نشأة مقهوم المجتمع المدني وتطوره

2001-05-14:: ندوة المجتمع المدني

هذا نص محاضرة قدمت في جامعة قطر 14 مايو  آيار 2001

من المفهوم المجرد إلى المنظومة الاجتماعية والدولية

ما هو مصدر هذا التعارض الذي نشعر به اليوم بين الدولة والمجتمع المدني، وما هو مضمونه التاريخي والسياسي؟

1- المفهوم، أصله واستخداماته

ليس هناك مفهوم ثابت وجامد وناجز وقابل للاستخدام في كل زمان ومكان، حتى تلك المفاهيم التي تبدو لنا كذلك· فالمفهوم مرتبط بتاريخ نشأته، أي بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه، كما هو مرتبط بالاشكاليات النظرية التي رافقت هذه المشكلات أي بنوعية المناظرة الفكرية التي دارت من حول المشاكل المطروحة والطريقة التي حاول واجهها بها المثقفون· فهو بالضرورة ابن بيئة تاريخية اجتماعية محددة وهو ابن فكر محدد أيضا· ثم إن المفاهيم لا تولد في النظرية فقط وعبر التفكير أي لا يستل واحدها من الآخر بصورة منطقية ورياضية ولكن ظهورها وتطورها يرتبطان بالصراع الاجتماعي، أي بنوع من الاستخدام الاستراتيجي· وليس هناك مفهوم تنطبق عليه هذه العوامل الثلاث التي تجعل منه مفهوما ديناميكيا جدا ومتحولا وملتبسا في الوقت نفسه أكثر من مفهوم المجتمع المدني·

لكن لتقريب الموضوع من الأذهان يمكننا اختصار هذه الاستخدامات المتعددة وجمعها في أربعة استخدامات متميزة رافقت هذا المفهوم منذ نشوئه حتى اليوم·

الاستخدام الأول هو الذي كان يجعل منه مناقضا لمفهوم الطبيعة والمجتمع الطبيعي، الذي هو بالنسبة للبعض المجتمع الحيواني أو المجتمع الأبوي أو المجتمع التقليدي أو مجتمع الحرية الأولى· وقد نشأ هذا الاستخدام في سياق تحلل النمط التقليدي للمجتمع الاقطاعي أو الدولة مابعد الاقطاعية القائمة على البديهة الدينية أو العرفية ونمو الشعور بأن السياسة صناعة أي نشاطا عقليا وتابعا لعمل الانسان والمجتمع، ومن خلف ذلك ظهور النظرية السياسية الحديثة· وكانت الحاجة ضرورية لمفهوم جديد يعكس النزوع المتزايد لاكتشاف ما سوف يسمى بالسياسة المدنية، أي السياسة التي تعبر عن حقيقة الانسان وطبيعة اجتماعه المدني (إقرأ الصنعي) وخصوصيته مقابل ما كان سائدا في الحقبة الوسيطة من انعدام السياسة كمجال عام ومشترك ومن ارتباط السياسة بالدين أو بالإرث الارستقراطي أو بالاثنين معا· فبنية المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تقتصر على ثلاث مراتب أساسية من الوجهة السياسية، رجال الدين والكنيسة، طبقة النبلاء أو ملاكين الأرض والإقطاعيين، ثم عامة الشعب· ولم يكن لعامة الشعب أي اعتبار في أي موضوع يخص ما نسميه اليوم موضوعات سياسية·

لقد كانت المشكلة الرئيسية المطروحة على مثقفي القرن السابع عشر والثامن عشر الذين رافقوا تحلل هذا النظام الاجتماعي التقليدي وتطور البرجوازية كطبقة جديدة تطمح إلى إعادة بنائه من منظورات مختلفة تلغي المراتبية الجامدة وتفتح المجال أمام هيمنة سياسية حديثة، هي إعادة بناء السياسة على أسس غير دينية وغير ارستقراطية، أي لا ترتبط بتكليف إلهي ولا بإرث عائلي، ولكن بالمجتمع نفسه، تنبع منه وتصب فيه· ومن هذه النقطة سوف ننتقل تدريجيا من نظرية لا سلطة ممكنة إلا إلهية أو ملكية وراثية، إلى النظرية المناقضة تماما وهي لا سلطة شرعية إلا تلك التي تعبر عن السيادة الشعبية والإرادة الجمعية· وهذا هو أصل الانتقال نحو الحداثة السياسية·

ومن الواضح أن مفهوم المجتمع المدني لا يعني هنا شيئا آخر سوى مفهوم الرابطة الاجتماعية العادية كأساس للاجتماع مقابل الرابطة الدينية أو الارستقراطية التي يمكن ربطها بالعرف والتقليد واعتبارها طبيعية· ولذلك سيرتبط مفهوم المجتمع المدني منذ ذلك الوقت بمفهوم القانون والعقد الاجتماعي كتعبير عن هذا القانون المختلف عن العرف، وبالسيادة الشعبية· إنه يجسد مفهوم السياسة الحديثة بوصفها سياسة نابعة من المجتمع البشري كما هو، وليست مسقطة عليه من قبل عالم آخر· ولذلك فإن كلمتي دولة ومجتمع مدني تتطابقان تماما هنا ولا وجود لأي فصل بينهما·

ويمكن تلخيص هذه الاشكالية بجملة واحدة : السياسة الحديثة هي سياسة مدنية· ومن هذه السياسة المدنية، عكس الدينية والعرفية، سوف تتطور جميع المفاهيم الحديثة الأخرى مثل المواطنية والديمقراطية والدولة القانونية· وهنا تصب اسهامات الكتاب الكلاسيكيين الكبار للقرنين المذكورين مثل هوبز، لوك، توكفيل، مونتسكيو، روسو وسبينوزا· وأفضل تجسيد لهذا الاستخدام الخاص للمفهوم الذي يشير أكثر من أي شيء آخر إلى السياسة الجديدة وليس إلى تناقض بين المجتمع المدني والدولة كما نستخدمه اليوم هو كتاب جون لوك الشهير >رسالة في الحكم المدني<· ويمكن أن نترجمها اليوم برسالة في ماهية السياسة الحديثة في تعارضها مع الحكم الذي يعتمد مصادر دينية أو عرفية ارستقراطية

أما الاستخدام الثاني للمفهوم فقد جاء في القرن التاسع عشر بشكل خاص، وكانت البرجوازية قد حققت ثورتها ونقلت السياسة فعلا من ميدان الديني والعرفي إلى ميدان الاجتماعي، أي جعلتها حقيقية إنسانية تعاقدية· ولم تعد المشكلة المطروحة هي تحرير السياسة عن الدين والعرف الارستقراطي ولكن إعادة بناء مفهوم السياسة الحديثة ذاته والتمييز فيه بين مستوياته المختلفة· فالسياسة الحديثة التي ألغت المراتب الطبقية التقليدية جعلت من الشعب كلية واحدة أي افترضت وحدته في الوقت الذي هو كثرة وأفراد عديديون· والثورة الصناعية التي نقلت المجتمع من نمط العلاقات الحرفية والاقطاعية حيث كانت العلاقات السائدة التي تربط بين الأفراد علاقات عائلية، داخل المشغل الحرفي، أو أبوية داخل الاقطاعة بين سيد وأتباعه، طرحت أيضا مسائل جديدة على المجتمع من حيث هو عدد كبير من الأفراد يتعاملون مع بعضهم البعض ويعتمدون بعضهم على بعض، وهو معنى المجتمع المدني بالضبط· فقد أدت تصفية الحرفة ونشوء الاقتصاد البضاعي وتحلل الملكيات الاقطاعية وتراجع الارستقراطية إلى انخلاع الأفراد عن رحم علاقاتهم القديمة، مما طرح بقوة مشكلة إعادة بناء هذه العلاقات، أي إعادة بناء المجتمع المدني وفهم حقيقته الجديدة في مواجهة وبموازاة الدولة الحديثة معا· وعلى هذه المشاكل والاشكاليات النظرية سوف يرد فلاسفة القرن التاسع عشر الكبار، وفي مقدمهم هيجل وماركس الذين سيسيطرون عمليا على فكر القرن التالي السياسي·

فالبنسبة لهيجل ليس المجتمع المدني باعتباره مجموع الروابط القانونية والاقتصادية التي تنظم علاقات الناس الأفراد فيما بينهم وتضمن تعاونهم واعتمادهم بعضهم على البعض الآخر سوى لحظة في صيرورة أكبر تجد تجسيدها في الدولة ذاتها، وهي في الواقع الدولة القومية· فالمجتمع المدني بوصفه كما ذكرت مجموع هذه الروابط يمثل تقدما نوعيا بالمقارنة مع الطبيعة الخام، لكنه لا يجد مضمونه الحقيقي إلا في الدولة التي تجسد ما هو مطلق، أي الحرية والقانون والغاية التاريخية في أجلى تجلياتها· فالمجتمع يظل على مستوى المجتمع المدني مجتمع المصالح الفردية والمشاريع الخصوصية، أي مجتمع الانقسام والتملك الفردي والصراع، ولا يجد خلاصه إلا في الدولة· ومن هذه النزعة الهيجلية إلى رفع الدولة إلى مستوى الحل والمفتاح معا للمجتمع سوف تتغذى الحركات والفلسفات القومية التي تضع الدولة فوق المجتمع والتي قادت إلى إضفاء صفة سلبية على مفهوم المجتمع المدني أيضا لصالح تقديس متزايد لمفهوم الدولة كما سوف نرى·

أما ماركس فقد نظر إلى الموضوع من منظار التناقض الذي كشف عنه في مسيرة الحداثة البرجوازية ذاتها ومشروعها التحرري نفسه· ففي نظر ماركس إن مشروع التحرير السياسي الذي قامت به البرجوازية بالفعل عندما نقلت المجتمعات من النظام القديم إلى النظام الحديث ليس في العمق إلا مشروع استلاب جديد· بل إن السياسة هي في قلب هذا الاستلاب وهي تجسد أعظم أشكال هذا الاستلاب· ففي اللحظة ذاتها التي خلقت فيها برجوازية الدولة كمجال للعام، خلقت أيضا مجال الخاص· وبذلك قضت على الفرد بالتصدع أو الانشقاق في ذاته وهويته نفسها بين ماهيتين متنابذتين ولا يمكن التوفيق بينهما، ماهيته كمواطن، وماهيته كمنتج· فالعام (المواطنية وما تعنيه من حق المساواة) فيه يعيش حالة صدام ونزاع مستمر مع الحقيقة الانتاجية الاجتماعية الفعلية التي تعني التفاوت والتباين الشديدين في شروط الحياة والعيش والممارسة· لذلك سوف يقول إن الحرية التي تعكسها المواطنية التسووية هنا شكلية تماما، ولن يكون هناك تحرر حقيقي للفرد إلا عندما تتوافق شروط الحرية السياسية مع شروط الحرية الاجتماعية· وهذه هي غاية الشيوعية وبرنامجها، أي المطابقة بين العام والخاص، بين الدولة إطار الحرية لكن الشكلية والمجتمع المدني إطار المصالح لكن البرجوازية الخصوصية فحسب، وذلك بتجاوز الدولة والمجتمع المدني البرجوازي الطبقي في الوقت نفسه· فكلاهما الدولة والمجتمع البرجوازيان مجال للاستلاب· وليست الشيوعية سوى برنامج التجاوز التاريخي هذا للدولة الديمقراطية الشكلية وللمجتمع المدني البرجوازي الرأسمالي معا، ومثالها أن تأتي بنظام مجتمعي تكون حرية الفرد فيه شرطا لحرية المجموع، أي يتحقق فيه الانسجام المطلق بين العام (الدولة- النظام، الحرية) والخاص (المجتمع المدني-الفردية، المصلحة) وتتعانق فيه الفردية والجمعية معا· إن الصدع الذي أحدثته البرجوازية بين العام والخاص في كل فرد هو أصل السياسة التي يوجه إليها ماركس نقدا قويا باعتبارها أكبر تجسيد للاستلاب البرجوازي· ولذلك فقد تصور المجتمع الشيوعي من دون دولة ومن دون سياسة، أي مجتمعا متحررا من هذا الصدع منبع الاستلاب·

والاستخدام الثالث هو الذي نشأ في النصف الأول من القرن العشرين وذلك في إطار احتدام الصراع الثوري وفي سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربة الصناعية· وكان أكبر مسؤول عن تطوير هذا الاستخدام الجديد المفكر الايطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي· وغرامشي هو الذي ترك أكبر الأثر على المفهوم كما يستخدم اليوم، بعد استبعاد عناصر فلسفية وعقائدية كثيرة منه· لقد حاول غرامشي أن يطرح موضوع المجتمع المدني في إطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية ويستخدمه لإعادة بناء استراتيجية الثورة الشيوعية أو التحررية· وبالنسبة لغرامشي سواء أكان ذلك في كتابه الأمير الحديث أو دفاتر السجن هناك مجالان رئيسيان يضمنان استقرار سيطرة البرجوازية ونظامها· المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة، وفيه تتحقق السيطرة المباشرة، أي السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ· وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام هي الهيمنة الايديولوجية والثقافية· ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية· وفي هذا التحليل يبلور غرامشي للحزب الشيوعي الطامح إلى السيطرة استراتيجية جديدة تقول إن من الممكن البدء في معركة التغيير الاجتماعي المنشود، أي الشيوعي، من استراتيجية تركز على العمل على مستوى المجتمع المدني وتعبئة المثقفين لكسب معركة الهيمنة الايديولوجية التي ستعلب دورا كبيرا في مساعدة الحزب على عبور الخطوة الثانية وهي السيطرة على جهاز الدولة· وهي استراتيجية مباينة تماما للاستراتيجية البلشفية التي سودها لينين والتي تعتمد على التنظيم الاحترافي للثورة، والتي اعتمدت في الواقع شكل الانقلاب الذي تقوم به فئة منظمة قوية ومسلحة بهدف إحكام قبضتها على جهاز الدولة· ففي مقابل استراتيجية الانقلاب العسكري أو شبه العسكري يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي السيطرة التدريجية والفكرية على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية· ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة· ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها· ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي·

لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها· فالعمل في إطار المجتمع المدني هو جزء من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولوية· لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا كان عضويا، أي إذا ارتبط بمشروع طبقة سياسي، تماما كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كجزء أو مستوى من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية· إنها ليست منافية للسياسة ولكن مكملة لها، وإن كانت متميزة عنها· فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام وحدة ديناميكية السيطرة الاجتماعية·

وينطلق  الاستخدام الرابع لمفهوم المجتمع المدني الذي أعيد اكتشافه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين من تراث غرامشي لكن بعد تنقيته كما قلنا مما علق فيه من تراث الماركسية، كي لا يحتفظ منه إلا بفكرة المنظمات والهيئات والمؤسسات الاجتماعية الخاصة التي تعمل إلى جانب الدولة لكن ليس تحت إمرتها على تنظيم المجتمع وتنشيطه وتحقيق الاتساق فيه· وبهذا المعنى فالمقصود بالمجتمع المدني كما يستخدم اليوم تلكل الشبكة الواسعة من المنظمات التي طورتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ترفد عمل الدولة· وإذا شبهنا الدولة بالعمود الفقري فالمجتمع المدني هو كل تلك الخلايا التي تتكون منها الأعضاء والتي ليس للجسم الاجتماعي حياة من دونها· فليس هناك أي شكل من العداء بينهما ولا اختلاف في طبيعة الوظائف وإن كان هناك اختلاف في الأدوار·

والواقع أن الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني قد مر هو نفسه بثلاث مراحل رئيسية· المرحلة الأولى هي مرحلة الانفتاح على المجتمع المدني من قبل الأحزاب والقوى والنظم السياسية بهدف ضخ دم جديد في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها بدأت تفقده مع بقرطتها وتقنرطتها· وقد تمثل ذلك بإدخال عناصر أو مسؤولين في حركات إنسانية وتنظيمات اجتماعية خيرية في التشكيلات الوزارية على سبيل تقريب السياسة من الفئات النشيطة في المجتمع ومن الجمهور الواسع الذي عف عنها في الوقت نفسه·

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق الكثير من المهام التي تهم هذه الأخيرة بالتراجع عنها· وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه ويتحمل هو ذاته مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية· وقد استخدمت الدول الديمقراطية مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الايفاء بالوعود التي كانت قد قطعتها عن نفسها وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لفترة طويلة مرتبطة بها لكنها أصبحت مكلفة، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبيرة التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الانتاج·

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة طفرة المجتمع المدني إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية، على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص، في مواجهة القطب الذي تمثله الدولة-الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر فأكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية· وشيئا فشيئا يتكون في موازاة هذا القطب الدولوي والقيادة الرسمية للعالم، تآلف المنظمات غير الحكومية والاجتماعية التي تتصدى لهذه الحسابات الاقتصادية والتجارية من منطلق إعطاء الأولوية للحسابات الاجتماعية ولتأكيد قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية· وفي هذه الحالة يطمح المجتمع المدني إلى أن يكون أداة نظرية لبلورة سياسة عالمية وبالتالي أيضا وطنية بديلة تستند إلى مجموعة من القيم والمعايير التي ينزع السوق الرأسمالي إلى تدميرها أو التجاوز عنها·

وهكذا بدأ التفكير منذ السبعينات في العديد من البلاد الأوربية بالاهتمام بهذا القطاع الهام من النشاط الاجتماعي· وكانت أول بادرة في هذا المجال تطعيم الطاقم السياسي الوزاري بعناصر ليست من محترفي السياسة أو مناضلي الأحزاب ولكنها قادمة مباشرة من المجتمع المدني، أي من الهيئات والمنظمات غير السياسية والعاملة في ميدان العمل الاجتماعي· وكان ذلك مخالفا للقاعدة التقليدية التي كان الاتفاق على توزيع المناصب الوزارية فيها هو القاعدة التي يتم عليها بناء التحالفات والتآلفات الحكومية· فقد عين أساتذة جامعة في مناصب سياسية كبيرة وأطباء ناشطين في ميدان أطباء بلا حدود، ثم جاء دور الفنانين والكتاب ليحتلوا بعض المراكز الحكومية أيضا·

لكن الأمر لم يلبث حتى تجاوز ذلك وجعل من المنظمات غير الحكومية، المحلية والدولية، فاعلا رئيسيا إلى جانب الحكومات في تسيير الشؤؤن الوطنية والعالمية· وقد تبلور مفهوم المنظمات غير الحكومية من خلال الوضعية القانونية التي كرستها لهذه المنظمات الأمم المتحدة، والدور النشيط الذي أصبحت توليه لها لحل العديد من المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية· حتى ساد الاعتقاد اليوم أن هذه المنظمات هي الملجأ الوحيد في تنفيذ المشاريع الانسانية الخيرية وغير الخيرية في مواجهة عجز الدولة وشلل أجهزتها بسبب سيطرة البيرقراطية عليها·

ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد الفقيرة والنامية· فلا ينبع الحديث عن المجتمع المدني والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي من نضح الدولة ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الانجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي، ولا عن نضج المجتمع وتوسع دائرة العمل والمبادرة والتنظيم عند أفراده ونشوء جمعيات ومؤسسات أهلية قادرة على التدخل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية ولكن ربما بالعكس من ذلك تماما· إن منبع الحديث المتزايد عن المجتمع المدني هو انهيار الدولة وفقدانها لأي دور مركزي على الطريقة الكلاسيكية، أي بناء الأمة، وعجزها عن بلورة دور جديد لها يتماشى مع حاجات المجتمع الذي يتطور بمعزل عنها منذ فترة طويلة في تصوراته ومطالبه· كما هو تفكك المجتمع نفسه وافتقاره إلى أي مؤسسات تسمح له بممارسة دوره أو تأكيد وجوده في وجه السلطة المتحولة إلى سلطة أصحاب المصالح الخاصة وفي وجه الفوضى والدمار الذين يتهددان مصيره ومستقبله· إن الاستخدام السائد اليوم في العالم الثالث المفقر لهذا المفهوم هو استخدام الشعار الذي يرفع للتغطية على غياب المضمون، أي على الفراغ الذي يسم الدولة والمجتمع المدني معا، ويلغي أي وجود فعلي للسياسة مهما كانت طبيعتها وشكل ممارستها، والذي يدفع النخب المعارضة في هذه البلدان إلى استخدام مفهوم المجتمع المدني كعقيدة جديدة في عملية إعادة تأهيل من الدرجة الثانية للسياسة أي كمصدر لمشروعية عمل سياسي جديد تريد النخبة أن يرتبط بها ويميزها عن النخب السياسية البيرقراطية الحاكمة·

لكن المهم في التطور الذي طرأ على مفهوم المجتمع المدني،

1 - أن ما كان يستخدم كمفهوم مجرد للتمييز بين الطبيعي والمدني، وبين مجال العام ومجال الخاص، وبين السياسي والثقافي، قد أصبح مفهوما يدل على فاعل اجتماعي محدد، ومجسد في منظمات وهيئات تملك من القوة والموارد وامكانيات النفوذ ما يمكن أن يتجاوز بكثير ما تملكه العديد من الدول·

2 0 أن هذا المفهوم قد شهد طفرة عميقة منذ القرن التاسع عشر الذي يشكل مرجعيته الرئيسية بالنسبة للعديد من الباحثين· فقد كان يشير إلى تلك النشاطات التي ترتبط بالمصالح الخاصة، والتي تشكل لهذا السبب مصدر التضارب والنزاع واللاعقلانية والفوضى الاجتماعية· وكان مبرر الدولة الحديثة ومشروعيتها هي ما تقدمه من اتساق في المصالح وتنظيم عقلاني لها يضمن السلام والاستقرار والمصلحة العامة، ومن هنا الوطنية، وبالتالي يضمن الأمن والنظام· وهذا هو الأصل في بناء مركزية الدولة منذ القرن التاسع عشر، بوصفها مركز الوحدة والانتماء والتواصل والتسويات والعقود المجتمعية الثابتة وبالتالي أداة التقدم والازدهار في جميع الميادين أيضا : في الحريات والحقوق وفي الخدمات المادية والادارية معا·

2 - المجتمع المدني في الاستخدامات العربية

1 - في أصل المفهوم المركزي للدولة :

من الجماعة الأهلية إلى الدولة الأمة

هكذا نشأ الرهان المكثف على الدولة والتمركز من حولها وتحويلها إلى مركز عبادة وتقديس منذ القرن التاسع عشر، في أوربة أولا ثم في جميع أنحاء العالم فيما بعد، بسبب الآمال والأوهام الكبيرة التي كانت تحيط بعمل هذه الدولة وقدراتها وإمكاناتها معا· فقد ساد الاعتقاد، منذ هيجل الذي نظر إلى الدولة القومية باعتبارها التعبير الأسمى عن وصول التاريخ إلى غاياته ومطابقة الوعي لذاته، حتى النظم الشمولية التي وجدت فيها الأداة المثلى للتحرر من جميع الإكراهات التاريخية والوصول بالمجتمعات إلى أعلى قمة في السيادة والتنمية والحرية· والعجيب في الأمر أن هذه الدولة التي بني ماركس نظريته في التحرر الانساني على فرضية تلاشيها الحتمي وإحلال إدارة الأشياء محل إدارة البشر (السياسة)، أي بمجتمع يقود شؤونه وينظمها بنفسه، سوف تصبح غاية في ذاتها في النظم الستالينية بقدر ما سوف تمثل إطار تنظيم الطبقة البيرقراطية الجديدة وأداة سيطرتها الرئيسية، وسوف تجعل من السياسة إدارة البشر بوصفهم أشياءا كما لم يحصل في أي حقبة أخرى·

وفيما وراء التجربة السوفييتية، نشأت عبادة الدولة في العصر الحديث في جميع المجتمعات انطلاقا من الايمان بقدرتها اللامحدودة والاستثنائية على الانجاز والتحقيق، سواء أكان المقصود تحقيق إنجازات ذات طابع تقدمي كما تريد النظم والحركات التقدمية اليسارية أو ذات طابع رجعي وتسلطي كما كانت تريد النظم والحركات الفاشية· وقد استخدمت الدولة بالفعل خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كأداة رئيسية للتغيير والتحديث وإعادة صوغ النظم بل والمجتمعات البشرية وتكوينها على هدى العقائديات والمنظومات النظرية المختلفة· وتعلق الجمهور بالدولة الحديثة التي ستتخذ بسبب هذا الموقع الاستثنائي الذي ستحتله في حياة المجتمعات المادية والرد على أحلامهم الانسانية بعدا رمزيا عميقا وتستقطب جميع الآمال التي خانتها النظم والمؤسسات العمومية التي سبقتها من قبيلة وعشيرة وإقطاعة وإمبرطورية وطائفة وكنيسة· وقد ارتبط نشوء الدولة الحديثة بالفعل بتنامي الوعود الاستثنائية بالحرية والعدالة والمساواة والأخوة البشرية· وتعمقت شرعية هذه الدولة وزاد الولاء لها والتمسك بها بقدر ما برهنت عبر التاريخ أنها قادرة على الوفاء بوعودها أو ببعضها على الأقل· فالدولة الحديثة القومية التي نشأت في الغرب وتوسعت نحو أمريكا واليابان هي الإطار الذي نمت فيه الحريات السياسية والفكرية وتعززت فيه مفاهيم الدولة القانونية والمساواتية، وارتبطت به قيم العدالة والتضامن الوطني والاجتماعي والأهلي معا·  

كما أن انبثق مفهوم التقدم وعقائدياته في حجر مفهوم هذه الدولة الحديثة· وكانت هذه الدولة من حيث هي دولة الأمة تجسيدا عميقا لمفهوم التقدم المجتمعي هذا وأخلاقياته الكبرى· فقد نجحت الدولة الحديثة في العديد من الحالات في توليد قوميات أو هويات سياسية قوية وراسخة من مجتمع أهلي شديد التنوع والتمايز مكون من جماعات وطوائف ومحليات قروية وحضرية مغلقة بعضها على البعض الآخر تعيد إنتاج العصبيات القرسطوية والاقطاعية· وهكذا صارت الدولة الحديثة أحد مفاهيم عقائديات التقدم التاريخي الرئيسية التي نمت منذ عصر الأنوار وتطورت مع النظريات التي نشأت عنها، في التاريخ والحضارة والمجتمع والفرد معا·

 وقد كان لفكرة الدولة الأمة، أي القومية، الدور الأول في الخروج من أنماط الاستبداد والحكم المطلق التي عرفتها حقبة القرون الوسطى في العالم أجمع وتدشين حقبة جديدة في الحياة السياسية للمجتمعات اتسمت بالفعل بالتحويل الديمقراطي لمؤسسات السلطة العمومية· وقد استغرقت عملية التحويل الديمقراطي للدولة أو بلورة نموذج السلطة العمومية الديمقراطية وتعميم نموذجها في العالم كله ثلاثة قرون منذ السابع عشر حتى العشرين· والمقصود بالتحويل الديمقراطي للدولة هنا هو إعادة بناء مؤسسات الدولة بما يجعلها تستجيب بشكل أكبر لإرادة المجتمع وتتفاعل معه وترد على طلباته، أي تنحو إلى الاقتراب منه بعد أن بقيت لقرون طويلة مستقلة تماما عنه وقائمة بالفعل فوقه ومواجهة له· وقد استدعى هذا التقرب من المجتمع قيام الدولة أو بالأحرى النخب الحديثة المسؤولة عن تسييرها بعملية معقدة تتضمن في الوقت نفسه ثلاث طفرات رئيسية: الأولى تتعلق بتأكيد السيادة الشعبية، أي حتمية صدور السلطة واتخاذ القرارات العامة عن المجتمع نفسه ممثلا بنوابه أو ممثليه الشرعيين· والثانية تغيير قواعد ممارسة السلطة العمومية وإدخال مبدأ التداول والشفافية والمحاسبة الشعبية، وبالتالي تشريع وجود المعارضة والتعددية السياسية، والثالثة تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث الرئيسية، التنفيذية والتشريعية والقضائية، حرصا على منع مراكمة السلطة العمومية جميعا في يد فرد أو فئة أو مؤسسة واحدة، وقطع الطريق على الاستبداد والديكتاتورية، وموازنة السلطات فيما بينها· وقد نجم عن كل ذلك ضرورة إعادة بناء مؤسسات الدولة الجديدة التي أصبحنا نسميها الدولة الحديثة بما يحقق هذه الأهداف، أعني تمثيل السلطة السياسية للرأي العام وضمان مراقبته الدائمة لها، وخلق شروط تداول السلطة ووجود معارضة شرعية وإلغاء فرص تكوين سلطة مطلقة لا حدود لها، تخضع لإرادتها الخاصة جميع وسائل الإدارة والقضاء والقانون·

 والواقع أن هذه التغييرات العميقة التي قدمتها النخب السياسية الجديدة أو البرجوازية للمجتمع بالمقارنة مع النخب التقليدية الارستقراطية لم تكن تهدف إلى شيء آخر سوى دمج الأفراد المنخلعين عن عصبياتهم الطائفية والقروية والإتنية في الكيان السياسي المدني الجديد، وتعميق ولائهم للدولة، بل ابتعاث هذا الولاء من العدم بعد أن كان الولاء الفعلي للملك أو السلطان أو الأسرة المالكة· إن دمقرطة الدولة وممارسة السلطة العامة الذي شكل جوهر رسالة النزعة القومية الكلاسيكية لم يكن يعني شيئا آخر سوى بناء مفهوم جديد للفرد بعلاقته بالمجتمع، أي كإنسان مدني، هو الفرد المواطن مقابل مفهوم الفرد التابع أو الرعية· فالمواطنية التي تمثل في نظري أساس وروح الفكرة القومية الحديثة كانت الثمن الضروري والحتمي لتكوين ولاء جديد يمحو الولاءات العصبوية السابقة ويسمح بإقامة مجتمعات مدنية كبرى قادرة على خلق شروط تطور الحضارة الصناعية والتقنية· وهذه المجتمعات أو الجماعات الجديدة المشتركة في ولاء واحد والمتضامنة في إطار الدولة وليس الكنيسة أو العصبية القروية والعشائرية ليست سوى الأمة بالمعنى الحديث للكلمة· وقد نجحت الأمة من حيث هي تجديد لقواعد الاجتماع المدني البشري في تكوين كيانات سياسية وبشرية كبيرة ومستقرة لا تخضع في استمرارها لقوة الشوكة ولا تحتاج من أجل ضمان استمرارها و/ أو توسعها إلى شن الحروب الدائمة واستنزاف موارد المجتمع· وفي ظل هذه الكبانات السياسية الجديدة، أعني الدول القومية، سوف تتحقق أكبر عملية تراكم اقتصادي وتقني وعلمي وثقافي في التاريخ، وذلك بالرغم من الحروب والنزاعات العديدة التي سوف ترافق تكوين النظام القومي العالمي واستقراره·

بيد أن هذا المسار لا ينطبق في الواقع إلا على الأمم التي تكونت في الموجة الأولى والثانية لتشكيل الأمم الدول، وبشكل خاص في أوربة وأمريكا واليابان· إنما يختلف الأمر في بقية بقاع العالم· فقد بقيت الحركة القومية في الكثير منها فكرة أو دعوة فكرية ولم تنجح في خلق شروط تعمل على تعميق الولاء وتحويل الانتماء القائم على العقيدة إلى انتماء قائم على ممارسة فعلية للمواطنية، وبالتالي إلى ولاء للدولة ومؤسساتها الحديثة· ولذلك لم تستطع الدولة الحديثة هنا أن تنجز شيئا من المهمات التي انجزتها الدولة الأمة في المجتمعات الغربية، لا فيما يتعلق بالتغيير العميق في تمثل الفرد لدوره ومكانته وموقعه في السلطة العمومية ولا فيما يتعلق بتجاوز الولاءات والانتماءات ما قبل القومية· ولذلك أيضا لم تتكون روح المواطنية التي تعني في الوقت نفسه الدفاع القوي عن الحق في المشاركة في القرارات العامة والشعور العميق بالمسؤولية والواجب الوطني، أي تجاه المصالح العامة والكيان الكلي· كما لم تتكون أمة بالمعنى الحديث للكلمة، أي جماعة جديدة يتجاوز فيها التضامن من أجل المصلحة العمومية التضامن من أجل مصالح جزئية ويتغلب عليه· وكانت النتيجة في الواقع أن القومية هنا ولدت شجرة ضعيفة واصفرت أوراقها قبل أن تؤتي ثمارها·

وقد كان لإخفاق الفكرة القومية هنا أو إجهاضها عواقب وخيمة·  فقد نشأ عن هذا الإجهاض تمركز متزايد للنخب السياسية حول الدولة كوسيلة رئيسية بل وحيدة لاحداث التقدم وتحقيق شروط الحداثة، في مواجهة المجتمع وضده· وحلت عبادة الدولة عمليا في العديد من بلاد العالم محل عبادة الأمة التي تطورت في أوربة بما تتضمنه من تقديس الفرد المواطن وصون كرامته وحرياته والاهتمام بتحسين شروط حياته والمراهنة على نشاطه ومبادرته وتعاونه وانخراطه في العمل العمومي· وعملت عبادة الدولة هنا كتعويض عن غياب هذه الأمة وإرادتها الواحدة والدافعة للتقدم· وربما كانت التجربة السوفياتية هي الأهم من بين هذه التجارب التي أدى فيها إجهاض القومية إلى نزعة دولوية مبالغة وإلى سلب المجتمع إرادته وروحه وتحييده تماما تجاه الدولة والنخبة المسيطرة عليها· لكن هذه التجربة سوف يعاد إنتاجها بصورة أو أخرى، أقل أو أكثر عنفا، في جميع البلاد غير الأوربية وغير المركزية· وسوف تنتهي جميعا إلى إخضاع كلي للمجتمع من قبل الدولة وسحقه ماديا ومعنويا باسم التغيير والتقدم السريع والتصنيع واستكمال مهام الثورة الوطنية والقومية· وحتى في هذه الحالة التي كان المجتمع مغيبا فيها تماما عن السياسة أو مخرجا منها، بقي التصور السائد على المستوى الذهني يدمج بين الدولة والمجتمع· فقد كان الاشتراكيون والشيوعيون يعتقدون بعمق أنهم هم الذين يمثلون حقيقة المجتمع وإرادته، ذلك أن قرونا من الجهل والتجهيل وسيطرة الاقطاع والاستبداد ورجال الدين قد شوهت، في نظرهم، وعي هذا المجتمع أو أغلبيته الساحقة، وأن من واجبهم وواجب الدولة القهرية التي طوروها أن تأخذ بيد هذا المجتمع فتجعله على الصورة التي تتطابق مع قيمها ورؤيتها التاريخية· وهذا هو معنى الحكم الثوري· فهو مرحلة انتقالية لا تتطابق فيها إرادة المجتمع مع إرادة النخبة المسيطرة على الدولة ومع الدولة الحديثة التي أنشأتها، لكن عدم هذه المطابقة ليس مطلقا في هذه النظرية ولكنه نسبي ومؤقت· ذلك أن هدف الدولة الثورية هو بالضبط تحقيق هذه المطابقة ولو جاء ذلك بالقوة· إن الفرق بين سلوك النخب البرجوازية التقليدية التي أنشأت الدولة الليبرالية والنخب البرجوازية الجديدة التي اعتمدت الثورة مشروعا للتحديث والنهوض بمشروع الأمة هو أن الأولى سعت في سبيل الحصول على ولاء الأفراد والمجتمع إلى تحسين طريقة عمل الدولة وأسلوب ممارسة السياسة، وهو ما أدى إلى بناء الديمقراطية السياسية الشكلية، في حين أن النخبة الثانية أرادت أن تحقق هذا الولاء من خلال تحويل المجتمع ذاته وتحديثه بما يتفق مع الدولة الحديثة التي أتت بتصورها ومفهومها من خارج المجتمع وفرضتهما عليه· ومن هنا فإن المشروع نفسه والغاية ذاتها ، أعني المطابقة بين المجتمع والدولة، قد أنتج، بحسب العلاقة مع المجتمع، أسلوبين مختلفين تماما ومتناقضين للممارسة السياسية وولد نموذجين متناقضين للدولة: الدولة الديمقراطية والدولة الشمولية·

هذا التصور الذي سيطر على تفكير المثقفين والسياسيين والرأي العام خلال القرن الماضي والذي يرى التواصل والتطابق بين الدولة والمجتمع أمرا بديهيا وضروريا أيضا هو الذي بدأ يفقد كثيرا من بداهته وصدقيته في العقدين الماضيين· فلم تعد الدولة تبدو دولة المجتمع أو الدولة المطابقة له والقريبة منه·  وازدادت التشكيكات في مقدرة هذه الدولة  التي كانت تظهر حتى وقت قريب على أنها المحرك الأول للمجتمع والضامن الوحيد لاستقراره واتساق حركته وازدهار اقتصاده على تلبية احتياجات هذا المجتمع ومطاليبه· بل لقد بدأ الشك يطرق مفهوم الدولة الأمة ذاتها ويمس المبدأ النظري الذي قامت عليه·  وأخذت الانتقادات للدولة ذاتها تتزايد في البلاد الصناعية، تلك التي شهدت أفضل تطور للدولة سواء من حيث ما أنجزته من مهام اجتماعية وفي مقدمها بناء كيان اجتماعي جديد هو الأمة، أو من حيث ممارستها للسلطة وما طورته بالفعل من تقاليد وأعراف وممارسات ومؤسسات ديمقراطية· ولا يمس النقد الراهن فكرة الدولة الأمة ذاتها، أو مفهوم الأمة الحديث، ولكنه تجاوز ذلك ليشكك في مفهوم الدولة كأداة للتقدم البشري، بل ذهب فيما وراء ذلك إلى التعريض بمفهوم السياسة ذاتها بوصفها انتاجا لهذه الدولة· فما هو سبب هذا الانهيار في مركزية الدولة والمكانة التي كانت تحتلها في تقرير مصائر المجتمعات في العقود الطويلة السابقة؟

 

2 - الديمقراطية الناجزة

أو في أسباب انهيار مركزية الدولة

 

عندما يثير الباحثون اليوم مسألة تراجع مكانة الدولة في الحقبة الراهنة بالمقارنة مع موقعها من العملية الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية، في الحقبة الكلاسيكية لبناء الدولة الحديثة، فأول ما يشيرون إليه كمصدر لهذا التراجع هو العولمة· فبما تخلقه العولمة من فضاءات تتجاوز سلطة الدولة القومية، وبما تستخدمه من تقنيات تضعف إن لم نقل تلغي سيطرة هذه الدولة على مواطنيها وتربطهم بشبكات للاتصالات والمعلومات والتبادل الثقافي والاقتصادي معا تتعدى كثيرا الإطار الوطني التقليدي للدولة، تنشيء هذه العولمة وضعية جديدة تجد فيها الدولة نفسها فاعلا صغيرا وضعيفا مقابل الفاعلين الجدد الكبار الذين يحتلون اليوم، أكثر فأكثر ميادين النشاط الانساني في كل المجتمعات ويتحكمون به، أعني الشركات العالمية العابرة للحدود  والقوميات والمؤسسات الدولية القائمة فوق الدول  والأوطان· ويبدو الأمر كما لو أن العولمة التي تطور فضاءات معولمة أو عالمية للنشاطات البشرية ما فوق الوطنية تعمل بمثابة إسفين يدق بين الدولة والمجتمع، وتعمل بالتالي على زيادة الصدع والتباعد بينهما·

والحال أن العولمة لا تزال وستبقى مفهوما واسعا ومشوشا لا يكفي لتفسير ما يطرأ على المجتمعات التي لا تزال إلى حد كبير مجتمعات وطنية، أي تخضع لقواعد وآليات التنظيم القومي للسلطة والحدود والسياسات بصرف النظر عن التراجع الذي تلقاه سياسات الدولة المركزية نفسها داخل هذا الاطار الوطني· فالعولمة بمعنى تبني سياسات الفتح الواسع والمطلق للحدود أمام التبادل التجاري والثقافي والبشري بما يجعل من البشرية مجتمعا واحد أو بالأحرى سوقا حرا واحدا، ليست سوى أسطورة أو عقيدة سياسية تريد أن توهم الناس بوجود عكس ما هو قائم في الواقع· فلم تسقط الحدود على الإطلاق بين الدول والمجتمعات، خاصة بين المجتمعات الفقيرة والغنية، ولن تسقط أبدا في المستقبل، بل إنها سوف تزداد قوة وعمقا· وحماية هذه الحدود وتعزيزها هو الضمانة الرئيسية للتشغيل الناجع من وجهة نظر الدول الصناعية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لسياسات العولمة· وفي هذه الحالة لاتستخدم العولمة بمعنى الزوال الفعلي للحدود ولكن بمعناها الحقيقى وهو إجبار الدول الضعيفة على فتح الحدود أمام الدول الصناعية الكبرى وتكوين سوق اقتصادية حرة بالنسبة للكبار فقط لأنهم قادرين بسهولة على اختراقها، لكنها سوق مغلقة تماما بالنسبة للدول الصغيرة التي ليس لديها أي أمل في منافسة الدول الصناعية الكبرى في عقر دارها· ولا ينبغي أن ننسى أنه في الوقت الذي تتحدث فيه الدول الصناعية عن العولمة وتفرض على العالم جدول أعمال قائم على تحرير التجارة وإلغاء التعرفة الجمركية وتحييد الدولة في عملية التنمية الاقتصادية، أن هذه الدول تعمل المستحيل في الوقت ذاته من أجل ضمان تفوقها الاقتصادي ونفوذها السياسي والثقافي، سواء أكان ذلك من خلال الاسراع في بناء التجمعات الاقليمية أو من خلال الضغط في إطار مفاوضات منظمة التجارة الدولية للحفاظ على ميزات ومصالح تحرم منها الدول والمجتمعات الفقيرة والصغيرة· وفي الوقت الذي تدعوا فيه هذه الدول الكبرى لنبذ السياسات الوطنية والتنديد بالانتماءات القومية، فإنها لا توفر فرصة كي تعزز من مواقعها الوطنية في المؤسسات العالمية، وفي مقدمها مجلس الأمن الذي يضمن من خلال حق النقض السيطرة المطلقة لمجموعة صغيرة من الدول القومية المنتصرة منذ أكثر من قرن على مصائر السياسة الدولة·

وهناك أخيرا العولمة من وجهة نظر تطور التقنيات الاتصالية والمعلوماتية وما يحدثه هذا التطور بالفعل من إعادة توزيع للموارد والقوى والطاقات البشرية داخل كل مجتمع على حدة وعلى صعيد علاقة المجتمعات فيما بينها· وهذه حقيقة موضوعية لا شك فيها· فهذه التقنيات الجديدة تعيد توزيع الموارد بشكل أكثر تفاوتا من أي حقبة سابقة، وهي تهدد بالاستنزاف العميق والواسع لموارد العديد من المجتمعات التي تخفق في استيعاب آليات العولمة وفي ابداع الاستراتيجيات التي ترد عليها· فبقدر ما تبدو العولمة عن حق حاملة لامكانات وفرص كبيرة وعديدة بالنسبة للمجتمعات التي تملك رساميل مادية ومعنوية قادرة على استثمارها في الفضاءات الاقتصادية والثقافية المعولمة،  فهي تبدو بالعكس من ذلك حاملة بالدرجة الأولى للكثير من المخاطر والتهديدات بالنسبة للمجتمعات الفقيرة ماديا وتقنيا وتنظيميا وإداريا·

وإذا كانت العولمة تستطيع أن تفسر بعض ما يجري بالفعل في البلدان الفقيرة من تباعد متزايد بين الدولة والمجتمع، فليس الأمر كذلك بالنسبة للبلدان الكبيرة والغنية· ذلك أن العولمة تشكل هنا بالعكس مصدرا لزيادة الموارد التي تساعد الدولة على التقرب أكثر من المجتمع وتقديم مكاسب جديدة له تتجاوز المكاسب التي حصل عليها في عصر الدولة القومية الصاعدة· ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الطبقات والفئات الشعبية قد عرفت في عهد الحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة أفضل عقودها ونالت من المكاسب ما لم تكن تحلم به من قبل، كما شهدت البطالة تراجعا كبيرا· وبالمثل تنزع الدولة في أوربة الاتحادية أكثر فأكثر لتقديم الرعاية عن قرب للفئات الأكثر فقرا، وتعمل على معالجة  ظواهر الفقر والتهميش التي سيطرت على ضواحي المدن الكبرى وتم تجاهلها لزمن طويل كما لم تفعل في أي حقبة سابقة· إن روحا جديدة من الجدية والمسؤولية تجاه المجتمع على مختلف فئاته وتكويناته وجماعاته، ورؤية جديدة لواجب الدولة تجاه هذه الفئات تدب في البلدان الصناعية، وتدفع إلى تعزيز الحماية الاجتماعية والتأمين الصحي بالنسبة للجماعات الضعيفة· إن ما نحن بصدده هنا ليس كما يشاع تراجع دور الدولة أو انهيار مكانتها، ولكن تبدل نظرتها لدورها في المجتمع ونوعية الخدمات والمكاسب الجديدة التي تستطيع وينبغي أن تقدمها له وأسلوب عملها· فهي تنسحب من بعض المواقع لتحتل مواقع جديدة، وتنبذ دورها البلدوزري الثقيل الظل الذي كان يجعل من السلطة العمومية مركز وصاية على المجتمع لتتبنى دور المنظم والمدير والمرشّد  والمنسق بين نشاطات المجتمع وفئاته وقواه الفعالة المتعددة· وهذا يعني أن الدولة أصبحت مركزية في ترشيد النشاطات الاجتماعية المختلفة لا في القيام بها كما كان عليه الحال في السابق·

يرجع هذا التبدل في دور الدولة والتحول في ميادين مركزيتها في نظري لعاملين رئيسيين مرتبطان بنجاح الدولة الأمة ذاتها وتحقيقها لفكرتها، وهما يفسران في الوقت نفسه نشوء العولمة ذاتها، أي نزوع المجتمعات والدول والنخب السياسية والاقتصادية العالمية إلى تبني سياسات محلية  وعالمية مختلفة عن تلك التي سادت في الحقبة السابقة·  العامل الأول هو بقرطة الدولة، والثاني هو تنامي قوى المجتمع بالفعل بفضل نضج الدولة الديمقراطية أو اكتمالها والشروط التي خلقتها من حريات فكرية وتنظيمية·

فبقدر ما نجحت الدولة في فرض نفسها وإقناع الأفراد بفعاليتها وعملها الايجابي، وبقدر ما ارتبطت نشاطاتها بالفعل بالاستجابة إلى حاجات الناس وخدمتهم زادت حاجتها إلى طبقة من الاداريين النشيطين وبقدر تعقد آليات عملها وأساليب التنظيم والإدارة فيها زاد اعتمادها على أصحاب الكفاءة والاختصاص· وشيئا فشيئا سوف يتقاسم الاداري مع رجل السياسة الوجاهة والاعتبار العموميين· بل إن الكثير من المسؤولين السياسين الكبار والناجين سوف يخرجون من صفوف الطبقة البيرقراطية ومدراء الأقسام والإدارات في الإدارة العامة· وسوف يتراجع بشكل متواصل مفهوم السياسة التقليدية القائم على الزعامة ومعرفة مخاطبة الجمهور والحنكة والمناورة لصالح مفهوم يعتمد الخبرة والقدرة على تقديم رؤية واضحة وحلول ناجعة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة· وسوف يتحول السياسي ذاته إلى تقني إدارة عامة أو عليا (سياسة) بعد أن كان تقني خطاب وبيان·  ومعظم رجال السياسة المعاصرين الكبار في الدول الديمقراطية هم في الوقت نفسه خريجي المعاهد العليا لتخريج الاطارات والكوادر أو من الجامعيين· وقد تطورت هذه النزعة بموازاة تراجع الصراعات السياسية والايديولوجية العميقة· وهو ما حققه التقدم والازدهار الاقتصاديين وتطبيق السياسات الاجتماعية التي أضعفت التوتر بين الطبقات وجعلت من الممكن تحويل السياسة من صراع حربي على السلطة، أو سياسة للسلطة وللسياسة، إلى سياسة ملتزمة بالقضايا الاجتماعية، وبالتالي إلى قدرة على قيادة وتنظيم ودفع المفاوضات والحوارات والمساعدة على بلورة التسويات بين الأطراف الاجتماعية المختلفة· بيد أن هذا التحول ذاته هو الذي نشر الشعور عند المواطنين بأن السياسة لم تعد تتضمن رهانات كبيرة وخطيرة، وصار الابتعاد عنها يعادل المشاركة فيها، فالنتيجة ستكون على جميع الأحوال واحدة أو متقاربة· وقد أضعف هذا من روح الشعور بالمسؤولية الفردية تجاه المشاركة في اختيار رجال السياسة وبلورة البرامج السياسية· لقد أصبحت السياسة وظيفة ذوي الاختصاص، فتتقرطت وفقدت جاذبيتها بالنسبة للعوام· وهذا ما يفسر تراجع نسبة المشاركين في التصويت للانتخابات في هذه البلاد· فلا يدل هذا على إخفاق السياسة بقدر ما يدل على ربح السياسة لرهاناتها وبالتالي على تناقص وجود رهانات أساسية تدفع إلى الانخراط فيها، باستنثاء أولئك الذين يطمحون إلى احتلال مواقع المسؤولية·

ومن الجهة الثانية، عمل مناخ الحريات والاستثمار في الفرد وتشجيع مبادرته في إطار هذا الازدهار وارتفاع مستويات المعيشة واستقرار القيم والمعايير الاجتماعية على تحرير المجتمع شيئا فشيئا من التسليم والاستسلام للدولة· وشجع قيام جماعات وهيئات ومنظمات تعمل من أجل المجتمع وتجسد إراداته المختلفة بعيدا عن وصاية الدولة وأحيانا بمساعدتها· وصار الفود بالرهانات داخل هذه المنظمات يقدم من الرضى عن النفس أكثر مما يقدمه الانخراط في لعبة السلطة وما تتسم به من مناورات وصراعات ثانوية· وشيئا فشيئا نمت فكرة العمل بموازاة الدولة وفي سبيل تنظيم جماعات المصالح الجزئية التي لم تنجح في ايصال صوتها للدولة أو لم تستفد كثيرا منها· وكان الدفاع عن الأقليات والجماعات الهامشية والفقيرة القاعدة التي نشأت عليها العديد من المنظمات غير الحكومية العاملة في سبيل النفع العام· وساعدت القوانين التي سنتها النخب السياسية اليسارية والاجتماعية على دفع هذه الحركة إلى الأمام سواء بإطلاق حق تكوين الجمعيات من دون ترخيص، أو بإخضاعها إلى إشراف رسمي قانوني دقيق يضمن للأفراد المنتمين لها عدم تعرضهم للتلاعب أو النصب·

وهكذا نشأ ونما في البلاد الديمقراطية في العقود الثلاث الماضية عدد لا يحصى من الجمعيات والهيئات غير الحكومية العاملة في جميع المجالات· وأخذ المجتمع بشعر بالفعل أنه قادر على إنجاز العديد من الأهداف والمساهمة في ايجاد حلول ناجعة للعديد من المشاكل، وربما بأسلوب أكثر مرونة من أسلوب الدولة أو البيرقراطية وبتكاليف أقل ونتائج أفضل· وزاد الاعتقاد لدى الرأي العام بأهمية تطوير العمل الأهلي وتنميته كطريقة خاصة في تحمل المجتمع نفسه لمسؤولياته واستلام مصيره بيده والتقليل من مراهنته على الدولة أو على البيرقراطية·

من هنا يشكل الاعتماد على المجتمع المدني ومؤسساته الاجتماعية غير الحكومية علامة نضج للدولة التي أعادت النظر بدورها وأسلوب تدخلها في الحياة العامة وقبلت بأن تحتل موقع النخاع الشوكي من النظام الاجتماعي بدل أن تكون عموده الفقري، وعلامة نضج كذلك للمجتمع الذي لم يعد يحتاج في تنظيم جميع أموره للدولة وصار قادرا على المبادرة بنفسه لايجاد العديد من الحلول التي يحتاج إليها، والتي يستطيع أن يقدمها للفئات الاجتماعية المختلفة حسب حاجتها وخصوصياتها، بدل الحلول القياسية الموحدة التي كانت الدولة تفرضها على الجميع من دون مراعاة المشاكل الخاصة والخصوصيات  والظروف المحلية·

 

3 -  من ديمقراطية الدولة إلى ديمقراطية المجتمع

في أصل التحول نحو المجتمع المدني ومعنى المراهنة عليه

 

تعبر نزعة الانكفاء عن الدولة كراع وحيد للتقدم والتحديث والتنظيم المدني للمجتمع عن ولادة ما أعتقد أنه موجة جديدة من الديمقراطية أو ما يمكن تسميته بالديمقراطية الجديدة أو المجددة· فقد تركزت الديمقراطية الكلاسيكية  أو في المرحلة الأولى على إصلاح الدولة وأساليب ممارسة السلطة من قبل القائمين عليها، وكان أفضل تعبير عنها بناء الدولة الدستورية والقانونية وتثبيت مبدأ فصل السلطات، واستقلال المؤسسات الرئيسية بعضها عن البعض الآخر وتحديد مسؤوليات الحاكمين وإخضاعها للمراقبة الاجتماعية المستمرة·  أما في المرحلة الجديدة فإن هناك نزعة قوية للنظر إلى الديمقراطية من داخل المجتمع أو لبناء أسس الديمقراطية الاجتماعية· فالمرحلة الأولى كانت مرحلة الدولة الديمقراطية والمرحلة الثانية هي مرحلة المجتمع الديمقراطي· والمجتمع الديمقراطي لا يقوم على وجود دولة قانونية وديمقراطية فحسب ولكنه يتجاوز ذلك نحو توطين مباديء الديمقراطية في ممارسات الفرد والجماعة معا· وفي هذا الاطار يستعيد التفكير السياسي النظر في كل ما كان غائبا في الديمقراطية الكلاسيكية، أعني التركيز على السلطة أو السلطات الاجتماعية والسعي إلى تطويرها والعمل على تغذيتها بالمباديء والقيم التي حكمت دمقرطة السلطة السياسية العمومية· وهكذا فإن الاستثمار المادي والمعنوي يتجه أكثر فأكثر في الدول ذات الديمقراطية الناضجة من التركز على السلطة المركزية والدولة نحو السلطات الاجتماعية· وتزداد مراهنة الرأي العام على هذه السلطات في تحقيق الأهداف التي لم يعد من الممكن للدولة أن تحققها أو لم يعد من المفيد لهذه الدولة أن تستمر في احتكارها· ولا تقتصر هذه المراهنة على العمل في ميدان التضامن الاجتماعي والانساني ولا في ميدان المشروع الاقتصادي الحر ولا في الميدان الأسري فحسب ولكن أيضا في ميدان الثقافة والاعلام وتكوين الرأي وتنظيم الحياة المدنية البلدية والمدينية وتحسين البيئة وتنظيم التعاون والتضامن الدوليين ومراقبة السياسة المحلية والدولية وإبداء الرأي فيها بل والاعتراض عليها· ويشكل التأمل في طبيعة الديمقراطية المواطنية الجديدة موضوع العمل الرئيسي للألماني هابرماس·

ومن هنا تعيش فكرة التعددية مرحلة تجديد في جميع أشكالها، وتضطر الدولة تلبية لذلك في جميع بلدان الديمقراطية الناجزة إلى أن تزيل احتكارها الذي بقي مفروضا خلال الفترة الطويلة السابقة على وسائل الاعلام الكبرى لتقبل، بل لتشجع على نشوء إذاعات وقنوات تلفزية ومراكز توجيه خاصة، سواء أكانت تجارية أو اجتماعية أو قوموية أو دينية· وبالمثل تكاثرت المنظمات غير الحكومية التي تهتم بالشؤون ذاتها الوطنية والدولية التي كانت من اختصاص الدول حتى وقت قريب· وأصبحت منظمات حقوق الانسان مثلا من أهم الهيئات التي تحظى بالشرعية العالمية للتصدي للحكومات المستبدة والقمعية· كما أصبحت منظمات المشاركة في التنمية ودعم الشعوب أو الجماعات الفقيرة أو التي تتعرض لكوارث طبيعية أو تهديدات خطيرة أكثر نشاطا من المنظمات الرسمية على صعيد الكرة الأرضية· وفي مواجهة سياسات العولمة الجديدة التي تطورها مجموعة الدول الصناعية الرئيسية، نمت ولا تزال تنمو منظمات أهلية عالمية تمثل أدوات ضغط متزايد على الدول الصناعية في ميدان ضمان الحقوق الاجتماعية أو توجيه السياسات الدولية وجهة إنسانية· وبالمثل تتكاثر الجمعيات المحلية التي تأخذ على عاتقها مهام تنظيم الحياة الأهلية للفئات أو للمجموعات القومية أو للنشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الشريحة أو تلك من السكان·

إن الديمقراطية المجتمعية، أو دمقرطة المجتمع المدني تعني بث مزيد من روح المسؤولية عند الأفراد تجاه التفكير والعمل على تقرير مصيرهم وعدم التسليم للدولة، بل وللسياسة بوصفها مركز تكثيف القرار المجتمعي وتوحيده، أو الاعتماد الوحيد عليها لتحقيق الأهداف والحاجات المطلوبة· كما تعني إعطاء المزيد من الصلاحيات وهامش المبادرة والموارد، من قبل الدولة أو من قبل أفراد المجتمع أنفسهم، لهذه المنظمات والهيئات غير الحكومية· فإلى جانب الدولة التي تميل إلى أن تقصر دورها كما قلنا على مهمة الترشيد والتنسيق العام، تقف اليوم في المجتمعات الديمقراطية الناضجة عشرات ألوف المنظمات غير الحكومية التي تملك من الموارد المادية ومن الإطارات الفنية والخبرات البشرية ومن المشاعر الانسانية ومن المشاريع والمخططات ما يوازي ما تملكه الدولة أو يتجاوزه في العديد من المجالات· والمهم في هذه المنظمات وفي طبيعة عملها هي أنها تستطيع، بعكس الدولة، أن تفكر وتعمل بين المواطنين أنفسهم وتدرك حاجاتهم الحقيقية على مستوى ظروف حياتهم، وتعمل بالمشاركة معهم، وتراهن على الأعمال التطوعية التي توفر الكثير من الموارد المادية وتشحن المجتمع بروح تضامنية تساهم بشكل قوي في تخفيف التوترات والتناقضات الاجتماعية الكلاسيكية·

وبوجود هذه المنظمات تجد الدولة لنفسها معينا كبيرا داخل المجتمع يخفف عنها العديد من الأعباء ويفرغها للانشغال بالمسائل الاستراتيجية الكبرى والخطط الطويلة المدى·

وبالفعل تلعب هذه المنظمات غير الحكومية دورا كبيرا في توزيع المساعدات والخدمات في البلدان الفقيرة، حتى عندما يكون مصدر هذه المساعدات الدول ذاتها· فهي تحظى بدعم متزايد من الأمم المتحدة ومن الدول الصناعية· ويتماشى هذا الدعم مع الاتجاه الصاعد للاعتماد على القطاع الخاص وعلى المنظمات الأهلية في تقديم المساعدات وعدم الالتزام بمفهوم السيادة المطلقة للدول على مجتمعاتها· ومن هذا المنطلق صوتت الأمم المتحدة في التسعينات على قرار التدخل الانساني الذي يتيح للمنظمات غير الحكومية أن تخرق سيادة الدول لتقديم المساعدة الطبية أو الغذائية أو الانسانية إلى جماعات تتعرض للتهديد الخطير مثل القتل والمجاعة والكوارث الطبيعية·

جاء الحديث المتزايد عن المجتمع المدني ومؤسساته في الدول الصناعية كدليل إذن على نضج الديمقراطية أو اكتمالها ونضج المجتمعات معا وارتفاع درجة التفاعل والتواصل بين الدولة والمجتمع· فالدولة هي التي شجعت المجتمع على المبادرة واحتلال مواقع بقيت تحتلها منذ فترة طويلة وسهلت قانونيا وتنظيميا نشوء مؤسسات مدنية وقدمت لها ولا تزال تقدم لها الدعم المالي والتنظيمي والقانوني لتقوم بالدور الجديد الملقى عليها· وبالرغم من أن هذه المنظمات قد تصطدم بالدولة، كما حصل ويحصل بالفعل عندما تعترض منظمة غرينبيس المدافعة عن البيئة على نقل النفايات الذرية أو تقاعس الدولة في موضوع حماية البيئة، وكما يحصل بالنسبة لتدخلات منظمات حقوق الانسان· إلا أنه من الملاحظ اليوم أن هناك ما يشبه صيغة من تقسيم العمل تأخذ مكانها في الفضاء العام بين الدولة والمنظمات الحكومية، بحيث يحمل كل طرف على عاتقه عبء مهام خاصة، من دون أن يؤثر التنافس أو الصدام الجزئي بين الطرفين على طبيعة هذا التقسيم أو على علاقات احترام كل طرف لاختصاصات الطرف الآخر، حتى لو لم يوافق عليها جميعا·

وباختصار نستطيع أن نقول إن المجتمع الديمقراطي يأتي هنا مكملا وامتدادا للدولة الديمقراطية التي كانت في أصل نشوئه· وهي لا تزال ترعاه حتى لو كانت تخاف من تجاوزاته على الصلاحيات الجديدة التي أخذت تحصر عملها فيها· فالدولة تدرك أيضا أن ما يقوم به المجتمع المدني، أي المؤسسات الخاصة غير الحكومية، لا تستطيع هي أن تقوم به، وأنه في مواجهة المنافسة الدولية المفتوحة والتي ستفتح أكثر فأكثر، من مصلحة الدولة عموما والمجتمع ككل أن تتطور وتتدعم المؤسسات المدنية وتزداد نشاطا في الداخل والخارج· فهي لا تجنب حصول فراغ داخلي يتيح تدخل مؤسسات مدنية خارجية فحسب ولكنها يمكن أن تشكل أكثر من ذلك أدوات لمد النفوذ الوطني في الفضاء الدولي ولدى المجتمعات الأخرى· 

وبالعكس من ذلك يأتي الحديث المتزايد والمتضخم عن المجتمع المدني في البلاد النامية، ومنها البلاد العربية كتعويض عن غياب هذا المجتمع تماما وكرد على الفراغ الذي أحدثه في الفضاء العمومي تفسخ الدولة وتحلل السلطة العمومية إلى سلطة أصحاب مصالح خاصة، وانهيار أي قاعدة قانونية ومؤسسية ثابتة وراسخة للدولة والمجتمع معا· ولذلك فهو يبقى هنا ويستمر يعمل في إطار الايديولوجية، مما يعني أيضا سهولة استعماله كأداة أو كوسيلة لتحقيق أهداف وتدعيم مواقف وتأكيد مساعي متنوعة وأحيانا متناقضة، سياسية وعقائدية واقتصادية من دون أن يكون غاية في ذاته· فهو ليس مقصودا لما يمثله من إطار نظري وقانوني لبناء سلطة اجتماعية مستقلة بالفعل عن النزاعات السياسية وقادرة على المشاركة مباشرة في ايجاد الحلول من خارج المجال السياسي الرسمي للعديد من المشاكل والتحديات المجتمعية، وإنما لغيره، أي لأهداف تتعلق سواء بالسياسة بمعنى الصراع على السلطة كمواقع ومناصب أو بالوجاهة أو بالمنافع المادية التي تزداد قيمة بقدر ما تزداد مساعدات الدول الصناعية لهذا القطاع الجديد من النشاط الدولي·

وبقدر ما تبدو الدولة في بلاد الجنوب بشكل عام بوصفها أكثر فأكثر تجسيدا لمجال المصالح الخاصة والجزئية وغياب القانون، ينمو نزوع قوي إلى البحث عن المواطنية والعمومية والمصالح الوطنية والحرية في المجتمع المدني ذاته، أي خارج الدولة· فالمشكلة الحقيقية التي تحاول أن ترد عليها هنا إشكالية المجتمع المدني ليست تنظيم المصالح الخاصة، ولكن بالعكس تنظيم المصالح العامة· ومن هنا التخبط والصعوبة الهائلة في تحديد هذا المفهوم والتناقض الكبير الذي يفترضه استخدامه بينه وبين الدولة· فالاشكالية تبدو هنا مستحيلة، أعني محاولة بناء العام في قلب الخاص، مما يعني في الواقع إعادة استيلاد الدولة من قلب المجتمع، مما يجعل النخبة المسيطرة على الدولة تشعر بأن فكرة المجتمع المدني تنطوي على إنشاء دولة بديلة أو دولة نقيض·

ومصدر كل هذا الاختلاط والتخبط هو إخفاق الدولة القومية، بمعنى الدولة الأمة، دولة المواطنين، في هذه البلاد· مما يضعنا أمام مسار تاريخي مختلف تماما عن ذاك الذي عرفته المجتمعات الغربية، وأحيانا معاكسا له·

وهذا يعني في الواقع أنه كما أن تطور المجتمع المدني في الغرب ليس منفصلا عن تطور الدولة الديمقراطية فإن غياب الدولة الديمقراطية في العالم النامي، والعالم العربي بشكل خاص، ليس منفصلا أيضا عن غياب المجتمع المدني أو تحييده وما يضمه من مؤسسات اجتماعية مستقلة فاعلة تقوم بتأدية مهام مرئية وثابتة في المجتمع وتكتسب نتيجة ذلك مواقع وصدقية وشرعية حقيقية·

 

نتائج

إن المجتمع المدني الذي نتحدث عنه اليوم، لم يعد مجرد مفهوم يشير إلى مستوى من مستويات النشاط المجتمعي يتسم بالتعددية والتناقض والجزئية والمصلحة الخاصة ولكنه يشير إلى مجموعة من المنظمات النشيطة التي يمكن تعيينها وتحديد موقعها ومكانها والأدورا الكبيرة التي تلعبها، بموازاة الدولة أحيانا وأحيانا ضدها· لكن ما هو أهم من ذلك أن المجتمع المدني لم يعد ينظر إليه على أنه تجسيد للخاص والمصالح الجزئية في مقابل الدولة المجسدة للعام وللمصالح الكلية ولكن كدولة مقابلة، أي كمنظمات ذات نفع عام وأهداف كلية تخدم أهدافا عامة وتشكل مصدرا للنظام والعقلانية والترشيد والاتساق داخل نظام اجتماعي هجرت الدولة العديد من ميادينه أو أصبحت غير قادرة على بث النظام والسلام فيها· لقد تحول إلى هيئات عامة (سياسية) داخل الدولة المعدلة سياسيا أو التي خفت درجة احتكارها لما هو عام· وهذا ما دلت عليه المناقشات التي حدثت في منتدى دافوس (كانون الثاني 1002)  حيث شعر أحد المشاركين من رؤساء الدول أنه أصبح من اللازم التذكير بأن الدولة هي الممثلة للمجتمع والشعب، وليست المنظمات غير الحكومية أو منظمات المجتمع المدني، خاصة أن هذه الدولة تضم حكومات منتخبة بطريقة ديمقراطية· وهذه أول مرة تطرح فيها المسألة بعبارات التنافس بين الدولة والمجتمع المدني على تمثيل الجمهور· وهي تعبر عن نوع التركيبة الاجتماعية الجديدة التي تتطور وستتطور في المستقبل·

وبالفعل، بالرغم من أن ذلك لم يتبلور بعد، بيد أن ما نسميه اليوم هيئات المجتمع المدني أو ما نميل إلى تسميته كذلك ليس تلك المنظمات النقابية الكلاسيكية بالرغم من أنها بالمفهوم التقليدي منظمات مجتمعية، ولكن تلك الهيئات التي تجعل من المصالح والأهداف العامة القومية، ولكن أكثر فأكثر الدولية والانسانية، محور نشاطها، ولا تسعى إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بقدر ما تدافع عن رؤية اجتماعية وعالمية· إنها تحل أكثر فأكثر محل المنظمات السياسية التي من دون أن تكون في السلطة تطرح مسألة وصولها إلى السلطة من منطلق الدفاع عن مصالح قومية وعمومية· فهل أصبح المجتمع المدني وهيئاته بديلا للأحزاب السياسية، تماما كما أصبح العمل المدني بديلا للعمل السياسي أو منافسا له، بمعنى أن خدمة الأهداف العامة لم تعد تستدعي بالضرورة أو لا تتم بالضرورة إلا في إطار السياسة وممارسة السلطة العمومية، وبالتالي لم يعد تحقيقها يحتاج  إلى تكوين أدوات الصراع على السلطة والنفاذ إليها مثل الأحزاب، ولكنها يمكن أن تتم، بل هي تتم بشكل أفضل من داخل هيئات ومنظمات لا تعمل بالسياسة بالمعنى الكلاسيكي أي من حيث هي مرتبطة بالسيطرة على جهاز الدولة ولا تجعل السياسة أو النفاذ إلى سلطة الدولة همها أو مركز اهتمامها الأول، هيئات مدنية تماما تضم أشخاصا لهم مراكزهم الاجتماعية والمهنية البعيدة عن السلطة العمومية· وهذا يعني أن السياسة بالمعنى النبيل والواسع للكلمة، أي من حيث هي تحديد الاختيارات الاجتماعية الأساسية والدفاع عن تطبيقها لا من حيث هي صراع على السلطة أو صراع من أجل السلطة كأداة للتغيير، قد انتقلت من الدولة إلى المجتمع أو هي في طريقها لذلك، وأن الجمهور بدأ يتنكر أكثر فأكثر لمبدأ وجود سياسيين من أصحاب الاختصاص أو تقنيين· إن في مفهوم المجتمع المدني الجديد اعتراف بضرورة عودة السياسة إلى المجتمع وإلغاء الاحتراف السياسي لا إلغاء السياسة، وتقليص من أهمية السيطرة على جهاز الدولة كشرط لتحقيق أهداف إجتماعية عامة· هذه طفرة عميقة في مفهوم السياسة ذاتها تسير في الاتجاه نفسه الذي تحدث عنه ماركس للالتقاء داخل الفرد ذاته بين المصالح العامة والمصلحة الخاصة، حيث تكون حرية الفرد شرط لحرية المجموع·

وفي اعتقادي نحن نسير اليوم نحو حقبة التحرر من المفهوم الكلاسيكي الحديث للدولة كمركز أحادي ووحيد للتنظيم والتنسيق الاجتماعي وهي الحقبة التي دامت أكثر من قرنين· وهذا التحرر من المفهوم التقليدي للدولة لا يعني بالضرورة زوال الدولة وإنما زوال شكل من أشكالها· لكن الأهم من ذلك هو معرفة طبيعة الهيئات والتنظيمات والمؤسسات التي ستحل محلها وتشكل جماع نشاط القرن القادم كله وربما القرن الذي يليه· إن العودة الراهنة إلى المجتمع هي موجة عميقة الجذور، لكن طرق هذه العودة وأشكالها والنماذج التي ستنجم عنها، كل ذلك لا يزال في بداياته الأولى· والسؤال هل ستساعد هيئات المجتمع المدني، أو بالأحرى بناء المجمع المدني بمعنى الهيئات الأهلية الناشطة في ميدان العمل العام، على ايجاد مجتمع أكثر تحررا وعلى توافق أكبر بين حرية الفرد وحرية المجموع واتساق أكبر بين مسؤولية الحاكم أو المقرر ومسؤولية المحكوم أو المطبق؟

 هذه هي أسئلة المستقبل· لكن ليس لدي شك في أننا نسير وسوف نسير خلال القرن القادم نحو شكل من التنظيم المدني تخضع فيه السياسة من حيث هي بلورة للتصورات والاختيارات التي تمس المصير العام والمصائر الجزئية أيضا ومن حيث هي قرارات ترمي إلى تطبيق هذه الاختيارات لنشاط مجموعة لا محدودة من التجمعات والهيئات والتنظيمات المدنية غير الحكومية· وأن الحكومة التي تحتل مراكز القرار السياسي الرسمي لن يكون دورها سوى التنسيق بين نشاط هذه الهيئات والمنظمات وايجاد القاسم المشترك فيما بينها· ومن هذه الزاوية ستقدم هيئات المجتمع المدني المتعدد الجديدة إطارا يتيح للمواطنين المشاركة بشكل أكبر وأنشط في تقرير مصيرهم، والمساهمة بصورة أقوى في السياسة من حيث هي انشغال بالمصير العام وممارسة للقررات التي تمسه· وسينشيء ذلك دائرة للمشاركة السياسية موازية للدائرة التي يمثلها البرلمان، والقائمة على عملية انتخابية إحصائية محضة لا تعكس حقيقة الإرادات المجتمعية القائمة والمتنافسة على تشكيل السياسة، بل دائرة تتجاوز الدائرة البرلمانية وتخضعها لها سواء عبر الضغوط أو عبر التدخلات المباشرة في تكوين الرأي العام·

بيد أن الإطار الذي ستتطور فيه هذه الصيغة الجديدة من النشاط العمومي والمشاركة السياسية بالمعنى الواسع للكملة سوف يكون في نظري إطار العولمة أو الفضاء العالمي والسياسات العالمية· فهذا هو الإطار الذي لا يحتله برلمان ولا يمكن إخضاعه لأي آلية عقلنة حكومية· ومنذ الآن نستطيع أن نلاحظ كيف أن هيئات المجتمع المدني هي التي تشكل القطب الرئيسي لمواجهة التصورات والخيارات السياسية لمجموعة الدول الصناعية التي تقرر في السياسة العالمية، وهي الوحيدة التي تشكل قطبا مناوئا للعولمة المتوحشة النيوليبرالية· وبالعكس، إن تطورها في الإطار القومي سوف يبقى محدودا لأن هذا الاطار الذي بني بفضل الدولة لا يزال يخضع بشكل كبير لاشرافها ولا تزال الدولة، بقدر ما تظل نشيطة وممثلة لإرادة عامة، ولو كانت إرادة إحصائية، تؤدي فيها الوظائف الأساسية المناطة بها· وبالعكس من ذلك، إن منظمات وهيئات المجتمع المدني سوف تزداد نفوذا وقوة، خاصة تلك الناشطة على الصعيد العالمي أو المتعدية الجنسيات، في تلك المجتمعات التي خسرت الرهان على الدولة ولم تنجح في بناء مجتمع مدني قوي· وهذا هو وضع البلاد العربية والعديد من البلاد النامية· فكما أن الدولة لن تستطيع هنا أن تقاوم ضغوط هذه المنظمات التي تزداد مزاعمها بالمشاركة في تقرير السياسات العالمية، كذلك فإن المجتمع المحطم والمفكك الذي نشأ في حضن مثل هذه الدول اللاقومية سيكون إما عاجزا عن بناء نفسه وهيئاته الخاصة النشيطة أو غير قادر على المشاركة الفعالة في الهيئات المدنية العالمية الفاعلة على أرضه الوطنية ذاتها· ونستطيع أن نلاحظ منذ الآن بوادر الصدام العنيف بين المجتمع المدني العالمي أو المتجاوز للحدود القومية وبين السلطات الوطنية في البلاد العربية· ولعل قضية سعد الدين ابراهيم هي المثال الأول على طبيعة الصراعات والصدامات القادمة في هذا المجال· ولن يكون الصراع الحقيقي هنا بين الدولة والمجتمع المدني المحلي ولكن بين النخب الحاكمة التي تستخدم الدولة كإطار لتنظيم نفسها وتثبيت سلطتها وحكمها، وبين المجتمع المدني العالمي الذي يحاول اختراقها في سياق بحثه عن توسيع دائرة نفوذه ومشاركته في تقرير السياسات العالمية وتعبئته للقوى الهامشية والمحيطية العديدة في معركته ضد هيمنة القطب الرسمي الذي تجسده مجموعة الدول الكبرى المسيطرة على السياسة العالمية· 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- استاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر، السوربون، باريس