من المسؤول عن انهيار آمال الاصلاح والديمقراطية من جديد في الشرق الأوسط

2006-11-21:: الحوار المتمدن


كان من المفروض أن تكون هذه الورقة وثيقة للمناقشة الخاصة بجلسة تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية المنعقدة في إطار المؤتمر العربي للمنظمات غير الحكومية الموازي لمؤتمر الديمقراطيات الجديدة الذي افتتح اعماله بحضور عدد كبير من الوزراء والمسؤولين في المنطقة في مدينة الدوحة في التاسع والعشرين من اكتوبر 2006 تحت رعاية الامم المتحدة. لكن المناورات السياسية التي رافقت هذا المؤتمر مع إعلان وزيرة خارجية إسرائيل عن نيتها لحضوره مع وفد اسرائيلي كبير دفعتني إلى الاعتذار عن المشاركة. فمن غير المعقول أن تدعى الحكومة الاسرائيلية إلى المشاركة في نقاش مسألة تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية في الوقت الذي شكلت فيه سياساتها العدوانية والعنصرية تجاه فلسطين ولبنان وبقية البلاد العربية العامل الرئيسي في تقويض أسس التحول السياسي السلمي نفسه، ودفعت كما لم يحصل في أي منطقة أخرى في العالم، إلى تأجيج لهيب النزاعات القومية والدينية والطائفية والاتنية، على حساب السلام والأمن والاستقرار والتنمية معا.
وتعكس هذه الندوة والسؤال المحوري الذي جعلته عنوانا لها محدودية النظرة التي يطل منها الغرب والمؤسسات الدولية على المسألة الديمقراطية العربية. فهم لا يرون فيها سوى مسألة ايديولوجية تعنى بالعلاقة بين فكر الديمقراطية واحترام الحريات الفردية والفكر الاسلامي الذي يعتقدون أنه في صميمه معاد للديمقراطية وحقوق الانسان. ولا يبقى هناك مجال للحديث بعد ذلك في تعزيز الديمقراطية سوى عن كيفية تكييف هذا الفكر الاسلامي الديني مع قيم الديمقراطية ومفاهيمها، وتطوير الاستراتيجيات الكفيلة بمواجهة حركات التمرد والانتفاضات وردود الأفعال المختلفة التي تصدر عن المجتمعات الاسلامية وتتسم بالعنف والتي يطلق عليها جميعا اسم الارهاب، ودرء مخاطرها حتى تتحق آمال الديمقراطية ويستقيم نصابها.
ليس لهذا التصور أي قدر من الصدقية ولا الموضوعية. إنه يهدف بالعكس إلى التغطية على التطورات المأساوية والمناقضة تماما لهذا الاتجاه التي قادت إليها السياسات الخرقاء والمغامرة للتكتل الأطلسي في العراق وفلسطين وغيرهما. وليس للحديث عن ديمقراطيات جديدة ووسائل تعزيزها من وظيفة سوى تلبية حاجة حكومات هذا التكتل المسؤولة مسؤولية أساسية عن تدهور الأوضاع السياسية في المنطقة، نتيجة تحديها لإرادة الشعوب العربية واحتقارها لوعيها، إلى خرقة تغطي بها عورة هذه السياسات وسوءها. وإلى ذريعة تطمئن الرأي العام الغربي نفسه على أن الكوارث والمآسي الانسانية التي قادت إليها هذه السياسات لم تكن دون نتيجة ولكنها أسفرت عن نشوء ديمقراطيات وليدة، قد لا تكون مكتملة، بل تحتاج إلى التعزيز والتطوير، لكن المهم أنها أصبحت موجودة بعد أن لم تكن من قبل. وهو ما يوحي أيضا بأن موضوع الخيار الديمقراطي قد تم حسمه في المنطقة، وأن المسألة تتعلق اليوم بتوسيع دائرة تطبيق هذا الخيار وتعميقه.
الخطر الرئيسي لمثل هذا الايحاء بالتقدم على طريق التحولات الديمقراطية هو أنه يسعى إلى إخفاء حقيقة ما يجري في الواقع، برش السكر على الموت، حسب ما يقول المثل العربي الشعبي المعروف. وهو يخدع الجمهور العربي والغربي والعالمي معا ويحرف نظره عن النزاعات والحروب الأهلية المتفجرة، ليضمن سكوته وتأييده على ضلال. وليس من الصعب على أي مراقب أن يدرك أن الحال مختلف كثيرا عن ذلك. فبالرغم من حصول تغيرات جزئية هنا وهناك، وسعي بعض النظم التي تواجه تحديات تاريخية وتتعرض لتهديدات جدية للتغطية عليها، من خلال إبراز بعض ملامح التغيير في السياسات السائدة، ليس التحول نحو الديمقراطية هو السمة الأبرز في تطور الأوضاع السياسة في المنطقة العربية، ولا احتمال ولادة ربيع ديمقراطي عربي، كما أشيع بعد تنظيم بعض الانتخابات التشريعية التعددية، هنا وهناك، وإنما العكس تماما هو الصحيح. إن الطابع الأبرز للحقبة التي نعيشها الآن هو بالأحرى إجهاض عملية الحمل الديمقراطي وتحطيم الدفع الذي حصل في سبيل الديمقراطية منذ بداية هذه الألفية الثالثة، ونجاح النظام التسلطي في المنطقة في امتصاص الضغوط الداخلية والخارجية التي هيأت لهذا الدفع الديمقراطي الوليد وغذته.
فما نشهده اليوم يعبر بالأحرى عن انهيار جميع الآمال التي صعدت منذ سنوات قليلة، بسبب التقاء إرادة إصلاح خارجية مع ارتفاع مطالب فئات حية من المثقفين والطبقة الوسطى العربية. والمسؤول الأول عن هذا الانهيار هو النتائج الكارثية للسياسات الغربية المغامرة التي طبقت في العراق، والتخلي الجماعي عن عملية السلام العربية الاسرائيلية، وتخبط السياسات الغربية عموما تجاه مشاكل الشرق الأوسط وفيه. فما كان لكل ذلك إلا ان يؤدي إلى تصاعد الإرهاب وتزايد مخاطر انتشار الفوضى وتعميم الخراب. وكما دفع هذا الوضع الماساوي إلى تراجع الكتلة الغربية نفسها عن وعودها التي أطلقتها، بعد الحادي عشر من ايلول، شجع الحكومات العربية التي لم تهضم، لحظة واحدة، ضغوط الكتلة الغربية عليها في سبيل إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تتماشى تماما مع مصالحها ومع احتكارها الكامل للسلطة والثروة، على العودة إلى سياساتها القديمة والانتقام لنفسها من الغرب ذاته. وها هي تستعيد اليوم، أو هي في طريقها لأن تستعيد، في نظر أعدائها السابقين أنفسهم والمنظومة الدولية، جزءا كبيرا من شرعيتها التي كان انتشار الارهاب الدولي انطلاقا من حدودها، والفساد المريع الذي تميز به سلوكها، قد قضى تماما عليها وتركها عارية أمام الانتقادات الدولية والمحلية. وبعد الحديث عن الضغوط والعقوبات ها نحن ندخل في طور العودة إلى الحوار والمفاوضات وتقديم الحوافز والمغريات لهذا النظام او ذاك حتى يقبل المشاركة في إحلال الأمن والاستقرار.
هذا يعني، انه ليس من الممكن الحديث عن مشاريع ديمقراطية ولا تعزيزها، في إطار سياسات دولية ترفض الاعتراف بحق الشعوب وتعمل بالتفاهم مع نخبها المحلية على تحييدها وإخراجها من مسرح السياسة الإقليمية، بل من مسرح الحياة العمومية. كما لا يمكن الحديث عن مشاريع تحول ديمقراطي بالاعتماد على مصالح الدول الاجنبية والمراهنة على نواياها. وبعكس ما توحي به النظريات السطحية والاستهلاكية التي ترجع مسألة التحول السياسي هنا وهناك إلى عامل واحد هو تقاليد الشعوب أو ثقافتها أو دينها أو تجاربها، تظهر التجربة العربية القريبة الماضية أن مستقبل التحولات السياسية في بلدان العالم النامي بأجمعها، لكن في المنطقة العربية بشكل أكبر، مرتبط بتشابك وتفاعل عوامل متعددة: عالمية، ترتبط بطبيعة السياق الدولي العام وأثره على المنطقة، وإقليمية تتعلق بالمناخ السائد فيها اوبأوضاعها الجيوسياسية وموقعها في نظام العلاقات الدولية، وبعوامل وطنية داخلية تتعلق بعلاقة المجتمع المدني بالدولة ومكانة هذه الدولة، والسلطة المركزية بشكل عام، وموقعها في التنظيم المجتمعي القائم، ومعادلات القوة وتوزيع السلطة داخل المجتمعات.
وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط والعالم العربي بشكل خاص، ليس من الممكن اليوم الحديث في تعزيز حركة التحولات الديمقراطية من دون مراجعة ما حصل في السنوات القليلة الماضية، وتحديد المسؤوليات المتبادلة الخاصة بالأطراف الدولية والأطراف الإقليمية والأطراف الوطنية المحلية، أي من دون التفكير المعمق أيضا بأسباب الانتكاسة التي تعرضت لها آمال الديمقراطية العربية. وفي اعتقادي كل محاولة لإعادة إطلاق ديناميكية التحولات السياسية ذات الطبيعة الديمقراطية ينبغي أن تبدأ من مراجعة سياسات الدول الغربية الكبرى تجاه المنطقة، كما تستدعي مراجعة سياسات الحركات الديمقراطية العربية الوليدة، التي تتعرض من جديد إلى ظروف قاسية تشمل المنع والملاحقة والحد من الحريات وتقييدها، وإرهاب ناشطي حقوق الانسان والمنظمات المدنية عموما. فلا تشكل هذه المراجعة، والتأمل في الانتكاسة التي شهدها العمل الديمقراطي في السنوات الماضية، والكشف عن أسبابها، الشرط الضروري لوقف التدهور الحاصل في الموقف فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، شرط تجنب إنكسارات ونكسات أخرى، تتجاوز مسائل التحول الديمقراطي لتمس مصير المجتمعات نفسها ومستقبلها كمجتمعات مدنية منظمة وفعالة.


1- قانون التحول في المنطقة الشرق أوسطية

1-1– تدويل المنطقة الشرق أوسطية وعوامله:
ما ميز ولا يزال يميز الشرق الأوسط في نظام العلاقات الدولية سمتان: الأولى ارتفاع حجم الرهانات الدولية التي تنطوي عليها، سواء ما تعلق بموقعها الجيوستراتيجي كعقدة مواصلات بين القارات والتكتلات الكبرى الدولية، أو كأكبر مصدر للطاقة النفطية وأعظم خزان لها منذ منتصف القرن العشرين، أو بوصفها البقعة التي وقع عليها الاختيار لتكون مسرحا لحل دراما المسألة اليهودية، التي ارتبطت في أوربة والمجتمعات الغربية عموما بالعداء للسامية على مدى قرون عديدة متتالية، ووجدت أقصى تعبيراتها في كارثة المحرقة والمذابح الجماعية لليهود الغربيين الذين قضوا بالملايين في القرن العشرين على يد قوى النازية والفاشية الاوروبية. ولم تنفرج هذه الأزمة إلا بإعلان فلسطين دولة إسرائيلية وصب الأوروبيين دعمهم المطلق لهذه الدولة ومساعدتها على تحقيق سياساتها بصرف النظر عن نتائج ذلك على سكان البلاد الأصليين ومصيرهم.
أعطت هذه العوامل أو بعضها، وعوامل أخرى غيرها أقل أهمية، لمنطقة الشرق الأوسط، والمشرق العربي الذي يشكل قلبها بشكل خاص، اهمية استراتيجية استثنائية ومستمرة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. فالمسألة الشرقية التي شغلت دبلوماسية القرن التاسع عشر الاوروبية تعود اليوم من جديد على شكل مسألة إسلامية وعربية. وهي المسألة التي تكاد تحتل الجزء الأكبر من اهتمام الدبلوماسية الدولية وتشكل مصدر التوتر الأول في نظام العلاقات الدولية للحقبة الراهنة.
والسمة الثانية هي تباين المصالح و المواقف الدولية تجاه هذه الرهانات، ونزاعها الطويل والمستمر فيما بينها على تأمين مواقعها او تطبيق ما تعتبره حلولا تنسجم مع مصالح كل منها تجاه المشاكل التي يطرحها الأمن والاستقرار والسلام في الشرق الأوسط. وهو ما جعل من المنطقة مسرحا للصراع والتنافس بين الدول الكبرى، وحولها إلى حد كبير إلى مناطق نفوذ تتنازع عليها وتتقاسمها هذه الدول حسب قوتها ومبادرتها. وقد عمل ذلك كله على تدويل عملي للمنطقة، وعلى وضعها بشكل ضمني تحت وصاية الكتلة الغربية التي لم تكف في سبيل الدفاع عن مواقعها المتميزة فيها عن وضع الخطط والاستراتيجيات الدفاعية التي تضمن إغلاقها في وجه المنافسين والخصوم. وكما عمل هذا السياق الدولي على تقليص سيادة الدول الشرق أوسطية، وفرض عليها نوعا من نظام التبعية البنيوي الذي يستحيل التحرر منه، جعل من الحرب ضد القوى المحلية التي تنزع إلى السيادة والاستقلال سياسة رسمية دائمة للكتلة الغربية التي تمثل الطرف الدولي الرئيسي المتحكم بمصير المنطقة منذ قرنين على الأقل. وما كان لهذا الوضع إلا أن يضعف صدقية الدول المحلية، ويسيء إلى شرعية النخب الوطنية، ويضيق من هامش مبادرتها على صعيد السياسة الدولية، وتجاه الرأي العام المحلي نفسه الذي أصبح ينظر إليها على أنها أدوات في يد السيطرة الأجنبية.
وهكذا، لم يعد من الممكن الفصل بين الصراع الدولي على المنطقة والصراع السياسي داخل المنطقة، وكل بلد فيها، على السلطة والاختيارات الايديولوجية، وما تمثله من نظم وأنماط حكم وإدارة. فأكثر مما هو الحال في أي منطقة أخرى، تتحكم العوامل الخارجية هنا في رسم حدود مسرح السياسة الداخلية وعواملها وفرصها وآفاقها التاريخية. والقانون السائد بشكل عام هو أنه لا توجد ضمانة للوصول إلى السلطة أو للنجاح في الحكم لأي قوة داخلية لا تكون مدعومة بشكل فعال وناجع من قبل الكتلة الغربية أو بعض دولها المؤثرة. لا يعني ذلك بالطبع أنه من غير الممكن لقوى غير ممالئة للغرب أن تصل إلى السلطة، ولكنه يعنى أن وصولها إلى السلطة لا يجلب الاستقرار وإنما يفتح عليها في الوقت نفسه معارك داخلية وخارجية لا تستطيع مواجهتها إلا بتطوير استراتيجيات كبرى ذات طابع دولي أيضا. وهذا ما حصل بالضبط مع حكومة عبد الناصر الوطنية التي حاولت التخلص من الهيمنة الأجنبية وبقايا نظام الوصاية الاستعمارية. ففي مواجهتها لمعضلة الاستقلال البنيوية التي ذكرت اكتشفت القيادة المصرية القومية العربية كإطار ايديولوجي لتطبيق سياسة إقليمية تعزز من هامش المبادرة الاستراتيجية للنظام الجديد، كما اكتشفت أيضا أهمية العمل على بناء كتلة محايدة أطلقت على نفسها اسم حركة عدم الانحياز لتعديل موازين القوة الدولية، بالإضافة إلى التحالف الذي أقامته مع الكتلة السوفييتية. فأمنت عن طريق التحالف الأخير الموارد الاقتصادية والعسكرية والتقنية الضرورية لقيادة عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بينما جعلت من حركة عدم الانحياز خطا دفاعيا للسياسات الاستقلالية الجديدة، وراهنت على التعبئة القومية للرأي العام العربي لتطوير استراتيجية هجومية في مواجهة مواقع النفوذ والسيطرة الغربية. ومع ذلك لم تنجح الحركة الوطنية المصرية الجديدة، بالرغم من كل التحالفات الدولية والإقليمية التي اعتمدت عليها، في وضع حد لنظام الوصاية الغربية. واستنزفت قواها في الحروب والمواجهات الإقليمية، قبل أن تقوض أسسها الهزيمة الكبرى أمام إسرائيل في يونيو 1967.
بل إن وجود موضوعات رهان كبرى ذات أبعاد عالمية لم يعمل فقط على تقليص هامش سيادة الدول المحلية وهامش مبادرتها الوطنية واستقلال قرارها الداخلي فحسب، ولكنه ساهم أيضا في إدخالها في نزاعات وحروب مستوردة إليها من مناطق أخرى، لا علاقة لها بها من قريب أو بعيد. فأضاف بذلك عوامل عدم استقرار وصراع جديدة إلى عوامل عدم الاستقرار والنزاع العديدة التي تزخر بها المنطقة. فقد أدى الخلاف بين المصالح والتوجهات الخاصة بالدول الكبرى المتدخلة وصاحبة النفوذ إلى تعريض المنطقة بشكل مديد إلى منطق الحرب الباردة الدائمة. تلك التي قسمت المنطقة لعقود طويلة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، خلال الحرب الباردة الكلاسيكية المعروفه، وتلك التي عبرت عن التنافس الاوروبي الأمريكي بعد زوال الحرب الباردة، ثم تلك التي تتجلى اليوم في الصراع على السيطرة على الشرق الأوسط بين الكتلة الغربية والآسيوية، التي تعمل من وراء ايران والكتلة الأطلسية التي تعتبر الشرق الأوسط منطقة نفوذ تاريخية لها. هكذا لم تخرج المنطقة عن منطق الحرب الباردة بالرغم من انتهاء هذه الحرب، ولا يزال أمامها احتمالات كبيرة للغرق المديد فيها. وهو ما يعلق مصير المنطقة ودولها وشعوبها وسياساتها على النزاعات الدولية، ويحد من قدرة الشعوب على تقرير مصيرها، كما يقدم للقوى الحاكمة فرص اللعب على النزاعات الدولية للهرب من التزاماتها تجاه شعوبها، وتوفير وسائل حماية وجودها والوقوف في وجه أي معارضة تقف في طريق استمرارها.

 

2-1 – منطقة القوميات المحبطة والحروب الدورية المستمرة:
تتمير منطقة الشرق الأوسط، اكثر من أي منطقة أخرى في العالم، بسبب التركيب الاستعماري لخريطة توزيع الدول فيها، وحرمان البعض منها وإعطاء أكثر من دولة لشعب آخر، وهو أحد نتائج وضعها الدولي المذكور نفسه، بأنها منطقة القوميات او الحركات القومية المحبطة، والوطنيات غير القادرة على تحقيق ذاتها وإنجاز أهدافها واكتمال هويتها. وبالتالي فهي منطقة القوميات والوطنيات الناقمة أيضا بسبب ما تعانيه من إخفاق وحصار وانعدام آفاق. ومن هذه القوميات واهمها القومية العربية، لكن أيضا الكردية والفارسية وغيرهما من القوميات الصغرى المهمشة أو المغدورة او المقموعة. وتشكل هذه القوميات المحبطة براكين مشتعلة، على استعداد دائم للتنازع فيما بينها، والنزاع مع الكتلة الغربية المسؤولة عن إحباطها، ومع النظام الدولي الذي يعكس إخفاقها ويكرسه. في هذا السياق يظل الدفاع عن الهوية والنزاع من اجل تأكيدها محور أجندة الحركات السياسية الشعبية، في الوقت الذي يؤدي فيه فشل المشاريع القومية وإخفاقها إلى تنامي روح العصبية الطائفية والقبلية والمذهبية داخل صفوف الكتلة الشعبية، فاتحا بذلك مسرحا إضافيا للنزاعات الإتنية داخل المجتمعات المنتمية للقومية ذاتها.
وبقدر ما تفترض الديمقراطية الاستقرار والتحول نحو أجندة تنمية سياسية وإجتماعية، تصب عنايتها أساسا على الفرد المواطن وتعزز موقعه ومكانته في المجتمع والدولة، يدفع منطق النزاع السائد بمختلف أنماطه إلى التضحية بالفرد وبفرض التنمية وتحسين شروط الحياة والمعيشة العامة للسكان، لصالح تاكيد الهوية والاستقلال والسيادة المهددة أو المقيدة أو المفرغة من مضمونها. وهو ما يعني أن فرص نمو قوى ديمقراطية قوية تظل ضيئلة جدا في مثل هذا الوضع. وهو ما تشير إليه الوقائع بالفعل في كل بلدان المنطقة. ويقدم النزاع العربي الاسرائيلي والحروب المستمرة التي فجرها، وهو النزاع الذي لا يزال مستمرا منذ قرن من دون انقطاع، النموذج الساطع عن تأثير مناخ الصراع القومي والأقوامي على مصير القوى الديمقراطية، وعلى الديمقراطية بشكل عام في المنطقة الشرق أوسطية. وأكثر فأكثر يجر النزاع العربي الاسرائيلي إلى تعبئة المشاعر والعصبيات الدينية والقومية، ويدفع إلى تحويل المقاومة الخارجية والتركيز على العدوان الأجنبي إلى الأجندة الوحيدة السائدة في السياسة العربية، ويهمش جميع القوى التي تعمل على توجيه الرأي العام نحو مطالب تتعلق بتحسين شروط ممارسة السلطة وشروط الحياة والعيش داخل المجتمعات. وليس هذا من الأمور المستغربة او الغريبة. فعندما تتعرض المجتمعات إلى عدوان خارجي دائم، يتقدم الدفاع عن المصير العام على أي دفاع آخر عن مصالح الأفراد والجماعات. وتستطيع النظم الاستبدادية التي تتحكم بوسائل الدعاية والإعلام أن تعمق من هذا الاتجاه، وأن تستفيد منه لحرف الأنظار عن ممارساتها الشائنة. وهو ما يفسر إلى حد كبير نجاحها في عزل القوى الديمقراطية بالفعل في السنوات الماضية باسم الدفاع عن المصالح القومية ومقاومة الاستعمار والصهيونية وحماية تراث الاسلام وصون كرامته امام الاعتداءات والاستفزازات الغربية.


3-1 – تفتت المجتمع المدني واستلابه:
ترجع قوة الدولة والمكانة المركزية التي تحتلها في المجتمعات الشرق اوسطية، وقدرتها على ضبط المجتمعات واحتواء حركتها واستيعابها، إلى عاملين رئيسيين. قوة التحالفات التي تجمع النخب الحاكمة عموما مع المنظومة الدولية الغربية والمصالح التي تربط بينهما، في جميع المجالات الاستراتيجية والمالية معا. أما السبب الثاني فهو حيازتها على عوائد ريعية استثنائية بكل معنى الكملة واستخدامها لهذه العوائد، مستفيدة من تفاهمها مع الغرب، لبناء نظم مستقلة كليا عن المجتمعات، وقادرة على البقاء من دونها، وفي مواجتها معا. وهذه الاستقلالية التي نجحت هذه النظم في بنائها هي التي قوت من رصيدها في نظر الدول الغربية وزادتها مراهنة عليها كوكيلة لمصالحها وشريكة محلية لها في حفظ الامن والنظام الإقليميين. فبفضلها ضمنت هذه الدول نظما محلية تستطيع أن تستوعب حركة شعوب ومجتمعات ينظر إليها على أنها مصدرا للنزاعات القومية والدينية المتطرفة، وبالتالي لحركات مناوئة للغرب ومعادية لمصالحه. وجاءت ولادة حركات الارهاب الاسلامية في العقدين الأخيرين، واختيار بعضها الساحة الدولية، والغربية خاصة، مسرحا لعملياتها الانتقامية، لتعزز من خوف التحالف الصناعي الغربي وتزيد تعلقه بنظم برهنت على قدرتها على إخضاع الكتلة الشعبية بصرف النظر عن المعايير التي تستخدمها في إخماد حركات النقد والمعارضة والاحتجاج الداخلية، وغياب أي شكل من الحياة السياسية واحيانا القانونية فيها.
وكانت النتيجة الطبيعية والمباشرة لهذا التفاهم بين النخب الحاكمة المحلية والتحالف الغربي في الشرق الأوسط التحييد السياسي الكامل للشعوب، وشل إرادتها بالفعل، وتفتيت قواها السياسية والمدنية، وإقامة نظم متكلسة ومنغلقة على نفسها، ليس لها أي تواصل مع شعوبها، ولا تعرف طريقة أخرى لكسب تأييد هذه الشعوب ولا التعامل معها سوى استخدام وسائل القمع والقهر السافر والمقصود لذاته من أجل إعطاء العبرة والمثال. ولذلك ارتبطت صورة هذه النظم كما لم يحصل في أي نظم أخرى بتعدد قوى الأمن وتنوع أجهزته، واتساع دائرة ممارساته اللاقانونية، وشمول صلاحياته كل الشؤون العمومية. فصار الأمن هو البديل الحقيقي للسياسة. وأصبح العمل السياسي المعارض عملا فدائيا بالمعنى الحقيقي للكملة يعرض فيه صاحبه نفسه لكل المخاطر، من الصرف من الوظيفة إلى الاعتقال التعسفي إلى التعذيب إلى السجن المديد إلى القتل. وطالما شعرت النخب الحاكمة أنها تحظى برضى الغرب وتأييده، وأنها تتمتع بالموارد المادية والمالية الضرورية لتسيير اجهزتها، لم يعد هناك ما يدفعها للنظر في قضايا الشعوب، ولا التساؤل عن مصيرها، ومن باب أولى التوقف عند حقوقها ومصالحها. وهكذا حولت هذه النخب الدولة إلى مزرعة، وجعلت من قوى الجيش والأمن ميليشيات خاصة تستخدمها لفرض الإذعان على مجتمع من الأقنان، واستعملت الإرهاب لردع قوى المقاومة الضيئلة التي لا تزال تتجرأ على الوقوف في وجه الاستبداد وتوجيه النقد إلى سياساته.
من المستحيل في ظل هذا النظام العربي الذي يلغي السياسة من الأصل، ولا يعترف بحقوق ولا واجبات، ويكرس ألوهية الحاكم وعصمته، كما يكرس توارث مناصب المسؤولية في كل المؤسسات، أن تقوم مجتمعات مدنية، أي أيضا سياسة، بالمعنى الحقيقي للكملة. وكل ما نعرفه من المنظمات والهياكل المدنية يتوزع بين مجموعتين، فئة المنظمات السياسية والحقوقية القائمة على جهود نخب المثقفين النشيطين المناضلين والمغامرين بمصالحهم وأحيانا أرواحهم أيضا، والمستندة في وجودها وتمويلها على المجتمع المدني العالمي، وفئة الجمعيات الخيرية التي تعمل تحت السقف المنخفض جدا للامن والسياسة الرسميين، ولا تستطيع أن تستمر وتعيش إلا بقدر ما تخضع لقاعدة الالتزام بمصالح جزئية، وتجنب الحديث او العمل في كل ما له علاقة، من قريب أو بعيد، بالشأن العام وبالقضايا المتعلقة ببناء المجتمعات المدنية. الدول تحولت إلى أجهزة ضبط وحصار وقمع، أي إلى أدوات للسيطرة المادية المباشرة والفورية، ولم تعد تتمتع بأي قيمة او بعد أو محتوى سياسي او أخلاقي او اجتماعي.

 


2- إخفاق مبادرة الاصلاح والديمقراطية وأسبابه
التدويل العميق للمنطقة، وحالة النزاع والحرب المزمنة فيها، وتسلط أجهزة الأمن كممثلة للسلطة السياسية عليها، كل ذلك يشكل أوجها لنظام سيطرة واحد، هو النظام الذي أقيم في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يزال مستمرا بالرغم من كل ما تعرض له من هزات ومقاومات. وهو نظام متكامل ومتضامن ومتساند، ترتبط نجاعة وسائله على المستوى الدولي بنجاعة وسائله على المستوى السياسي الداخلي، كما ترتبط هذه وتلك بمناخ الحرب المزمنة واستمرار الاحباطات القومية عند جميع الدول والشعوب. وليس من الممكن التفكير بأي تغيير جدي في أي مستوى من مستويات عمل النظام من دون تغيير مواز في المستويات الأخرى. مما يعني أن أي تغيير سياسي في اتجاه دمقرطة النظم القائمة سوف يعني بالضرورة زعزعة نظام الوصاية والسيطرة الخارجية. وبالمثل إن ايجاد حل للمشاكل العالقة وللاحباطات القومية، ووقف مسلسلات الدم والحروب يهدد استمرار نظام السيطرة الخارجية والاستبداد المطلق الداخلي. وهو ما يعني أنه ليس لمصلحة أي طرف من الأطراف المستفيدة من النظام أن تدفع إلى التغيير، حتى عندما يتعلق الأمر بمستويات لا تعنيها مباشرة. وهذا ما يفسر تردد الدول الغربية في سحب دعمها عن الأنظمة الاستبدادية والتعسفية اللاقانونية، ثم تراجعها السريع بعد إعلانها عن عزمها على الإصلاح في السنوات الأخيرة الماضية.
وهو يفسر أيضا لماذا كان من غير الممكن بناء قوى داخلية قادرة على تحقيق التحولات الديمقراطية، ولا حتى على مواجهة الخراب المدني والسياسي الذي تحدثه النظم الاستبدادية ويدفع إلى سيطرة العقلية الفردية الأنانية وتعميم الفساد. ولماذا لا يزال من غير الممكن الفصل بين غياب فرص التنمية السياسية الداخلية، أي داخل حدود البلدان، واستمرار الحروب والنزاعات القومية والوطنية المزمنة، والتي أخذت في الفترة الأخيرة تتحول بصورة واضحة إلى حروب دمار وانتقام، فاقدة هي نفسها لأي أمل في تحقيق أي انتصار غير ما تكبده من خسائر وآلام للخصم. وهو ما يفسر أخيرا العلاقة الوثيقة التي تربط بين استمرار الحروب والنزاعات الإقليمية وتخليد نظم الاستبداد لأكثر من نصف قرن من جهة، وتغول القوى الكبرى على المنطقة ونزاعها المستمر فيما بينها على السيطرة السافرة عليها، بكل ما يستدعيه ذلك من تبرير الحروب والتدخلات العسكرية والسياسية الدائمة، وإضفاء الشرعية على سياسات الاحتواء ولتلاعب والاستيعاب ضمن الاستراتجيات الدولية المتنافسة للقوى السياسية والأحزاب والنخب والطوائف والإتنيات المتنازعة في ما بينها أيضا، من جهة ثانية. وهو ما يجعل حياة مجتمعات الشرق الأوسط فوضى عارمة، ويفقدها كل أمل في الثبات والاستقرار والقيام على أسس ومباديء موضوعية وعقلانية وشرعية. فالتلاعب والغش والخداع والمراوغة هي مفردات السياسة المتبعة من قبل بين جميع الأطراف الداخلية والخارجية، ولغتها المشتركة.

 

1-2 وحدة المسارات السياسية والإقليمية والدولية
من هنا، أصبح من غير الممكن تحقيق خرق أو اختراق ديمقراطي في الشرق الأوسط من دون حصول حد أدنى من التوافق بين العوامل الثلاثة: الدولية والإقليمية والوطنية. والمقصود من هذا التوافق أولا، وعلى الصعيد الدولي، تفاهم جدي، بين الكتل الدولية المتنازعة على مناطق النفوذ في الشرق الأوسط، على اجندة واحدة موحدة لسياستهم الشرق أوسطية، والقبول بتنازلات نسبية في سبيل إعطاء دول المنطقة هامشا أوسع من السيادة وحرية القرار الداخليين. وهو شرط وجود السياسة وتثقيلها، وبالتالي نشوء إرادة عامة، وإنطلاق عملية التنافس السياسي جديا، وتزويد عملية الانتخابات، التي تشكل المعيار الظاهري للديمقراطية، بالحد الأدنى من الصدقية. فلا يمكن للديمقراطية ولا لعمليات الانتخاب العام أن تحظى بأي صدقية إذا كانت مضطرة دائما إلى التصديق على نتائجها والإقرار بوجودها من قبل الدول الأجنبية. ولو كان ذلك ممكنا، لكان الحل في الدعوة إلى تحييد المنطقة، مع ضمانات دولية لانتزاعها من مجال النزاعات على مناطق النفوذ، وتخفيف الضغوط والأعباء الناجمة عن هذه النزاعات عنها. لكن ليس هناك، على صعيد التنظيم العالمي، ما يضمن، بعد، مقاومة إغراء السيطرة المنفردة عليها من قبل أي قوة أو كتلة دولية. بالإضافة إلى أن أحدا لا يستطيع أن يقنع التحالف الأمريكي الأوروبي الذي يسيطر عليها اليوم التخلي بإرادته عن أعظم فريسة استراتيجية.
والمقصود من التوافق على المستوى الإقليمي ثانيا، التفاهم على ايجاد حلول ايجابية وتسويات ناجعة وعادلة للنزاعات التي تستنفد طاقات المنطقة وتشل إرادة شعوبها، ووضع حد للحروب التي خربت المنطقة ودمرت مؤسساتها وبنياتها السياسية والقانونية والنفسية، ولم تقتصر على تدمير اقتصادها. أي إزالة أسباب التوتر والصدام لصالح تنمية الاتجاه نحو السلام والأمن والاستقرار. فكما أنه لا يوجد أي أمل في حصول اختراق ديمقراطي مع استمرار النزاع الدولي على مناطق النفوذ بين الدول الكبرى، وما يضمنه هذا النزاع من فرص الهرب للنظم الفاسدة والمستبدة من احتمال مواجهة الاستحقاقات السياسية والاجتماعية، عن طريق انخراطها في استراتيجيات أكبر منها، والعمل في خدمتها، كما هو حاصل حتى الآن، كذلك لن يكون هناك أي أمل في تطور تيار ديمقراطي قوي داخل المجتمعات مع استمرار الاحباطات القومية العامة، وسيادة منطق النزاع بين الهويات المجروحة والمهانة، والتنافس على السلطة واقتسامها، وتحويلها إلى غنيمة من قبل العصبيات الجزئية المسيطرة عليها.
لكن هذه التحولات النوعية الدولية والإقليمية ليست قادرة وحدها على توفير شروط التحول والانتقال من الديكتاتورية والحكم التعسفي نحو الديمقراطية. فالعامل الأول والرئيس يكمن في تكون مجتمع مدني قادر على الحركة والمبادرة وتحمل المسؤولية ومساعدة المجتمع على أن يأخذ مصيره بيده ويتحمل مسؤولياته أيضا. وهو المقصود بالعامل الداخلي والوطني. فمن دون توفر فرص نشوء قوة سياسية واجتماعية قادرة على طرح مشاريع جدية وذات صدقية لمواجهة تحديات الانتقال وبلورة سياسات واستراتيجيات إقليمية ودولية ناجعة وعقلانية. وبالرغم من أنه لا يمكن في ظروف الاستتباع الكامل للشعب وللرأي العام من قبل السلطة والنظم الاستبدادية توقع انتشار واسع لمثل هذه القوة بين السكان، إلا أن وجودها وقوة تنظيمها وصدقيتها، يشكلان، مهما كان حجمها، ورقة رئيسية ولا غنى عنها في أي مشروع تحويل ديمقراطي. ولا يمكن لأي طرف آخر أن يوجد مثل هذه القوة، سوى المجتمعات نفسها، وجهد الناشطين المدنيين والمثقفين وأصحاب الرأي. ولن تكون مثل هذه القوة قادرة على تحمل المسؤولية والتفاوض باسم المجتمع والدفاع عن مصالحه إذا كانت صنيعة الدول الكبرى الخارجية أو القوى الإقليمية. ينبغي أن تنبثق عن المجتمعات نفسها وتكون جزءا لا يتجزأ من استعاده هذه المجتمعات وعيها وانتزاعها المبادرة والتطلع نحو تأكيد سيادتها وتجدد روحها السياسية والمدنية والأخلاقية. من دون ذلك لن يكون هناك أي مستقبل للديمقراطية حتى لو اتفقت جميع الدول الكبرى على تشجيعها، وحلت جميع النزاعات الإقليمية التي تحول اليوم دون نموها وتقدمها.


2-2- غياب التوافق بين الأطراف وتضارب المبادرات والمشاريع
والواقع أن مشكلة الديمقراطية في الشرق الأوسط لا تنبع من تداخل هذه العوامل مع تباين تأثيراتها وتحييد بعضها للآخر فحسب، ولكن أكثر من ذلك من عدم وجود أي عامل منها على درجة من القوة يسمح له بتحقيق الهدف بمعزل عن العوامل الأخرى. ولو أمكن لأي عامل أن يحقق درجة كبيرة من الفعالية، داخليا كان أم محليا، كحصول تفاهم قوي وثابت بين دول التحالف الغربي والمنظومة الدولية على دمقرطة الحياة السياسية الشرق أوسطية أو ايجاد حل لمشاكل الشرق الأوسط القومية يحولها إلى مركز للاستثمارات الاقتصادية والتنمية البشرية، او بروز حالة ثورية داخلية تجعل الاستمرار مستحيلا على النظم الاستبدادية، لما كانت هناك حاجة إلى توافق الشروط الداخلية والخارجية والإقليمية. إنما تظهر الصورة التي قدمناها عن المنطقة ووضعها في النظام الدولي وحالة تطور المجتمعات المدنية فيها أن احتمال نجاح أحد هذه العوامل في أن يكون عاملا حاسما لوحده ضيئل جدا. ومن هنا يبدو لي أن مصير الديمقراطية مرتبط في هذه المنطقة بحصول توافق بين هذه العوامل الداخلية والخارجية. فهو الذي يعوض عن ضعف العوامل جميعا وعدم قدرتها على التحول إلى عوامل حاسمة لوحدها. وهو ما يفسر أسباب فشل الضغوط الغربية التي مورست على النظم في السنوات الماضية في اتجاه فرض إصلاحات ديمقراطية، كما يفسر إخفاق قوى المجتمع المدني عن التقدم والنمو بما فيه الكفاية حتى تشكل عامل ضغط فعال، وتجبر الأنظمة على تقديم تنازلات وعلى الانفتاح على الطبقة الوسطى وقبولها شريكا في الحياة السياسية. ويبقى الأمل الوحيد في إحداث مثل هذا الاختراق الديمقراطي، في حالة غياب مثل هذا التوافق، حصول ثورة عارمة تقلب الأوضاع كليا.
وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي في إخفاق موجة الديمقراطية التي أطلقت الكثير من الآمال في مطلع هذه الألفية الثالثة هو عدم توافق هذه العوامل الثلاث، مما جعل كل طرف يشد اللحاف لطرفه، وساهم في تحييد جميع الجهود الداخلية والخارجية. فالواقع أنه لم يكن هناك إجماع وتفاهم عميق بين دول التحالف الغربي على معنى الديمقراطية ومضمون الاصلاحات المطلوبة ووتيرة تحقيقها. وكان الخلاف واضحا بين الأمريكيين والأوروبيين حول تقدير ما ينبغي عمله وبناء اجندة عملية للاصلاحات المنشودة. وقد استغلت النظم القائمة هذا الخلاف ولعبت عليه.
كما أن سياسات الدول الكبرى تجاه النزاعات الإقليمية وإخفاقها الذريع في فتح طريق حلها، ولو بصورة تدريجية وبطيئة، كما وعدت، قد خلقا وضعا سياسيا ونفسيا معاديا للخيار الديمقراطي، ودافعا إلى المقاومة ورد الفعل. وليس من المبالغة القول إن مشاريع الاصلاح الديمقراطي التي قاتلت من أجلها قوى عربية فتية ببسالة ودفعت تضحيات كبيرة لتاكيد فكرتها، كانت ضحية السياسات الخرقاء التي اتبعت في السنوات الخمس الاخيرة في فلسطين والعراق ثم في لبنان، وجعلت من حروب التدمير الشامل البديل الوحيد للحلول السياسية المتفاوض عليها والتي تقدم مخرجا مقنعا إلى حد او آخر لجميع الأطراف.
وبالمثل ما كان من الممكن أن تكون للضغوط التي مورست على النظم الاستبدادية القائمة في البلدان العربية أي نتائج تذكر مع تحول هذه النظم إلى دوائر مغلقة على نفسها، وتمتعها بموارد وإمكانيات ودعم خارجي يمكنها من التحلل من أي التزام تجاه شعوبها. فكان بإمكانها ولا يزال الاعتماد بشكل مباشر في وجودها على القمع وتحويل اجهزة الامن الواسعة الانتشار إلى أداة وحيدة للحكم والتحكم بالقرار في مواجهة مجتمعات مفككة ومذررة، مفتقرة للموارد الخاصة وللقيادات أيضا.
لقد حاولت الإدارة الأمريكية أن تواجه متطلبات التغيير هذه بالفعل، على المستويات الثلاث: الدولي والإقليمي والوطني الداخلي. وسعت إلى حسم النزاعات الدولية والإقليمية والداخلية الوطنية بطريقتها الخاصة. لكن مشكلتها والنكسة الخطيرة التي تعرضت لها سياستها في هذا المجال نابعة من أنها أرادت أن تحل مسألة الصراع على المنطقة الذي يشكل عبئا لم يعد يحتمل عليها، ومهربا للنظم المختلفة من مواجهة الاستحقاقات الداخلية، بفرض سيطرتها المنفردة على المنطقة بأكملها وإخراج اللاعبين الآخرين، بما فيهم أقرب حلفائها من الأورييين، من حلبة المنافسة، بدل العمل على بلورة إجماع دولي حول تحييد المنقطة عن النزاعات الدولية. وأرادت أن تحل مشكلة النزاع الإقليمي المستمر، والذي يزداد شراشة وتعفنا وعنفا بسبب تفاقم الاحباط عند الجميع، عن طريق الزج بكل ثقلها مع حكومة اليمين القومي الاستعماري المتطرف في اسرائيل، ومحاباة القومية الاسرائيلية على حساب جميع القوميات الأخرى. وأرادت أن تحل مشكلة انفصال النخب الحاكمة، سياسيا بفضل دعم الغرب لها، واقتصاديا بسبب توفر العوائد النفطية والريعية الكثيرة، عن شعوبها وتجاهلها حقوقها وتغولها عليها، بالعمل على استتباع هذه النخب بشكل أكبر، وفرض نظام الإذعان عليها لتدخل في استراتيجيتها وتعمل بأمرها، بدل تطوير هامش مبادرة المجتمعات وتوفير وسائل حمايتها وتعزيز استقلالها تجاه جلاديها. لقد أرادت تحالفا أقوى مع الجلادين لدفعهم نحو الديمقراطية، بدل تقليم أظافرهم وإجبارهم على احترام إلتزاماتهم، والتراجع عن سياساتهم التعسفية، كأي نظم سياسية تحكم باسم شعب وتمثل مصالحه الوطنية.
هكذا ما كان لموجة الديمقراطية التي ارتفعت في المنطقة في السنوات الماضية أن تصل إلى غير طريق مسدود. مسدود على الصعيد العالمي بعد أن تخلت عنها الدول الكبرى النافذة والمتحكمة بمصير المنطقة، ومسدود على المستوى الإقليمي بسبب تعفن النزاعات والحروب المتعددة الدائمة وتغذيتها لمشاعر الاحباط والرغبة في الانتقام وتحقيق انتصارات وهمية ممنوعة أو محرمة بدل التفكير في مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة وفي وسائل وأساليب أنجع لمواجهة التسلط الاسرائيلي والأجنبي. ومسدود على المستوى المحلي بسبب تجاح النظم القائمة في تكوين نظم امنية مستقلة كليا بمواردها المادية والسياسية عن الشعب وقائمة في فلك خاص بها، وفي قلعة معزولة تماما عما حولها. وهي الاجهزة التي ساهمت الدول الكبرى ومناخات الحرب المستمرة معا في تكوينها وتطويرها.
من هنا، لا يمكن لمسألة تعزيز الديمقراطية أن تنفصل عن العمل على المستويات الثلاث: الدولي والإقليمي والوطني، أي عن مسألة التوصل إلى أجندة متفاهم عليها بين جميع القوى المعنية حول إصلاحات ديمقراطية مرتبطة، هي نفسها، باجندة إصلاحات إقليمية تخص ايجاد حلول لمشاكل النزاع العالقة في المنطقة، وأجندة إصلاحات تمس علاقات القوى الدولية بالمنطقة ومكانة هذه الأخيرة في الاستراتيجيات الدولية. فالديمقراطية ليست مسألة محلية ولكنها تشكل، هنا، مسألة مشتركة: وطنية وإقليمية ودولية معا، بقدر ما أن الوضع الشرق أوسطي وضع مدول عمليا، لا تخضع السياسة ولا السيطرة العامة فيه لقوى وعوامل وأهداف داخلية أو إقليمية فحسب، ولكن تختلط في صنعهما المصالح الخارجية والداخلية.

 


3-استنتاجات وعبر:
لا أعتقد أن من الممكن التقدم على طريق تعزيز الديمقراطية أو الدفع بمشروعها نحو الأمام في الشرق الأوسط من دون التأمل في تجرية السنوات القليلة الماضية وأخذ العبر والدروس منها. فهي تجربة مهمة من زاويتين، زاوية فهم سلوك النظم الاتوقراطية القائمة فيها ونجاحها في مقاومة الضغوطات الخارجية والداخلية وتجنب الاصلاح والانفتاح. وزاوية إخفاق التكتل الغربي ومن وراءه المنظومة الدولية التي دعمته في مشاريعه في إحداث أي حركة تغيير ذات وزن أو مغزى في اتجاه تعزيز فرص تقدم خطى الديمقراطية المنشودة.
أريد باختصار أن أشير إلى بعض الدروس التي أبرزتها تجربة السنوات القليلة الماضية والتي تستحق التأمل وتكون محور نقاشاتنا لهذه الجلسة.
- ضرورة الربط بين جميع القضايا الإقليمية:
لا يمكن فصل قضية دمقرطة الحياة السياسية في هذا البلد او ذاك في الشرق الأوسط عن بقية القضايا الأخرى الكبيرة التي تشغل الرأي العام بأكمله وأحيانا تشكل بؤر اهتمام أقوى وأشد فيه. والاعتقاد بأن الديمقراطية يمكن أن تكون دواء يشفي من الإحباطات الوطنية والقومية، او تعويضا عنها، يقود لا محالة إلى تقويض أسسها بقدر ما يظهرها وكأنها وسيلة للالتفاف على الإرادة الشعبية بوسائل أخرى. الديمقراطية لا يمكن أن تكون مثلا تعويضا عن انتهاك السيادة الوطنية أو عن التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. بالعكس، أظهرت تجربة السنوات القليلة الماضية أن انتهاك السيادة، الوطنية للبلدان العربية أو بعضها، واستمرار انتهاك الحقوق الفلسطينية يفرغ مشروع الديمقراطية من محتواه، ويفقده الصدقية ويسمح للقوى المعادية له بتعبئة الرأي العام ضده بوصفه خطة أو جزءا من خطة، أو غطاءا لخطة إستعمارية.


- تأكيد وحدة القضية الديمقراطية في المنطقة:
لا يمكن فصل قضية الديمقراطية في أي بلد عن قضية الديمقراطية في أي بلد آخر في المنطقة أيضا. فإما ان تكون الديمقراطية هدفا مشتركا وواحدا تجاه دول المنطقة جميعا، بما فيها بالتاكيد إسرائيل، أو أنها ستتعرض إلى تشكيك بصدقيتها، وتظهر وكانها تكريس جديد لقاعدة الكيل بمكيالين واستخدام الديمقراطية وسيلة للضغط على الدول لا كمشروع وغاية في ذاتها. لا يمكن للديمقراطية أن تتقدم في البلدان العربية إذا كانت انتقائية، مطلوبة للعراق وليست مطلوبة لسورية، مطلوبة للبنان ومستبعدة من مصر أو تونس أو العربية السعودية. وهذا يعني إما أن تكون هناك خطة جدية لدمقرطية النظم السياسية في عموم المنطقة العربية أو أن الديمقراطية ستظل شعارا تستخدمه القوى الدولية في نزاعها على المصالح والنفوذ في الشرق الأوسط، مع ما يعنيه ذلك من نزع الصدقية عن القضية الديمقراطية وتحويلها إلى أداة من أدوات الصراع القومي والوطني.


- ضرورة فصل الأجندة الديمقراطية عن أجندة السيطرة لغربية :
لا يمكن في الشرق الأوسط التوفيق، كما حصل في بلدان أوروبة الشرقية، بين أجندة الديمقراطية وأجندة السيطرة الغربية. فالديمقراطية تهدد لا محالة بزوال سياسات التبعية والإلحاق بقدر ما تعيد السيادة والقرار للشعوب والرأي العام، بينما يحتاج استمرار السيطرة والاشراف على المصالح الاستراتيجية والحيوية الغربية والحفاظ عليها إلى تقييد هذه السيادة والاحتفاظ بها دائما تحت السيطرة بوسائل مختلفة، كان أبرزها حتى الآن تعزيز الوصاية السياسية للنخب الخاصة عليها. وكما لم تشجع صيغة الديمقراطية المقيدة والفاقدة للسيادة الطبقات الوسطى على التحمس لمشاريع الاصلاح الغربية، لم تثر مشاريع الديمقراطية الوطنية التي تبنتها شرائح واسعة من الطبقة الوسطى والمثقفة العربية اهتمام الدول الغربية ولا نالت ثقتها. وفي ما وراء الصراع بين مشاريع الدمقرطة والاستبداد، كان النزاع قويا أيضا بين مشاريع الهيمنة الغربية المقنعة بنموذج شكلي لديمقراطية مفروضة، ومشاريع الصراع لا نتزاع السيادة والحرية وحق المشاركة داخل البلدان العربية من قبل النخب والطبقات الوسطى والمثقفة.
فأحد عوامل فشل الضغوط التي مورست في السنوات الماضية من اجل الديمقراطية هو غياب اجندة ديمقراطية مستقلة. فإلى جانب اجندة الطبقات الوسطى المعنية بفتح النظام السياسي وتوسيع دائرة المشاركة السياسية لتحسين فرص التنمية والاستقلال والسيادة الوطنية، كانت هناك أجندات دولية وغربية متباينة، لكنها تشترك جميعا في سعيها إلى تسويق نموذج ديمقراطي شكلي يهدف إلى محاربة القوى الاسلامية واستيعابها، من دون أن يخل بمعادلة القوة القائمة والتي تضمن تبعية الدول العربية عموما للسياسات والاستراتيجيات الكبرى الغربية. بل إن بعضها استخدم الديمقراطية كذريعة للمساومة على الحقوق الوطنية، وكوسيلة للتغطية على مشاريع سيطرة أجنبية أكثر فظاظة من المشاريع السابقة المعرضة للانهيار.


- تجنب ازدواجية المعايير:
لا ينسجم تحقيق الديمقراطية وتعزيزها مع سياسات الحرب والتهديد والمراوغة والاستفزاز والاقصاء. فالطريقة التي واجهت بها الكتلة الغربية نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية بسبب فوز قائمة حماس قد قوض صدقية الدعوة الغربية للديمقراطية، وأظهر أن ما هو مقصود منها ليس تمكين الشعب من التعبير عن إرادته بحرية، وإنما ايصال القوى المؤيدة للغرب أو القادرة أكثر على الانسجام مع سياساته واستراتيجيته إلى السلطة، في البلاد العربية بدل القوى القائمة الفاشلة. وهذا يعني أن تعزيز الديمقراطية يحتاج إلى تبني أساليب ووسائل عمل ديمقراطية هي أيضا، وفي مقدمها الحوار والتفاهم والتواصل. وهو ما يستدعي مسبقا الاعتراف بالشعوب العربية كطرف أصيل وبحقوقها الكاملة، وليس اعتبارها تابعا للنظم أو أدوات نفوذ أو صراع على النفوذ، حتى لو كان لا يزال لديها، بسبب ظروف الحكم والثقافة السائدين، استعدادات كبيرة للتبعية والالتحاق والاستزلام.


- إعادة تقويم مفهوم الدمقرطة والديمقراطية وتعزيز الثقة بالشعوب:
وهذا يعني أخيرا أنه لا ينبغي علينا أن ننظر إلى الديمقراطية بمثابة تقنيات وأصول إجرائية، وعمليات انتخابية او مظاهر تعددية فحسب. ولا حتى كنظام يطبق هنا وهناك بحسب ما تسمح به الظروف والمصالح المتباينة، الداخلية والخارجية، حتى لو كان هذا ما يحصل في الواقع. ولكن النظر إليها باعتبارها هي نفسها نظام تاهيل للدول والشعوب، ووسيلة تدريب لها وتكوين لا بد منهما للارتقاء بها وبأفرادها نحو الحياة السياسية القائمة على مباديء وقيم أخلاقية ايجابية وثابتة. فهي نفسها برنامج تاهيل وليست شهادة على هذا التأهيل عند الشعوب. وكما أن المدرسة لم تخلق لتقديم شهادات وإجازات علمية لطلاب اكتمل تأهيلهم، ولكنها بالعكس خلقت لتكوين الافراد غير المتعلمين وتأهيلهم، كذلك ليست الديمقراطية نظاما يتوج شعوبا وصلت إلى الكمال في وعيها وسلوكها المدني وقيمها وتقاليدها، ولكنها برنامج عمل وتعليم وتأهيل وتدريب للشعوب والمجتمعات حتى ترتقي إلى مستوى الحياة السياسية المدنية، ومدرسة سياسية تعلم الأفراد مباديء الحرية والمساواة والقانون والتضامن والتكافل الوطني، وإطارا لتحويلهم من إمعات وأقنان وأزلام تابعينل لهذا الزعيم أو ذاك أو لهذه العصبية أو تلك، إلى مواطنين قادرين على فهم القوانين واستبطانها ومطابقة سلوكهم معها، وبالتالي على الارتقاء إلى مستوى الحياة الاجتماعية الأخلاقية، وعدم الاستمرار في التصرف داخل مجمتمعاتهم كوحوش مفترسة ينهشون بعضهم البعض، ويستخدمون كل ما تقع عليه أيديهم من وسائل في سبيل تأمين مصالحهم الخاصة ومصالح ذويهم الأقريين، بصرف النظر عما يتسبب فيه سلوكهم الأناني هذا من أذى لمصالح الآخرين ومصيرهم ومستقبل ذويهم.
الديمقراطية هي تحد بحد ذاتها، أي مراهنة على قدرة الانسان على الارتقاء في سلوكه إلى مستوى أخلاقي، أي قائم على مباديء واضحة ومقبولة من الجميع، بعكس السلوك الغريزي الذي يسم سلوك الحيوان أو ردود فعله. وككل رهان، ليس هناك أي ضمانة أن يتحقق هذا الارتقاء كليا ولا أن يشمل جميع الأفراد بالتساوي. فهو ينطوي بالضرورة على مخاطرة، ولكن لا بد من القبول بها لأنه يستحق المراهنة، وهو يشكل ربحا صافيا، سواء أكانت نتائجه كاملة أو جزئية، وبالتالي فليس هناك بديل عنه. وكما أننا لا نحصل على أي ضمانة مسبقة عندما نرسل أبناءنا إلى المدرسة والجامعة بأنهم سينالون الشهادات العليا المنتظرة، ومع ذلك فنحن نرسلهم إليها، ونسعى بكل ما لدينا من قوة إلى مساعدتهم على تحصيل أقصى ما يستطيعونه من درجات علمية للنجاح في حياتهم المقبلة، كذلك ينبغي أن يكون موقفنا من الديمقراطية أيضا. فهي المدرسة الوحيدة المتاحة لتأهيل المجتمعات وتدريب الافراد على الحياة السياسية المدنية السليمة والصحيحة والايجابية.
وفي هذه الحالة ليس ضعف ثقافة الشعوب، ولا حتى الطابع المتوحش للعلاقات التي تسودها مبررا لحرمانها من فرصة الديمقراطية، أو التحول إلى حياة سياسية ومدنية أخلاقية، ولكن العكس هو الصحيح، إن هذا التوحش ينبغي أن يكون المبرر والدافع بشكل أكبر لحفزها على الدخول في مدرسة الديمقراطية وانخراطها في معركة التأهيل السياسي. ولذلك أقول إن الديمقراطية لن تتقدم في المنطقة الشرق أوسطية من دون أن يحسم في موضوع القرار السياسي والاستراتيجي، والتسليم بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ضمن معايير السلام والشرعية الدوليين. وهو ما يستدعي إزالة الهوة العميقة التي لا تزال تفصل بين أجندة تحقيق سيادة الشعوب التي لا ديمقراطية من دونها، وأجندة السيطرة الدولية التي تستدعي مصادرة هذه السيادة لضمان مصالح الكتلة الغربية التي لا تثق بإمكانية التفاهم مع الشعوب الشرق أوسطية في سبيل تأمين مصالحها النفطية والأمنية الاستراتيجية.

 


4 – الخروج من الحلقة المفرغة:
أهم ما أثبتته تجربة السنين القليلة الماضية هو أن الرهان على تعاون النظم المستبدة القائمة في سبيل تحقيق إصلاحات سياسية ليس في محله. وأن هذه النظم لا تزال قادرة على امتصاص جميع الضغوط الداخلية والخارجية واحتوائها في سبيل تأمين استمرارها، وتكريس عملية توريث السلطة وتأمينها ضد كل مخاطر التغيير والاصلاح.
كما أثبتت أنه لا يمكن الرهان أيضا، لا من قبل الحركة الديمقراطية ولا من قبل القوى الخارجية، على اختراق الدولة من أجل بناء علاقات مباشرة مع المجتمع المدني. فإما أن هذا غير ممكن مع النظام الأمني الصارم، أو أنه يحمل مخاطر التلاعب بالمجتمع المدني واحتمال احتوائه لتحقيق مصالح استراتيجية خاصة بالدول والمنظمات الممولة والموجهة.
وأثببت بالمثل أنه من الصعب الرهان على دعم ثابت من قبل الدول الكبرى لمشروع دمقرطة العالم العربي، بسبب المصالح الاستراتيجية الكبيرة المرتبطة بالحفاظ على الوضع القائم ودعم الاستقرار فيه. وقد جاءت الحرب العالمية ضد الارهاب لتعزز من مكانة النظم الأمنية ودورها في الاستراتيجيات الدولية، والأمريكية منها بشكل خاص.
وأثبتت كذلك أنه من غير الممكن المراهنة على المنظومات الأقليمية، مثل الجامعة العربية، فهي منظومات حكومية رسمية. ولم ينفع تبينيها لبعض المواثيق الخاصة باحترام حقوق الانسان أي بلد عربي من الاستمرار في انتهاك هذه الحقوق وضربه عرض الحائط بجميع القرارات والوثائق العربية والدولية المتعلقة بهذا الموضوع.
وسيبقى المجتمع المدني عاجزا، لوحده ومن دون توفير إطار سياسي شبه ديمقراطي، عن النمو والتقدم والقيام بالمهام الملقاة على عاتقه. وهو لا يزال محصورا في الدوائر الضيقة للمثقفين والنخب الاجتماعية الأكثر حراكا ونشاطية. وثبت بالتجربة أن من الخطأ طرح المجتمع المدني في مواجهة الدولة. فلا مجتمع مدني من دون دولة، ولا دولة من دون مجتمع مدني. المطلوب هو بالعكس دفع الدولة والمجتمع المدني إلى الحوار لتوسيع هامش مبادرة الدولة والمجتمع معا. لكن ليس هناك امل في تحقق مثل هذا الخيار في حجر نظم سياسية اجتماعية خاضعة بالفعل لسيطرة فئات محدودة، نجحت في وضع يديها على كل مقاليد السلطة وفي الاستقلال الكامل تقريبا عن المجتمع، وفقدت أي رؤية أو مفهوم سياسي لدورها ووظيفتها وصارت تتصرف بمنطق الجماعة التي تختطف شعبا ودولة وبلدا كما تختطف عصابة طائرة، لا يهمها مستقبله، ولا تفكر إلا بما يضمن ثراءها واستمرارها، وفي ما وراء ذلك، تدرك أيضا أن لا مستقبل لها، وأنها فقدت مبررات وجودها ولم يبق لها سوى أن تختار بين أن تكون القاتل او المقتول. هذا هو الوضع في كثير من الدول العربية للأسف.
كل ذلك يظهر حقيقة الحلقة المفرغة التي توجد قيها قضية الديمقراطية في الشرق الأوسط. ولا أعتقد أن هناك أي وسيلة للتقدم في هذا الملف من دون ايجاد الإطار الدولي الذي يمكن جميع الأطراف، العالمية والإقليمية والوطنية، على المستوى الرسمي لكن أيضا على مستوى منظمات المجتمع المدني والمجتمعات السياسية والمثقفين والخبراء، من الحوار والنقاش فيما بينهم للتوصل إلى تفاهم حول مصير المنطقة ومستقبلها، والتنازلات التي يطلب من كل طرف القيام بها من أجل وقف التدهور القائم ووضع حد للهدر والدمار والبؤس المادي والنفسي الذي يطبع حياة شعوب المنطقة ويهدد مستقبلها. ولا أرى إطارا أفضل من فوروم عالمي حول الديمقراطية والحكم الصالح في الشرق الأوسط تشارك فيه جميع القوى المعنية، الرسمية والمدنية، يعقد دوريا تحت إشراف الأمم المتحدة. ويكون الهدف الرئيسي منه وضع الجميع أمام مسؤولياتهم والاحتكام للرأي العام العالمي وتعبئته. فلا تنفع كثيرا في نظري وسائل الضغط والحصار وأسوأ منها وسائل التدخل العسكري والسياسي. ولا توجد للأسف وسائل أخرى غير الرهان على يقظة الرأي العام، لمحلي والعالمي، وعلى ما يمكن أن ينتجه الحوار والنقاش والتفاوض من ثقة متبادلة بين الأطراف تدفع بهم إلى تقديم التنازلات الضرورية للوصول إلى التسويات المطلوبة للنزاعات الملتهبة والمزمنة التي لا تحول دون قيام حياة ديمقراطية سليمة في عموم المنطقة فحسب ولكنها تقوض أسس الحياة المدنية فيها.