نحن والغرب

2009-11-16::

  

1- أزمة العلاقات العربية الغربية

في تعليقه على أحد مقالاتي حول غزة طرح أحد القراء سؤالا وجيها قال: ما هو هذا الغرب الذي تتحدث عنه، وما مسؤوليته في ما يحصل عندنا من مآس. أليس ما تقوم به هو تحويل الغرب إلى مشجب نعلق عليه أخطاءنا ونقائصنا؟

يطرح هذا التعليق بالفعل سؤالين: كيف نحدد الغرب أو نعرفه اليوم؟ هل هو أوروبة، أوروبة وامريكا، وما الفرق بينهما واليابان أو الصين عندما نعرف الغرب بالسيطرة أو الهيمنة الاقتصادية والسياسية؟

ثم ما هي مسؤولياتنا في أوضاعنا وما هي مسؤوليات الغرب؟

السؤال الاول يطرح مشكلة بالفعل لأن الغرب مفهوم متحول ومتبدل. كان يشير إلى أوروبا الغربية في السادس عشر، ثم أصبح في القرن التاسع عشر والعشرين يشمل التحالف الامريكي الأوروبي. لكن مع تقدم حالة اليابان والهند والصين والبرازيل ودول عديدة أخرى انتقلت لتكون دولا صناعية مؤثرة، يفقد الغرب معناه، لأنه يفقد بالضبط مركزيته، أي كونه مركز العالم الحديث ونواته. فله اليوم شركاء وهو مهدد بشركاء أكثر، وربما بفقدان هيمنته التاريخية على العالم الحديث. لذلك هناك تشويش بالفعل في معنى الغرب في الوقت الحاضر. فهو يعني جزئيا التحالف الأطلسي الذي يمثل مفهوما جيوستراتيجيا مرتبطا بالسيطرة الاستراتيجية على العالم. لكنه يعني أيضا السيطرة الاقتصادية من خلال تطور الاقتصاد الصناعي وما بعد الصناعي المتقدم. وهو يشمل بذلك دولا كاليابان وغيرها. وهنا بدأنا نستخدم مفهوم الشمال لنمزه عن الغرب في الحديث عن السيطرة العالمية. والشمال مفهوم جيوسياسي واقتصادي لا علاقة له بالجغرافية الطبيعية. لكن للغرب أيضا معنى ثقافيا من دون شك، ويكاد هذا المعنى يكون الاكثر التصاقا اليوم بالغرب، تحت مسمى الحضارة الغربية التي تقف في مواجهة الحضارات الأخرى حسب التعبير المنتشر. والحال إن انتشار أفكار الغرب وقيمه لا يقل عن انتشار الصناعة والتقنية والعلوم التي ارتبطت بالغرب الحديث، وصارت صنو الحداثة.

إذن مشكل استخدام كلمة الغرب نابعة من أن الغرب يفقد معناه، مثل كلمة الغرب، بقدر ما يتوزع في كل مكان وينتشر ويفقد خصوصيته، بقدر ما يتحول إلى عالم أو يزرع أفكاره وانماط انتاجه في العالم.

أما السؤال الثاني، فهو صحيح أيضا. الغرب مشجب، إذا فهم على أنه المسؤول عما يحصل لكل منا ولعالمنا معا. لكنه ليس كذلك إذا نظرنا إليه نظرة عولمية شمولية. فالتحولات العامة لا يستقيم فهمها من دون الإشارة إلى سياسات الغرب بسبب استمرار مركزيته في السيطرة العالمية. لكن لا ينبغي النظر إلى عمل هذه السيطرة بصورة ميكانيكية. فليس كل ما يحصل هو ثمرة سيطرة الغرب، وإنما نتيجة أعمالنا نحن، سواء كنا مقاومين للغرب أو مسايرين لسيطرته. لكن ليس من الممكن أيضا أن نفهم ما يحصل من دون معرفة مركزية الغرب. حتى أخطاءنا نكتشفها نسبة للغرب، أي هي ثمرة خطئنا في فهم آليات عمل السيطرة الغربية التي تنحو إلى أن تكون أكثر فأكثر عولمية.

 

لا يحتاج المرء إلى جهد كبير حتى يدرك أن العلاقات العربية الغربية تمر بأزمة، أعمق من كل ما عرفته من أزمات سابقة. وبسبب تعدد مستوياتها وديمومتها أصبحت من أهم المشاكل الدولية التي تؤثر على حياة كوكبنا وتشكل محورا رئيسيا من محاور النقاش العالمي، إن لم تكن بامتياز المحور الأول فيه. يكفي للبرهان على ذلك مطالعة الصحف اليومية وإحصاء عدد المقالات والدراسات والكتب التي تصدر عن دور النشر الغربية والعربية، بل والعالمية، ومراقبة الندوات والمؤتمرات الدولية التي تخصص سنويا وفي جميع أقطار العالم للصراع بين الحضارات وحوار الثقافات والأديان، ومعاينة حركة الدبلوماسية الدولية التي تكاد قضية النزاعات المرتبطة بالشرق الاوسط تحتكر القسم الاكبر منها، من دون ذكر ما تنشره الصحافة اليومية المكتوبة والمرئية حول مسائل متعددة تعنى بتطور الفكر الاسلامي أو بعلاقة الاسلام والغرب، والاسلام والإرهاب، والإسلام والديمقراطية، والاسلام والحداثة، وبوضع الجاليات الإسلامية في الغرب، أو بتغطية النزاعات المتعددة الأبعاد والجوانب التي تجري في مناطق المسلمين أو تضعهم في مواجهة أعداء آخرين، وعلى رأسهم الاوروبيين، أفرادا وجماعات دينية، ودول وتكتلات.

 

يتهم الغربيون عموما العالم العربي والاسلامي باحتضان التطرف والإرهاب، المحلي والدولي، وتشجيع الحركات التي مارسته ولا تزال، في الداخل وعلى الصعيد العالمي. ويقدمون هجوم  11  سبتمبر 2003 وما نجم عنه من تفجير استهدف برجي مركز التجارة العالمي، مثالا قويا على خطورة هذه الظاهرة التي لن تكف عن الانتشار، كما تشير إلى ذلك العمليات اللاحقة التي أدمت العديد من العواصم الاوروبية، في باريس ولندن ومدريد وبرلين بعد واشنطن ونيويورك، في السنوات القليلة الماضية، بالإضافة إلى عمليات أخرى جرت وتجري في القارات الأخرى وتنسب إلى القاعدة.

ويشير هؤلاء في السياق نفسه إلى الصعود الكاسح داخل البلاد العربية والاسلامية لحركات الاسلام السياسي، الذي زعزع أسس استقرار الدول العربية والاسلامية التي تربطها بالغرب والعالم علاقات اقتصادية وسياسية واستراتيجية عميقة. وعزز الاعتقاد بأن الاسلام والعنف شيئان لا ينفصلان. ويمكن الإشارة هنا إلى سلسلة الاضطرابات والحروب الداخلية العنيفة التي أثارتها هذه الحركات، أو بعض أطرافها وفرقها، ذهب ضحيتها مئات الاولوف من الأبرياء، كما حصل في الجزائر ومصر والسودان ولبنان والمغرب والعربية السعودية والعراق والصومال والهند والفيليبين وأندونيسيا وباكستان وأفغانستان ونيجيريا، في العقد الاخير من القرن العشرين، كما يشيرون إلى ما خلفته النظم السياسية التي تدعي الاسلام من أزمات وطنية ودولية لا أمل في معالجتها، مثل ما هو حاصل في ايران الخميني وأفغانستان طالبان وصومال المحاكم الدينية وسودان البشير وباكستان مشرف وغيرها من البلاد التي أصبح العنف جزءا لا يتجزأ من حياتها اليومية.

كما يبرز هؤلاء في السياق ذاته اعتماد الحياة السياسية العربية الداخلية على العنف والانقلاب والمنازعات الدموية، وعداء نظمها السياسية للديمقراطية واستسلام مجتمعات العرب للديكتاتورية، وصمتها على الانتهاكات الخطيرة والدائمة للحقوق المدنية والسياسية للأفراد، وفساد النخب الحاكمة، وتقهقر شروط الحياة المادية والمعنوية. وما رافق هذا التقهقر في السنوات الماضية من تنامي معدلات الهجرة من العالم العربي إلى الغرب، وتزايد عدد الجاليات الاسلامية هناك ومعها الخوف من أن تتحول إلى غيتوات أو معازل مغلقة، وتنقل معها تقاليدها وأفكارها ونزاعاتها الأصلية إلى بلاد المهجر. وهذا ما دفع بالعديد من الدول الغربية، في الولايات المتحدة واوروبة إلى إصدار تشريعات تحد من حرية الأفراد، وتضع العرب والمسلمين في دائرة الشك المسبق والمراقبة الدائمة. فصارت متطلبات الامن في تناقض واضح مع مباديء الحرية الفردية والثقة المبدئية.

وعلى العموم يبدو العالم العربي والاسلامي في نظر الغربيين اليوم مصدر مخاطر وتهديدات أمنية واقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة وراهنة. فسيطرة التيارات الاسلامية على الحكم في هذه البلدان أو في بعضها تهدد مباشرة مصادر الطاقة التي يعيش عليها الاقتصاد الصناعي وبالتالي الغربي، كما تهدد الأسس التي قامت عليها العلاقات الماضية والنظام الدولي بأكمله. وبالإضافة إلى ذلك ليس هناك أي ضمانة أن لا تشكل الجاليات الاسلامية والعربية المقيمة في الغرب حاضنة للتيارات المتطرفة، ومنطلق لعمليات تزعزع الأمن والاستقرار فيها. وليس هناك ضمانة أيضا بأن لا يؤثر انتشار القيم والأفكار الدينية لدى قسم كبير من الرأي العام الاسلامي على الرأي العام الغربي نفسه، وأن لا تزيد الضغوط على قاعدة العلمانية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي في الغرب.

بالمقابل، لم يشعر العرب في أي حقبة سابقة بعمق الهوة التي تفصلهم عن الغربيين ونزاعهم معهم، بما في ذلك الحقبة الاستعمارية المظلمة كما يشعرون بها اليوم. ويبدو عداء الغرب لهم عداءا شاملا. فهو عداء ديني يرمي إلى تشويه صورة الاسلام وتقويض أركانه واستبداله بعقائد مادية أو دينية والمس بموقعه في النظام الاجتماعي باسم العلمانية. وعداء ثقافي يهدف إلى تغيير منظومة القيم والمعايير المرجعية والاختيارات الفكرية التي تنظم الحياة العمومية، ومن وراء ذلك تدمير الهوية العربية وقطع الطريق على إحياء الحضارة العربية الاسلامية، باسم الديمقراطية وحقوق الانسان. وعداء سياسي على النفوذ والتأثير المادي والمعنوي داخل المجتمعات. فيتهم الغرب بتحالفه مع النخب الحاكمة العربية والضلوع معها في تثبيت الأوضاع القائمة باسم الاستقرار، ومشاركته في بلورة السياسات الفاسدة واللاوطنية فيها، من خلال دعم السياسات القمعية أو ممارسة الضغوط الاقتصادية والعسكرية والسياسية أو حتى القيام بالانقلابات العسكرية. وعداء جيوسياسي يتعلق بسعي الغرب إلى الإبقاء على سيطرته الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وفي سبيل ذلك عمل كل ما من شأنه أن يحول دون تحقيق أي تكتل عربي، بل منع التفاهم البسيط والعادي بين النظم والأسر الحاكمة المتنازعة والمتنافسة على الاستمرار لأقصى فترة ممكنة في السلطة. وهو عداء إقتصادي يتعلق بنهب ثروات العرب ومواردهم الطبيعية، وفي مقدمها النفط، واستغلالها للسيطرة على العرب وحرمانهم من فرص التنمية والازدهار المادي. وهو اخيرا عداء عسكري يتجلى عبر الحروب العديدة التي تشنها الدول الغربية على العرب، مباشرة أو عبر وسيطها التاريخي والإقليمي الرئيسي إسرائيل، في فلسطين ولبنان والعراق والسودان والصومال وفي أفغانستان وغيرها.

وترتبط صورة هذا العداء الحاضر بذاكرة تاريخية غنية بالحوادث، فيبدو الصراع مع الغرب صراعا دائما لا يعبر عن سياق معين ولكنه يعبر التاريخ ويكونه. فهو يبدأ مع الغزوات الرومانية والبيزنطية، ويتجلى عبر حروب الاسترداد الكاثوليكية في إسبانيا والأندلس وطرد العرب منها، كما يتجلى عبر الحروب الصليبية التي استهدفت إخضاع المشرق العربي للسيطرة الغربية، ليتوج أخيرا بالحروب الاستعمارية التي أخضعت فيها العواصم الاوروبية دول المنطقة العربية وقامت بإعادة تشكيل خريطتها الجيوسياسية. وينتهي بإجهاض حروب التحرير الوطنية، وإشعال النزاع التاريخي المستمر منذ عقود طويلة، بدعم من الغرب وتغذيته، حول فلسطين، وما رافقه في السنوات القليلة الماضية من حروب وحشية ارتبطت بفكرة حل نظام الشرق الاوسط القديم وإعادة بنائه حسب حاجات تكريس السيطرة العالمية الأمريكية الغربية.

ومثل الغربيين، يعتقد القسم الأكبر من الرأي العام العربي بأن العرب يواجهون تحديات مصيريه. وفي مقابل الحرب العالمية على الإرهاب التي تبنتها الكتلة الغربية في مواجهة ما أسمته بالمخاطر المرتبطة بالاسلام استعادت فكرة الجهاد مكانتها في الفكر السياسي العام، واختلطت بفكرة الصراع الحتمي مع الغرب ومواجهة مخططاته. وهي المهمة التي تأخذ بعض الفرق الاسلامية المتطرفة على عاتقها مسؤوليه القيام بها.

تبدو القطيعة حاسمة ونهائية على جميع مستويات العلاقة بين العالمين. وبينما لا يكف العرب عن الشكوي من عداء الغرب لقضاياهم وتحططهم عليهم، واستهدافهم في كل الميادين الدولية، يتساءل الغربيون، عن أسباب كره العرب والمسلمين لهم. ولهم في ذلك مؤلفات وكتب ومواقف مشهورة[1].  فعلى الاسلاموفوبيا الغربية التي يتهم بها العرب وأنصارهم الموقف الأوروبي الشائع إزاءهم، يرد الغربيون بتهمة كراهية الغرب التي يعتقدون أنها نزعة متأصلة في الشعور العربي والإسلامي، ومنتجة لمشاعر وعواطف وأفكار وقيم تمنع العرب من التفاهم مع العالم وتحرمه من استيعاب قيم الحضارة بمقدار ما تدفعه إلى الانغلاق في دائرة الخصوصية القومية والمحورية الذاتية الضيقة.

 

2- أصل الصراع في النظريات الغربية والعربية السائدة

 حتى فترة قريبة كان العرب ومفكروهم يميلون عموما، انسجاما مع النظريات الاجتماعية السائدة،  إلى إرجاع هذه الازمة إلى أسباب سياسية واستراتيجية واقتصادية، ويرون فيها ثمرة لاستمرار الغرب في اتباع سياسات معادية لاستقلال العرب وسيادتهم، أو إلى تطبيق استراتيجيات تحرمهم من حقوقهم الوطنية والتاريخية في فلسطين وغيرها، أو ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية لتقسيمهم ومنعهم من تحقيق أهدافهم القومية في الوحدة والتقدم والسيادة. وربما كانت سياسة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش التي طبقتها الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط في الأعوام الثمانية الاخيرة برهانا على هذا الطرح الذي يحمل الغرب المسؤولية الرئيسية عن تفاقم أزمة العلاقات العربية الغربية.

ومن هذا المنظور الذي ينسجم مع مقاربات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة وتطبيقاتها في ميدان العلاقات الدولية ليست القطيعة التي تميز العلاقة بين العرب والغرب سوى التعبير عن صراع المصالح المادية والاستراتيجية. وربما وجد من يعتقد، أكثر من ذلك، بأن غياب المقدرة على التوصل إلى تفاهم حول المصالح القومية العليا، كما يحصل عادة بين القوى والتكتلات السياسية، يرجع إلى إسرائيل والمكانة التي تحتلها في نظام العلاقات الغربية، ومساعيها للايقاع بين العرب والغرب. وعلى جميع الاحوال كان العرب ولا يزال قسم كبير منهم يعتقد أن مشكلة إسرائيل والقضية الفلسطينية المرتبطة بها، هما أحد أهم عوامل التأزم في العلاقات العربية الغربية، وأن حل المسألة الفلسطينية وتحقيق السلام في المنطقة يشكل مدخلا مهما لتجاوز الازمة وبناء علاقات تعاون وشراكة حقيقية مع الغرب.

 وبالمقابل، وانسجاما مع تطور المدارس الانتروبولوجية الحديثة بدأت تنتشر في العالم الغربي، ثم في ما بعد في البلاد العربية نفسها، مقاربة ثقافوية تركز على أهمية اختلاف الثقافة والهوية في بناء العلاقات الاجتماعية والدولية، وتنزع إلى النظر إلى المجتمعات العربية على أنها تمثل حالة خاصة، تختلف عن غيرها من الحالات القومية، ولا تنطبق عليها مناهح العلوم الاجتماعية المعروفة، وهو ما أطلق عليه اسم الاستثناء العربي. فللعرب من هذا المنظور مناحي تطور خاصة لا تتفق مع ما عرف حتى الآن من مناحي تطور المجتمعات الحديثة.

تتغذى فكرة الاستثناء العربي من الشعور المتنامي عند الرأي العام الغربي بأن المجتمعات الاسلامية لا تتطور في الاتجاه الصحيح أو العام الذي يسيطر على اتجاه تطور البلاد الأخرى، ولذلك فهي تبدو وكانها تسير عكس اتجاه التاريخ. فهي لا تزال تتمسك بالعنف وتمارسه كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية وفلسفية، وتعود إلى الاستثمار المبالغ فيه في الدين في ما يتعلق بتنظيم الحياة الاجتماعية والدولية، وترفض الاعتراف بالتعددية والاختلاف، ولا تثق بالمعرفة العلمية كسبيل لفهم الواقع أو بلوغ المعرفة الموضوعية، وتنمي الاستبداد والطغيان، وتغيب عن حياتها العمومية كل أنواع الحريات المدنية والسياسية، وتستمر على السلوك حسب منظومات القيم والأعراف التقليدية، وترفض الاعتراف بقيم السلام والمساواة والأخوة الإنسانية، وتمارس التمييز بين الرجل والمرأة والأنا والآخر، ولا تشعر بالحاجة إلى التفاعل مع القيم العصرية، إنها باختصار تسير في عكس طريق الحداثة التي سارت عليه ولا تزال بقية الشعوب.

وهذا ما ينعكس على تعاملها مع الشعوب الأخرى، ورفضها منطق الحوار والاحتكام للقانون وبناء العلاقات الدولية على أسس التعاون والمصالح المتبادلة، وتبني بعض أعضائها أو قطاعات رأيها العام الأكثر تطرفا استراتيجيات إرهابية تستهدف استقرار المجتمعات الغربية وحرياتها وازدهارها. وهذا ما يثير الخوف والقلق عند هذه المجتمعات الغربية ويدفعها بالمقابل إلى اتخاذ مواقف وإجراءات تعكس هذا الخوف وتصب في ما أصطلح على تسميته بالاسلاموفوبيا أو عقدة الخوف من الإسلام.

هكذا يميل الغربيون اليوم إلى الاعتقاد، ليس على صعيد الرأي العام العادي فحسب وإنما البحث الاجتماعي أيضا،  بأن السبب الرئيسي لغياب إمكانية التفاهم مع العرب هو تناقض الثقافة العربية، وفي مقدمها نواتها الدينية، الاسلام، مع الثقافة الغربية السائدة. وهذا ما عبرت عنه أفضل تعبير، منذ نهايات القرن الماضي، نظرية صدام الثقافات أو الحضارات التي أطلقها صاموئيل هنتنغتون، والتي حظيت بانتشار لا مثيل له، ليس في الغرب فحسب وإنما في العالم أجمع، وفي البلاد العربية والاسلامية أيضا.

ومع تراجع مكانة الايديولوجيات العصرانية، القومانية واليسارية، بدأت الطروحات السياسية والاجتماعية تنحسر في العالم العربي أيضا لصالح هذه الطروحات الثقافوية التي تركز على تعارض الثقافات ومنظومات القيم والنماذج الحضارية. وتتفق هذه الطروحات مع الايديولوجيات الاسلاموية السائدة اليوم، والتي تؤكد على الاختلاف الحضاري، من خلال تركيزها على خصوصية الثقافة أو الحضارة العربية، ومراهنتها على العودة إلى الأصول بوصفها الاستراتيجية الوحيدة الناجعة لمقاومة نزعة الاستلاب للغرب، والتحرر من سيطرته الثقافية والسياسية، وبناء المقاومات القوية القادرة على مواجهته والتصدي لسياساته العدوانية. وتكاد هذه الحركات تكون الاكثر استهلاكا لطروحات صدام الحضارات، واستلهاما لها في سياساتها وممارستها اليومية. فأهم ما يهدف إليه الغرب من سياساته العدوانية وسيطرته على العالم العربي والاسلامي يكمن في نظرها في محارية الهوية العربية الاسلامية، ونزع الشخصية، من أجل استرجاع الشرق إلى الأملاك الغربية، كما كانت تهدف الحروب الصليبية. فلا ينبع العداء للعرب من مطامع جزئية أو من صراع على مصالح مادية او استراتيجية وإنما من رهانات كلية، تتعلق بالوجود نفسه، أي الوجود الحضاري. ولذلك فهي لا ترى الأزمة من منظار الحاضر والنزاعات المرتبطة به، وإنما تنظر إليه كاستمرار  لصراع حضاري طويل، بدأ مع نشوء الاسلام، ولا يزال مستمرا إلى اليوم، مرورا بالحروب الصليبية، ثم الحروب الاستعمارية، واليوم حروب فلسطين والعراق والسودان والصومال وغيرها من الحروب التي أشعلها الغرب ولا يزال يغذيها في اكثر من بلد عربي أو إسلامي.

ينجم عن ذلك أن الصدام مع الغرب والصراع معه قانون تاريخي لا فكاك منه. وأن المقاومة والممانعة هي الطريق الوحيد للحفاظ على الهوية والسيادة والحقوق التاريخية. طريق التحرر من الاستلاب الثقافي والسياسي والتبعية الاقتصادية والعودة إلى الحلول الأصيلة المستمدة من ثقافة المسلمين ودينهم وتقاليدهم. فالصراع السياسي القائم بين العرب والغرب يخفي في نظر التيارات الاسلامية السائدة، كما هو الحال في الغرب، صراع وجود بين ثقافتين ودينين، أوهذا معنى الصراع بين حضارتين. وهو بالتالي صراع مفتوح على الزمان والمكان، من دون حدود، بمقدار ما أن الحضارات تجسد تشكيلات جيوثقافية ثابتة تتجاوز التاريخ وتعبر الحدود الجغرافية لتؤسس لأنماط حياة وتفكير وأذواق ومشاعر متباينة هنا وهناك.

ومن الطبيعي أن يؤدي اللقاء حول فكرة صدام الحضارات وصراع الاديان بين الطرفين الغربي والعربي إلى تفاقم الأزمة واستفحال القطيعة. فهي تقدم لهما ايديولوجية جديدة تغذي الشعور بأن الصراع القائم بين العرب والغرب ليس صراعا مؤقتا ولا عابرا، ولا يتعلق بمصالح محددة يمكن حصرها وتعيينها، وبالتالي التفاوض من حولها، وإنما هو صراع دائم، يدور من حول الوجود بأكمله بمقدار ما يمس الهوية، أي الدين والثقافة والقيم الخصوصية والذاتية. ومن هنا لم يعد الصراع خيارا من بين خيارات عدة، وإنما أصبح أمرا مفروضا، وبالتالي واجبا لا يمكن تجاوزه ولا الالتفاف عليه. من هنا كان لا بد أن يلتقي أصحاب عقيدة صدام الحضارات على استنتاج مشترك وهو حتمية الحرب والجهاد. فكما يبين صاموئيل هينتغتون هدفه بوضوح في نظريته عن صدام الحضارات، وهو أن يعرف الغرب أن الحرب مع عالم الاسلام حرب حتمية لا يمكن تجنبها ولا بد من الاعداد لها منذ الآن، لا يخفي أصحاب عقيدة الجهاد من السلفيين المحافظين بأن الجهاد واجب ديني، لا اختيارا سياسيا، وأن القيام به هو جزء من العقيدة، وفريضة بقيت غائبة لفترة طويلة ولا بد من إحيائها والعمل بها حماية للمسلمين ودفاعا عن دينهم وعقيدتهم، وتحقيقا للوعد الإلهي بالنصر. فالصراع بين الغرب والعرب المسلمين مطبوع في بنية التاريخ ومنطقه العميق، وجزء من مفهوم الغرب والشرق الاسلامي والعربي وعلاقتهما الأبدية، لا يمكن أن ينفصل عنهما.

في منظور هذه القراءة التاريخية، تبدو الامور مفهومة وواضحة وبسيطة. بل إنها تفسر نفسها بنفسها، ولا تطرح أي مشكلة على البحث الاجتماعي. فالصراع يقدم نفسه منذ البداية على أنه بديهة عقلية. الغرب غرب والشرق شرق ولا يمكن أن يلتقيا. بالعكس، إن تصور نمط آخر من العلاقات بين الغرب والشرق هو الذي يطرح في هذه االحالة مشكلة، لأنه لا يجد أساسا يقوم عليه، بعد أن بين التاريخ في الماضي والحاضر، وجود هذه العلاقة العدائية واستمرارها. وهذا هو إنطباع الانسان العادي الذي يميل إلى التعميم السريع وينزع إلى تبني التفسيرات الجاهزة.

بيد أن هذا ليس موقف الباحث العلمي الذي لا يؤخذ بالمظاهر السطحية، ولا يبني موقفه على تعميم الملاحظات الجزئية أو التفسيرات البسيطة او المبسطة التي تحل التناقضات والنقائص في المعرفة التاريخية بتعديد الأمثلة التاريخية. بالعكس تبدو هذه القطيعة العميقة التي يعيشها العرب على مستوى وعي العلاقة مع الغرب استثنائية من نواح عديدة، لأنها مناقضة للوقائع المادية ولمنطق التاريخ في الوقت نفسه. من هنا تطرح إشكالية التأويل العلمي، ليس من حيث هي إعادة قراءة الوقائع وتأويلها، وإنما لما تحمله من مخاطر الخلط بين تفسير التاريخ وتبريره بذريعة ايجاد الاتساق والانسجام غير الموجود أصلا فيه. وهذا ما يحصل عادة عندما يخفق المؤرخ في إدراك الطابع الاستثنائي وأحيانا المركب والمفارق للظواهر التي يسعى إلى تفسيرها.

فأين يكمن العادي، أي التاريخي، الذي ينسجم مع منطق التاريخ وقوانينه العادية، في هذا الصراع بين العرب والغرب، في تطور العالم العربي، وأين يشكل هذا التطور، بالعكس، ظاهرة استثنائية تتجاوز السياقات التاريخية ومنطق العلاقات الدولية العادية، وبالتالي تظل مستعصية على الفهم وخارجة عن نطاق السيطرة والتغيير والتبديل ؟ أين يكمن الصراع الذي لا مهرب منه والمتعلق بالدفاع عن الهوية والوجود وأين يكمن الصراع الذي يدور حول موارد ومواقع ومكتسبات، ويمكن أن تحصل من حوله تسوية تاريخية؟  في الإجابة على هذه الأسئلة تتحدد إمكانية أو عدم إمكانية الخروج من الصراع أو تقييده وإصلاح العلاقات العربية الغربية أو تحسين للتواصل بين الجماعتين.

 سأحاول أن أبين في هذه المحاضرة نطاق عمل القراءتين، تلك التي تركز على الصراع بين حضارتين في سبيل الحفاظ على شخصيتهما وكيانهما، وتتجاوز الحيثيات التاريخية، وهي التي تنبع من رؤية خصوصوية، وتلك التي تنظر إلى الصراع من زاوية النزاع على موارد ومكاسب مادية أو استراتيجية، وترتبط بسياقات تاريخية، وترتبط برؤية كونوية تخضع فيها الحوادث والعلاقات بين الجماعات لقوانين او قواعد واحدة. وليس هناك في نظري ما يدعو إلى أن تنفي واحدتهما الأخرى. لكن حتى يستقيم ذلك ينبغي من جهة إعادة النظر في مفهوم الحضارة والحضارات، والنظر إليه من زاوية مختلفة ونسبية معا، بحيث لا يبقى تعبيرا عن هوية أو ماهية ثابتة وإنما عن نزوع وميل لا ينفصلان هما أنفسهما عما يطرأ في التاريخ العالمي من تحولات وتبدلات تؤثر في الهوية والثقافة وتعيد توجيههما. وبالمثل لا ينبغي النظر إلى الصراع التاريخي على أنه مجرد طمع في الموارد وسطو على ثروات الآخرين أو تحسين مواقع استراتيجية وتبؤ سدة السيادة العالمية، وإنما ينبغي وضع هذا الصراع في سياق صراعات المدى الطويل المرتبطة لا محالة بالتباينات الثقافية.

بذلك نستطيع أن نفسر في الوقت نفسه القطيعة العميقة التي تميز العلاقات العربية الغربية اليوم، وتتجلى في صورة الحرب الجهادية والحضارية، بوصفها ثمرة تحولات تاريخية معاصرة تخص الحقبة التي نعيش، وما حصل بين العرب والغربيين فيها منذ الحرب العالمية الثانية. وهو ما يمكن أن نسميه تحليل مدى القصير. ثم وضع هذا النزاع التاريخي الراهن نفسه في سياق الصراع الطويل بين عالمين يتنافسان داخل الحضارة الواحدة على الموارد المادية وغير المادية، وبالتالي على الهيمنة التي تمكن من السيطرة على هذه الموارد أو جزء منها في منطقة مركزية للحضارة الكونية الكلاسيكية. وهكذا يصبح من الممكن والضروري ربط الأزمة السياسية التي طرأت على العلاقات العربية الغربية، وفجرت الرغبة المتبادلة في الحسم، تحت اسم الحرب الحضارية أو الجهادية او الصليبية، كما عبر عن ذلك الرئيس الامريكي جورج بوش في أولى خطبه المتعلقة بحرب العراق عام 2003، بأزمة الهوية التي يشهدها العالم العربي وتعبر عنها بشكل أقوى التيارات الاسلاموية والقومية، وردة الفعل الواسعة في أوساط الرأي العام ضد القيم والأفكار والمظاهر ومعالم الحداثة لصالح العودة إلى التراث والتقاليد باعتبارها السياج الواقي من الاستلاب للغرب او السقوط في الجاهلية.

هذا هو المدخل الضروري الذي يمكننا من الإجابة عن السؤال الأهم المتعلق بنوعية الرد الامثل على الأزمة من طرف العالم العربي، وما هو أسلوب التعامل الامثل مع الغرب، كما هو، ثقافة وسياسة واقتصادا، وما معنى الخصوصية ودور التراث القديم والحديث معا في بنائها، كمقر لذاتية سيدة ومستقلة لا غنى عنها لتكوين أو إعادة تكوين العرب كفاعل تاريخي حضاري في الوقت نفسه.

 

3- العرب والغرب: الأفكار الشائعة والواقع

تثبت الدراسة التاريخية المتأنية للعلاقات بين العالمين أن النزاع الذي اتخذ حسب الحقب أشكالا مختلفة، عسكرية ودينية وسياسية واستراتيجية، لم يكن صراعا دائما على طول التاريخ. وإنه حتى عندما كانت العلاقات نزاعية استمر التفاعل والتبادل والتواصل والتأثر والتأثير المتبادلان مستمرا ونشيطا بينهما. فالحروب بالتعريف مؤقتة لا يمكن أن تشغل تاريخ العلاقات بين الجماعات والامم. وإذا كان العداء السمة الغالبة على العلاقة بينها في هذه الفترة او تلك، فالتعاون أو التبادل هو السمة الغالبة في حقبة أخرى. كما أن الحرب والصراع عموما لا يمنعان من استمرار التعاون والتفاعل والتبادل بين الثقافات والشعوب، وهو ما نعيشه كل يوم من دون ان ندركه او نعيه. فالعداء لا يغير الوقائع التاريخية العميقة ولا يمنع الإعجاب بالخصم أحيانا وتقدير خصائصه ومنجزاته وفنونه، بل والاعتراف بتفوقها أو بأسبقيتها. ومن هنا لا يشكل العداء إلا جزءا من الصورة، إما الجزء الثاني فهو الاندراج في الغرب والالتحاق العملي به.

ولذلك، بعكس ما تشيعه الايديولوجية السائدة في الغرب والشرق معا، أي ايديولوجية المحافظة الجديدة والسلفية الاسلامية، لم يكن العالم العربي أقرب إلى الغرب مما هو عليه اليوم، في أنماط تفكيره واستهلاكه وتحالفاته الاستراتيجية والسياسية. ولا ينبغي للشعور الساحق بالعداء للغرب وسياساته، وهو حقيقة قائمة، أن يمنعنا من ملاحظة سيطرة الليبرالية وقيمها، ولو كان ذلك في صورتها الأكثر انحطاطا وابتذالا، في ميدان الحياة العملية، في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وفي المعارضة والدولة على حد سواء. ولا تشكل السلفية الدينية إلا آلية دفاعية، أو حجابا، يجنبنا مواجهة الحقيقة المرة، أعني تناقض الممارسة والواقع مع المباديء والأفكار والالتزامات الأخلاقية. وهو ما يعبر عنه أفضل تعبير وضع القضية الفلسطينية، حيث يتم استعمار فلسطين الثاني وانتزاعها من أيدي العرب، في ظل سيطرة خطاب جهادي لم يعرفه العالم العربي في أي حقبة سابقة.

وتأويل ذلك أن منطق الحياة اليومية وزمانيتها لا يتطابقان مع منطق الصراعات الجيوستراتيجية بل الاستراتيجية الكبرى وزمانيتها. إذ أن النزاع على السيطرة، أو مقاومة الخضوع والاستسلام والهيمنة، لا يقضيان على الحاجة إلى تأمين متطلبات الحياة اليومية، حسب ما يقتضيه العصر، وعلى ضوء قيمه ورمزياته، ولا يشكلان بالتالي وبالضرورة، الانشغال الدائم للجماعات والأفراد، لا في الشمال ولا في الجنوب. فمنطق الصراعات الجوستراتيجية يعمل في الخفاء وعلى مدى طويل، ولا يدخل في حسابات الناس الذين يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، ويخضعون في تفكيرهم لمنطق سد حاجاتهم اليومية الضاغطة. ولم تمنع الصراعات الجوستراتيجية العميقة من نشوء أسواق مشتركة، وتبادل السلع، بل ونسج علاقات صداقة وزواج حميمية بين شعوب ضفتي المتوسط، حتى في أحلك ظروف الحرب والقتال، كما يدل على ذلك تاريخ العلاقات بين المسلمين وسكان الممالك الصليبية في القرون الوسطى.

وهذا ما ينطبق أيضا على وضعنا الحالي. فلا يمنع العداء المتبادل بين العرب والغربيين عموما تبادل المصالح والمنافع، ولا استيراد السلع من الغرب وتصدير السلع العربية للغربيين. وأكثر من ذلك لم يمنع الصراع بين العرب والاسرائيليين، وهو صراع ثقافي وسياسي وعسكري استراتيجي، نعيشه يوميا وبشكل حي، بعكس الصراعات الجيوسياسية التاريخية، من أن يعيش العرب بأغلبهم حياتهم الطبيعية، ويتبادلون في كل الميادين مع الدول التي تدعم إسرائيل علنا، بل يوقعون معاهدات دفاعية معها، في الوقت الذي لم تتوقف المعارك في داخل فلسطين ومن حولها، ولا تزال حركة الاستيطان الاستعماري في اتساع مستمر. بل لم يمنع العداء العميق والقطيعة الكاملة النفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي نشأت بين العرب وإسرائيل منذ قيامها عام 1948 من إقامة بعض الدول العربية علاقات دبلوماسية مع تل أبيب وفتح سفارات لها، واستقبال قادتها وزعمائها.

وليس للتأثر بالغرب علاقة ضرورية بالتنكر للهوية، ولا للعداء له بالضرورة علاقة بالوطنية. ولا ينبغي علينا أن نطابق ببساطة بين المواقف النظرية التي يتخذها البعض، وما يجري في الممارسة العملية. فالعداء للغرب لا يمنع بالضرورة من الخضوع له والتكيف مع سيطرته، تماما كما أن التعلق بثقافة الغرب أو الدفاع عن الايجابي منها لا يحكم على أصحابهما بالعمالة للغرب أو الخضوع لأوامره. بل من الممكن القول إنه في ما وراء المواقف المختلفة والمتمايزة، تفرض الوقائع أنماطا من العلاقة غالبا ما تكون مخالفة للموقف النظري أو الشعور السائد. فتثمين النهضويين والاصلاحيين العرب والمسلمين للتراث العلمي والتقني والأدبي والفني للغرب قد دفعهم إلى النشاط والاجتهاد من أجل بناء ثقافة عربية حديثه مستقلة عن الغرب ومناظرة له.  وطور لديهم شعورا بالندية يكمن في أساس النهضة الفكرية والأدبية التي لا نزال نرجع إليها في مشاريع تطوير حداثتنا الثقافية.

وبالمثل، لم يمنع الأخذ بمفاهيم الدولة والسياسة والوطنية القوميين والليبراليين العرب والمسلمين في القرن الماضي من بذل الجهود لاقتلاع جذور الاستعمار والعمل ضده. فقد كان ذلك شرطا للنجاح في إقامة دول مستقلة وذات سيادة وتبني نظم التعددية والديمقراطية لإضفاء الشرعية القانونية عليها. ومن دون التمسك بمفاهيم الحداثة السياسية ما كان من الممكن تصور مشروع دولة وطنية ديمقراطية وتعددية تستمد سلطتها من الشعب، وإنما عودة إلى الصيغة التقليدية السلطانية، بما يفترضه ذلك من صراع لا ينتهي بين القوى المتنازعة على إقامتها والسيطرة عليها وإخضاعها لحاجات الهيمنة الدينية. وبالعكس، تشهد الحقبة الراهنة، التي تسود فيها نظرة الرفض الشامل لثقافة الغرب وحضارته وسياساته الاستعمارية معا، خضوع العالم العربي والاسلامي بشكل لم يسبق له مثيل للغرب وتبعيته له، في اقتصاده وأمنه وعلمه وتقنيته وأدبه وثقافته أيضا، وانتشارا واسعا لأنماط المعيشة الغربية، من استهلاك ونماذج تسلية وترفيه ومناهج تربية ولغات يتجاوز تداولها أكثر فأكثر ميدان التعليم الخاص أو العالي ليدخل في صميم العلاقات العائلية والرسمية. ولم يعرف العالم العربي فترة كان فيها الاعتماد قويا على الغرب في ضمان الأمن والاستقرار في المنطقة كما هو عليه ا ليوم، ولا كان الاعتماد المتبادل في الاقتصاد والمال مثل ما هو عليه في الحاضر. ولم يكن النزوع إلى نقل حضارة الغرب ومؤسساته العلمية والفنية ومراكز ابحاثه أكبر في العالم العربي مما هو عليه الآن، حتى أصبح هناك بالفعل خطر على التعليم الرسمي الجامعي أمام منافسة فروع الجامعات الأجنبية، بل على استمرار اللغة العربية كلغة للمعرفة العلمية والبحث. وتدرج سياسات العولمة الاقتصادات العربية بشكل سريع في الاقتصاد الدولي والغربي منه بشكل خاص فتحل الشركات الصناعية والتجارية الكبرى في المحل الأول من بين الشركات العاملة في بلداننا بينما ينمو حجم استثماراتنا في الخارج ليصل إلى أكثر من 2 ترليون دولار قبل الأزمة المالية العالمية التي أبرزت هي نفسها درجة ارتباطنا بالغرب أيضا وبمنظومته المالية.

وكما أن نخبنا السياسية لا تجد مفرا من وضع نفسها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في حماية الدول الكبرى الغربية للاحتفاظ بسلطانها والاستمرار في السيطرة على مقاليد أمور شعوبها، لا تجد معارضاتنا من معين لها ولا كفيل سوى تلك الدول نفسها أو بعض المنظمات والقوى السياسية والمدنية التابعة لها. باختصار نحن نرفض الغرب ونكرهه أكثر مما كنا نفعل في أي حقبة سابقة، ونعتمد عليه ونقلده ونحذو حذوه ونتعبد إله كما لم نفعل في أي وقت مضى.

وبالمثل، لا يمكن لمفهوم صراع الحضارات أو الثقافات أو الأديان أن يقدم أي نظرية جدية في تفسير العلاقات التاريخية بين الأمم والجماعات. فهو ينفي منذ البدء وحدة الإنسانية التي تشكل القطب الثاني الذي يعمل مع الخصوصية والتفرد والتعدد في بناِء أي جدلية تاريخية. كما يجعل من البشر رهائن حضاراتهم، وهي تركيبات نفسية وثقافية تبدو وكأنها آلية حتمية تتحكم بهم، وتوجههم من دون علم منهم، وتقرر في مكانهم اختياراتهم الأساسية.

ويكفي الخروج من مثال المواجهة العربية الغربية، والانطلاق في تحليل العلاقات بين ما يسمى الحضارة العربية والهندية والصينية حتى يدرك المرء خطأ هذه المقاربة القائمة على افتراض حتمبة صراع الحضارات نتيجة اختلافها، بل على افتراض وجود مثل هذه الحضارات المستقلة والقائمة بذاتها التي تحبس المجتمعات في تاريخهم الخاص وتحرمهم من إمكانية التفاعل مع منتجات الحضارات الأخرى وفهم قيمها وآدابها.

وأكبر برهان على خطأ هذه المقاربة ما نلاحظه من انعدام أي عداء أو شعور بالعداء بين ما يسمى بالحضارة العربية وهذه الحضارات الأسيوية أو الروسية أو الأفريقية اليوم، وهذا ما لم يكن سائدا في الحقبة القرسطوية عندما كانت آسيا تتعرض لضغوط قوية، سياسية ودينية، من عالم الاسلام . وبالمثل لم يكن عداء العرب والمسلمين منصبا على الغرب في نهاية الحقبة العثمانية. بل لقد تطلع العرب إلى التحالف الاستراتيجي مع الغرب في مواجهة الاضطهاد والظلم الذين بدؤوا يشعرون بهما بعد انحسار قوة السلطنة العثمانية ودخولها في عملية تحول إلى امبرطورية استعمارية.

 

4- التحدي التاريخي للغرب

لفهم المشكلة ينبغي أن نعود إلى تحليل مفهوم الغرب ومفهوم العرب والمسلمين، او ما أطلقنا عليه اسم نحن، وننظر ماذا نعني بهما بالضبط عندما نتحدث عن عداء وقطيعة وصراع.

هناك في مفهوم الغرب جوانب متعددة ليست بالضرورة متطابقة، ولم ينظر إليها العرب على أنها متطابقة في أي وقت. فهناك غرب الثقافة بما تشمله من آداب وفنون هي اليوم أحد موارد الحياة الفكرية والفنية العربية، ونماذج يقتدى بها. وهناك غرب المدنية وما تمثله من أنماط في تنظيم المجتمعات السياسي وفي الانتاج وفي القانون وفي الإدارة وفي البحث العلمي والتجديدات التقنية. وهناك غرب المجتمعات وما تتميز به من خصائص وتقسيمات وعلاقات وقواعد عمل وأخلاقيات عمومية، وهناك أخيرا غرب الجغرافية وتضاريسها الطبيعية. ولا أعتقد أن أيا من هذه الجوانب هي التي يشعر العرب بالتناقض معها أو العداء لها مهما كان اختلافها مع أشكال ونماذج مدنيتهم الخاصة، المادية والعقلية.

عندما نتحدث عن العداء مع الغرب فنحن لا نقصد إذن حضارة مختلفة عن حضارتنا، ولا علوما وتقنيات وآداب وفنون لا يضيرنا استلهام الكثير منها واستعارتها، ولا سلع مادية لا نتردد في استيرادها كاملة. ولا يطرح علينا هذا أي مشكلة في ما يتعلق بهويتنا أو ثقافتنا، أو هكذا يبدو لنا على الأقل، وربما شعر كثير منا بأنها تثرينا وتغني فكرنا وثقافتنا. ولا نقصد كذلك بالتأكيد الجغرفية الطبيعية التي يسر الكثير منا التعرف عليها والسياحة فيها، بل ولا سلوك الأفراد الذين قال عنهم محمد عبده بعد زيارته لباريس: رأيت في فرنسا مسلمين ولم أر إسلاما بينما لا أرى مسلمين في الشرق وإن وجد الإسلام، مشيرا إلى حضور أخلاقيات يعتبرها من صميم الإسلام مثل الصدق والامانة وحب المعرفة في الغرب وغيابها بين المجتمعات الشرقية. إن ما نقصده عندما نستخدم الغرب في معنى المنازعة والصراع هو غرب السيطرة الأجنبية والإمبريالية في أشكالهما المختلفة، المادية وغير المادية. ولهذه السيطرة تاريخ يمكن عرضه والتعرف عليه، يختلف عن تاريخ الغرب الكامل. وهذه السيطرة، وما تستند إليه من عقلانية أداتية وقوة تقانية وأنماط تنظيم إقتصادية وسياسية، ليست السمة الطبيعية والمباشرة لحضارة الغرب أو لثقافته كما يدعي الغربيون أنفسهم. فلم يكن الغرب مسيطرا في كل وقت، ولا بشكل خاص في حقبة القرون الوسطى التي كانت بامتياز حقبة السيطرة العربية الاسلامية. إن لهذه السيطرة قاعدة سياسية هي الدولة الأمة التي ظهرت في فترة محددة، ونمط إنتاج رأسمالي صناعي، وأشكالا من الوعي والايديولوجية القومية والإمبريالية الخاصة. أي أنها ارتبطت ولا تزال بنظام مجتمعي تعرض له الباحثون الغربيون بالشرح والنقد أكثر مما قمنا به نحن أنفسنا، وثار قسم كبير من الرأي العام ولا يزال يثور عليه[2].

والأمر الأهم من ذلك هو أن غرب السيطرة والتفوق والنزاع هذا لم يشكل مشكلة للعرب والمسلمين وحدهم وإنما كان ولا يزال منذ قرنين على الأقل التحدي الأعظم لجميع سكان الأرض، والشغل الشاغل لكل المجتمعات غير الغربية، ولا تزال مشكلة سيطرة الغرب العالمية قائمة إلى اليوم بأشكال تختلف ربما عن تلك التي سادت في القرن التاسع عشر، لكنها لا تقل عنها حدة وانتشارا. وهذا هو الذي جعل من التحرر من سيطرة الغرب محور التاريخي العالمي الحديث بأكمله والمحتوى الرئيسي لتاريخ جميع الشعوب والجماعات غير الغربية بامتياز. فنحن لسنا الوحيدين الذين نعاني من مشكلة مع الغرب وإنما العالم بأكمله.

والسبب في ذلك ليس حضارة الغرب العدوانية، كما نصفها عادة، ولا تسامح حضارتنا الاسلامية كما نعتقد أو بدائية ثقافتنا العربية كما يفترض خصومنا، وإنما تطور نمط من المدنية الحديثة التي رفعت من شأن الغرب ومقامه العالمي بمقدار ما زادت من قدراته المادية واللامادية، وعززت من وحدته السياسية، وأطلقت مخيلة أفراده الابداعية في جميع الميادين.

من هنا ليس ما نعنيه بالغرب موضع البحث خصوصية حضارية، ولا تجمعا أو تكتلا لدول معينة، ولا نوعا من السياسات والاستراتيجيات القومية او القارية، ولا أخلاقيات شيطانية، وإنما هو ببساطة الغرب الحديث، أو الغرب المنبعث من جديد على أيدي الحداثة، والخارج من قرون وسطى مظلمة كنا شركاءه فيها، ومتفوقين عليه في إغنائها والسيطرة عليها. ونستطيع أن نلخص مقومات هذه المدنية الحديثة، أو الحداثة، التي تشكل الطور المتقدم من الحضارة الانسانية الواحدة في مجموعة من القيم والإشكاليات وأنماط الانتاج والتنظيم والإدارة الجديدة، يقف على رأسها الفرد والأمة والرأسمالية والتقانة والمعرفة الاجرائية والعملية والعلمانية والعصرانية.

ارتبط صعود الغرب وسيطرته منذ القرن السابع عشر بنشوء نظام اجتماعي، وبالتالي فكري وسياسي واقتصادي،  شكل في الغرب نفسه قطيعة مع نظام القرون الوسطى. وبوصفه كذلك أصبح يشكل أيضا تحديا لجميع تلك المجتمعات التي لا تزال تعتمد في تنظيم شؤونها وإدارة نفسها على قواعد النظام القديم. وكان من الطبيعي أن يرتبط تطور هذا النظام بتغير مضطرد في خريطة توزيع القوة والموارد الدولية، وبالتالي في إعادة ترتيب السيطرة والسيادة العالميتين. وهذا هو جوهر ما يعنينا هنا، أقصد العلاقة بين نشوء نموذج مجتمعي جديد وتبدل نمط العلاقات الدولية، لغير صالح العرب وباقي الشعوب الأخرى.

وفي سياق هذا التحدي الذي وجهه صعود الغرب وتقدمه إلى المجتمعات غير الغربية يمكن تحليل معنى مفهوم العرب اليوم ومضمونه، كما نستخدمه في هذه الإشكالية. فبمقدار ما يعني الغرب نشوء نظام مجتمعي جديد ساهم في إعادة بناء السيطرة الغربية وترتيب مسائلها وترسيخها، عنى ولا يزال يعني تفكيك النماذج الاجتماعية القديمة، وبعثرة المدنيات التقليدية، ومنها المدنية الاسلامية التي ضمنت وحدة العرب وسيطرتهم الداخلية والخارجية لحقبة سابقة، كما يشير إلى ذلك ماديا انهيار الامبرطورية المغولية في الهند على يد القوى البريطانية، وخضوع البلدان الاسلامية في آسيا الوسطى لروسيا الغربية الصاعدة، ثم تحلل الامبرطورية العثمانية، وتفتتها وزوالها تحت ضربات الدول الغربية العسكرية والسياسية والاقتصادية أولا، ثم على يد الأتراك القوميين أنفسهم في المرحلة الثانية.

فكما تشير كلمة الغرب اليوم إلى مفهوم السيطرة والمكانة العليا والتفوق والانتاج والابداع والوحدة والإجماع الذي تجسده الحياة الديمقراطية، والوحدة الأطلسية، تشير كلمة العرب والمسلمين المرتبطة بها إلى مفهوم التبعية والمكانة الدنيا، والكسل والاستهلاك، وغياب الروح الابداعية، والتشتت والفردية، التي يجسدها أفضل تجسيد الاستبداد بالرأي على مستوى الاسرة والعائلة والشركة والمؤسسة والجمعية والدولة معا، وبالتالي انعدام أي دينامية توحيدية وتنظيمية.  فما يميزنا نحن العرب، الذين أخفقنا في تجاوز وضعيتنا الدونية، وإعادة بناء مدنيتنا المنحلة والتابعة على أسس الحداثة، هو غياب الأنا كفاعل تاريخي جمعي واع ومستقر، والعجز عن تجاوز هذا التفكك والتشتت والتشرذم الذي يشكل أساس تبعيتنا ودونيتنا معا. فانقسامنا هو الهوية الوحيدة التي تجمعنا، واختلافنا على الموقف من الغرب يشكل أساس حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية. فنحن لا نوجد بأنفسنا وإنما بالغرب وللغرب، أي عبر السيطرة الغربية وبواسطتها. مما يعني أننا فقدنا بالفعل مقوماتنا الذاتية. وهذا غاية الضياع والسلبية.

من هنا لا تشكل العلاقة مع الغرب إحدى المسائل الرئيسية التي تشغل حياتنا الفردية والوطنية وتشكلها، في العالم العربي، بل في العالم كله فحسب، ولكنها تحولت اليوم إلى شرط تفكيرنا وعملنا معا، بحيث لم يعد من الممكن فهم تطور نظرتنا لأنفسنا وللعالم وفهمهما والتعامل معهما من خارج هذه العلاقة البنائية التي تربطنا ومجتمعات العالم جميعا بالغرب. وسبب ذلك أن الغرب بالمعنى الشائع الذي نستخدمه، أي الغامض والشامل والمشوش معا، ليس مجتمعا آخر وليس آخر ككل الآخرين، كما أنه ليس ثقافة مغايرة لثقافتنا، ولا نمط حياة تختلف عن أنماط حياتنا فحسب. ولو كان كذلك لما شغلنا ولا استبد بتفكيرنا ولا فرض علينا أن نعيد تعريف هويتنا وتكييف ثقافتنا وتعديل سلوكنا بما يجعلنا ننسجم معه. ولكان وضعه لا يختلف بالنسبة إلينا عن وضع الصين أو الهند أو أفريقيا التي تضم جميعا ثقافات أكثر مغايرة لثقافتنا، وأكثر بعدا في معاييرها وقيمها عما ورثناه عن أجدادنا. إن الغرب أصبح بالنسبة لنا آخر وذاتا في الوقت نفسه، وهذا ما يميزه عن المجتمعات والثقافات والحضارات الأخرى. ذلك أن ما يميزه ويميز علاقتنا به ليس اختلافه ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا عنا وإنما امتلاكه لمعايير الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد السائدة في عصرنا بقدر ما شكل مركز الطفرة الحضارية الحديثة ويحتضن مرجعية أي حداثة إضافية، عربية كانت أم صينية أم هندية أم روسية. فنحن غربيون بقدر ما نحن حديثون وشرقيون بقدر ما نحن عرب ومسلمون، أي متمسكين باستقلالنا ورافضين أن تكون الحداثة في الوقت نفسه استلابا أو مطابقة للاستلاب.

ولأن غرب الحداثة ليس مجرد آخر مغاير في نظرنا، وليس مجرد خصمنا، وإنما هو في الوقت نفسه حدنا، أي شرط تعريفنا وإعادة تعريفنا لأنفسنا وذاتنا، فنحن في صراع مستمر معه. بل هو جزء من الصراع المستمر الذي نخوضه مع أنفسنا في سبيل تغيير ذاتنا، أي عنصر من عناصر عملية التغيير التي تشكل، سواء أدركنا ذلك أم لا، حقيقتنا الرئيسية والوحيدة اليوم. فالغرب لا يمثل مشكلة لنا اليوم إلا لأن التغير الذي نعيشه في عمق ثقافتنا وفكرنا وسلوكنا يمتح من الغرب ويستند إليه ويستخدمه ويحيل إليه. فمشكلتنا مع الغرب هي، أولا وأخيرا، مشكلة الحداثة. والسؤال الأهم الذي يشغلنا ويتوقف على الإجابة عنه مصيرنا هو : كيف يمكن تمثل قيم الحداثة التي لا يزال مرجعها الغرب من دون أن نفقد هويتنا أو أن نسمح للغرب بأن يسيطر علينا ويحد من انسجامنا واستقلالنا وتجانسنا؟ كيف يمكن أن نكون حديثين من دون أن نقع فريسة السيطرة الغربية الثقافية والسياسية والاقتصادية، أي مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بعروبتنا وإسلامنا؟ وإخفاقنا في تحقيق ذلك هو الذي يفسر يأسنا وإحباطنا التاريخيين ونزاعنا المتجدد مع الغرب وكراهيتنا له معا.

هذا يعني إن ما يزعج في الغرب، بالنسبة لنا كما هو الحال بالنسبة لجميع شعوب العالم الأخرى غير الغربية، ليس خصوصيته الثقافية ومغايرته، وإنما بالعكس تماما عموميته، أو استبطانه العمومية الحضارية في خصوصيته، وتحوله بفعل التاريخ وحده إلى مستودع لأسرار ومفاتيح الحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحكمنا، والتي يحكمنا هو أيضا باسمها وبفضلها. فكيف ندخل الحداثة من دون الغرب أو ضده، وكيف نحتفظ بهويتنا واستقلالنا بالرغم من تقربنا من الغرب والأخذ بمعايير "حضارته" ونظمه؟

هذا هو التحدي الذي يشكله الغرب بوصفه خصوصية ثقافية مغايرة لنا وعمومية حضارية لا يمكن لنا الاحتفاظ باستقلالنا وتجنب السقوط تحت السيطرة الأجنبية و الرثاثة الفكرية والسياسية والاقتصادية  من دون تمثل قيمها واستيعابها. ومن هنا ما كان لعلاقتنا مع الغرب أن تكون، مثلها مثل علاقة جميع المجتمعات الأخرى، غير علاقة تنازع وانجذاب، تقرب وابتعاد، حب وكره، نفور وانجذاب. أي علاقة فصامية بالمعنى الحضاري للكلمة تنطوي في الوقت نفسه على النقيضين. وحتى يمكن الحديث عن نظرتنا إلى الغرب، لا بد من فهم هذه العلاقة والخبرة التاريخية التي ارتبطت بها خلال القرنين الماضيين من الصعود الكاسح للغرب، ثقافة واقتصادا وهيمنة إستراتيجية وعسكرية معا. وعندئذ سندرك أن هذه النظرة ليست واحدة ولا ثابتة وإنما متغيرة بحسب موقعنا في حضارة "الغرب"، أو الحضارة العالمية التي يقودها ويشكل مرجعيتها إلى اليوم. كما سنكتشف أيضا أن الغرب نفسه ليس واحدا ولا ثابتا في نظرنا وإنما هو مفهوم متغير ومتعدد الأبعاد.

 

5- التحرر من الغرب

حتى غزو البريطانيين للهند، ثم نابليون لمصر، في القرن الثامن عشر، لم يكن الغرب يعني شيئا آخر بالنسبة لعالمنا الاسلامي الوسيط سوى منطقة من مناطق الكفر، وبالتالي الجهاد لنشر الدين الحنيف عند عرب لم يكونوا يعرفون أنفسهم أصلا إلا كمسلمين. كان الغرب يعني مغايرة دينية بالأساس، وكانت العلاقة به مشروطة بالعلاقات الإسلامية المسيحية، سواء أكانت في إطار المناظرة بين الأديان على شرعية التوحيدية أو الصراع للسيطرة العالمية. ولا تزال آثار هذه النظرة مستمرة عند قطاع واسع من الرأي العام العربي المعاصر الذي ينظر إلى العلاقة الجديدة مع الغرب من منظار التاريخ الوسيط وحسب محدداته الدينية.

لكن انتصار الغربيين وتمكنهم من السيطرة على بلاد المسلمين من جهة، والنكسات المتتالية التي منيت بها جيوش السلطان العثماني في أوروبة خلال أكثر من قرن، فتحت أذهان النخب الإسلامية على حقائق جديدة تخص الغرب المسيحي أو الكافر. ومن هذه الحقائق التقدم التقني والعلمي الذي طبع ثقافة الغرب وبث الحركة في مجتمعاته ونظم إدارته وتنظيمه منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر بشكل خاص. وشيئا فشيئا أخذ جانب الانجاز الحضاري الذي حققه الغرب يطغى على التمايز الديني في نظر قطاعات واسعة من النخب الإسلامية والعربية. فاكتشف العرب والمسلمون مفهوم الانحطاط التاريخي الذي طبقوه على مجتمعاتهم. ونظروا إلى ثقافة هذة المجتمعات ونظمها كنماذج للجمود والخمول والترهل. وبالمقابل أصبح التعلم على يد الاوروبيين والاقتداء بأعمالهم في الأدب والسياسة والفنون ميدانا للابداع  وتجديد اللغة وأساليب التعبير ومنظومة المفاهيم السائدة في المناظرة العقلية والسياسية. فتجددت المصطلحات، وكتبت الموسوعات، وترجمت مؤلفات عديدة إلى  اللغة العربية، وظهرت فنون القصة والرواية والمقالة الصحفية والمناظرة الفكرية، في حجر ثقافة إسلامية بقيت إلى حقبة طويلة رهينة الجدالات والتعليقات والشروح الدينية. ولعل أكثر ما يعبر عن هذه الروح الجديدة التي طبعت العلاقة مع الغرب والنظرة إليه في تلك الفترة، هي النهضة الفكرية والأدبية التي شهدتها الحواضر العربية التي كانت على اتصال أكبر مع الغرب وفي احتكاك مباشر معه بسبب الحروب والصراعات الدينية.

وما كان من الممكن تفسير تقدم الغرب في معاركه العسكرية، وتغلبه على جيوش المسلمين وإمبراطورياتهم التاريخية، بعامل الدين المسيحي من دون الاعتراف الضمني بتفوق المسيحية على الاسلام ومسايرتها لحاجات تطور العلم والتقنية والنظر العقلي. وهو ما حاول بعض المثقفين الغربيين تسويده لتفسير تفوق الغرب، وأجبر الإصلاحيين المسلمين على الرد عليه كما هو واضح في كتاب محمد عبده الاسلام والنصرانية بين العلم والمدنية. وقد رأي المصلح الإسلامي العربي أن تقدم الغرب ليس ثمرة تسامح المسيحية مع العلم وإنما نتيجة الأخذ بالأسباب العقلية، كما أن تخلف الشرق وانحطاطه ليس ثمرة تعصب الإسلام ورفضه للعلم والفلسفة العقلية، وإنما نتيجة انتشار الجهل وسوء تفسير الإسلام واختلاطه بالخرافة وبالعقائد الجبرية والاتكالية. ومن هنا نظر المصلحون إلى مصالحة الاسلام مع العلم والنظر العقلي باعتباره جوهر الإصلاح الديني وغايته. وقد اتهم محمد عبده  الذي قادته تجربته مع الثورة العرابية إلى تقديم مهام الاصلاح على مقاومة الاحتلال واعتبارها شرطا للتخلص الفعلي منه، إلى اتهامه بممالأة السيطرة البريطانية. وهي التهمة ذاتها التي ألصقت بأحمد خان المصلح الاسلامي الهندي الشهير.

والجديد في الاصلاح الاسلامي، في الهند كما هو الحال في العالم العربي وغيرهما، أنه ميز داخل الغرب بين الجانب السلبي الذي هو السيطرة والاحتلال الناجمين عن التفوق الحضاري، أي العلمي والتقني، والجانب الايجابي الذي هو عناصر هذا التفوق العلمي والتقني. واعتبر المصلحون عموما أن العناصر الأخيرة، بعكس الأولى، ليست من متطلبات الخصوصية الثقافية الغربية ولا مشروطة بها، وإنما هي ذات طبيعة عامة كونية مرتبطة بالعقل الذي هو مشترك بين جميع أبناء الإنسان. وشيئا فشيئا سيتبلور موقف قوي في وسط النخب الاسلامية يميز في ثقافة الغرب ونظمه بين ما هو صالح ينبغي الأخذ به، حتى لو جاء على يد غير مسلمين، من علوم وتقنيات وتنظيمات مدنية أو إدارية او سياسية، وبين ما هو سلبي خاص بالغرب ومخالف لعقائد الاسلام وتقاليد المسلمين وقيمهم الثقافية. ففتحوا بذلك باب الاقتداء بالغرب الحضاري على مصراعيه، ولم يعد هناك أي حرج في أن يتمثل المسلمون قيم الحضارة الحديثة العلمية، ويعيدوا إنتاجها على شكل نظم تعليمية حديثة وإدارات حديثة ودول قومية وجيوش عصرية وسياسات اقتصادية تصنيعية ونظم ليبرالية ديمقراطية أو شورية. وقد حكمت هذه النظرة موقف القطاع الأكبر من النخب الليبرالية التي سيطرت على المجتمعات العربية في النصف الأول من القرن العشرين والتي نجحت في الجمع بين العمل على بناء دول دستورية حديثة وقيادة الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية.

وفي ظل هذا الموقف لم يعد الغرب عدوا فحسب، وإنما أصبح ينظر إليه كشريك وأحيانا كحليف أيضا في معركة الوصول إلى المدنية التي يسعى إليها المسلمون. ولم يعد الصراع الضروري والمشروع ضد سيطرته يمنع من الاقتراب منه والتأثر بنظمه وتمثل علومه وثقافته. وهذا ما يفسر نشوء أحزاب وتنظيمات سياسية واجتماعية تقتدي بأحزاب الغرب وتنظيماته، وتتعاون معها، انطلاقا من المشاركة في القيم نفسها، كالأحزاب القومية والماركسية والليبرالية، كما يفسر النهضة الفكرية والأدبية الكبيرة التي شهدتها الثقافة العربية التي طعمتها الآداب الغربية وأخصبت عقول منتجيها. وتشكل هذه اللحظة الليبرالية أحد أهم معالم التراكم المعرفي والحضاري في الثقافة العربية بعد لحظة النهضة الأولى في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر.

 والواقع أن أوهام العرب عن الغرب كشريك في عملية التقدم وتمثل الحضارة لم تكن بعيدة عن أوهام الغربيين أنفسهم في الايمان بمقدرة العرب، مثلهم مثل بقية الشعوب الكثيرة التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، على التقدم في عملية التراكم الحضاري على الطريقة الغربية. ولعل أكثر ما عبر عن ذلك نظرية التطور الاقتصادي كما جاءت على يد الأمريكي روستو[3]، والتي استمرت عبر نظريات التحديث التي سيطرت على حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من نظريات التنمية والخروج من التخلف ومجاراة الدول الصناعية في سيرها الحديث نحو إقامة مجتمعات الرفاه والديمقراطية والسلام. فقد كان الغرب يعتقد أيضا، بليرالييه وماركسييه، أن جميع الشعوب سوف تسير على خطى المجتمعات الغربية، وتطور نظما اقتصادية وسياسية ليبرالية تجمع بين التطور الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني، واستقرار النظم الديمقراطية التعددية[4].

بيد أن التاريخ سوف يكذب هذه التوقعات. ولن تعيد المجتمعات العربية الحديثة وغيرها استنبات نماذج التقدم الغربي نفسها، لا في شكلها الاقتصادي ولا السياسي ولا الثقافي. وبدل التطور الخطي المماثل ستشهد المجتمعات العربية كبقية مجتمعات العالم الثالث، نمو نماذج مشوهة من الاقتصاد الرأسمالي والدولة الوطنية معا، تبعدها في الوقت نفسه عن النماذج الليبرالية الغربية، وتخضعها لنخب تتماهى مع الدولة وتستخدمها كاداة في تأبيد سيطرتها الخاصة والعصبوية، مع النزوع إلى تحويل الشعوب نفسها إلى كميات مهملة وكتل من الجماهير المستخدمة في المناورة السياسية المحلية والدولية. وبدل تطوير منظومات البحث العلمي والتقني وربط النشاطات العلمية بالعملية الانتاجية سوف تسود في معظم هذه المجتمعات ثقافة التعبئة الشعاراتية والايديولوجية المتمحورة حول عبادة الرئيس وتقديس المراتبيات الاجتماعية. فلم يتحقق الإقلاع الاقتصادي ولم تنشأ الأمة الحديثة ولا تبلورت معالم دولة المشاركة السياسية والمساواة القانونية.

مع أخفاق مشروع الحداثة العالمية، وعودة السيطرة الغربية وتفاقم التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وترسخ أقدام النظم التعسفية العسكرية والأمنية، سوف ينقلب المناخ الدولي رأسا على عقب. وسوف يتحول مشروع الحداثة الذي كان منبعا لعظيم الآمال إلى مصدر إحباط لا يحد، بمقدار ما أدى إلى قطع الشعوب عن تاريخها من دون أن يدرجها في تاريخ المدنية الجديد فجعل منها كتلا ضائعة لا مستقبل لها ولا مآل. وفي مواجهة هذه الحداثة المجهضة والحثالية المنتجة للمعاناة اليومية أكثر منه للسعادة أو للرفاه، وبالارتباط بها، سيتغير الموقف من الغرب، ويولد في المقابل موقف يرفض التمييز بين الصالح والطالح في ثقافته ونظمه، وينظر إليه ككتلة من السواد ومصدر لجميع المثالب والاستلابات. لم يعد الغرب مكروها ومرفوضا بسبب سياساته الاستعمارية والهيمنية، التي تحرمنا من التقدم والرقي في المدنية، أي من الحداثة، كما كان عليه الحال في المرحلة السابقة، وإنما بسبب هذه الحداثة نفسها التي بشر بها ونشرها في العالم. ومع تحويل المرغوب الذي لم يمكن نيله إلى مكروه يجدر الوقوف ضده والتحلل من الرغبة فيه، أصبح ما كان يبدو مصدرا للتقدم والتفوق والانجاز الحضاري، أي منجزات الحداثة، في نظر فئة متزايدة من المثقفين، بل عند أوسع قطاعات الرأي العام الذي تكون على ضوء الحداثة وبسببها، مصدر فساد جوهري كامن في أصل الحداثة ذاتها، بوصفها حداثة غربية أو تجسيدا لقيم ثقافة سلبية ولا إنسانية. 

هكذا ستنشأ نظرة جديدة للحداثة، وفي موازاتها وارتباطا بها، نظرة مختلفة للغرب أيضا، تخفض هذا الأخير إلى نموذج للفساد الحضاري، السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي، وتوحده مع العدوان والشر، وتحول التراث والتاريخ المحلي إلى نموذج لحضارة مستمرة ودائمة، قائمة بذاتها، منفصلة عما قبلها وما بعدها، تعكس الذات العربية الاسلامية وتجسد قيمها العظيمة. وبمقدار ما حولت النظرة الجديدة الغرب إلى هوية لا تاريخية وقلصته إلى قصة خصوصية، أي ألغت بعده العالمي المرتبط بتطور الحضارة، صار بإمكانها أن تضع الذات العربية الاسلامية  في مواجهة مباشرة وشاملة مع الذات الغربية، فتحولت الحضارة الإنسانية في حقبتها العربية الاسلامية إلى حضارة قومية خاصة تقف في مواجهة الحضارة القومية أو الخاصة الغربية، المنتزعة هي أيضا من بعدها العالمي الإنساني. 

وكما ستثير هذه النظرة صراعا داخل صفوف النخبة المثقفة العربية على مضمون الذات أو الهوية العربية، ونسبتها إلى الثقافة المدنية أو الدينية الاسلامية، سوف تثير أيضا صراعا مماثلا حول تحديد طبيعة الذات أو الهوية الغربية ونسبتها إلى الفلسفة العقلانية والعلمانية أو إلى الأصول الدينية المسيحية.

وتجد هذه النظرة الجديدة إلى الغرب، باعتباره موطنا لحضارة مغايرة ومعادية ولا إنسانية معا، صدى قويا ومماثلا لها في نظرة قطاعات متزايدة من المثقفين والرأي العام العربي والاسلامي. وفي المقابل سينظر قسم متزايد من الرأي العام الغربي إلى العرب والمسلمين بوصفهم موطن حضارة فاسدة وثقافة متخلفة فقيرة ودين بدائي يقوم على العداء والقهر والقتل والارهاب. وهذا ما سوف يبرر الأخذ بنظرية الحرب الحضارية التي عم استخدامها في تحليل العلاقات الدولية منذ نهاية العقد الأخير من القرن العشرين. وهذه النظرة هي التي تطبع اليوم، شئنا أم أبينا، مواقف الأغلبية الساحقة من العرب والمسلمين من الغرب، كما تطبع نظرة الغالبية العظمى من الغربيين عموما  إلينا أيضا. وكل منها يتغذى من نظرة الآخر ويعتمد عليها.

 

6- بين التحرر من الغرب والعداء له

ليس هناك فكر جدي يمكن اليوم أن يتجنب إثارة موضوع الغرب ودوره في عالمنا المعاصر. فمن دون تحليل موقع الغرب ومكانته في ترتيب خريطة القوى العالمية، وأثر قراراته، الفردية والجماعية، في السياسة أو الثقافة أو الاستراتيجية أو الاقتصاد، على الصعيدين الإقليمي والدولي، يستحيل فهم قواعد عمل النظام العالمي ودينامية تحوله العميقة. فهو يمثل، اليوم، شئنا أم أبينا مركز العالم ومنبع القيم التي توجهه والمعايير التي يقيس عمله عليها، والغايات التي يحددها الإنسان المعاصر لنفسه واختياراته الرئيسية.

من دون هذه المركزية الفعلية، التي تضمنها له مساهمته الاستثنائية في تقرير المصائر العالمية، السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، لا تكون هناك سيطرة ولا نفوذ ولا قيادة حضارية. وتعني المركزية وتستدعي إعادة بناء العالم وتقسيمه بين مركز ومحيط او اطراف تابعة، وفي موازاة ذلك، بين عالم المدنية الذي يسيطر على نفسه وتتحكم به قواعد ومعايير وقيم مختارة ومرعية، وعالم التفكك والانحلال والعنف الذي تفتقر فيه المجتمعات إلى مرجعية مشتركة ومستقرة، وتعيش في حالة تخبط وضياع ونزاع، تشكل هي ذاتها شرطا لإعادة إنتاج نظام السيطرة وتخليده[5].

من هنا يشكل السعي إلى التحرر من براثن هذه المركزية والسيطرة المرتبطة بها، المضمون الرئيسي لكل ما قامت ولا تزال تقوم به المجتمعات البشرية منذ قرنين من محاولات عنيدة ودامية وما بذلته من جهد وتضحيات. هذا هو محتوى الثورات الصينية والروسية وما شاكلها وحركات الاستقلال الوطنية التي عمت العالم في القرن العشرين. وإذا كان بعض الأمم قد حقق نتائج ايجابية على هذا الطريق، كما تدل على ذلك تجارب الصين والهند وروسيا ودول أخرى، فإن جميع التجارب لم تكن مثمرة ولا كانت مناهج العمل وأساليب التحرر مجدية وناجعة. كما أن خصائص الشعوب وتقاليدها لم تكن على درجة واحدة من القيمة في ما يتعلق بمساعدتها على بناء مشروع التحرر الناجع من قيود السيطرة المادية، وبشكل أكبر، غير المادية التي كبلتها بها القوى الغربية. هكذا لم تسعف الشجاعة والبسالة النادرتين شعوب أمريكا الهندية في كفاحهم التراجيدي مع الغرب الاستعماري والاستيطاني، فكانت نهايتهم السياسية، بل إلى حد كبير إبادتهم الجماعية. أما شعوب أفريقيا التي أظهرت درجة اكبر من التكيف والتفاعل مع ثقافة الغرب وسياساته، فقد نجحت، بالرغم مما تعرضت له من نزيف بشري على يد تجار الرقيق، في الحفاظ على نفسها، وإن استمرت تعيش في حالة من التفكك والتأخر البارزين. وبالمقابل نجح اليابان في تأكيد مكانته وموقعه في الحضارة التقنية الحديثة منذ بداية القرن العشرين، واستعادت الصين، التي تعرضت لأقسى امتحان على يد الغرب خلال عقود حرب الأفيون، استقلالها وسيادتها الكاملين، وهي تحث الخطى للتحول إلى مركز حضاري عالمي مواز للغرب ومنافس له في عالم الحداثة المادية ذاتها. وهذا أيضا اتجاه سير  الهند وبقية شعوب جنوب شرق آسيا.

أما العالم العربي، فقد أدى إخفاقه في تجربته التحررية التي بدأها منذ القرن التاسع عشر، إلى دخوله في أزمة عميقة، تتجلى في انقسامه على نفسه وتنامي صراعاته الداخلية والخارجية معا، وفي مقدمها تازم علاقاته مع المركز الحضاري الغربي، كما لم يحصل في أي فترة سابقة. ومما فاقم من تفجر النزاع مع الكتلة الغربية طمع هذه الأخيرة في استثمار حالة الضعف السياسي والثقافي التي وصل إليها العرب لإعادة بسط سيطرتها الاستعمارية التقليدية وترسيخ أقدامها في المنطقة وزيادة اعتمادها في تحقيق أهدافها ومصالحها على التحالف مع الدولة اليهودية التي لا تزال تحتل أراضي عربية وترفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.

على هذا الإخفاق يرد العرب اليوم بطريقتين سلبيتين: الثورة على الغرب والتمرد عليه وعلى كل ما يرتبط به من أفكار ونماذج تنظيم وخيارات ثقافية مجتمعية، أي الارتداد عن الحداثة ذاتها ورفضها بوصفها فكرة غربية، من جهة، والالتحاق بالغرب وجعل الحداثة قيمة ايديولوجية ودينية بديلة عن الثقافة والدين والهوية العربية من جهة ثانية. وهذا ما يقود إلى تفجير حرب عربية عربية، تزيد من تمكين الغرب وكتلته الاستراتيجية من السيطرة على المنطقة العربية والتحكم بقرارات شعوبها ونخبها الحاكمة معا.

يرتكز الخيار العدائي الأول على تنامي عدوانية الغرب نفسه وتزايد مطامعه الاستعمارية. ويتغذى على المستوى الايديولوجي من الدمج بين نظرية الجهاد الاسلامية التقليدية، ونظرية تعدد الحضارات، ومنها الحضارتين الغربية والعربية الاسلامية، التي هي من اختراعات الغرب وجزءا من عدته الأسطورية اللازمة لخدمة أهداف داخلية وخارجية معا. فبحسب هذه النظرية الأسطورة، ليست الحداثة الراهنة إلا الثمرة الطبيعية والمباشرة لثقافة غربية بدأت من عهد اليونان واستمرت إلى يومنا الحاضر، ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالحضارات الأخرى التي تملك أيضا تراثها الخاص. لكن وحدها الثقافة الغربية هي التي تملك الاصول الفلسفية والعقلية، وتحتكر الانتاج فيها. وهذا ما يفسر إبداعية الغرب وتفوقه الثقافي وبالتالي سيطرته السياسية أيضا.

وقد افتتن العرب أيضا بفكرة امتلاك حضارة خصوصية، لما تحمله هذه الفكرة شحنة تعويضية تغطي على حالة الضعف والتأخر وانعدام المدنية التي يعيشونها اليوم. فقبلوا بان يكونوا أصحاب حضارة روحية ودينية، ووضعوها في مقابل حضارة الغرب العقلانية والعلمانية. ودخلوا في صراع وتنافس لإثباب تفوق المنطق الديني والروحي على المنطق العقلي والعلمي، إلى درجة لم يعد فيها من الممكن فهم مجريات الأمور في العالم ولا التفاعل الايجابي مع حقائقه العلمية والسياسية والاستراتيجية.

والحال ليس هناك إلا حضارة واحدة، هي ثمرة مساهمات البشر جميعا والثقافات الإنسانية، وانتشار مكتسباتها الفكرية والعلمية، وتعميم إبداعاتها العملية والنظرية والفنية والأدبية عبر الحدود، والحقب التاريخية. ولا يجري الصراع بين الشعوب والجماعات إلا على موارد الحضارة الواحدة ذاتها، المادية والعلمية. وفي عصرنا الراهن ليس موضوع الصراع ولا يمكن أن يكون استعادة التراث العربي والاسلامي واستملاكه، فهو لم يخرج ولن يخرج من ملكيته العربية، ان موضوع الصراع هو طرق الانتاج والتقنيات والعلوم والمعارف والمواقع التي ارتبطت بالحداثة والتي هي أصل تطوير الموارد وحل المشاكل المطروحة على المجتمعات. فالصراع لا يجري في أي مكان ضد منتجات وأرصدة الحداثة، بوصفها الطور المتقدم من الحضارة، وإنما من أجلها.

إن نظرية تعدد الحضارات التي اخترعها الغرب وملحقها صراع الحضارات التي ولدت منها وأكملتها، لا تجعل من الغرب السيد العقلاني والمبدع المتفوق فحسب ولكنها تحول الشعوب الأخرى إلى شعوب بلهاء تصارع ضد الحرية والعدالة والمساواة والقانون وقيم السعادة والرفاه الانسانية. وهذا ما ينقضه كل يوم تمثل الشعوب الأخرى، في اليابان والصين والهند وغيرها لقواعد الحداثة وتحولهم إلى مواطن منتجة ومبدعة لها.

تشكل الحداثة طفرة في تاريخ الثقافة الإنسانية، الغربية منها والشرقية. وهي نتيجة قطيعة مع الثقافة الغربية التقليدية ونقض لها لا ثمرة لتطورها الخاص أو العادي. ولا يشكل نشوؤها في الغرب برهانا على غربيتها وخصوصيتها. تماما كما لا يشكل اختراع الورق أو البارود تجسيدا للثقافة الصينية ولا يعيش إلا مرتبطا بها. فكل المكتسبات والمنجزات الانسانية تولد في مكان وزمان محددين، ولا تلبث حتى تنتشر في جميع أصقاع العالم. ولا يمكن اعادة اختراعها ولا معنى له. ولا يشكل ظهورها في هذه المنطقة او تلك عائقا أمام انتشارها، ولا سببا لرفضها او عدم الأخذ بها. بالعكس، إن سبب التأخر الذي يعيشه الجزء الأعظم من بلدان العالم يعود إلى احتكار الغرب الذي استبق غيره في هذا المجال لموارد الحداثة أو الحضارة الراهنة، من العلم والمعرفة والتقنية المتقدمة والخبرة العملية. وهو في سبيل ذلك لا يتردد في شن الحروب وتقويض الدول وتحطيم المؤسسات التي تنجح في سرقة المعرفة او النار الخالدة، وهذا ما قام به دائما وما لا يزال يقوم به حتى اليوم. فهو يوزع فرص النمو على المجتمعات من خلال تحكمه بموارد الحداثة ورأسمالها، وحسب تحالفاته الاستراتيجية معها. ويغطي على ذلك بادعاء أن الآخرين، وهنا العرب والمسلمين، هم الذين يرفضون الحداثة ليقلب الآية ويكرس نظرية تخلف هؤلاء ودونيتهم الفكرية والعقلية.

من هنا يقدم الذين يتبنون من العرب والمسلمين هذه الرؤية، والاسلاميون منهم بشكل خاص، في طروحاتهم الانتقامية المعكوسة، حججا للغربيين، وخدمة كبيرة لمخططاتهم الايديويولوجية والسياسية أيضا.

والحقيقة أن كفاح العالم كله من أجل التحرر من الهيمنة والمركزية الغربيتين هو بالدرجة الأولى كفاح ضد احتكار الغرب لا ضد الغرب نفسه كعلم وفنون وآداب وثقافة. والصراع مع الغرب هو أساسا على الحداثة وليس ضدها. وبالعكس لا يهدف الغرب من تصوير العرب والمسلمين على انهم يصارعون من اجل استعادة هويتهم والتمسك بتراثهم ضد الحداثة إلا ليظهر عدوانه هو على انه صراع ضد البربرية والشذوذ أو الاستثناء الذي تمثله حضارة العرب الدينية والقرسطوية. والحال إن الذي يخلق البربرية والعنف المرافق لها في العالم هو الغرب نفسه، أي نظام الغرب الرأسمالي والليبرالي الذي يقوم على احتكار التقدم التقني كجزء من استراتيجية المنافسة وتحقيق الربح الأقصى.

وليس لخيار الالتحاق بالغرب أو التماهي معه نتائج أفضل مما يقدمه خيار التمرد عليه ورفضه جملة وتفصيلا. فكما يحرم التوجه الثاني المتمرد من استيعاب رأسمال الحداثة، الذي يشكل وحده قاعدة التحرر من السيطرة الغربية، بمقدار ما يساهم في تكوين بؤرة محورة ذاتية، او مركزية موازية للمركزية الغربية، كما هو حال الصين اليوم، يحرم التماهي مع الغرب، وهو سياسة الأقلية الحاكمة، من إمكانية التمييز بين ما هو من صلب الحداثة، أي الطابع الكوني الانساني لها، وما هو من سياق السيطرة الغربية وشرطا لها. فيقع في حبائل الاستراتيجية الغربية الهيمنية ويصبح اداة من ادواتها.

 نحن مخطئون في الأمرين: في توحيد الغرب ورفضه وفي الخضوع له والانقياد لنماذج تنظيمه وسلوكه. والواقع أن كلا الموقفين انعكاس للموقف الآخر وشرط له. فمن يرفض الغرب إطلاقا يحرم نفسه من فهم تطور الواقع العالمي والحضاري، ويجد نفسه بالضرورة في عجز كامل عن التفاعل معه، ويضطر لا محالة إلى القبول بالخضوع لمنطق القوة وإلى التسليم. ونحن اليوم مسلمون بتفوق الغرب وسيادته وسيطرته  بقدر ما نحن كارهون له ومدينون لثقافته وحضارته ومعرفته. وبالمثل ليس أمام من يجد نفسه رهين سيطرة لا حول له ولا قوة تجاهها، ولا يفهم قوانين عملها وآليات توسعها، إلا أن يدينها ويشجب عملها ويفضح لا أخلاقيتها، أي إلا أن يقبل يد عدوه ويدعو عليها بالكسر، كما يقول المثل الشعبي، ويساهم بذلك في تخليد عجزه وتكريس خضوعه واستبطان دونيته بشكل اكبر والقبول بها. وهذه هي اليوم حالتنا الفعلية، من الوجهة السياسية والتاريخية معا. لقد أصبحنا نعتقد بعمق أننا متخلفين وأن التخلف حالة لا يمكن أن تنفصل عنا.

ليست الحداثة، كما ذكرت أكثر من مرة، باعتبارها منظومة معايير جديدة تحكم النشاط المجتمعي، محل اختيار، وإنما هي تفرض نفسها على كل الأطراف، بقدر ما تسعى هذه الأطراف إلى الانخراط في الحياة الدولية العالمية أو تضطر إليه. فالذي يحدد معايير النشاط، معرفيا كان ام اقتصاديا أو سياسيا أم اجتماعيا، ليس الفرد ذاته وإنما تلك القوى الفاعلة والمتحكمة بالعملية الحضارية والمسيطرة على مفاتيح عملها وحركتها. ومن يرفض التقيد بهذه المعايير يحكم على نفسه بالتهميش أو بالانقراض.

وليست النتيجة الحقيقية لهذا الموقف تأكيد الاستقلال تجاه الحداثة التي يمثلها الغرب، أو يسيطر على آلياتها ويوجه حركتها، حتى الآن على الأقل، وإنما إدانة الذات بعدم الفهم أو بنقص المعرفة بالواقع الدولي القائم، وبالتالي تهديدها بالتعرض لحداثة ليست مفهومة ولا متحكم بها ولا مسيطر عليها، وهو بالضبط نوع الحداثة الذي قاد مجتمعاتنا إلى الإخفاق والفشل في بناء الدولة والأمة والمعرفة العلمية حتى الآن.  فالحداثة من دون مفهومها لا يمكن إلا أن تقود إلى الاستلاب. ورفض الغرب إطلاقا، وليس رفض سيطرته وهيمنته على العالم الحديث، بقدر ما يحرم رفض مفهوم الحداثة نفسه أصحابه من أي قدرة على فهم ما يجري من حولهم من وقائع عميقة وأساسية ويحكم عليهم بالانفصام إزاء الواقع ويديهم بالعجز واللافاعلية والاغتراب.

لا مخرج من هذا الوضع الذي نعيش فيه سوى بالتمييز بين الغرب من حيث هو تشكيل تاريخي واقتصادي واجتماعي وجيواستراتيجي خاص وخصوصي، أي كتلة ذات أهداف ومصالح وغايات، ترتبط بمصالح نخبها وشعوبها الخاصة، والغرب بوصفه مرجعية للحداثة، أي موطن مفاتيح فكرة الحداثة والنظام العالمي الحديث. وهو الغرب العمومي الذي أرسى، من وراء سيطرته الخاصة التاريخية ودفاعه عن مصالحه ونشره ثقافته، أركان حضارة علمية تقنية حديثة هي اليوم ملك الانسانية والجامع ما بين أطرافها. وتنزع هذه الحضارة العامة أكثر فأكثر إلى أن تستقل عن الغرب نفسه وعن ثقافته الراهنة، لتستقطب تجارب ومساهمات شعوب وثقافات أخرى اندرجت في سياق الحداثة ،وعادت لتصبح أحد مراكز انتاجها وتطوير أسسها. وبالرغم من أن الجذور الثقافية الغربية لا تزال واضحة في هذه الحضارة الكونية، إلا أن الابداعات والتراكمات المستمرة للشعوب والمجتمعات الأخرى تترك بشكل متزايد بصمات الثقافات المتعددة والمنبعثة من رقادها عليها، وتحولها إلى مجال استثمار مشترك لعموم البشرية. ولا نستطيع أن ندافع عن موقعنا ومكاننا في هذه البشرية إلا بقدر ما نقدم من مساهمات في تنمية هذا الجذع المشرك، أو الحضارة العالمية التي نحن شركاء كاملي العضوية فيها، ومن بين مؤسسيها التاريخيين الرئيسيين.

ولدت الحداثة بالتاكيد في الغرب، لكنها ليست غربية، تماما كما ولد الاسلام في الجزيرة العربية، لكنه ليس عربي المضمون ولا التوجه  ولا المآل. فهو بطبيعته موجه للإنسان، أي ينطوي على بذور كونيته وعالميته. ولعل المسيحية تقدم أكبر مثال على مآل الإبداعات الثقافية وصيرورتها الكونية. فالجمهور العالمي ينظر اليوم إلى هذه الديانية التي ولدت في المشرق وكانت تعتبر بالتعاريف الثقافية الكلاسيكية نموذجا للروح وللعقلية الساميين، على أنها أفضل تعبير عن الروح الأوروبية، بل يعتقد العديد من الغربيين أنها تشكل العنصر الأهم في الهوية الغربية. ولا يختلف عن ذلك مصير الحداثة. ومن المؤكد أن كثيرا مما نعتقد أنه سمة من سمات الهوية الأوروبية أو الغربية  سوف يشكل في نظر جمهور المستقبل خصائص ثابتة في الهوية الصينية عندما ستتحول الصين إلى المنتج الأكبر لقيم الحداثة وموضوعاتها. فالحداثة كثقافة وأساليب حياة وإنتاج، تنزع كالأديان التوحيدية التي سبقتها، في منطقها وقيمها وبنيتها ذاتها، إلى العالمية وتقود إليها. والاعتراف بعالمية هذه الحداثة وطابعها الكوني وفهمها وتحليلها هو السبيل الوحيد لنقدها وتمثلها والسيطرة عليها،

وفي المقابل، لن تكون نتيجة إنكارها أو التنكر لها وتجاهلها حيازة أي هوية، لا تقليدية ولا مستقبلية. فمن دون تمثل النواة العقلية أي الكونية التي تنطوي عليها، لن يكون من الممكن تمثل قيمها بصورة مستقلة وتحريرية، ولا مواجهة جاذبيتها الاستهلاكية ولا بالتالي مقاومة ما تحمله من أبعاد هيمنية أو مقاومة ما ينجم عن ممارستها كحضور خارجي ومفروض من مخاطر التبعية والاستلاب. فإذا أردنا أن لا نتحول إلى أرض بدون شعب لشعوب من دون أرض، كما حصل في القارة الأمريكية قبل فلسطين، علينا أن نتحول إلى شعب بالفعل، ونتجاوز صيغة التجاور بين قبائل وعشائر وطوائف وعوائل لا يجميع بينها سوى الانتماء لدين واحد أو المشاركة في تقاليد وأعراف وفنون عيش وطبح واحدة، وإذا أردنا أن لا نتحول إلى مناطق نفوذ للدول الكبرى علينا أن نبني دولا قادرة على أن تنتج القوة المادية والمعنوية التي تحمي شعوبها وتوحدها. وبالمثل، إذا أردنا أن لا تنتشر في بلداننا فروع الجامعات الأجنبية التي تدرس باللغات الأوروبية وتفرق بين أبناء مجتمعاتنا حسب ميول أصحابها وشيعهم الفكرية والدينية ومذاهبهم، وتبث الفرقة والاختلاف والتباين بين أعضاء الجيل الواحد، فعلينا أن نبني الجامعات العربية التي تملك الامكانيات وتتمتع بالكفاءات ذاتها التي تتمتع بها الجامعات الغربية. وإذا أردنا للغتنا أن لا تذهب ضحية التعددية اللغوية غير المختارة وغير المنظمة، فما علينا إلا أن نبذل الحهد المطلوب لتحديث لغتنا وتحويلها إلى لغة العلم والمعرفة الحديثين بترجمة النصوص العلمية إليها وجعلها أداة فعالة للنفوذ إلى المعرفة واستيعابها. باختصار ليس هناك بديل للحداثة العشوائية المفروضة من دون خيار، وبالتالي المشوهة والسالبة، التي تقود إلى الفوضى والتفكك والانحلال، سوى في الحداثة المختارة والمتمثلة بعقلانية وجدية. أما رفض الحداثة أو التنديد بها وتوحيدها مع ثقافة الغرب وجعلها خصوصية من خصوصياته فليس خيارا ولكنه دعوة مفتوحة للحداثة الرثة والسالبة، أي  انتحار يجهل دعاته هم أنفسهم مضمونه.

إن فصام نظرتنا تجاه الغرب هي التجسيد المباشر لفصام علاقتنا بالحداثة نفسها التي يمثلها في نظرنا الغرب. فطالما بقيت الحداثة العربية مستندة في وجودها ومرجعيتها معا بالغرب، سوف نظل في صراع معها، أي مع أنفسنا، وسيظل الغرب يمثل بالنسبة لنا الآخر المغاير والخصم والعدو بقدر ما تستمر الحداثة عندنا تبدو كحداثة أجنبية غريبة وغير متمثلة أو مشرعنة. فعداؤنا للغرب ليس هو في الواقع سوى عداء لحداثتنا ذاتها المرتهنة للغرب والراهنة لنا معها له. وعندما نثور على الغرب نحن لا نثور في الواقع إلا على ذاتنا المستلبة لحضارة الغرب، ولا نرفض بالضرورة حضارة الغرب ولكن ضياعنا فيها وبسببها. وليست أبلسة الغرب التي تسكن ثقافتنا الراهنة سوى رد الفعل على هذا الضياع والاستلاب.

والقصد أن التحرر من هيمنة الغرب أو من الهيمنة التي تنتجها الحداثة لصالح الغرب لا يكون برمي الحداثة نفسها أو التنكر لها، وهي التي تقدم للغرب وسائل تفوقه وهيمنته علينا، وإنما بالعكس انتزاع الحداثة من سياقها الغربي وتمثل قيمها والإبداع الخاص فيها. وهذا يعني لن نكف عن أن نكون ضحايا الدول الحديثة إلا بقدر ما ننجح في تجاوز نسخة الحداثة غير المتمثلة وغير المستبطنة التي تسيطر علينا، حداثة الاستهلاك المستوردة، التي تشكل مصدر الخضوع للغرب والتبعية له، أي عندما تكف حداثتنا عن أن تكون أجنبية وخارجية، ونتحول إلى قطب من أقطاب إنتاج هذه الحداثة نفسها. عندئد تصبح الحداثة حداثتنا لا حداثة الغرب، ويكف النزاع داخل الحداثة وعليها عندنا عن أن يكون صراعا ضد الغرب أو معه، ليتحول إلى صراع في ما بيننا، أي على خيارات متعددة داخل هذه الحداثة ذاتها.

وهذا يعني ان التحرر من الغرب لا يكون إلا بمقدار ما نتحرر من نزاعنا في الغرب وتنازعنا من حوله، ونصبح شركاء له في الحضارة الحديثة. ولا يساعد العداء للغرب بوصفه مصدر الحداثة التي تستعبدنا سوى في تعميق التبعية له وزيادة التعمية على سياساته الهيمنية لتي تطلب المحاربة والاستئصال. وهو مطلب ممكن المنال. أما كراهية الغرب فلا تضر إلا بنا.

حتى نكون أحرارا ينبغي أن نكون مستقلين عن الغرب، ولن نكون مستقلين عنه إلا بقدر ما ننجح في خلق قاعدة حداثتنا العربية الخاصة، العلمية والتقنية والفكرية والفنية معا، أي دخول دائرة الكونية والعالمية.  وهذا ما يعني تعريض ثقافتنا القديمة دون خوف لرياح التغيير والتجديد، ورميها في لجة الزمن والحياة، كي ما تتعلم السباحة في بحر الحداثة الجديد، وتنمي داخلها أجنحة جديدة تمكنها من الطيران في العصر مثلها مثل الثقافات الأخرى. وتزميين الثقافة وتبييئها لا يحصلان بقرارات سياسية ولا بإجراءات قانونية. إن شرطهما الأول خلق بيئة حرية يتفاعل فيها الأفراد والجماعات ويناقشون ويتنازعون كي يعيدوا تكوينها، أي كي يراكموا رأسمالا ثقافيا جديدا من المفردات والمفاهيم والأفكار والقيم والمعايير والتوجهات والاستعدادات المشتركة. هكذا تبنى الثقافة الحية. وخلق شروط التطور الحر للثقافة يعني أيضا توفير إمكانات التفاعل والحوار والتلاقح بين أصحاب هذه الثقافة، أفرادا وجماعات، ومساعدتهم على استثمار تراثهم وتوظيفه في أمور الحياة اليومية. والتحدي يكمن في صيغة تجمع عناصر نهضتنا الجديدة، أعني الاسلام من حيث هو مصدر للقيم والتربية الأخلاقية والعروبة من حيث هي هوية سياسية جامعة، أي ديمقراطية، والحداثة من حيث هي نمط حياة منتجة وإبداعية.

 

 

[1]  أنظر عن ذلك كتاب جان زيجلر الأخير، كراهية الغرب، دار ألبان ميشيل، باريس 2008

[2]  تعين صوفي بسيس ولادة الغرب الحديث مع القرن السادس عشر، انطلاقا من اكتشاف قارة أمريكا، او العالم الجديد، واستعادة الردة الكاتوليكية الأندلس من العرب. وهي حركة تعكس التوسع الجغرافي من جهة وما يعنيه من امتلاك العالم، وتنقية التاريخ من المنافسين الفعليين أو الأسطوريين، ليصبح محور العالم ومركز الحضارة. أنظر على سبيل المثال:

 Sophie Bssis, L’occident et les autres ( الغرب والآخرون: قصة تفوق)  لا ديكوفيرت، باريس، 2001

[3]  Walt Whitman Rostow (191662003 )وهو اقتصادي أمريكي عمل مستشارا للبيت الأبيض بين عامي 1961 و 1968، عرف بنظريته الخطية التي تشير إلى حتمية التطور الاقتصادي من المجتمع التقليدي الزراعي إلى المجتمع الصناعي حسب مراحل خمس ثابتة.

 

[4]  سيطرت نظرية التحديث على أدبيات التنمية لفترة طويلة قبل ان تظهر في مواجهتها نظرية التبعية والتطور غير المتكافيء. وتفيد نظرية التحديث بأن مشكلة المجتمعات المتخلفة كامنة في سيطرة ثقافة تقليدية تمنه الأفراد من المبادرة والابداع. وحتى يمكن لهذه المجتمعات أن تتقدم، ينبغي أن تبادر إلى إصلاح مؤسساتها وتعيد التفكير بسياساتها على ضوء ما يحصل في البلدان المتقدمة. وهذه الاصلاحات العامة في المؤسسات والسياسات هي التحديث الذي ينبغي تبنيه حتى يمكن القضاء على المؤسسات والسلوكات التقليدية وبالتالي الخروج من المجتمع التقليدية الجامد. ومن أشهر أصحاب هذه النظرية التي تربط التنمية بالتحديث روستو المذكور وتالكوت بارسونز.

[5]  الحالة القصوى لهذا التفكيك والحل هي من دون شك حالة الشعب الهندي الامريكي الذي كان أول ضحية كبرى للتقدم الأوروبي أو للغرب في مطلع حداثته. ففي أقل من 30 سنة، أباد المستوطنون الأوربيون ما بين 80% إلى 90% من سكان الأنتيل الكبرى، مما أدى في منتصف القرن السادس عشر إلى انقراض شبه كلي للسكان الأصليين. أما في القارة الأمريكية عامة، فقد انخفض عدد سكان المكسيك من 25 مليون نسمة عام 1519 إلى 9.1 مليون نسمة عام 1580، وسكان بيرو من 10 ملايين عام 1530 إلى 5.1 مليون عام 1590. هكذا أباد البيض حوالي ثلاثة أرباع سكان أمريكا الأصليين. المرجع ذاته. صوفي بسيس، ( الغرب والآخرون: قصة تفوق)  لا ديكوفيرت، باريس، 2001