا كان على سبيل المقارنة بين النظم المجتمعية لمعرفة أيهما أكثر تشجيعا على بعث روح النشاط والعمل والتنظيم في المجتمعات الانسانية· وأعتقد أن المطلوب ليس هذا وإنما هو معرفة دور المؤسسات الاجتماعية بمعنى المدنية في مقابل الدولة وما تضطلع به من مسؤوليات تجاه المجتمع· فهذا المعنى يتفق مع لغة العصر الذي نعيش في اهتمامه الكبير والمتزايد بفكرة المجتمع المدني ومؤسساته الخاصة التي تعمل إلى جانب الدولة أو أمامها أو أحيانا ضدها لتأدية بعض المهام الاجتماعية·  ولهذا فسوف أستخدم مصطلح المؤسسات الاجتماعية بمعنى المدنية وذلك إذا لم استخدم بالمعنى ذاته مصطلح المؤسسات المدنية أو المجتمع المدني·

وبالفعل، هناك نزعة متزايدة اليوم لإحلال مفهوم المجتمع المدني ومؤسساته الخاصة محل الدولة أو وضعه في مواجهتها كإطار لإعادة تنظيم المجتمع وتوزيع الموارد والسلطات التي تشكل قاعدة تحديد المسؤوليات ومن ورائها المراتبيات الاجتماعية·

وقد ارتبطت الدعوة إلى تفعيل مؤسسات المجتمع المدني للقيام ببعض الأعباء التي كانت تتحملها الدولة بمفهوم العولمة وتطورت بموازاة الفكرة القائلة بأن هذه العولمة تضعف من قدرات الدولة على تلبية جميع الحاجات الاجتماعية بما في ذلك قدرتها على السيطرة الاجتماعية ذاتها وأن المجتمعات ما بعد الحديثة لا تستطيع أن تستمر في الوجود وتحقق أهدافها وتنجح في تنظيم نفسها أو الحفاظ على الحد الأدنى من التنظيم والاتساق والاستمرارية إذا لم تطور مؤسسات اجتماعية مدنية نابعة من المجتمع ومعتمدة عليه ومستقلة عن الدولة· فهذا النوع من المؤسسات، بما يتحلى به من ارتباط مباشر مع الجماعات ومن مرونة ومن اعتماد على العمل التطوعي والإرادي الذي يوفر الكثير من الأموال ويجنب المجتمع دهاليز البيرقراطية المقيتة، هو الوحيد الذي يسمح للمجتمع بالتواصل مع حضارة العصر العلمية والتقنية والمعلوماتية ويتجاوب مع اقتصاد المعرفة·  وبهذا المعنى فإن نمو وتطور مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن الدولة لا يشكل الضمانة الوحيدة لملء الفراغ الذي يبعثه انسحاب هذه الدولة من بعض ميادين عملها السابقة فحسب ولكنه يساهم مساهمة ايجابية في تكيف المجتمع مع شروط العمل والانتاج والابداع الجديدة بما يقدمه من فرص استثنائية للأفراد للعمل والمبادرة الحرة والمستقلة والمفتوحة على العالم، مقابل الأفراد الذين كانوا يعيشون بما يشبه العالة على الدولة في تقرير مصيرهم وانتظار فرص عملهم وتكوينهم· وبهذا المعنى فإن المؤسسات المدنية مرتبطة أيضا بالحرية أو بتحرير المجتمع من التبعية الكاملة للدولة·

وليس هناك شك في أن التأكيد على أهمية الدور الخاص الذي تحتله المؤسسات الاجتماعية في تنشيط الحياة المجتمعية قد جاء في الوقت الذي بدأت تظهر فيه الثغرات الكبيرة في قدرة العمل الحكومي الرسمي لوحده على ضمان التطور والنمو والازدهار الاجتماعي· فبما تخلقه العولمة من فضاءات تتجاوز سلطة الدولة القومية، وبما تستخدمه من تقنيات تضعف إن لم نقل تلغي سيطرة هذه الدولة على مواطنيها وتربطهم بشبكات للاتصالات والمعلومات والتبادل الثقافي والاقتصادي تتعدى كثيرا الإطار الوطني التقليدي للدولة، تنشيء هذه العولمة وضعية جديدة· وفي هذه الوضعية الجديدة تجد الدولة نفسها فاعلا صغيرا وضعيفا مقابل الفاعلين الجدد الكبار الذين يحتلون اليوم، أكثر فأكثر، ميادين النشاط الانساني في كل المجتمعات ويتحكمون به· ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى الدور الذي تقوم به الشركات العالمية العابرة  للقوميات والمؤسسات الدولية القائمة فوق الدول  والأوطان· ويبدو الأمر كما لو أن العولمة التي تطور فضاءات معولمة أو عالمية للنشاطات البشرية ما فوق الوطنية تعمل بمثابة إسفين يشق وحدة الدولة والمجتمع ويزيد الصدع والتباعد بينهما·

 

2 - إعادة تحديد دور جديد للدولة والمؤسسات الاجتماعية في إطار العولمة

لا يعني ذلك أن كل ما يقال عن العولمة وعن المؤسسات الاجتماعية ودورها في التنمية حقائق ثابتة أو نهائية· إن كل ذلك يعبر عن توجه عقائدي وسياسي جديد يعكس الحسابات الجديدة للنظم المركزية في مواجهتها لمسألة الانفتاح العالمي للأسواق، كما يعكس الخيبة من عمل الدولة في العديد من البلاد غير الصناعية· فلا تزال العولمة وستبقى لفترة طويلة قادمة مفهوما فضفاضا ومشوشا لا يصلح لوحده لتفسير ما يطرأ على المجتمعات التي لا تزال إلى حد كبير مجتمعات وطنية، أي تخضع لقواعد وآليات التنظيم القومي للسلطة والحدود والسياسات بصرف النظر عن التراجع الذي تلقاه سياسات الدولة المركزية نفسها داخل هذا الاطار الوطني· فالعولمة بمعنى تبني سياسات الفتح الواسع والمطلق للحدود أمام التبادل التجاري والثقافي والبشري بما يجعل من البشرية مجتمعا واحدا أو بالأحرى سوقا حرا واحدا، ليست سوى أسطورة أو عقيدة سياسية تريد أن توهم الناس بوجود عكس ما هو قائم في الواقع· فلم تسقط الحدود على الإطلاق بين الدول والمجتمعات، خاصة بين المجتمعات الفقيرة والغنية، ولن تسقط أبدا في المستقبل، بل إنها سوف تزداد قوة وعمقا· وحماية هذه الحدود وتعزيزها هو الضمانة الرئيسية للتشغيل الناجع من وجهة نظر الدول الصناعية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لسياسات العولمة· وفي هذه الحالة لاتستخدم العولمة بمعنى الزوال الفعلي للحدود ولكن بمعناها الحقيقى وهو إجبار الدول الضعيفة على فتح الحدود أمام الدول الصناعية الكبرى وتكوين سوق اقتصادية حرة بالنسبة للكبار فقط لأنهم قادرين بسهولة على اختراقها· لكنها سوقا مغلقة تماما بالنسبة للدول الصغيرة التي ليس لديها أي أمل في منافسة الدول الصناعية الكبرى في عقر دارها· ولا ينبغي أن ننسى أنه في الوقت الذي تتحدث فيه الدول الصناعية عن العولمة وتفرض على العالم جدول أعمال قائم على تحرير التجارة وإلغاء التعرفة الجمركية والتحييد النسبي الكبير للدولة في عملية التنمية الاقتصادية، أن هذه الدول تعمل المستحيل في الوقت ذاته من أجل ضمان تفوقها الاقتصادي ونفوذها السياسي والثقافي، سواء أكان ذلك من خلال الاسراع في بناء التجمعات الاقليمية أو من خلال الضغط في إطار مفاوضات منظمة التجارة الدولية للحفاظ على ميزات ومصالح تحرم منها الدول والمجتمعات الفقيرة والصغيرة· وفي الوقت الذي تدعوا فيه هذه الدول الكبرى لنبذ السياسات الوطنية والتنديد بالانتماءات القومية، فإنها لا توفر فرصة كي تعزز من مواقعها الوطنية في المؤسسات العالمية، وفي مقدمها مجلس الأمن الذي يضمن من خلال حق النقض السيطرة المطلقة لمجموعة صغيرة من الدول القومية المنتصرة منذ أكثر من قرن على مصائر السياسة الدولة·

وهناك أخيرا العولمة من وجهة النظر الموضوعية، أعني من زاوية التطور الفعلي للتقنيات الاتصالية والمعلوماتية وما يحدثه هذا التطور من إعادة توزيع للموارد والقوى والطاقات البشرية داخل كل مجتمع على حدة وعلى صعيد علاقة المجتمعات فيما بينها· وهذه حقيقة موضوعية لا شك فيها· فهذه التقنيات الجديدة تعيد توزيع الموارد بشكل أكثر تفاوتا من أي حقبة سابقة، وهي تهدد بالاستنزاف العميق والواسع لموارد العديد من المجتمعات التي تخفق في استيعاب آليات العولمة وفي ابداع الاستراتيجيات التي ترد عليها· فبقدر ما تبدو العولمة عن حق حاملة لامكانات وفرص كبيرة وعديدة بالنسبة للمجتمعات التي تملك رساميل مادية ومعنوية قادرة على استثمارها في الفضاءات الاقتصادية والثقافية المعولمة، فهي تبدو بالعكس من ذلك حاملة بالدرجة الأولى للكثير من المخاطر والتهديدات بالنسبة للمجتمعات الفقيرة ماديا وتقنيا وتنظيميا وإداريا_·

وإذا كانت العولمة تستطيع أن تفسر بعض ما يجري بالفعل في البلدان الفقيرة من تباعد متزايد بين الدولة والمجتمع، فليس الأمر كذلك بالنسبة للبلدان الكبيرة والغنية· ذلك أن العولمة تشكل هنا بالعكس مصدرا لزيادة الموارد التي تساعد الدولة على التقرب أكثر من المجتمع وتقديم مكاسب جديدة له تتجاوز المكاسب التي حصل عليها في عصر الدولة القومية الصاعدة· ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الطبقات الوسطى والفئات الشعبية قد عرفت في الولايات المتحدة الأمريكية في عهد كلينتون الديمقراطي لآخر القرن العشرين أفضل أيامها ونالت من المكاسب ما لم تكن تحلم به من قبل، كما شهدت البطالة تراجعا كبيرا· وبالمثل تنزع الدولة في أوربة الاتحادية أكثر فأكثر لتقديم الرعاية عن قرب للفئات الأكثر بؤسا، وتعمل على معالجة  ظواهر الفقر والتهميش التي سيطرت على ضواحي المدن الكبرى وتم تجاهلها لزمن طويل كما لم تفعل في أي حقبة سابقة· إن روحا جديدة من الجدية والمسؤولية تجاه المجتمع على مختلف فئاته وتكويناته وجماعاته، ورؤية جديدة لواجب الدولة تجاه هذه الفئات تدب في البلدان الصناعية، وتدفع إلى تعزيز الحماية الاجتماعية والتأمين الصحي بالنسبة للجماعات الضعيفة· إن ما نحن بصدده هنا ليس كما يشاع تراجع دور الدولة أو انهيار مكانتها، ولكن تبدل نظرتها لدورها في المجتمع ونوعية الخدمات والمكاسب الجديدة التي تستطيع وينبغي أن تقدمها له وأسلوب عملها· فهي تنسحب من بعض المواقع لتحتل مواقع جديدة، وتنبذ دورها البلدوزري الثقيل الظل الذي كان يجعل من السلطة العمومية مركز وصاية على المجتمع لتتبنى دور المنظم والمدير والمرشّد والمنسق بين نشاطات المجتمع وفئاته وقواه الفعالة المتعددة· وهذا يعني أن الدولة أصبحت مركزية في ترشيد النشاطات الاجتماعية المختلفة لا في القيام بها كما كان عليه الحال في السابق·

ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد الفقيرة والنامية· فلا ينبع الحديث عن المجتمع المدني والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي من نضح الدولة ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الانجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي، ولا عن نضج المجتمع وتوسع دائرة العمل والمبادرة والتنظيم عند أفراده ونشوء جمعيات ومؤسسات أهلية قادرة على التدخل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية ولكن ربما بالعكس من ذلك تماما· إن منبع الحديث المتزايد عن المجتمع المدني هو انهيار الدولة وفقدانها لأي دور مركزي على الطريقة الكلاسيكية ( أي بناء الأمة كما كان يقال أو توفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لتكوين مجتمع سياسي متفاعل ومتواصل ومتعاون)، وعجزها عن بلورة دور جديد لها يتماشى مع حاجات المجتمع الذي يتطور بمعزل عنها منذ فترة طويلة في تصوراته ومطالبه· وهو كذلك، أقصد الدافع للحديث عن المجتمع المدني في البلاد الهامشية، هو تفكك المجتمع نفسه وافتقاره إلى أي مؤسسات تسمح له بممارسة دوره أو تأكيد وجوده في وجه السلطة المتحولة إلى سلطة أصحاب المصالح الخاصة وفي وجه الفوضى والدمار الذين يتهددان مصيره و مستقبله· إنه الفراغ الذي يسم الدولة والمجتمع المدني معا، ويلغي أي وجود فعلي للسياسة مهما كانت طبيعتها وشكل ممارستها، والذي يدفع النخب المعارضة في هذه البلدان إلى استخدام مفهوم المجتمع المدني وشعاره كبديل ضعيف للسياسة أو كمصدر لمشروعية عمل سياسي مواز وجانبي يعوض عن هامشيتها الفعلية ويعطي لها مكانا في النظام الاجتماعي يليق بطموحاتها العمومية ويميزها عن النخب السياسية البيرقراطية الحاكمة_·

 

3 - مفهوم التنمية الجديد ودور المؤسسات المدنية في تحقيقها

قبل أن نناقش دور المؤسسات الاجتماعية المدنية في التنمية ينبغي أن نحدد بالضبط ما المقصود بهذه التنمية التي لا تزال مطلب جميع الشعوب والبلدان منذ أكثر من نصف قرن، والتي تظهر أكثر بعدا عنا كلما اعتقدنا أنها صارت أقرب منالا منا· فالتنمية مثلها مثل جميع المفاهيم الاجتماعية مفهوم مجرد وتاريخي، أي أنه يمكن أن يكتسي مضامين متباينة ومختلفة وإن لم تكن بالضرورة متناقضة بحسب مستخدمي المفهوم ومكانتهم وموقعهم وبيئتهم الاجتماعية، كما أنه يتبدل ويتغير مع تغير طريقة رؤية المجتمعات لحاجاتها وتقييمها لقدراتها وإعادة تحديدها أهدافها·

وفي بداية الاستعمال لم يكن مستخدموا المفهوم يميزون فيه بين التنمية بمعنى تزايد أو تراكم الناتج الاقتصادي الوطني وارتفاع معدل هذا التراكم والتزايد السنوي، والتنمية بمعنى التحول أو التقدم العام للمجتمع الذي ينقله من البنيات التقليدية الحرفية والتجارية وشبه الاقطاعية في العديد من مناطق العالم المتأخرة نحو بنيات حديثة رأسمالية أو شبه رأسمالية وصناعية· لكن حصول التراكم الاقتصادي، أو نمو الناتج الوطني الاقتصادي من دون أن يدفع إلى حصول هذا الانتقال نحو نموذج مجتمعي جديد، ومن دون تطور رأسمالية محلية ديناميكية ومستقلة أو حتى من دون نشوء إقلاع اقتصادي وحركة تصنيعية حثيثة ومستمرة، كل ذلك دفع إلى إعادة النظر في هذا التصور الساذج للتنمية الذي يرى التقدم من منظور خطي يتجاهل فعل تبدل البيئة الخارجية والدولية لأي عملية تصنيع أو تثوير رأسمالي للانتاج في البلاد النامية·

وهكذا ستقدم نظرية التخلف ومدرسة التبعية تصورا جديدا للتنمية تركزان فيه على مسألة المركزية الداخلية والاستقلال عن البيئة الخارجية التي كانت ولا تزال بيئة امبريالية، أي مجسدة لسيطرة التشكيلات الاجتماعية المركزية، أو الدول الصناعية المتطورة، على التشكيلات المحيطية الضعيفة· فهذه السيطرة الأمبريالية لا تعني نهب موارد البلاد الضعيفة النمو أو الأضعف نموا فحسب وتفرغها بالتالي من قدراتها الذاتية، ولكنها تخنق أيضا روح المبادرة فيها بما تبتعثه من بنيات تبعية تلحق الطبقة الرأسمالية المحلية بها وتحولها إلى طبقة كمبرادورية تعمل لحسابها، لأنها تجد في هذا الاقتصاد الكمبرادوري الذي يقوم على تسويق بضائع الدول الصناعية مصدرا أكبر للربح من إقامة صناعات خاصة بها وطنية· وتستخدم الأمبريالية في إنتاج هذه البنيات التبعية في البلدان الفقيرة عوامل متعددة من إغراءات اقتصادية وضغوط سياسية وتعميم نماذج استهلاكية وتأثيرات ثقافية وأحيانا تدخلات عسكرية سافرة لكبح جماح نشوء طبقة رأسمالية وطنية في البلدان المحيطية ومنع هذه البلدان من التحول إلى مراكز مستقلة للانتاج والتصدير·

بيد أن انهيار استراتيجيات التنمية القائمة على ما سمي في حينه التمركز الذاتي أو التمحور حول الذات والقطع مع السوق الامبريالية العالمية، وهو ما شجع على قيام التجارب الاشتراكية في معظم البلاد المتأخرة، بما تعنيه من التوجه نحو بناء الاقتصاد على أساس الملكية العامة للدولة، وضع نظرية التنمية المتمحورة على الذات، منذ الثمانينات في مأزق سياسي كبير· وشيئا فشيئا تم التراجع عنها بصمت مع تزايد الحديث عن العولمة وفتح الأسواق على بعضها· فصارت المناداة بالتنمية المتمركزة على الذات رديفة في معناها للدعوة إلى الانغلاق والحكم على النفس بالتهميش والخروج من التاريخ·

لكن بموازاة النقد اليساري لمفهوم التنمية الكلاسيكي الخطّي كان ينمو نقد أخر ديمقراطي المنزع، يتأثر بانتقادات اليسار لكن يضيف إليها عناصر جديدة· لقد قدم النقد اليساري مساهمة كبرى لمفهوم التنمية عندما بين أن المفهوم الكلاسيكي لا يرى في التنمية إلا عملية تراكم كمي فحسب، ولا يدرك الأهمية الحاسمة للعوامل الاستراتيجية والسياسية والثقافية المحلية والدولية التي يتحقق فيها النمو الاقتصادي ومراكمة الثروة وتطور معدل الانتاج الصناعي والزراعي· لكن مفهوم التنمية لم يختلف عنده كثيرا في الجوهر· لقد بين اليسار بحق أن هناك عوامل كثيرة غير اقتصادية تعيق تطور الاقتصاد، وينبغي أن تؤخذ بالاعتبار، وهي عوامل مرتبطة بالبنية الامبريالية للنظام العالمي، بيد أنه استبطن في هذا النقد ذاته واستبقى المفهوم العميق للتنمية بوصفها نموا اقتصاديا· كما لو أنه أراد أن يقول إن إطلاق عملية التراكم الكمي الاقتصادي لا تتم من دون معالجة العوامل السياسية والاستراتيجية المعيقة· ولذلك فقد جاءت اقتراحاته لبناء استراتيجيات التنمية الجديدة مزاوجة بين القطيعة عن السوق العالمية والمركزة الشديدة في الاستثمارات الانتاجية والصناعية بشكل خاص· وكان جوهر هذه الاستراتيجيات ومقتلها معا في الدول الشيوعية والاشتراكية جميعا تجاهل حاجات الانسان غير الاقتصادية، أي السياسية والثقافية والنفسية· إن من مفارقات القدر أن الذين انتقدوا تجاهل نظرية التنمية الكلاسيكية الليبرالية العوامل غير الاقتصادية هم أنفسهم الذين دفعوا أكثر من أي منظرين آخرين نحو بلورة استراتيجية تنمية اقتصادوية مطلقة·

لكن تحت تأثير نضج الديمقراطية وتجديد مفهومها في العقدين الماضيين تبلور مفهوم جديد للتنمية يقطع مع المفهوم الاقتصادي، ليبراليا كان أم ماركسيا، ليدخل في الاعتبار، وبالدرجة الأولى، معايير ما سماه بالتنمية البشرية· وكان وراء ذلك المفهوم الجديد الاقتصادي الباكستاني محبوب الحق الذي رئس في الثمانيات حتى بداية التسعينات برنامج الأمم المتحدة للتنمية· وقد أحدثت التقارير السنوية التي أصدرها هذا البرنامج ثورة فعلية في المفاهيم التنموية عندما رفضت المفاهيم القديمة التي لا يزال يسير بموجبها صندوق النقد الدولي ولم تعتبر نصيب الفرد من الناتج الوطني إلا عاملا من عوامل عديدة يحسب على أساسها نمو المجتمعات أو تأخرها· فمن العوامل الجديدة التي أدخلت في بلورة المفهوم الجديد للتنمية ما يتعلق بمستوى الخدمات الصحية ومستوى التعليم والتربية، ومستوى الضمانات الاجتماعية القانونية والسياسية، ومستوى الحريات العامة والفردية والمساواة بين الأفراد إلخ·

بيد أن مفهوم التنمية البشرية، بالرغم من الإضافة الحاسمة التي قدمها، خاصة تحييد المركزية الاقتصادية من تصور التقدم الاجتماعي، يعاني من مشاكل  ونقائص كبيرة أيضا· وتبدو أول هذه النقائص في تصوره ذاته الذي يفترض أن من الممكن الفصل بين تدهور حالة العوامل الانسانية في البلاد النامية وشرط وجودها الاقتصادي·

فمن الواضح، أولا، أنه بقدر ما تتضاءل موارد الدولة وتتراجع قدرة المجتمع على إحداث تراكم رأسمالي، ثم انتاج فائض اقتصادي، تتضاءل بالدرجة نفسها قدرة المجتمع على تحسين شروط حياته الانسانية، الثقافية والقانونية والاجتماعية والسياسية· فتفاقم العنف والصراع على السلطة وانتهاك حقوق الانسان والفروق العميقة في مستويات الدخل الاجتماعي كل ذلك يتزايد طردا مع تناقص موارد المجتمع· وتناقص هذه الموارد مرتبط ارتباطا عضويا ببنية الاقتصاد المحلي التابع الذي يقوم على آليتين: نهب الموارد الطبيعية بأرخص الأثمان وتصدير الأرباح والرساميل نحو الأسواق الأكثر استقرارا  ومردودا· مما يعني الافقار المستمر للبلاد· وهذا الافقار الذي يعمق الشعور باليأس وانعدام فرص التقدم واسوداد المستقبل في وجه الأجيال الشابة يدفع إلى التمرد وزيادة الضغوط الاجتماعية والاضطرابات أو يؤدي إلى تكالب النخب السائدة على السلطة وترسيخ النظم الاستبدادية القهرية، ويزيد من عدم الاستقرار ويقلل من جاذبية البلاد للاستثمارات المحلية والأجنبية على حد سواء· وهذا يعني أن الايمان بأن من الممكن وجود تنمية إنسانية غير مرتبطة بتنمية إقتصادية مستمرة وثابتة ليس إلا من قبيل الأوهام· إن الافقار الاقتصادي يقود المجتمعات جميعا بصرف النظر عن ثقافاتها الأصلية نحو البربرية·

وثانيا، إن من الصعب في إطار الظروف العادية والطبيعية تصور النخب السائدة في العالم النامي وقد ضحت بما تعتبره مصالحها في سبيل بناء مجتمع ديمقراطي حر ومستقر ومتساو· فهي لا ترى مصالحها إلا من وجهة نظر تكوين رأسمال، أو بالمصطلح الماركسي، التراكم البدائي الذي يتيح لها تكوين رأسمال يتيح لها المشاركة في السوق العالمية الحية والنشطة ويمكنها من الاندماج في البرجوازية العالمية الجديدة والاقتداء بنموذج معيشتها·

وثالثا، ومع تطور العولمة، لم يعد هناك أمل في الحفاظ على معايير محلية خاصة بأي قطر ومتناسبة مع موارده، ذلك أن جميع الأفراد ينظرون إلى أوضاعهم بمقارنتها مع الأوضاع السائدة في المجتمعات الصناعية ويقيسونها بمعايير عالمية واحدة· وهذا يعني إن عوامل السيطرة الاقتصادية والاستراتيجية والاستلاب الثقافي والنفسي وانعدام الثقة بالذات وعدم التأكد من المستقبل كل ذلك يشكل عوامل أساسية في تحديد سلوك الأفراد في المجتمعات النامية وفي مقدمهم النخب الاجتماعية التي تسيطر على الموارد الرئيسية في البلاد وتستطيع أن تجيرها لتحقيق أمالها وحدها·

لكن بالرغم من هذه الانتقادات، قدم مفهوم التنمية البشرية عناصر مهمة لا بد من الاحتفاظ بها وتطويرها· من هذه العناصر تفجير مفهوم التنمية الكلاسيكي ذاته· إذ، مع ما جاء به، لم يعد هناك مفهوم ثابت وقاطع للتنمية ولكن هناك مفهوم يصف حالات متباينة ومختلفة تتراوح بين التنمية وعدم التنمية معا، تعكس اختلاف وتباين ظروف عيش المجتمعات· ولم يعد هناك بلاد نامية بالمطلق وبلاد معدومة النمو بالمطلق· ففي جميع البلدان عناصر تنمية وعناصر تخلف·

بيد أن أهم ما أتى به هذا المفهوم في اعتقادي، ولم ينتبه إليه، هو إلغاؤه مركزية النموذج الغربي للتنمية، أي إنكاره العملي أن يكون نموذج الدول الصناعية الكبرى هو معيار قياس التنمية لدى كل الشعوب·

وبالفعل، ليس من الضروري ولا ينبغي أن يكون من الضروري، وليس من المنطقي أصلا أن نفكر على أساس أن هناك إمكانية كي تصل جميع المجتمعات إلى الدرجة ذاتها من التراكم الاقتصادي والخدمات الاجتماعية والرفاهية حتى تعتبر نامية· فليس ما تعبر عنه هذه الدول حالة من التنمية أو نموذج التنمية بقدر ما هو نموذج الرفاه الاستثنائي والبذخ الناجم عن السيطرة العالمية وما تقدمه من مزايا وامتيازات ومكاسب· ومن الصعب تصور جميع دول العالم في حالة سيطرة وامتصاص أو جذب مماثل للثروات والموارد والاكتشافات وبراءات الاختراع· عدا عن أن الوصول إلى مثل هذه الآفاق يعني الدمار البيئي الكامل·

وتفترض هذه الملاحظة، إذا كانت صحيحة، وهي كذلك، إعادة نظر جذرية في مفهوم التنمية وإعادة بنائه على أسس جديدة تضع في موقع القلب منه العناصر القيمية الانسانية، من دون أن تهمل العوامل الاقتصادية الضرورية لتحقيقها· وهذا يعني ضرورة أن تتعلم بلدان الجنوب الفقيرة منذ الآن كيف تتعايش مع موارد محدودة، والتي ستستمر محدودة بالمقارنة مع الدول الصناعية الكبرى، مهما حصل عندها من تراكم رأسمالي، وأن تسعى بالتالي إلى إعادة بناء نظامها المجتمعي بما يمكن جميع الأفراد من تحقيق القيم ذاتها التي تميز نموذج المجتمعات المتقدمة، أعني تأمين الخدمات والضمانات الاجتماعية والقانونية الأساسية لتكوين مجتمع حر ومتساو أمام القانون ومتضامن· وانطلاقا من ذلك تصبح مسألة المجتمع المدني ذات راهنية استثنائية، لكن ليس من المنظور السائد في بلاد الجنوب اليوم، أي كمصدر سلطة مناوئة ومناهضة أو موازية لسيطرة النخب البيرقراطية المتماهية مع الدولة أو التجارية والرأسمالية الخاصة المرتبطة بالمشروع الاقتصادي الحر أو منافسة لهما وبديلة عنهما، ولكن من منظور تثوير المجتمع ذاته وتشجيعه على حمل المسؤولية وتحقيق ما أسميه الثورة المدنية: أي الانطلاق من المجتمع لإعادة بناء قيم الحياة المشتركة، وفي قلب هذه الثورة المدنية توجد الثورة الأخلاقية·

إن التنمية البشرية تستدعي التنمية الاقتصادية· لكن أصل كل تنمية، اقتصادية كانت أم بشرية، يكمن في نظري في النظام المجتمعي· فهو الذي يشجع على الاستثمار والتراكم والمساواة والتوزيع العادل، أو على عكس ذلك· ومن هنا فإن التنمية ترتبط في نظري وينبغي أن تكون مرادفة لمفهوم النمو بمعنى النضج الاجتماعي والوصول إلى مرحلة الرشد· والنضج أو الوصول لمرحلة الرشد الاجتماعي يعني وصول المجتمع، جماعة وأفرادا، إلى مرحلة من الوعي وتحمل المسؤولية تجعله قادرا على أخد مصيره بيده وعلى تنظيم شؤونه على أساس من المباديء الأخلاقية وما تشمله من قيم التعاون والتضامن والعدالة والمساواة·

ويتضمن مفهوم النضج نموا متوازنا في جميع ملكات الانسان الجسدية والنفسية والفكرية· فالطفل لا يصبح ناضجا أو راشدا إذا نما جسده وتعاظم وزنه فصار كالمارد· إن نضجه يستدعي في الوقت نفسه نضج ملكاته وكفاءاته العملية والعقلية والنفسية· لكن الطفل لا يصبح راشد أيضا إذا ضمر نموه الجسدي· فهو عندئذ قزم صغير يعجز عن تأدية الكثير من المهام والمهارات· إن النمو بمعنى النضج يعني النمو المتكامل الذي يجمع النمو الاقتصادي والنمو السياسي والنمو الاجتماعي والنمو الثقافي في الوقت نفسه· وأكاد أقول أن النمو عندما يكون حقيقا لا يمكن إلا أن يكون بالإجمال متكاملا· وإذا حصل نمو متباين جدا، فهذا يعني أن هناك تشوها أو أنه يمثل حالة شاذة لا يقاس عليها·  والتنمية المتكاملة تستدعي سياسة استثمار متوازنة لا تتجاهل أو تنكر أي ميدان من ميادين النشاط الاجتماعي·

لكن بالتأكيد ليس من الممكن تطبيق مفهوم التنمية هذا إلا بتجاوز الأطر الوطنية والتفكير من وجهة نظر عالمية أو عولمية· ولن يستقيم النمو بمعنى النضج إلا إذا نجحت المجتمعات الفقيرة في الضغط من أجل خلق نظام جديد للتوزيع العالمي لفرص النمو والتقدم الاقتصادي يحول دون تهميش القسم الأكبر من المجتمعات البشرية وبالتالي حرمانها من وسائل النمو والحكم عليها بالقصور والتشوه وعملقة الأقلية الباقية· فليس التخلف الذي تعرفه البلاد الفقيرة إلا ثمرة هذه الآلية التي تجعل الرساميل والتقنيات والمعارف والمعلومات تغذي طرفا دون آخر وتخلق هذا التشوه الواضج والخطير في التنمية البشرية· وهو تعبير عن انعدام النضج في المفهوم الانساني ذاته·

من هنا نستطيع أن نفهم الدور الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني في التنمية البشرية· فالسمة الرئيسية التي تميز هذه المنظمات وتمثل مصدر قوتها بالمقارنة مع الدولة، هو أنها متحررة من منطق الدولة والتزاماتها الوطنية ومعاييرها، وغير خاضعة مباشرة لجدول أعمال الدول ولا للاكراهات التي تميز عملها سواء أكانت سياسية أو بريرقراطية· ومن هنا فهي تمثل الأدوات الوحيدة القادرة اليوم على القيام بعمل يتجاوز حدود الدول والانتماءات والالتزامات الوطنية، والعمل خارج النطاق الوطني وعلى مستوى العالم· إنها القنوات الرئيسية لإطلاق عملية تنمية لا تخضع لسيطرة الدول وحساباتها الاستراتيجية، وبالتالي فهي أكثر قابلية للتأثر بمتطلبات تنمية بشرية متوازنة ومتضامنة· وهي تأتي بذلك لتدعم الدور الذي لعبته ولا تزال تلعبه بعض هيئات الأمم المتحدة الفرعية، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولتعزز مواقع هذه المنظمات الفرعية المدنية في مواجهة الحرب التي تشنها عليها بعض الدول الكبرى التي لا يهمها من الأمم المتحدة إلا الهيئات التي تساعدها على تحقيق السيطرة العالمية مثل مجلس الأمن· كما تساعد على إعادة الحياة للرسالة التي قامت عليها الأمم المتحدة التي تكاد تفقد مصداقيتها تحت وطأة الروتين البيرقراطي الذي بدأ يضيق الخناق على المنظمات الفرعية·

والسمة الثانية لهذه المنظمات المدنية التي تجعلها أقدر على توفير فرص التنمية البشرية المتوازنة العالمية هو أنها بعكس المؤسسات الدولية لا تخضع لمنطق الرأسمالية ولا لأي منطق اقتصادي كلي، وإنما تحركها في الغالب دوافع إنسانية أو أخلاقية أو سياسية أو مدنية· وهي تستطيع بسبب ذلك أن تلعب دورا كبيرا في إعادة توزيع الثروة العالمية وفرص التنمية والازدهار على مستوى الكرة الأرضية· وهي تقف في ذلك في مواجهة المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي التي تسيطر عليها الدول الكبرى وتجبرها على أن تخضع عملها لحسابات سيطرتها الدولية·

وهكذا يعبر تطور المؤسسات المدنية العالمية، أو المنظمات غير الحكومية، التعبير الأهم في نظري عن الأزمة العميقة التي تعيشها صيغة التنمية البشرية التي نشأت في نصف القرن الماضي، ويشكل الرد التاريخي المباشر عليها· وهذا الرد ليس شيئا آخر سوى البحث عن صيغة لإعادة التنمية من وجهة نظر إنسانية،·أي من منظور إزالة التشوهات الخطيرة التي قادت إليها تنمية مستندة إلى جيواستراتيجية وأدوات ومؤسسات شجعت على النمو المتفاوت وحكمت على القسم الأكبر من المجتمعات البشرية بالخروج من دائرة التنمية الحقيقية والفعلية· وبقدر ما يعبر نشوء هذه المؤسسات المدنية وغير الحكومية عن نضج المفهوم الانساني، وتجاوز المفهوم الوطني الضيق للحياة، وبالتالي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن تعميم هذا المفهوم الانساني وتطويره وتعميقه، أي بناء أخلاقية إنسانية جديدة، يشكل الضمانة الحقيقية الوحيدة لتحقيق تنمية متسقة ومتكاملة ، وفي مقدمتها بناء المؤسسات المدنية المعبرة عن فاعلية المجتمع ونشاطيته وقدرته على تحمل المسؤولية في تقرير مصيره·

والواقع أن التحدي الرئيسي والكبير الذي يواجه مجتمعاتنا في المرحلة الراهنة في مجال التنمية ليس افتقارها إلى هذه المؤسسات فحسب، ولكن أبعد من ذلك، الصعوبات التي تواجهها، لأسباب ثقافية وسياسية ومادية معا، في بناء هذه المؤسسات  التي تشكل أدوات هذه التنمية وإطارها·

 

4 - التحديات التي يطرحها بناء المؤسسات المدنية في بلادنا العربية ، من المؤسسات الاجتماعية الانمائية إلى تنمية المؤسسات

كما راهنت النخب الاجتماعية في جميع بلدان العالم على الدولة القومية من أجل تحقيق التقدم والازدهار والاندراج في المسيرة الحضارية والتقنية، وبذلت المستحيل من أجل تأسيس هذه الدولة وبنائها، تراهن النخب المعاصرة، اليوم، خاصة تلك التي خاب أملها تماما بالدولة القومية والحديثة، كما هو الحال في العالم الجنوبي والعربي كجزء منه، على المجتمع المدني ومؤسساته الخاصة في سبيل تحقيق الأهداف الاجتماعية، وفي مقدمها التنمية الاقتصادية وتوفير الحريات الأساسية واللحاق بركب الثورة العلمية والتقنية· بيد أن هذا الرهان يطرح تساؤلات كثيرة يتعلق بعضها بالتحديات التي يواجهها في بلدان نامية عمل مؤسسات المجتمع المدني، ويتعلق بعضها الآخر بالمهام والغايات التي تلقى عليه بالمقارنة مع ما يستطيع أن يحققه·

فعلى مستوى التحديات، يواجه تكوين مؤسسات المجتمع المدني مشاكل عديدة تتراوح بين تحديد أهدافه وبناء أسلوب عمله وتأسيس قواعد هذا العمل في مجتمع افتقر كثيرا للجهد المنظم وللعمل الجماعي وللنشاط الطوعي في الوقت ذاته· كما يواجه مشاكل مادية عديدة أهمها التمويل وإعداد الإطارات· ومن هذه المشاكل أيضا مشاكل سياسية تتراوح بين تأمين شروط استقلاله عن الدولة والمنظمات والدول الخارجية من جهة وعن التكوينات التقليدية  والعصبيات المجتمعية المستمرة تحت بنية المجتمع المدني وفي حشاياه·

السؤال يفرض نفسه هنا أيضا : إلى أي حد يستطيع المجتمع المدني أن ينشيء مؤسسات حرة مستقلة عن الدولة والمنظومة الدولوية ويتصرف كما لو كان قناة تعبير مباشر عن مجموعات المصالح والأفكار الخصوصية للفئات المجتمعية الوطنية؟

وإلى أي حد يستطيع المجتمع المدني أن يستقل بالفعل عن العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية في مجتمع لم تجبله الدولة الوطنية ولم تعد إنتاجه على أساس المواطنية حتى يكون بالفعل موطن ممارسة الحريات الفردية وضمانة لتفتحها وازدهارها؟ وبهذا المعنى، هل يستطيع المجتمع المدني بالفعل أن يحقق ما عجزت الدولة الحديثة عن تحقيقه بسبب افتقارها لطابع الوطنية بمعنى نشر وتعميم وترسيخ قيم المواطنية؟

وما الذي يمنع مؤسسات هذا المجتمع المدني من أن تسقط في المطبات نفسها التي أدت إلى إفلاس الدولة القومية وإخضاعها لسيطرة أصحاب المصالح والعصبيات من كل نوع، ومنعها من التطور نحو دولة مواطنية فعلية؟

هكذا يمكن أن نجد أنفسنا أمام حلقة مفرغة· ذلك أن المجتمع المدني ومؤسساته الحية لا تنبع من فراغ· فكما أن الدولة كمؤسسة مركزية سياسية ليست مستقلة عن الشروط التي نشأت فيها ونمط حياة وتكون المجتمع المدني، فإن المجتمع المدني، بوصفه مجموع المؤسسات الخاصة التي تعمل خارج الدولة وربما في موازاتها أو أحيانا ضدها في بعض الظروف، لا يمكن أن يستقل، ولا يستقل عن الشروط السياسية التي يعيش فيها أي عن الدولة· فالدولة هي التي تحدد لهذا المجتمع الهوامش والمجالات والفضاءات التي يستطيع أن يزدهر فيها ويطور نفسه، وهي التي تتحكم بالفرص والامكانيات المادية والمعنوية التي تتيح للأفراد تكوين المنظمات والهيئات والجمعيات والشركات التي يطلقون فيها العنان لأحلامهم وطاقاتهم وإبداعاتهم·

وقد لعبت الدولة القومية دورا كبيرا في إطلاق المجتمع المدني، أي في إعادة بناء المؤسسات الاجتماعية على أسس جديدة تسمح بنموها وتطورها، بقدر ما نجحت في بث روحية ثقافية وقانونية جديدة أيضا لدى الأفراد، وافتتحت فضاءات للعمل والجهد والتفكير والمبادرة كانت مغلقة عليهم في إطار الدولة الامبرطورية المركزية أو الاقطاعية· ونتائج هذه الثورة التي أحدثتها الدولة القومية في سلوك الأفراد وممارستهم الاجتماعية ومنظومات قيمهم بارزة اليوم في نوعية المؤسسات والشركات التي تميز المجتمعات الصناعية الغربية· فبقدر ما قلبت القيم المدنية وسمحت لها بنشوء منظومات قيم وأنماط سلوك وممارسات عملية ساعدت  هذه الثورة على تكوين شركات ومؤسسات كبرى على أساس التعاقدات القانونية· وبالعكس من ذلك، بقدر ما بقيت المجتمعات الفقيرة والمتأخرة بمعزل عن هذه الثورة السياسية ظلت المؤسسات والشركات التي شهدت نشوءها في العصر الحديث وتحت تأثير الثورة الصناعية الأوربية ذات بنية عائلية وقرابية، ولم تنجح لهذا السبب في التطور إلى شركات رأسمالية حقيقية·  وهذا الوضع ينطبق على الدولة ذاتها· فبسبب تكونها بمعزل عن ثورة سياسية حقيقية، وعدم ارتباطها بتكون منظومات قيم واتجاهات وقوى وممارسات اجتماعية ذات طبيعة مختلفة عن تلك التي كانت موجودة في العهد الامبرطوري القديم، احتفظت الدولة إلى حد كبير، بالرغم من حداثة بنيتها وقواعد عملها، بنقائص وفجوات كبيرة لم تستطع سدها وتجاوزها إلا باللجوء إلى الممارسات والقوى ومنظومات القيم القرابية والعائلية·

وهذا يعني أن التحدي الرئيسي الذي يثيره موضوع التنمية هو في الواقع تحدي بناء المؤسسات الاجتماعية ذاتها سواء ما تعلق منها بالمؤسسة الرئيسية السياسية والقانونية التي هي الدولة أو بالمؤسسات الأهلية والخاصة المدنية· فكيف يمكن بناء مؤسسات تعتمد مفهوم المواطنية من دون مواطنين، وكيف يمكن بناء حريات من دون رجال أحرار؟

وليس المقصود من ذلك أن المجتمعات العربية والنامية عموما غير قادرة على تجاوز نقاط ضعفها التاريخية· وإنما هو الاشارة إلى أن تاريخ المجتمعات أو تاريخ تطور المجتمعات مرتبط بنمو الديناميكيات الخلاقة التي تدفع الأفراد بالفعل إلى الخروج من الأشكال والأنماط القديمة والتقليدية المكرورة التي اعتادوا عليها، وبالتالي على تثوير بنياتها وقلبها وإعادة تشكيلها على أسس ومن منطلقات مختلفة·  وعلى هذه الديناميكيات ينبغي المراهنة لإعادة تكوين البينات العميقة للمجتمعات ومن وراء ذلك بناء المؤسسات الجديدة التي تتفق في أسلوب عملها ونتائجه مع حاجات العصر ومتطلباته·

وإطلاق مثل هذه الديناميكيات هو وسيلتنا نحو تنمية مؤسساتنا، أي إنشاء نمط مؤسسات تختلف عن تلك التي نعرفها اليوم، والتي تمثل تجسيدا دقيقا للمؤسسات البيروقراطية غير الحية وغير الفاعلة معا· وهذا ينطبق على مؤسساتنا الرسمية والمدنية على حد سواء·

بيد أن  ديناميكيات التحول الاجتماعي الخلاقة والتجديدية لا تفرض من فوق ولا تنطلق بأوامر رسمية أو شعبية· إنها تأتي كثمرة لتراكم العديد من العوامل المادية والسياسية والفكرية والنفسية· وهو التراكم الذي كثيرا ما يحصل في ظل إخفاق تاريخي لنمط المؤسسات القائمة، وفي مقدمها الدولة· وهذا هو الوضع الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم· لكن إخفاق المؤسسات لا يعني بالضرورة انفتاح أفق التجديد والابداع تلقائيا· فمن الممكن أن تكون نتيجته الفوضى والتخبط والخيبة، خاصة إذا كانت هناك أسباب خاصة لتفاقم الصراع المصلحي بين النخب المختلفة ولتفتت هذه النخب وتشوش وعيها· كما هو الوضع الآن بالنسبة للعديد من المجتمعات العربية التي سعرت فيها الثروة الريعية شهوة الاثراء والصراع اللامحدود على السيطرة وقلب الأوضاع الطبقية، في الوقت الذي تعيش فيه نخبها الثقافية حالة يرثى لها من التهميش والاحباط والعزلة والتفكك الفكري والنفسي· 

إن انفتاح آفق التجديد والابداع وبالتالي الاعداد لشروط انطلاق ديناميكيات تجديدية في المجتمعات العربية يتوقف على مقدرتنا على تربية إجيالنا على بذل الجهد وتقدير قيمة العمل الجدي والاحترافي المتقن وعلى التكوين العلمي والتقني الصحيح كما يتوقف على التربية المدنية والأخلاقية· فهذا هو ميدان التراكم الأساسي والضروري لاحداث طفرة حقيقية في حياتنا الاجتماعية ومؤسساتنا وإطلاق ديناميكيات تجديدية في المستقبل· ويقتضي السير على طريق الجدية والاستثمار في المستقبل والتكوين الصحيح لأجيالنا الشابة  تبني اختيارات ثقافية واقتصادية وسياسية وجيوسياسية صائبة وعقلانية· وهذا هو ميدان الصراع الفكري والسياسي في كل المجتمعات· وهو بالتأكيد ليس صراع محسوم سلفا في أي مجتمع وفي أي مكان· إنه التاريخ المفتوح على كل الاحتمالات· وإن حسم هذا الصراع بصورة ايجابية أو لصالح التوجهات الصحيحة يتوقف على قدرة كل منا على تحمل مسؤوليته ومشاركته الفعالة في مناقشة هذه الاختيارات وبلورتها والدفاع عنها·