عودة إلى مسألة الحوار بين الحضارات

2002-09-19::

 

هل هناك إمكانية لحوار عربي غربي بناء وناجع ؟

حضارة واحدة وثقافات متعددة

 يحظى مفهوم حوار الحضارات باهتمام متزايد في الأوساط الدولية· وبعد أن تبنته قطاعات كبيرة من القيادات الفكرية والسياسية الاسلامية، أخذت هيئة الأمم المتحدة اليوم على عاتقها مهمة تنظيم أول لقاء حول الموضوع، مستجيبة في ذلك لنداء وجهه الرئيس الايراني محمد خاتمي· ومع ذلك، لا أعتقد أن هذا المفهوم الذي ظهر كرد فعل على مفهوم صراع الحضارات أو الثقافات الذي أطلقه في العقد الأخير استاذ العلاقات الدولية هنتنغتون، مفهوم بريء ولا بديهي· ويقود استخدامه من دون نقد أو تحليل إلى زيادة التشويش الفكري والسياسي الذي نعيش فيه، أكثر مما يساعد على فهم الواقع الدولي أو توجيهه· ومن أهم المخاطر الذي يؤدي إليها مثل هذا الاستخدام العفوي أو السطحي للمفهوم قبول المجتمعات، من دون وعي منها، بجدول أعمال المجتمعات الغربية السائدة، وبشكل خاص المجتمع الأمريكي، والسقوط في فخ التفكير في السياسة العالمية من المنطلقات نفسها التي تفرضها عليها هذه المجتمعات وعلى مسرح الصراع ذاته الذي تختاره لها·

يتضمن مفهوم حوار الحضارات، تماما كمفهوم صراع الحضارات، أربع مسبقات سياسية وايديولوجية· الأولى هي أن مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة واحد· وهذا يبدو بشكل واضح عبر الابدال الطبيعي الذي حدث عند ترجمة مقال اصطدام الثقافات واستخدام كلمة حضارة، بالعربية وكذلك في اللغات اللاتينية· ولهذا التوحيد بين كلمة الثقافة وكلمة الحضارة مفعولا أساسيا هو تعميم النظرة الاتنولوجية والثقافوية السائدة في العلوم الاجتماعية الأمريكية· فلا تتميز الحضارة هنا عن أنماط المعيشة والتفكير اليومية السائدة في هذا المجتمع أو ذاك، وهي أنماط تبدو ثابتة تضمن عبر إعادة إنتاجها كما هي إعادة إنتاج المجتمع أو الجماعة ذاتها· وهذه الأنماط التي تشكل قوالب جامدة هي التي تحدد حياة المجتمعات وتفرض عليها سلوكات لا تتبدل ولا تتغير· وتصوير الحضارات كبنى أصلية يهدف إلى تجميد هوية المجتمعات التي تحملها أو جوهرتها أي تحويلها إلى جواهر وماهيات لا تتحول ولا تتبدل· وإذا تبدلت عن طريق الطفرة أو الانهيار فقد المجتمع هويته وكيانه· والنتيجة نزع الصفة التاريخية والتطورية للثقافة ومن باب أولى أيضا للحضارة·

والمسبقة الثانية نابعة من نزوع هذه النظرة الثقافوية السائدة ذاتها إلى تصوير الصراعات التاريخية بين الأمم والكتل والجماعات كانعكاس للاختلافات الطبيعية الموجودة بين البنى الثقافية الأساسية و المستمرة كما هي عبر الزمن· مما يعني أن أصل المشاكل القائمة بين هذه الأمم والجماعات هو هذه الاختلافات الثقافية والحضارية لا غير، وأنه إذا نجحنا في إزالة سوء التفاهم والأحكام المسبقة وفي تعريف هذه الحضارات والثقافات بعضها على بعض، نزعنا فتيل الحرب الحضارية· وهذه النظرة تطمس أمرين خطيرن: الأول هو حقيقة العوامل التي تغذي الصراعات بين الدول والمجتمعات، وأكثرها اقتصادية وجيوسياسية وسياسية،، والثاني المسؤوليات الأدبية والسياسية عن ايصال العالم إلى الوضعية السيئة الذي يوجد عليها اليوم، وبشكل خاص الهوة المادية والمعنوية التي تفصل بين مجتمعات الشمال ومجتمعات الجنوب، والتي تفسر ربما أكثر من التاريخ الثقافي الخاص بكل جماعة، طبيعة ونوعية الثقافات وأنماط التفكير والعيش السائدة في هذا الوقت في جنوب هذا العالم· 

والمسبقة الثالثة هي تسويد فكرة مفادها أن الثقافات عوالم مغلقة قائمة بذاتها لايمكن نفاذ بعضها للبعض الآخر، وأن هذه الثقافات المغلقة تشكل بذاتها حضارات مما يضفي عليها صفة التكامل والاستمرار والشمولية· والمصادرة الرابعة أن هذه الحضارات تجسد الخصوصيات العميقة لكل مجتمع، وهي تعبر عن شخصيته العميقة والثابتة ولا يمكن لهذا المجتمع أن يتطور إلا عبرها ومن خلال المحافظة عليها·

وينتج عن كل هذه المسبقات أن ايجاد حلول ناجعة للمشاكل العديدة التي تعاني منها البشرية يتوقف على التقريب الثقافي بين الحضارات وتمازج الثقافات والتعريف المتبادل· وليس الحوار إلا وسيلة ذلك·

والحال أن الثقافة والحضارة مفاهيم معقدة ومتغيرة ومتباينة حسب المجتمعات وسياقات الاستخدام· ويتبدل محتوى ما نطلق عليه اسم الثقافة أو الحضارة من حقبة لأخرى· ثم إن خلط الثقافة بالحضارة بدفع إلى تحويل جميع الفوارق النسبية اللغوية أو الاتنولوجية إلى فوارق حضارية، ويقود إلى التعسف في استخدام المفاهيم كما حصل مع صاحب نظرية صدام الحضارات· لذلك أعتقد أن من الضروري، تجنبا السقوط في التشويش، من التمييز الواضح بين الحضارة وبين الثقافة· فالحضارة في نظري واحدة، وهي تلك الديناميكية العالمية التي تنجم عن التفاعل بين مختلف الثقافات البشرية وما يقود إليه هذا التفاعل التاريخي من تراكم في الخبرات النظرية والعملية ومن تعميم للمكتسبات والابتكارات، وما يؤدي إليه من ترقية لوسائل عمل الانسان وشروط حياته ونماذج إنتاجه وأشكال تنظيمه السياسية ومعاييره الأخلاقية· فهي تمثل القاسم المشترك التاريخي، أو الرأسمال العام الذي يستثمر نفسه كل مرة في ثقافة من الثقافات ليزيد في حجم التراكمات والاانجازات التاريخية ويرفع هذه الثقافة إلى مصاف الكونية· فمن خلالها تجدد الثقافات نفسها، وبالمقارنة معها تحدد كل ثقافة موقعها ودرجة اندراجها في الدورة التاريخية· وهكذا تشير الحضارة إلى المراحل المتعددة والمتعاقبة التي مر بها بناء أو تراكم رأس المال المدني، والخطوات الكبرى التي خطاها المجتمع البشري ككل وبصرف النظر عن ثقافاته المتميزة حتى أصبح ما هو عليه اليوم· وتعاقب هذه المراحل وتقدمها مرتبط بتغير أنماط الانتاج وتبدل أساليب النظر العلمي والتفكير، وتحول منظومات القيم الأخلاقية والفنية والأدبية· وهكذا نستطيع أن نلخص تاريخ الحضارة الانسانية بالتقدم عبر ملايين السنين من شكل المجتمعات البشرية البدائية التي تكاد لا تختلف في بساطة تنظيم شؤونها المادية والمعنوية عن الحيوانات الحية الأخرى نحو المجتمعات التي أصبحت تسيطر على بيئتها ونفسها وتقيم نظما اقتصادية وسياسية وعلمية وتقنية وفنية شديدة التعقيد والتنوع·  ولم يتحقق هذا التحضر إلا بفصل الثقافة، أي انعتاق الانسان من الطبيعة الفطرية وقدرته على التأمل بها وتغييرها وتحويلها حسب حاجاته ومتطلباته المادية والمعنوية· فهذا الانعتاق هو مصدر التراكم في الخبرة والوعي عند المجتمعات الانسانية وأرضية ما طورته من ابداعات عبر تجاربها الخاصة·

لكن الثقافة لا توجد مستقلة عن الحضارة إلا نظريا· ذلك أنه منذ اللحظة الأولى لولادة الحضارة نشأت جدلية قوية بين مجال الحضارة العامة ومجال الثقافة الخاصة، وأصبح التأثر والتأثير متبادلين· وهكذا ستتطور الثقافة في اتجاه التحول إلى الآلية الخصوصية التي حددت وتحدد أساليب تمثل المجتمعات المختلفة والمستقلة نسبيا وتجديدها وتعميقها لهذا الإرث المشترك من التقنيات والنظم وأساليب الانتاج وقيم السلوك الذي تنطوي عليه الحضارة· وهي تتغذى من الجذوة والامكانات التي تختزنها كل جماعة في نزوعها للاندراج في التاريخ والمشاركة في العالمية· فجميع المجتمعات البشرية تعب من بحر واحد، وماء هذا البحر ليس هو ذاته إلا حاصل تجمع روافد الأنهار المختلفة والمتعددة التي تصب فيه بعد أن تروي المجتمعات التي تنبع فيها وتتشرب خبراتها وخصائصها·

وهذا يعني أنه لا حضارة من دون ثقافة أو ثقافات· ذلك أن الحضارة لا تملك في ذاتها محركها ولكنها تتحرك بالثقافات التي تشكل الرحم الذي يرعى نمو الحضارة، وهذه الثقافات هي وسيلة التحضر البشرية وأداته· كما أنه يعني كذلك لاثقافة من دون حضارة· إذ لا يمكن أن نتصور الحضارة كمجال تفاعل الثقافات من دون وجود هذه الثقافات المتفاعلة، كما أنه من الصعب تصور ثقافة معزولة كليا عما حولها وقائمة بذاتها· فغياب التفاعل والتبادل والتلاقي بين الثقافات يحكم على الثقافات الخاصة بأن تعيد إنتاج نموذجها كما هو من دون تغيير، وبالتالي يقود المجتمعات إلى التحجر والجمود التقني والفكري ويقضي على أي آلية تراكمية وتطويرية وتجديدية· وهو ما نلحظه على ثقافات بعض القبائل التي بقيت في عزلة نسبية أخرجتها عمليا من دورة الحضارة البشرية الأساسية· 

هناك إذن من دون شك آلية حضارية متميزة عن الثقافة· فالحضارة مرتبطة بحركة انتشار الاختراقات والمكتسبات أينما ظهرت وبحسب سرعة ظهورها وتعميمها، بصورة أفقية، بينما ترتبط الثقافة بشكل أقوى بآلية تكثيف المبادلات العمودية، أي داخل المجتمع نفسه، وبما يدفع إلى بناء نموذج موحد للوعي والسلوك، مما يساهم أيضا في تطوير الابداعات والمكتسبات من خلال آليه التنوع والتباين والتعقيد والتعميق· فآلية الحضارة تابعة لمجال العلاقات العالمية أو بين الجماعات والثقافات بينما تتبع آلية الثقافة إلى مجال العلاقات الاجتماعية التي تدمج أو عليها أن تدمج مجموعات مختلفة البنيات من البشر : طبقات، أقوام، عشائر، عائلات، مناطق وجهات متميزة في الأصل ومختلفة المنشأ·

هذا يعني أولا أن التفاعل بين الثقافات ليس مسألة إرادية أو اختيارية كما أنه ليس بالضرورة نساطا واعيا أو مرتبطا بوعي الجماعات له· إنه قانون تاريخي موضوعي لا فكاك لمجتمع منه منذ اللحظة التي يضع نفسه فيها في دائرة الحضارة المشتركة، أي منذ أن يقبل مبدأ أن يغزو ويغزا· فبالرغم من العدوانية التي تظرها المجتمعات العربية والاسلامية اليوم للثقافة الغربية وانجازاتها، سواء ما تعلق منها بالقيم أو بالأدوات والتقنيات، بل تحت غطاء هذه العدوانية نفسها تمارس الثقافة الغربية أكبر تأثير لها على الأذهان العربية وتدخل كما لم تفعل في أي حقبة سابقة في عمق المجتمع العربي· وما مظاهر المحافظة الدينية والقومية السائدة إلا آليات دفاعية يحاول من خلالها المجتمع أن يخفي على نفسه ما يضطر إلى قبوله في واقع الأمر والتعايش معه·  فنحن نقبل اليوم ونتمثل من دون نقاش ومن دون شعور كل القيم والمعايير الغربية من الليبرالية إلى القيم الاستهلاكية إلى ثقافة الفتنة الجسدية حتى لو اتخذ ذلك شكل الهرب منها أو رد الفعل المناويء لها·  ذلك أن ما يجسده رد الفعل المبالغ فيه من خوف عميق منها يعكس الشعور العميق بوطأتها وفاعليتها·

وهذا يعني ثانيا أن المجتمعات لا تعيش في عزلة واحدتها عن الأخرى، وأن الثقافات التي تميز كلا منها ليست غريبة عن بعضها كما يتصور أصحاب النظرة الثقافوية هذه· وما هو مشترك بين المجتمعات البشرية عبر الحضارة يساوي ما هو مختلف بينها أو يزيد عليه· ولكن الأمر يتعلق بالمجال الخاص الذي يستخدم فيه هذا المشترك وذاك المتباين، أي في الأدوار المتميزة والمختلفة التي تقوم بها كل من الثقافة والحضارة· وتبدأ المشكلة عندما نقلب الآية فنسعى إلى إخضاع مجال العلاقات الدولية أو بين الجماعات ( مجال الحضارة) للإرث المتباين والخاص بكل مجتمع، أو أن نخضع مجال العلاقات المجتمعية الداخلية (مجال الثقافة) لما هو مشترك حضاري فحسب· فلا يرفض أحد اليوم محاكمة الواقع الدولي من منطلق مباديء ما يسمى بالشرعية الدولية، أي بناء العلاقات الدولية على أساس احترام سيادة كل دولة واستقلالها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها وتجنب الحرب والسعي نحو السلام وضمان الحد الأدنى من التعاون الدولي من أجل الأمن والتنمية والاستقرار· وهذا هو المشترك الحضاري التاريخي الراهن· لكن يصبح هناك مشكلة عندما تريد مجموعة دولية أن تحاكم العلاقات الدولية من منطلق قوانينها وقيمها الخاصة التي تتعلق بتنظيماتها الاجتماعية· وهذا يفسر الجدل الكبير القائم اليوم فيما يتعلق بتعميم مباديء حقوق الانسان والتمييز داخل هذه الحقوق بين ما هو مشترك حضاري، أو ما ينبغي أن ينظر إليه كذلك وما هو نابع من ثقافة كل مجتمع وخصوصية أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية·

والنتيجة أنه إذا كان هناك حوار ممكن فلن يقوم بين حضارات منفصلة ومنكرة بعضها للبعض الآخر، ولكن، ولنقل ذلك موقتا، بين ثقافات متفاعلة ومتداخلة ومتصارعة في الوقت نفسه· وأن موضوع هذا الحوار هو بالضبط نوعية الحضارة الواحدة التي تعيشها الانسانية والقيم التي ينبغي أن تسود فيها والمشاكل التي ينبغي ايجاد حلول متوازنة لها·

 

من حوار الحضارات الثقافي إلى ا لحوار العالمي الشامل

إن التمييز بين مجال الحضارة الواحد ومجال الثقافات المتعددة مهم جدا لأنه أساسي لفهم حقيقة الأطراف التمحاورة من جهة وموضوعات الحوار من جهة ثانية· فالفكرة التي  نشرتها نظرية حوار الحضارات كما هي شائعة اليوم قادت إلى الاعتقاد بأن الحوار يجري بين حضارات مغلقة واحدتها على الأخرى وأن موضوعه التعارف والتعريف المتبادل بالقيم الخاصة بكل حضارة في سبيل درء مخاطر الحرب والمواجهة والحد من النزاعات الدولية· وفي البلاد العربية والاسلامية كما هو الحال في البلاد الأخرى الخاضعة للهيمنة الأجنبية، ينظر إلى هذا الحوار بالدرجة الأولى على أنه وسيلة لمواجهة السيطرة الثقافية الغربية وإبراز أصالة القيم الاسلامية، ومن وراء ذلك إلى إقناع الغرب بصلاح اختياراتنا السياسية والاجتماعية، وفي مقدمها رفض نموذج الديمقراطية وما يتضمنه من تأكيد على القيم المادية وعلى الحرية الفردية، وتطابقها مع حضارتنا وقيمنا الأصيلة والثابتة·

وليس من قبيل الصدفة أن الغرب الذي رفض منذ عقود ولا يزال يرفض أي مشروع لحوار دولي ولمفاوضات شاملة تشارك فيها جميع التكتلات والجماعات السياسية وتطرح مشاكل العالم الحديث للبحث، يرحب اليوم بحوار الحضارات· ففي تصويره العالم على أساس مجزأ ومتنافر بالطبيعية يلغي مفهوم حوار الحضارات مفهوم المسؤوليات السياسية، أي الربط بين الأوضاع التي يعيشها المجتمع البشري اليوم والاختيارات الاقتصادية والاستراتيجية والاجتماعية والتقنية إلخ التي تبنتها في العقود الماضية الدول الصناعية الكبرى، وفي مقدمها النمو المتزايد للفقر والبؤس والتهميش والتسلط والديكتاتورية وتفكك الدول والجماعات· فهو يحمل عبء هذه الأوضاع وأسباب تطورها إلى الخصوصيات الحضارية، ويتجاهل دور السياسات الدولية الواعية والمختارة، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية معا، وما قادت إليه من إدماج العالم في حركة واحدة، وما نجم عنها من توزيع غير عادل للموارد المادية والمعنوية معا·

وإذا لم تنجح مجتمعات الجنوب في إعداد هذا الحوار إعدادا سياسيا وجديا، فسيكون من السهل على الدول الصناعية استخدامه لتغطية هربها من المسؤولية الدولية، مقابل إرضاء المسلمين والجماعات الثقافية الضعيفة الأخرى ببعض التنازلات المعنوية في ميدان الاعتراف الشكلي بقيمة الحضارات الأخرى غير الأوربية وحقها في التعبير عن نفسها أو في تطبيق قيمها داخل مجالها الخاص· ولن تكون نتائج حوار الحضارات هذا أفضل من تلك التي نتجت عن الدعوة التي انتشرت في الستينات من القرن العشرين لاحترام الاختلاف الثقافي وكان هدفها الاعتراف الشكلي بالهوية الثقافية الخاصة بكل شعب·

ومن أكثر المخاطر التي يمكن أن ينزلق إليها حور الحضارات حصر الحوار في موضوع المقارنة أو المفاضلة بين منظومات القيم الحضارية المتعددة للجماعات، أو النزوع نحو إثبات خصوصية القيم الثقافية لكل حضارة، وتأكيد ضرورة احترام الحضارات الأخرى لهذه الخصوصية· فلن تكون نتيجة ذلك سوى الغرق في ميدان التبجيل الذاتي والدفاع عن الشخصية الثقافية والتاريخية·  وإذا جعلنا هدفنا من الحوار إثبات أن للعرب قيمهم الخاصة التي لا وجود لهم من دونها، وهي التي تميز ثقافتهم الدينية والدنيوية، وأن للغربيين أيضا قيمهم التي يريدون إقناع الآخرين بها سقطنا لا محالة في فخ الصراع على الهوية أو نزاع الهوية · ونكون في الواقع قد استخدمنا مفهوم حوار الحضارات للتغطية على حرب الحضارات· فلا يمكن للهوية أن تكون موضوع حوار أو مفاوضات·كما لا يمكن أن للثقافات والديانات أن تقبل بأن تشكل موضوع مساومة ولا موضوع تفاهم· فهي قائمة كليا على مسلمات وموروثات واعتقادات أساسية، ولا يمكن التشكيك فيها أو وضعها موضع التساؤل من دون المغامرة بزعزعة الأركان الأسطورية التي تقوم عليها أي ذات جماعية· فهي بالضرورة قيم تتجاوز العقل أو تعمل فيما وراء بنية المنطق العقلي، ولا يمكن إخضاعها لأي بحث علمي· من الممكن للفقهاء والعلماء والمؤمنين أنفسهم، داخل الدين ذاته، أن يتنازعوا في مجال التأويلات والتفسيرات، لكن هذا يبقى مظهرا من مظاهر الصراع داخل الدين الواحد· · أما المجتمعات فهي لا تقبل أن تحاور في موضوع اعتقادها الديني مع مجتمعات آخرى، تماما كما أن أي مؤمن لا يمكن أن يقبل بالحوار حول تأويل نصوصه الدينية مع من هو من غير دينه·

وبالمثل، إن تمسك العرب باللغة العربية لايمكن أن يكون موضوعا للمساومة والحوار حتى لو أثبتت المحاكمة العقلية أن تعميم اللغة الانكليزية وإحلالها محل اللغة العربية يمكن أن يؤدي إلى نتائج ايجابية من الناحية التقنية أو العلمية أو الاقتصادية· فإذا تنازل العرب عن لغتهم وثقافتهم في الحوار لن يعودوا عربا ولن يكون هناك حوار ولكن نزع للشخصية المحلية وسلب لها· فلا حوار على الهوية وولا على عناصرها وتصوراتها الذاتية· ومهما كانت هويتي ناقصة أو معطوبة في نظر الآخرين، لا يمكن أن أحاور عليها، من دون أن أخاطر بأن يكون الحوار تهشيما للذات وتدميرا لها· · وليس لدي مصلحة في حوار يهدف إلى زعزعة ثقتي بنفسي أو نزع هويتي أو فرض قيم لا أستسيغها ولا أؤمن بها علي· ولا يمكن أن أجعل من عيوبي موضوع مفاوضات مع أي شخص آخر دون أن أضع نفسي في موضع المتسول أو الباحث عن الشفقة· وبالمثل لا يمكن أن أضع مواهبي في ميزان المفاوضات إلا إذا كنت أسعى إلى أن أبيعها وأكون بذلك من المرتزقة·

فليس المطلوب من حوار الحضارات أن نضع الثقافة العربية الاسلامية في مواجهة الثقافة الغربية المسيحية، ولا الدفاع عن قيمنا الخاصة، التي يعتبرها البعض دينية وربما تقليدية، في مواجهة قيم الحضارة الغربية التي ننظر إليها كرمز للحضارة العلمانية أو المسيحية·  كما لا ينبغي علينا أن نسلم للغربيين بأنهم المؤتمنين على القيم العصرية مثل ما نحن مؤتمنين على القيم الدينية· فبالاضافة إلى أن هذا ليس صحيحا على الإطلاق، فنحن لسنا معنيين بالحوار إلا لأننا نرفض بالضبط التسليم بالأمر الواقع ونطمح إلى تعميم القيم العصرية ونصارع من أجل أن نخظى بالقسط الذي نستحقه من الموارد المادية والمعنوية للحضارة الحديثة، وفي مقدمها القيم الاخلاقية الانسانية·

فبالرغم من خصوصيتنا الثقافية، نحن أبناء هذه الحضارة الحديثة ذاتها، ندافع عن مصالحنا من منطلقاتها وعلى أساس قيمها الرئيسية، ونعمل من أجل أن تسود في مجتمعاتنا قيم الحرية والعدالة والمساواة القانونية· ونحن طرف أيضا في المنظومة الدولية وينبغي أن نكون مستعدين لحمل مسؤلياتنا في كل ما يتعلق بالتعاون من أجل ايجاد حلول ناجعة وشاملة للمشاكل العالمية·

لا يشكل إذن إقناع الآخرين بصلاح ثقافتنا ودفعهم إلى الاعتراف بخصوصيتنا، ولا الاقتناع بصلاح الثقافات الأخرى والاعتراف بخصوصيتها، هدفا معقولا للحوار· وليس هدف الحوار إقناع الطرف الآخر أو الخصم بصلاح العناصر الثقافية التي تميزني عنه وعقلانية اختياري لاعتقاداتي الدينية والمدنية ولا دفعه إلى محبتي وتقدير تراثي ومواهبي وشخصيتي· فهذه أمور تعكس هواجس نفسانية أكثر مما تعبر عن الشعور بالمسؤوليات الدولية · ولا ينبغي أن يكون موضوعه نحن وهم، أي أنفسنا وهواجسنا وأحلامنا، ولكن تحليل وإصلاح الواقع نفسه من وجهة نظرنا ونظرهم· فالحوار العالمي فرصة لطرح مشاكل محددة تعنينا كما تعني البشرية جمعاء وللبحث المشترك عن أفضل السبل لمواجهة هذه المشاكل المطروحة على المجموعة الدولية· وهو لا يستقيم إلا إذا كان هناك وعي مشترك بخطورة هذه المشاكل، وبالتالي اعتقاد بوجود مصالح مشتركة فيه، وبجدوى التقارب والتفاهم والصراع السلمي للوصول إليها·

وهذا يفترض وجود حد أدنى من  المرجعية المشتركة أيضا، ولا يقوم إلا على الدفاع عن قيم جماعية· والقيم التي تشكل مرجعية هذا الحوار وحافزه ليست اليوم شيئا آخر سوى القيم التي عممتها الحضارة الحديثة وعمقت مفاهيمها، أعني قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع البشر شعوبا وأفرادا على حد سواء·

وهذا يعني أن الحوار لا يدور في إطار الخصوصيات القومية أو الثقافية، ولكن في إطار المشترك الحضاري، أي القواعد والمعايير والقيم التي يقبل الجميع النظر إليها باعتبارها قاسما مشتركا مقبولا  من جميع أو أغلب المجتمعات البشرية· لكن هذه القواعد والمعايير والقيم ليست هي موضوع الحوار وإن كان النقاش فيها ضروريا أحيانا للاعداد للحوار، إن موضوعه هو المشاكل المختلفة التي تعاني منها البشرية، سواء ما تعلق منها بموضوعات تخص العالم أجمع أو بموضوعات تهم أطرافا منه· ومن هذه المشاكل الحق في التنمية العالمية ودرء الحرب وتحقيق الاستقلال والأمن والاستقرار للجميع وحماية البيئة ومواجهة المخاطر المختلفة التي تتعرض لها الجماعات تحت تأثير التحولات التقنية والبيولوجية والعلمية والسياسية·

هكذا لا يستقيم حوار الحضارات في نظري إلا بشرطين· الأول هو إدراك أن الحوار ليس بين حضارات ولا بين ثقافات ولكن بين جماعات ومجتمعات، وأن موضوعه بالتالي ليس هويتي وهويتك، وقيمي وقيم الآخر، وصورتي الذاتية وهويتي ولكن مشكلات مشتركة اقتصادية وسياسية وثقافية، بما في ذلك قيمية، أو مشكلات لا تحل إلا بصورة مشتركة وعالمية· والثاني أن هدف الحوار ليس الوصول إلى إضعاف الاختلافات الثقافية والحضارية ولا ايجاد تسوية بين القيم المختلفة التي تميزها، ولكن العمل، فيما وراء الثقافات الخصوصية، على  ايجاد قاسم مشترك أعظم من القيم التي تؤسس لاجماع إنساني تاريخي، وتدعم بالتالي فكرة تكوين مرجعية أخلاقية عالمية تضمن الالتزام السليم بالمباديء المشتركة· فقد أصبحت مثل هذه المرجعية الأخلاقية العالمية  ضرورة بموازاة تطور العولمة، بما تمثله من مركز احتكام جماعي للضمير الانساني في مواجهة تجاوز القانون والأخلاق من لدن جماعات وشركات ودول تعمل من منطق الدفاع الأناني عن مصالحها الخاصة حتى لو كانت نتيجة ذلك تدمير موارد المجتمع الدولي وزعزعة استقراره·

وعندما نتحدث عن حوار بين مجتمعات وجماعات، لا بين حضارات ولا بين ثقافات، فهذا يعني أننا نتحدث عن حوار بين بشر يتمتعون بملكات عقلية وعاطفية متشابهة ومشتركة· وهو  وإن حصل بين شعوب تنتمي لثقافات مختلفة في اختياراتها ومنظومات قيمها إلى هذا الحد أو ذاك، فهو من صنع أفراد يملكون إرادة ووعيا وقادرين على تجاوز خصوصياتهم الثقافية الضيقة وتحديد المشاكل المختلفة التي تتعرض لها البشرية، وعلى التوصل إلى تعيين أسبابها، وعلى التفاهم حول وسائل حلها· فلا ينبغي لنا أن نتصور أن هناك مجتمعات أسيرة حضاراتها أو ثقافاتها، لا تستطيع أن تخرج منها ولا أن تتجاوز معاييرها، ولو حصل ذلك لما كان هناك أي مبرر للحديث عن حوار أصلا· إن الناس أسياد مصيرهم بالرغم من الثقافات الضاغطة، ولأنهم كذلك فمن الممكن الحوار معهم، والأمل بإمكانية الالتقاء في منتصف الطريق بما يسمح بالتوصل إلى حلول تضمن مصالح الأطراف المختلفة·

 

هل هناك أمل في حوار عربي غربي منتج ؟

انطلاقا من هذه المقدمات نستطيع أن نطرح إشكالية الحوار بين المجتمعات أو التكتلات المنتمية إلى مدنيات متعددة· ونجيب على الأسئلة المطروحة أو التي ينبغي طرحها في هذا المجال والتي تتعلق بمعرفة موقع الكتلة الغربية في حوار عالمي ممكن ومأمول، ومدى التفاهم داخل هذه الكتلة نفسها حول جدول أعمال مشترك أو واحد في هذا الحوار، والمواقف المحتملة لهذه الكتلة منها، والأوليات التي تملي عليها هذه المواقف والخيارات· فهل الغرب معني بالحوار العالمي؟

نعم ولا· الأمر يتوقف على المستوى الذي نتحدث عنه من مستويات ما تشير إليه كلمة الغرب، أعني  في الأمن، والاقتصاد والبيئة والثقافة والدين إلخ· فمن المؤكد أن الغرب، أعني بالدرجة الأولى الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية الذين يشكلان أكبر فاعلين دوليين في الوقت الراهن، معني بالحوار مع جميع القوى الدولية لأنه يتبوأ حسب اعتقاده وفي الواقع منصب السيادة العالمية· ومن مصلحة الغرب الذي يملك بين يديه مصائر العالم أن ينجح في تطوير إدارة دولية قائمة على حد أدنى من التفاهم بل والتعاون، حتى يوفر عليه أعباء اللجوء المستمر والمدمر معنويا للقوة· ويخوض الغرب بالفعل اليوم حوارات على مستويات متعددة مع جميع الكتل والجماعات البشرية، من الأسرة الاشتراكية السابقة نصف الغربية حتى الصين، مرورا بالطبع بالعالم العربي والاسلامي· وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية قطب الرحى في هذا الغرب أن مسؤولياتها الدلوية تفرض عليها إعلان موقفها من أي تحول سياسي أو إقتصادي أو ثقافي يجري في أي بلد في العالم، حتى لو كان على مستوى النزاعات الأقوامية· وهي تشعر أن عليها أن تدلي بدلوها، وتقدم حلولا خلاقة لجميع النزاعات والمشاكل التي تطرأ على العلاقات بين الدول، بل أن تتدخل بأجهزتها الدبلوماسية وإلا بقواتها العسكرية لتحسم مشاكل ليس لها أي أبعاد دولية، بل أحيانا ولا إقليمية· إنها تحافظ على علاقات ثابتة مع جميع القوى السياسية، الرسمية منها والمعارضة في معظم بلاد العالم، وتتوسط لحل مشاكل قد تنشأ بين قيادات بعض الأحزاب فيما بينها أو بين الدولة والمعارضة· بل لقد تدخلت في مصر للافراج عن أحد الباحثين الناشطين في ميدان الجمعيات الأهلية· وبالمثل، تسعى أوربة الغربية الموحدة إلى تنمية علاقات ثابتة ومستقرة مع جميع الدول والقوى السياسية ذات التأثير في جميع البلدان التي تستطيع أن تصل إليها بإمكانياتها وطاقاتها الدبلوماسية· وهي تشارك الولايات المتحدة بجميع المشاريع التي تعكس ممارسة مسؤولية القيادة الدولية وتهدف إلى ضمان الأمن والنظام والاستقرار العالمي·

لكن السؤال الذي يطرح نفسه لا يتعلق باستعداد الغرب للحوار مع المجموعات الدولية غير الغربية، ومنها العربية، ولكن باستعداده للأخذ بوجهة نظر أو ومصالح هذه المجموعات والأطراف، أعني بنوعية الحوار الذي يقيمه أو يطمح إلى أن يقيمه مع الآخرين· فمن الواضح أن الغرب، في جميع المرات التي حصل فيها حوار منظم عالمي أو على مستوى الحوار الثنائي لا ينظر لنفسه كطرف بين أطراف متكافئين، ولكن كسيد وكصاحب رسالة وموطن للقوى الرئيسية لتغيير الأوضاع الدولية وتحقيق الاتساق والانسجام فيها، وبالتالي صاحب مصالح مشروعة وإنسانية· وتعني السيادة أنه يصدر في قراراته عن وعي وإرادة مستقلتين تماما، وبالتالي فهو لا يقبل بالمساومة على ما يعتقد أنه يعكس الحقيقية الجمعية أو الشعبية، بينما ينظر إلى الأطراف الأخرى بوصفها خالية من الوعي والإرادة المستقلتين، وتابعة بالتالي إما إلى دول وجماعات أخرى أو مستلبة لمجموعات الضغط والمافيات والعصبيات الخاصة التي تجعل من أي قرار من قراراتها ذا طبيعة فئوية وغير كونية إنسانية· وتعني الرسالة أن الغرب وحده هو اليوم حامل لمشروع إنساني متكامل وفاعل هو مشروع الحداثة وما تنطوي عليه من قيم تؤكد على الارتقاء بالانسان والاستثمار في الفرد الانساني· وأن هذا المشروع صالح لجميع الأمم والشعوب، وأنه يمثل الطور الأعلى من تطور القيم الأخلاقية· وفي المقابل تبدو الجماعات الأخرى، مهما كانت نظرتها لنفسها ايجابية، فقيرة بالمعنى، ومفتقرة لأي مشروع ينطوي على رسالة عالمية، أو يمكن تحويله إلى مشروع لجميع أبناء العالم· فالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والمساواة القانونية واحترام كرامة الفرد وتجنيبه كل أشكال المساس بكماله الجسدي والنفسي، كل ذلك يبدو جزءا من رسالة الغرب، ومشروعا يقترحه الغرب على الانسانية جمعاء، في حين أن بقية الأمم والجماعات لا تملك شيئا تقدمه سوى بحثها الدائب للتكيف مع هذه القيم والأفكار· وليس من الطبيعي ولا المعقول أن يسلك الطرف الذي يشعر بأنه صاحب القرار السيد الوحيد، وصاحب الرسالة الانسانية الوحيدة المعترف بعالميتها اليوم، سلوك المحاور الند في مواجهة جماعات وأطراف وتجمعات تبدو أكثر فأكثر عالة مادية ومعنوية على الغرب وصنيعته· ولا يمكن للغرب أن يضع قراره الخاص على المستوى ذاته من الأهمية والوزن مع قرار تكتل أسيوي أو أفريقي أو عربي· ولذلك ليس من السهولة أبدا بناء حوار يتسم بالحد الأدنى من المساواة، أي حوار الند للند مع الغرب· وكل حوار لا بد أن يعاني من موقف الأبوية والوصاية والسيادة الغربية· فلا يمكن للغرب، وهو ينظر إلى نفسه كسيد للعالم الراهن والضامن لتقدمه المادي والأخلاقي، أن يضع أيضا مصالحه على الدرجة ذاتها من المشروعية مع مصالح تكتلات لا تهدف في نظره إلا إلى خدمة مشاريع جزئية أو قومية، تعنى بسيطرة النخب المحلية على مصائر المجتمعات الفقيرة والمنزوعة الإرادة، وفي أحسن الأحوال بمشاريع السيطرة الإقليمية·

 

هل للغرب جدول أعمال مشترك وواضح للحوار؟

نعم، إن الهم الأول للغرب، مثلما هو بالنسبة لكل قوة سائدة، ضمان الأمن والاستقرار في الأراضي التي تخصه أولا، وفي بقية مناطق العالم ثانيا· وما عدا ذلك ليس له أي أولوية، سواء أمس الأمور الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية· وهو إن اهتم بقضية أخرى فلا يمكن أن يقوم بذلك إلا انطلاقا من منظار الأمن· فالمساعدة على التنمية والتعامل ضمن المؤسسات الدولية المالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والثقافية مثل اليونسكو، مع المجموعات الأخرى هو جزء من سياسة ضمان السلام والأمن والاستقرار واستدراك الانفجارات أو التيارات العدائية التي يمكن أن تبرز متحدية سيادة الغرب·

بالتأكيد ليس مفهوم السلام والامن والاستقرار مفهوما ثابتا وجامدا· إنه يتطور ويبدل معناه أيضا حسب حاجات السيادة وضمان السيطرة الغربية· وهذا ينعكس على تحديد الغرب لمفهوم التهديد والمخاطر التي يتعرض لها النظام العالمي· فلم يعن الأمن والاستقرار في عصر الحرب الباردة ما يعنيه اليوم ولم يتم البحث عنه من قبل الغرب بالوسائل والطرق ذاتها· لقد كان السلام والأمن يعني دحر الحركات الشيوعية ومعها الحركات الوطنية السائرة في ركابها، ودعم أي مبادرة لتوطين نظام الليبرالية الاقتصادية أو اقتصاد السوق في البلدان الغربية وغير الغربية· فقد تساوى في تلك الحقبة مع مفهوم الحرب الدفاعية أو حرب الاستنزاف ضد القوى المعادية التي كانت تشكل تهديدا مباشرا للنظام· وقد اختلف هذا المفهوم اليوم، ولم يعد ضمان السلام والأمن والاستقرار العالمي يستدعي سباق التسلح ولا مشروع مارشال للتنمية الاقتصادية ولكن إخماد أي فتنة يمكن أن يسبب انتشارها أو حتى استمرارها تحديا ماديا أو سياسيا أو معنويا للنظام· إنه أقرب إلى إطفاء الحرائق منه إلى إشعالها· ولكن هذا الاطفاء لا يستدعي إنشاء قوات تدخل عالية المقدرة التقنية والمهارة الفنية فحسب ولكن أكثر من ذلك وإضافة إلى ذلك تدخلات سياسية ودبلوماسية ووساطات ومساعدات مالية ووعود بالمساعدات· وعلى هذا الجزء الأخير من الاستراتيجية الأمنية الجديدة وعلى سبل الوصول إلى السلام والأمن والاستقرار يمكن أن تكون مفاوضات ويكون حوار· وقد يتناول هذا الحوار، ولا بد أن يتناول، مواضيع اجتماعية واقتصادية وثقافية، وأن يطرح موقع الثقافات الأخرى في حقول الانتاج الابداعية، وأن يتطرق إلى مساهمتها في تحقيق قيم العدالة والمساواة والحرية، لكن ليس هناك حوار على سيادة الغرب العالمية، ولا على رسالة الغرب الانسانية، ولا على مصالح الغرب الأساسية·

 

هل في الغرب قوى ايجابية يمكن الاعتماد عليها لفتح حوار منتج وبناء مع العرب؟

نعم· ليس الغرب كتلة صلدة ويابسة من الجليد لا يدخلها التمايز والاختلاف لا من خلفها ولا من حولها، ولكنه بمثل بالعكس تماما من ذلك مجتمعات حية وديناميكية وبالتالي متمايزة بقوة داخليا وقابلة لدرجة كبيرة من الاختلاف والتناقض والصراع· وهذا هو مصدر قوتها السياسية وتنامي ملكاتها الابداعية· ويستطيع أي طرف في العالم أن يجد في الغرب الشريك الذي يبحث عنه· يستطيع المسلم أن يجد مسلمين أكثر تمسكا بمعايير وقيم الدين الاسلامي منه، كما يستطيع الكافر أن يجد أشد الملحدين جحودا وكفرا· ويستطيع البوذي كما يستطيع الكونفوشي والماركسي والقومي والانسانوي أن يجد أصداء قوية لأفكاره وتصوراته ونظرته للعالم· فالتنوع الذي يعرفه الغرب اليوم بالأقليات والتيارات والأفكار والحساسيات السياسية والأذواق الفنية والفرديات هو السمة الغالبة على مجتمعاته وهو الذي يشكل أكبر تحد له اليوم· لكن على مستوى الدولة والنخب النافذة والمتنفذة التي لا يكون للحوار معنى من ورائها ليس هناك إلا غرب واحد، أعني غرب السيادة والثقة بالثقافة الغربية ورسالتها العالمية والالتزام بالمصالح العليا والتاريخية·

من هنا يأخذ السؤال الأخير معناه، أعني سؤال فيما إذا كانت تقع علينا مسؤوليات في إنجاح الحوار مع الغرب· ففي اعتقادي إن من الصعب زحزحة الغرب عن مواقعه النفسية والفكرية من دون أن ينشأ في مواجهته طرف يتحلى بالفعل بالحد الأدنى من صفات السيادة وكونية أو عالمية الرسالة والوعي بالمصالح الجماعية العليا والتاريخية· فالسيد لا يحاور إلا سبدا مثله، والأبوية أو الاقرار بضرورات المساعدة الانسانية الاقتصادية أو العسكرية أو السياسية أو الثقافية ليست تعبيرا عن الندية ولا عن مساواة أخلاقية·

صحيح أن الغرب بدأ يعاني من التشكيك في قيمه ونماذج تطوره وربما في غاياتا التقدم التقني نفسه الذي يميز مسيرته· وصحيح أن هذا التشكيك في ازدياد لدى أوساط النخبة المثقفة الغربية· لكن ليس لهذا التشكيك أي أثر حاسم على سلوك النخب السياسية والاقتصادية والتقنية الرئيسية، اللهم إلا دفعها لها إلي مزيد من الالتزام بالأخلاقيات الانسانية الحديثة والتقرب من الجمهور والمجتمع· إن النقد الذي يتعرض له مشروع الحداثة الكلاسيكي، الذي تبلور في القرون الثلاثة الماضية حول العقل والدولة والتقدمية التاريخية لا يهدد الحداثة ذاتها ولكنه يدفع بها إلى تجاوز الأساليب الجامدة وأحيانا الفجة التي عبرت بها عن نفسها سواء عبر العقل الأداتي أو القومية المنغلقة أو التاريخية الساذجة في تفاؤلها، ويعمل بالتالي على إعادة تأويل الحداثة وترجمتها إلى لغة إنسانية أكثر نسبية وأكثر عفوية·

وبالمثل، صحيح أن المجتمع العربي والاسلامي يملك وسائل السيادة ومواردها، في امتداده الجغرافي والسكاني وعمقه التاريخي، ويعتقد أنه صاحب واحدة من أكبر الدعوات الدينية إنسانية، إلا أن من الصعب اعتبار أي من الدول العربية والاسلامية، نظرا لحجمها ووزنها وامكاناتها وطبيعة العلاقات القائمة فيما بينها والدول العربية والاسلامية الأخرى، ذات سيادة فعلية، أي قادرة على أن تتصرف من وجهة نظر مواردها المادية والمعنوية ذاتها، كصاحب رؤية عالمية وقرار مستقل· أما الاسلام فلم يظهر في أي مرحلة تاريخية سابقة دينا خاصا أو يعكس خصوصيات المجتمعات الاسلامية كما هو عليه اليوم· والمشكلة الرئيسية التي يواجهها المسلمون عندما يطرحون أنفسهم في الاطار العالمي هي المراهنة على الدين كمصدر لمشروعية أخلاقية إنسانية، في الوقت الذي أصبحت فيه جميع الأديان، بما فيها العالمية، تظاهرات لخصوصيات تاريخية· إن في العالم العربي والاسلامي وسائل للسيادة العالمية لكن ليس هناك سيادة، وفي الاسلام عناصر لدعوة إنسانية، لكنه لا يشكل من حيث هو دين وكما هو ممارس اليوم، رسالة كونية يمكن اقتراحها على جميع أبناء البشرية·

 

في هذه الحالة لماذا الحوار، وما هي جدواه ؟

إن مشاركة العرب والمسلمين ضروريان في الحوار لما يمثله هذا الحوار العالمي من فرص نادرة لمقارنة ومقارعة أفكارهم ومسلماتهم مع الأفكار والمسلمات السائدة والدارجة، وللتعلم على التفكير من مستوى العالمية، والاطلاع على طبيعة المسؤوليات التي تستدعيها السيادة الدولية وأساليب العمل والسياسات المرتبطة بإنجازها·