نحو رؤية استراتيجية لمسألة العلاقات العربية الايرانية

2010-12-18:: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسة

 

العلاقات العربية الايرانية، ندوة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

الدوحة 18 ديسمبر 2010

1- كما هي الحال في العديد من الأمور الأخرى، ما يميز الرأي العام العربي في العلاقة مع ايران الاسلامية، الرسمي والشعبي، هو الانقسام بين فريقين ينظر الأول إلى ايران على أنها الشيطان الأكبر الذي يهدد أمن بلدان منطقة الشرق الأوسط وأقطار العالم العربي بشكل خاص، ويؤثر سلبا على مصالحهم، ويرى الثاني في ايران الثورة الاسلامية الحيلف الأكبر للعرب اليوم في مواجهة التهديدات الأجنبية المتزايدة، وفي طليعتها التهديد الاسرائيلي المعزز من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما.

وللتدليل على هذين الرأيين وتأكيد صحتهما، يملك كل فريق منظومة كاملة من الأحداث والوقائع والحجج العقلية التي تسند أطروحته وتدعمها. فأصحاب الموقف الأول يشيرون اليوم ألى مجموعة من المخاطر المترابطة التي تمثلها ايران بالنسبة للعرب، أولها وأهمها تلك التي يحملها تسلح ايران أو احتمال تسلحها بالقنبلة النووية على أمن الدول العربية، خاصة في الخليج الذي يقع على مقربة من ايران، سواء أكان ذلك نتيجة استخدام السلاح من قبل ايران في مواجهات محتملة مع الولايات المتحدة أو اسرائيل، أو نتيجة التلوث البيئي الذي يمكن أن ينجم عن عطب ما في التجهيزات الذرية كما حصل في السابق في بقاع أخرى من العالم. ومن هذه المخاطر أيضا، بل التهديدات المباشرة والدائمة، التدخل الواسع لايران في شؤون العالم العربي، وتسليحها وتمويلها ودعمها السياسي لمجموعات عديدة مسلحة، تستخدمها في تحقيق أغراضها القومية وزعزعة استقرار الدول العربية والتلاعب في داخلها وتأليب جماعات فيها ضد الجماعات الاخرى. وهم يشيرون لتأكيد ذلك إلى دور ايران وسياستها في العراق حيث لايران دور نشيط وفاعل في دعم الأحزاب والتكتلات السياسية القريبة منهم، ودعم انصارهم بل التدخل بحرس الثورة أنفسهم في البلاد. كما يشيرون إلى ما تقدمه ايران لحزب الله في لبنان ولحماس في فلسطين وللحوثيين في اليمن. مما يكشف عن مشاريع حروب ونزاعات داخلية معلنة تقع ضحيتها الأقطار العربية.

ومن هذه المخاطر ما يتخذ سمة دينية إذ يركز البعض على الدور الذي لعبته ايران ولا تزال تلعبه في تعبئة المشاعر الطائفية وفتح باب النزاع بين أصحاب المذاهب الاسلامية السنية والشيعية. وتتهم ايران باتباع سياسة تشييع رسمي ومنظم مدعم بالأموال والخبراء والمرشدين الروحيين في العديد من البلدان العربية، مما أثار حفيظة العديد من رجال الدين السنة النافذين، وعلى رأسهم الشيح يوسف القرضاوي ودفع بعض الحكومات إلى قطع تقييد النشاطات الشيعية أو حتى قطع العلاقات مع ايران.

لكن بعكس ما توحي به المظاهر، لم يرتبط الشعور بالتهديد الايراني في الأقطار العربية بسعي طهران إلى الحصول على التقنية النووية أو بالخوف من احتمال حصولها على التقنية النووية العسكرية. لقد برز قبل ذلك بكثير، مع اندلاع ا لثورة الاسلامية وما نجم عنها من تبني ايران سياسة الصراع ضد نفوذ الولايات المتحدة والغرب عموما في المنطقة المشرقية، وتزعمها في هذا السياق نفسه حركات الاحتجاج والتمرد السياسية المتوشحة بالاسلام أو التي تبني شرعيتها عليه. وما يعنيه هذا من انتزاعها الشرعية الرمزية للثورة ضد الأوضاع القائمة التي يربط الرأي العام العربي بينها وبين الخضوع للغرب أو التبعية له، من النظم العربية، وتمكنها من الضغط من خلال الأحزاب والحركات الاسلامية على الدول العربية، وربما تهديدها. وهذا الإدراك للخطر السياسي المباشر الناجم عن بناء جمهورية ايران الجديدة على أسس الشرعية الاسلامية، وتماهيها المحتمل مع حركات المعارضة العربية الآخذة طابعا اسلاميا، هو الذي يقف وراء اندلاع الحرب العراقية الايرانية التي أخفت في الواقع العميق حربا ايرانية عربية بالوكالة. وفي سياق هذه الحرب ظهر اسم العراق كبوابة العالم العربي التي ينبغي الحفاظ عليها وتدعيمها في وجه المد الايراني المنتظر.

ومما عزز من هذا الشعور استمرار النظام الايراني الجديد باحتلال الجزر الاماراتية الثلاث ورفضه عروض الحوار والتفاوض بشأنها. وحرصها على تعزيز نفوذها الثقافي والديني في العالم العربي وتمويلها بشكل مباشر أو غير مباشر جماعات عربية معارضة أو في صراع مع الحكومات القائمة، مما يمكن تفسيره من قبل هذه الحكومات على أنه تدخل مستمر في الشؤون الداخلية وتشجيع على زعزعة الاستقرار وتهديد وحدة المجتمعات العربية الدينية والمذهبية.

فملخص السياسة الايرانية للجمهورية الاسلامية لا يتعدى أن يكون توسيع دائرة نفوذ طهران في المنطقة واختراقها الدول العربية وسعيها للحصول على أدوات تستخدمها لتحقيق هذا النفوذ وتوسيعه، أملا في استخدامه لتحقيق مصالحها القومية الخاصة، وفي مقدمها اليوم انتزاع الاعتراف من قبل التكتل الغربي المسيطر على النظام الدولي بدورها الإقليمي الرئيسي والقائد، ومشروعية برنامج التخصيب النووي والسيطرة على التقنية النووية الذي أنجزت خطوات واسعة فيه. وليس استخدامها للاسلام ودعم القضايا العربية المشروعة وفي مقدمها قضية فلسطين سوى وسيلة لتحقيق هذه المصالح وإضفاء الشرعية عليها.

في المقابل يعتقد أصحاب الموقف الثاني المناقض أن ايران الجمهورية الاسلامية هدية أرسلها الله للعرب للوقوف معهم في محنتهم التاريخية، التي تتجسد في تسلط قوى اسرائيل والولايات المتحدة عليهم، وتقهقر قياداتهام وتراجعها عن سياساتها الوطنية. فهي من أهم مصادر القوة التي مكن أن يستند إليها العرب اليوم في استمرار مواجهتهم لاسرائيل والمشاريع العدوانية الأمريكية والغربية. ويظهر موقف ايران الجديدة من الغرب في نظر هؤلاء كما لو كان تجديدا واستمرارا معا للموقف العربي التاريخي النازع للاستقلال الناجز عن الغرب ومقاومة مشاريعه الاستعمارية في المنطقة منذ عقود طويلة، والذي تراجع كثيرا بعد انهيار الحركة القومية وغياب القيادة الناصرية. وفي هذه الحالة لا يمثل تشجيع الجماعات العربية وتقديم السلاح لها من قبل ايران تدخلا في الشؤون الداخلية وانتهاكا لسيادة الدول العربية كما يقول الفريق الأول وإنما بالعكس يشير الى تعزيز المقاومة ويقدم خدمة كبرى للمصالح القومية العربية في مواجهة مشاريع التسليم والاستسلام والقبول بالقسمة الصهيونية. ويمكن القول إنه باستثناء النظام السوري الذي يقيم تحالفا استراتيجيا مع ايران الاسلامية منذ أكثر من ثلاثة عقود، لا يكاد الموقف الايجابي من ايران يضم سوى مجموعات مختلفة من النخب السياسية المعارضة الاسلاموية والقومية واليسارية، وقطاعات واسعة من الرأي العام الشعبي.

يعكس هذا التناقض في المواقف درجة الاستقطاب في المجتمعات العربية نفسها حول محاور السياسة الخارجية والداخلية، والانقسام القائم داخلها في الموقف من الخيارات الاستراتيجية الرئيسية والإدراك المتناقض أيضا لحقيقة التهديدات القائمة والمحتملة بين الحكومات وقواعدها الاجتماعية من جهة والجزء الأكبر من الرأي العام الشعبي من جهة ثانية.

الرؤيتان في نظري قاصرتان لأنهما اجتزائتينين، لا تطرحان موضوع السياسة الايرانية أو خياراتها الاستراتيجية وآثارها الإقليمية بجميع جوانبه وبصورة موضوعية وإنما تنظران إلى السياسات الايرانية على ضوء صراعاتهم الخاصة. وهذا امر طبيعي بالنسبة للفاعلين السياسيين المنخرطين في النزاع والذين لا يرون الخيارات الاستراتيجية للفاعلين الآخرين ويقدرون نتائجها إلا من منظورهم الخاص المرتبط بموقفهم ومكانهم في الصراع الدائر ورهاناتهم الخاصة أيضا. فليس من الممكن لمن يتحالف مع ايران أو يراهن على التحالف معها في سبيل مواجهة إسرائيل أن يرى التهديدات المرتبطة بالخيارات الاستراتيجية الايرانية ذاتها التي يراها من يجد نفسه، ضمن التحالفات والنزاعات المحلية والإقليمية، في الطرف الآخر من الصراع. مما يعني أن إدراك التهديدات لا يمكن أن ينفصل عن الموقع الذي يحتله الفاعل الدولي من جهة. وفي النهاية لا يمكن الفصل بين إدراك التهديدات والخيارات الاستراتيجية الخاصة بالفاعل ذاته.

والقصد أن الانطباعات السائدة عن حجم التهديدات التي تمثلها الخيارات الاستراتيجية للجمهورية الاسلامية الايرانية في العالم العربي تختلف من فاعل لآخر، بين الدول العربية وداخل الدول أيضا بين الفاعلين الاجتماعيين. فهي ثمرة تركيبات ايديولوجية ضرورية لخوض الصراع الذي يسود في المنطقة المشرقية بأكملها في سياق الأزمة الشاملة التي تشهدها ومحاولات الأطراف إعادة بناء نظمها الوطنية والإقليمية على أسس جديدة ومن منظور المصالح الاستراتيجية الجاصة أيضا. وهي ليست قائمة على تحليلات علمية وموضوعية لتقدير حجم التهديدات بمقدار ما هي تعبير عن هموم سياسية خاصة باستقرار كل من الفاعلين أو تعزيز مواقفهم. فتقدير المخاطر لا ينبع هنا من تحليل استراتيجي وإنما يشكل جزءا لا يتجزأ من الموقف السياسي، ويعبر عن الطريقة التي يسعى كل طرف من خلالها إلى استغلال الخيارات الاستراتيجية الايرانية، حسب رؤيته وأهدافه وحاجاته، لتعزيز موقفه في هذا الصراع الدائر، ليس على تحديد طبيعة العلاقات ونوعية التوازنات التي ستقوم في الإقليم فحسب، وإنما على الصعيد الدولي وداخل المجتمعات العربية ذاتها. وبهذا المعنى لا يشكل الموقف من ايران الاسلامية سوى كاشف اضافي، ومبلور قوي للانقسام العربي العميق والمتنامي في خصوص تقرير الاختيارات الاستراتيجية، الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية ذاتها. وهذا يعني أننا نحن العرب، لا نرى ايران إلا من خلال صراعاتنا الداخلية، ولا نأخذ منها أو نرفض منها سوى ما نعتقد أنه مفيد لنا في هذه الصراعات أو مضر بها.

ومن الطبيعي أن لا يكون أثر هذه الرؤية السياسية، بل السياسوية، التجزيئية والهادفة لسياسات ايران، تهديداتها وفوائدها، سوى تعزيز الانقسام العربي وتفاقم التوترات التي يعيشها العالم العربي في ميدان نشاطه المختلفة، السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والدينية والمذهبية. وبالتالي إلى المزيد من الإضعاف للموقف العربي العام، أو للأمن العربي أيضا، بدل أن تساهم خيارات ايران الاستراتيجية، وتبدل دورها الإقليمي ربما من النقيض إلى النقيض، في تحسين الموقف العربي في النزاعات التي يخوضها العرب مع اسرائيل وقوى الهيمنة الدولية في الشرق الأوسط.

فكما تمنعنا النظرة التي تشيطن ايران الاسلامية من الاستفادة من نتائج انقلاب السياسة الايرانية الشاهنشاهية لغير صالح أعدائنا، أي من استغلال تناقض ايران مع الغرب في تحسين شروط مواجهتنا للتهديدات الاسرائيلية، تحرمنا النظرة الدعائية التي تزين سياسات ايران وتطهرها من الأغراض القومية الايرانية، من التعامل العقلاني والراشد مع التحولات الإقليمية، أي من إدراك أهمية العمل على بلورة اجندة أمنية وسياسية عربية مستقلة تعزز وحدة العالم العربي وقدراته المقاومية.

بل إنني أذهب أبعد من ذلك للقول بأن نظرة الشيطنة لايران لا ترى التهديدات التي يمكن أن تصدر عن ايران الاسلامية حيث هي موجودة بالفعل، تماما كما أن النظرة الدعائية والإعجابية بسياسات ايران لا ترى المنافع والمكاسب التي يمكن أن تعزز الأجندة العربية الأمنية والاستراتيجية حيث هي موجودة بالفعل أيضا.

وإذا أردنا أن نتجاوز النظرة الجزئية لايران، من حيث مصدر التهديدات الأكبر بالنسبة لبعضنا ومصدر الدعم الأخلص للمقاومة العربية ضد إسرائيل وحماتها بالنسبة للبعض الآخر، وبالتالي بناء رؤية علمية لدور ايران الاسلامية في المنطقة الشرق أوسطية، ومن وجهة المصالح العربية عموما، ينبغي علينا أن نتجاوز النظرات الجزئية المرتبطة بالرهانات الخاصة ونرى ايران من منظور التغير الذي احدثته أو تحدثه تحولاتها الداخلية في البيئة الإقليمية، وما جره ذلك من تغيرات سلبية وايجابية. وهذا بصرف النظر عن إرادة طهران نفسها أو ماذا تريده ولا تريده من البلدان العربية والحركات التي تدعمها في هذه البلدان. وإذا أردنا أن ندقق في علاقاتنا مع ايران علينا قبل كل شيء آخر أن ننظر إلى ايران كقوة إقليمية صاعدة، وأن نرى في سياساتها وخياراتها الاستراتيجية تعبيرا عن مصالح قومية قبل أي شيء آخر. وهذا هو مبدأ تحليل أي سياسة قطرية. فايران ليست جمعية خيرية تعمل لصالح العرب والفلسطينيين واللبنانيين، كما أنها ليست دولة استعمارية، تحركها الأطماع المادية والوقتية، وليست قادرة على النظر العقلاني في علاقاتها الحاضرة والطويلة المدى مع إقليمها وجوارها، وتقدير ما يمكن أن تكسبه وما يمكن أن تخسره من تجاوزها حدود منطق العلاقات الدولية.

في هذه الحالة لن يكون السؤال في تحليل العلاقات العربية الايرانية: هل تتفق مصالح ايران مع مصالح العرب القومية أو لا تتفق، وإنما أين تتقاطع المصالح القومية الايرانية مع المصالح القومية العربية، وأين تبتعد عنها. وهو مقدمة لسؤال أهم، إذا كنا نريد فعلا خدمة المصالح القومية العربية هو: كيف يمكن التقريب بينهما، أي كيف نجعل العلاقة مع ايران علاقة ايجابية تفيدنا في تحقيق مصالحنا الوطنية؟ فالهدف من التحليل ليس معرفة حسن سياسة ايران أو سوئها ولكن بناء سياسة عربية حسنة وناجعة انطلاقا من تحليل علاقات القوى الاقليمية والتهديدات التي يشكلها التنافس الدولي أيضا على السيطرة على الإقليم أو اقتسام المصالح والنفوذ فيه. فالسياسة ليست إدانة وشجب أو تأييد وتصديق وإنما خلق، أي تغيير لطبيعة العلاقات القائمة وتحويلها من علاقات سلبية إلى علاقات ايجابية تخدم الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها. وينبغي ان يكون غرضها دائما خلق مصالح مشتركة بين الشعوب، والعمل على إزالة كل ما يدفع إلى الصدام في ما بينها أو تحييد بعضها للبعض الآخر.

في هذه الحالة لن نرى في ايران تهديدات فحسب، ولا مكاسب استراتيجية أو سياسية قائمة أو محتملة فحسب أيضا، وأنما سوف ننظر إليها وإلى صعودها في الإقليم كتحد حامل لمكاسب سياسية واستراتيجية وفي الوقت نفسه لتهديدات ومخاطر فعلية. وعلينا، لا على ايران تقع مهمة التقليل ما أمكن من الآثار السلبية لصعود طهران والزيادة ما أمكن أيضا من فوائده على قضابانا ومصالحنا العربية. وهو ما يشكل معنى ببلورتنا لسياسة عربية تجاه ايران أو من ايران. وهو ما لا نملكه بعد، وما لا يزال يجعل منا مؤيدين أو منددين بالخيارات الاستراتيجية الايرانية فحسب.

فالمعادون لايران لا يرون في خياراتها الاستراتيجية إلا التهديدات، لأنهم لا ينظرون إلى المصالح الوطنية إلا من منظار الحفاظ على النظم التي تهدد سياسات ايران بالفعل بزعزعة استقرارها. وبالمقابل لا يرى المتحمسين لايران سوى المكاسب السياسية، لأن ما يهمهم أو يشغلهم بشكل رئيسي هو تعزيز موقف المقاومة في فلسطين ولبنان وغيرهما. فمن الصعب عليهم أو غير المفيد الإشارة إلى مخاطر أخرى محتملة تمس استقلال الدولة أو استقرار المجتمعات السياسي وانسجام مكوناتها الثقافية والدينية. ولا يقدم هذان الأسلوبان في النظر إلى ايران فكرة متكاملة عن مصالح ايران ولا عن مصالح العرب الوطنية التي لا تقتصر على المقاومة للاحتلال وأن كانت هذه المقاومة من أولوياتها، وإنما تتجاوز ذلك إلى مسائل مهمة ولو كانت طويلة المدى مثل بناء الأمة والدولة والحياة السياسية الديمقراطية وزيادة فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز الاستقرار والوحدة أو الاتحاد بين الأقطار العربية وتحقيق النهضة العلمية والثقافية. وهو ما لا يمكن أن يذوب في مشروع المقاومة لاسرائيل، ولا يمكن بالقطيعة مع الغرب. إنه يحتاج بالعكس إلى تجنب هذه القطيعة، بالرغم من استمرار المقاومة وربما الاضطرا ر لخوض الحروب دفاعا عن الاستقلال والسيادة الوطنية.

في هذا المنظور ربما لن يكون دعم ايران للمقاومات العربية هو الجانب المهم الذي يمكن البناء عليه لتحسين وضع العرب الاستراتيجي أو السياسي حتى تجاه اسرائيل. والدليل أن هذا الدعم لم يخفف من تقدم المشروع الاستيطاني الصهيوني وربما عززه أيضا من خلال تخويف الغرب من التوسع الاسلامي في فلسطين ومحيطها، ومن خلال تعميق الانقسام داخل المقاومة الفلسطينية نفسها وداخل الرأي العام العربي بين من يريد الغرب أن يسميهم معتدلين ومتطرفين أو رديكاليين.

مكمن الربح في انقلاب حال ايران بالنسبة للعرب، وهو ما لم يستغلوه أبدا، هو ما أحدثه هذا الانقلاب من تغير عميق في ميزان القوى الإقليمي، مما فتح أفاق جديدة لتوسيع هامش المبادرة الاستراتيجية لأقطار الإقليم إزاء السيطرة الغربية المديدة والشاملة. لكن هذا المكسب الاستراتيجي الجوهري تحول إلى عكسه عندما فتح معركة الصراع على النفوذ داخل المنطقة بين ايران والدول العربية أو معظمها، وزاد من عجز العرب وشقاء الايرانيين معا. وكان من الممكن لو نجحنا في تمييز المصالح الايرانية والعربية والتعامل مع ايران الاسلامية بطريقة موضوعية أن نجير هذا الانقلاب لصالح بناء تعاون عربي ايراني مفيد لنا جميعا. لكن كان هذا يستدعي موقفا نقديا من السياسات الايرانية والسياسات العربية المعادية لايران والممالئة أو التابعة لها في الوقت ذاته.

تستدعي هذه المقاربة المنهجية للعلاقات السياسية الايرانية العربية أولا أن ننحدد معنى المصالح الوطنية، وبشكل أدق المصالح الوطنية العربية والمصالح الوطنية الايرانية. وأن نميز داخل هذه المصالح بين ما هو مصلحة وطنية أو عامة بالفعل وما هو مصلحة خاصة بالنظام أو بالحكم القائم، والذي يشكل جزءا من الصراعات السياسية الداخلية التي ترتبط بالنزاع على السلطة وعدم الخلط بين المصالح الوطنية ومصالح المعسكرات المتخاصمة داخل هذا البلد أو ذاك، وجعل الثانية مطابقة للأولى. هذا ينطبق على ايران وخيارات حكومتها الراهنة كما ينطبق على الأقطار العربية ونظمها الحاكمة.

ويستدعي هذا ايضا إعادة بلورة مفهوم الأمن الوطني أو القومي وتمييزه عن الأمن السياسي أو أمن النظم القائمة، والتي قد يتناقض وجودها مع الأمن الوطني مفهوما على أساس تحقيق المصالح والأهداف الوطنية العليا، أو الدفاع عما هو قائم منها.

وهذا ما يقود إلى النظر في وجود اجندة وطنية عربية، أو التفكير في ايجادها.

فما هو معنى الأمن الوطني أو القومي؟

وما هو مضمون الأمن القومي العربي؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن وجود أجندة عربية أمنية؟

وفي أي حدود تتقاطع خيارات ايران الاستراتيجية والأمنية الاقليمية والدولية مع المصالح الأمنية العربية أو تشكل تهديدا لها؟

وكيف نجعل من الممكن التوافق بين الأمن الوطني الايراني والأمن الوطني العربي أو أمن مجموع الدول العربية؟

وهل تساعد أساليب التعامل مع ايران على تحقيق أهداف الحكومات العربية القريبة منها والمعادية لها؟
وما إمكانيات فتح حوار عربي ايراني بناء يقود إلى التفكير المشترك في منظومة للأمن الجماعي الإقليمي يضم إلى جانب الدول العربية وايران تركيا الداخلة أيضا بقوة في السياسات الشرق أوسطية؟

 

2- لا ينحصر مفهوم الأمن الوطني بالوقاية من التهديدات العسكرية أو تجنب الحروب والتدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية. أي لا ينحصر في ما يمس سيادة الدولة واستقلال القرار السياسي للبلاد. هذه هي المظاهر القوية البارزة للتهديدات لأنها تمس نواة الحياة السياسية او الاجتماع السياسي الوطني وقلبهما. لكن هناك مظاهر أقل بروزا من دون أن تكون أقل أهمية على مصير الشعوب، مثل زعزعة استقرار المجتمع الداخلي، وتغذية النزاعات الأهلية السياسية أو الاجتماعية أو المذهبية أو الأتنية. ومنها تقليص فرص التنمية أو ضرب المصالح الاقتصادية وسرقة الموارد أو نهبها أو هدرها. ومنها قطع الطريق على ضمان هذه المصالح، أو عزل البلاد وتحجيم دورها وتقليص نفوذها، أو استخدامها كدولة أو كفئات مذهبية أو سياسية كأداة لخدمة أغراض غيرها من القوى الخارجية، أو تحويلها إلى مسرح للنزاعات والمواجهات الأجنبية وانتهاك سيادة شعبها وإرادته الحرة في اختيار حاكميه ونموذجه الاجتماعي والثقافي.

بهذا المعنى لا تحمل خيارات ايران الاستراتيجية تهديدات للعرب من النوع ذاته الذي توجهه لهم إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية بالتأكيد، لكنها تحمل في سياساتها الراهنة، أراد ذلك قادتها أم لا، مخاطر من نوع آخر على البلاد العربية. فقد كان لنجاح الثورة الاسلامية في ايران، بحد ذاته، أثر كبير على المناخ السياسي السائد في المجتمعات العربية. وبمقدار ما هز نجاح الثورة التوازنات الإقليمية التي يستند إليها استقرار النظم العربية القائمة، وتحالفاتها الدولية، هدد بزعزعة استقرار الدول وفتح ثغرات واسعة في نظم دفاعاتها السياسية والايديولوجية والأمنية. وبشكل عام أدى استقرار الحكم الايراني الجمهوري ونجاحه في تثبيت أقدامه إلى انكشاف أكبر في أمن النظم العربية. وأكثر ما عبر عن ذلك وجسده الحرب التي شنها العرب، من وراء عراق صدام حسين، على ايران املا في الحد من الإشعاع الثوري والانقلابي للجمهورية الايرانية الاسلامية على الرأي العام العربي عموما، والدعم المعنوي ثم السياسي وربما المالي الذي بدأت حركات الاحتجاج السياسي ذات الصبغة الدينية أو المذهبية تستمده من هذه الثورة وتستند إليه. وفي النهاية لم يكن من المستغرب أن تكون الأحزاب الاسلامية الشيعية التي احتمت بايران واستفادت من دعمها المباشر وغير المباشر، المادي والمعنوي، هي التي نجحت في وراثة الحكم البعثي في العراق، حتى لو أن هذا النجاح مر بالمحطة الأمريكية، واعتمد بالأساس على القوة العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. فقد كان هذا تعبيرا عن نقاطع المصالح لا غير. لكن الوقائع الجيوسياسية والسياسية والمذهبية حسمت الأمر أخيرا لصالح تحويل العراق إلى مجال نفوذ كبير لايران. فهي التي قطفت ثمار زعزعة الوضع العراقي ثم انهياره ، بينما باءت مشاريع الأمريكيين القائمة على تحقيق السيطرة الشاملة على البلاد المحتلة، من وراء واجهة ديمقراطية أو تعددية شكلية، بالفشل الذريع. وفي النهاية لم يسقط النظام البعثي العراقي لصالح الشعب العراقي أو العربي، لا من منظور المقاومة ضد التبعية والاحتلال الاسرائيلي، ولا من منظور بناء نموذج ديمقراطي للحكم في العالم العربي، وإنما لصالح الميليشيات التي تحالفت مع ايران، وزعاماتها الدينية والعشائرية، التي تتقاسم السلطة محاصصة اليوم، كما تضع يدها على موارد البلاد تقريبا من دون مساءلة أو محاسبة.

ومع ذلك، وردا على الذين لا يرون في ايران سوى مصدر لزعزعة الاستقرارويتجاهلون التغيير الكبير الذي أحدثه انقلاب الوضع الايراني على توازن القوى في الإقليم، لأنهم يعتمدون في ضمان أمنهم أساسا على التحالفات الخارجية لا على قوتهم الذاتية، لا يمكن فصل نتائج الحرب والصراع في العراق عن خيارات الدول أو النظم العربية الاستراتيجية المرتبطة بالتحالف الغربي عموما، والمتعلقة بايران الجمهورية الصاعدة بشكل خاص. إنهه النتيجة الطبيعية لحصار ايران من قبل القوى الغربية من جهة وتعاون الدول العربية الرئيسية مع هذا الحصار، ثم تمويلها الحرب التي شنها عراق صدام على طهران. فسياسة الحصار التي لا تزال قائمة إلى اليوم، وتجددت بقوة بعد الإعلان عن مشروع نخصيب اليورانيوم الايراني وملحقاته السلمية والعسكرية المحتملة، هي التي وجهت ايران نحو الصراع لفك العزلة عنها من خلال توسيع دائرة نفوذها في المنطقة التي هي منطقة نفوذ غربي أيضا، واستخدام جميع ما يتوفر لديها من وسائل، وفي مقدمها الصراع المذهبي من أجل تحقيق أهدافها. وربما كان هو أيضا الدافع الرئيسي لطموحها إلى بناء مشروع نووي ايراني مستقل يضمن سيادتها واستقلالها كباقي الدول النووية.

ومن الواضح اليوم أن سياسة الحرب والحصار الغربية ضد ايران والتي صادق عليها العرب وساهم بعضهم فيها لم تكن السياسة الأنجع لمواجهة مخاطر زعزعة الاستقرار الذي التي حملتها الثورة الاسلامية الايرانية. فهي اليوم في طريق مسدود. وكان من المفيد أكثر للغرب وللعرب أيضا تبني سياسات أكثر ايجابية في مقدمها الاعتراف بالنظام الجديد، والتعاون معه وتطمينه من أجل انتزاع تنازلات منه بخصوص عدم التدخل في البلدان المجاورة أو نشر دعوة الثورة والاحتجاج والانشقاق المذهبي في أراضيها.

وكان مثل هذا الخيار سيجعل من ايران ظهيرا للعرب في كقاحهم ضد الاحتلال والاستيطان الاسرائيليين بالفعل، لأنه كان سيجعل من دعم ايران للمقاومة موضع تعاون عربي ايراني وموضع اجماع وشراكة استراتيجية، ويردع طهران عن نزوعها لتحويل بعض البلدان العربية إلى مناطق نفوذ وأدوات لتعزيز استراتيجية المواجهة مع الغرب التي كانت ربما ستشعر أنها بغنى عنها. وكان من المحتمل في هذه الحالة تعزيز موقف الاصلاحيين الايرانيين وقطع الطريق على انصار الصدام والمواجهة من الرديكاليين والمتطرفين.

 

3- هذا يطرح بدوره مسألة وجود أجندة عربية أمنية. والحال ليس هناك أجندة عربية أمنية، لا بالمعنى القومي ولا حتى بالمعنى الوطني الخاص بكل قطر. هناك بالتأكيد إدراك لتهديدات مشتركة، تتعرض لها الدول العربية أو بعضها، وعلى درجات متفاوتة من الشدة. لكن ليس هناك أولا مفهوم للأمن الجماعي العربي، قائم على تحديد واضح للمصالح الوطنية أو العليا للمجتمع والدولة، ومنفصل عن مفهوم أمن النظام، بل أمن الأسرة الحاكمة. وليس هناك ثانيا رؤية مشتركة ومتسقة للتهديدات أو مصادر التهديد الرئيسية، ولا من باب أولى خطة منظمة لمواجهتها في الأجل القريب أو البعيد، حتى لو كانت هناك مساعي ملحوظة أحيانا لتعزيز القوات المسلحة وتحسين تسليحها. وإسرائيل لم تعد سببا لتوحيد مثل هذه الرؤية بسبب تباين اسلوب التعامل معها والاتفاقات الموقعة بينها وبين العديد من الدول العربية. وثالثا ليس هناك أي تفاهم حول وسائل الرد على التهديدات حتى بين الدول التي تملك إدراكا مشتركا لها، ورابعا ليس هناك أي نظام للأولويات أو المراحل المطلوب اتباعها في درء المخاطر والتهديدات المنظورة أو المحتملة، حتى الاقتصادية والسياسية منها، باستثناء ربما وجود أجندة أمن داخلي يتعلق بمحاربة الارهاب أو ما تريد النظم العربية أن تضعه تحت هذا العنوان. وهذا البند هو جزء من أجندة غربية تحولت بفعل الدعاية والضغط السياسي إلى أجندة دولية. فغياب الأجندة يعني غياب تحديد مشترك للأهداف وللتهديدات وللأولويات التي لابد من ترتيبها لمواجهة التحديات ودرء المخاطر.

ما هو موجود بالفعل يفيد أولا بأن الموجه الرئيسي للسياسات الأمنية في الأقطار العربية هو مصالح النظم القائمة. وتستدعي هذه المصالح أجندة قائمة على:

- الضبط الشديد للأمن الداخلي ومنع أي حركة احتجاج أو نقد تؤدي إلى الكشف عن أهداف السياسة والمصالح القائمة،

- وتأمين كل ما من شأنه، ماديا وسياسيا وايديولوجيا، تعزيز هذه المصالح وتعزيز القاعدة الاجتماعية لدعهما، بما في ذلك الضغط بقوة على المعارضين وبناء شبكة التحالفات المصلحية مع فئات زبائنية وتوسيع داشرة سيطرتها ونفوذها،

- تكريس الامتيازات في الواقع والفكر وأحيانا في الدستور،

لذلك تكون الأولوية هنا لدرء المخاطر الداخلية، أي الأمن الداخلي على حساب الأمن الوطني إن وجد، وتنويع وسائل قمع كل ما يتولد من مقاومات أو معارضات أو احتجاجات أو تمردات داخلية. وهو ما يستدعي من النخب الحاكمة توسيع هامش المناورة الإقليمية سواء، من خلال السيطرة على أدوات وحركات خارجية واستخدامها لتخقيق أغراض داخلية أو خارجية، وتوسيع دائرة النفوذ، وترحيل التوترات والنزاعات الداخلية ألى المحيط المجاور، حتى لو اضطر ذلك إلى اشعال الحروب الاهلية والنزاعات الطائفية والاجتماعية. كما يؤكد أهمية تعزيز التحالفات الخارجية مع القوى الكبرى العالمية والإقليمية لضمان الدعم الخارجي للسياسات الداخلية، أو عدم تعريضها للنقد، وتأمين موارد القمع التقنية والسياسية في الداخل، حتى لو استدعى ذلك العمل وفق أجندات الدول الكبرى والتكيف مع استراتيجياتها الهيمنية لكسب التأييد الخارجي وضمان الثبات في النزاعات الإقليمية.

واضح أننا هنا أبعد ما نكون عن مفهوم الأمن القومي أو الوطني وأقرب ما نكون إلى مفهوم أمن السلطة كما كان سائدا في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا الذي كان يوجهه النزاع بين الأسر المالكة من أجل توسيع رقعة سيطرتها والحصول على موارد جديدة لزيادة القدرة العسكرية واستخداماتها الداخلية والخارجية، من دون أي تردد في التحالف مع القوى الأجنبية. فالهدف الأول هنا هو الحفاظ على الملك والسلطة، وما عدا ذلك مجرد أدوات ووسائل، فلا سياسات وطنية ولا تحالفات استراتيجية بهدف خدمة الأهداف الوطنية العليا، وإنما مناورات متصلة ومتبادلة من أجل كسب المزيد من القوة والنفوذ للأسرة الحاكمة، بما فيها الزواج من أسر مخاصمة، بصرف النظر عن مصائر الشعوب وإرادتها. فالأمن الأسري يسبق هنا امن الدولة أو يحل محله ويتطابق معه، وإدارة النزاعات هي جوهر أي سياسة نشطة وفعالة وناجعة. وبالتالي فالنزاعات والحروب هي أيضا جزء لا يتجزأ من استراتيجيات الحفاظ على السلطة والملك والمجد.

ونتيجة مثل هذه الأجندة الخاصة بالنظم والنخب الحاكمة هي تجييش العواطف والمشاعر الخصامية بين الشعوب وداخلها، وتهييج النزاعات الجانبية التي تهدف إلى حرف الاهتمام عن سلطة السيطرة الخارجية أو الأجنبية، أي السيطرة بالقوة، والتغطية على مثالبها وتحييد القوى الاجتماعية بعضها بالبعض الآخر وجعل ميليشيات السلطة هي الأقوى دائما، وفي مواجهة أي إئتلاف محتمل للقوى المحلية، مع التأكد من وجود بوليسات تأمين خارجية دائمة ومضمونة.

4- إن تجاوز الخلاف حول ايران كمصدر لتهديدات رئيسية أو كحليف محتمل لكتلة عربية تواجه تحدي السيطرة الاجنبية والاستيطان الاسرائيلي مرتبط بإمكانية بناء أجندة امنية عربية قومية. ويستدعي مثل هذا البناء ايجاد أو وجود إدراك موحد للتهديدات فحسب، وإنما أيضا رؤية مشتركة أو أسلوب موحد للرد على هذه التهديدات، وهو ما يرتبط بوجود أهداف وغايات مشتركة أيضا لدى الفاعلين. وما أجهز على الاجندة القومية العربية ليس غياب الإدراك المشترك لمصدر التهديد عموما، وإنما اختلاف أسلوب النظر للرد عليها. فكما ان من الأطراف من يعتقد أن أفضل رد على تهديد القوة هو الخضوع لها والعمل في ظلها ومن خلال ما ترسمه من غايات وأهداف، هناك من يعتقد بأن الرد الأنجع على القوة هو العمل على بناء قوة ذاتية مقابلة، حتى لو استدعى ذلك تضحيات تبدو غير محتملة من قبل أطراف أخرى. لكن لا يمكن تبرير مثل هذه التضحيات، كما لا يمكن تبرير سياسات التسليم للأقوى والقبول بقانونه، إلا من خلال الغايات الاستراتيجية والأخلاقية معا. ومن الواضح أن النظم العربية تفتقر إلى الغايات المشتركة والاهداف الواحدة، حتى لو انها تتفق أو لا تزال تتفق شكلا على مصادر التهديدات أو بعضها. وحتى في ميدان الأمن الداخلي والحرب ضد الارهاب، مما يشكل اليوم هدفا مشتركا للأمن الدولي بحسب ما فرضته السياسة الامريكية والاطلسية منذ حرب الخليج الثانية، ليس من الممكن تصور وجود أجندة عربية واحدة، ذلك أن المقرر الرئيسي في وجهة تطوير هذه الحرب ليست النظم العربية نفسها. وبسبب عدم الثقة العميقة القائمة بين نظم تسعى لخدمة مصالحها الذاتية ويخشى كل واحد منها من الآخر ويراهن على خرابه من أجل تعزيز مواقعه الداخلية والإقليمية، تكاد الأجندة الامنية الداخلية التي هي ميدان التعاون الرئيسي وربما الوحيد الثابت بين الأقطار العربية تقتصر على التنسيق وتبادل المعلومات والخدمات الجزئية.

بل لم يعد من المسلم به اليوم أن هناك إدراك مشترك لمصدر التهديدات الخارجية أو الوطنية، بما في ذلك ميدان العلاقات العربية الاسرائيلية. فحكومات دول الخليج الصغرى لا ترى من التهديدات إلا تلك المتعلقة بطمع الدول الإقليمية بها، العربية وغير العربية. وهي تعبر عن خوفها من محيطها المباشر اليوم بتركيز العداء لايران والنظر إليها بوصفها المصدر الاول لتهديد أمنها الوطني ومصالحها العليا، تماما كما كانت تشعر تجاه العراق الذي كان يمثل في حقببة سابقة نموذج القوة الإقليمية الضاغطة والمهددة. ولا تؤمن بأجندة أفضل لمواجهة تهديدات المحيط المباشر لها سوى في وضع نفسها تحت الحماية الأمريكية، بوصف الولايات المتحدة القوة العسكرية الأكبر في عالم اليوم، بالإضافة إلى كونها الشريك الأول في استثمار الثروة النفطية التي يقوم عليها بناء الخليج السياسي بأجمعه بوصفه دولا قطرية مستقلة ومتميزة عن محيطها. وبالإضافة إلى تعزيز هذا التحالف وتحويله إلى سياسة وطنية قائمة بذاتها، يستخدم الخليج أيضا وسائل الرشوة لتأليف قلوب القوة الأخرى في المحيط المباشر. فالنفط هو مقوم حياته العامة والخاصة، بل مبرر وجود الدول ذاتها ككيانات مستقلة، والنفط هو مصدر طمع الدول الأخرى به، وانجذابها إليه، بوصفه مادة استراتيجية لا يمكن أن تستغني عنها الدول الصناعية. فالمعادلة التي تحكم وجوده وأمنه تتلخص في أنه يمثل أكبر ثرورة استراتيجية لكن هذه الثروة موجودة في أضعف الكيانات والهياكل السياسية. وهذا هو نوع البنية التي صاغتها الدول الكبرى من قبل حتى تضمن سيطرتها على النفط أصلا وتجعل طلب الحماية على مواقعه مسألة حتمية عند أي قيادة خليجية مهما كانت أفكارها واعتقاداتها السياسية والفكرية. الخليج هو رهينة موضوعية للمستهلك الأول لنفط الخليج، أعني الدول الصناعية وعلى رأسها، حتى الآن على الأقل الولايات المتحدة الأمريكية. بل إن أهل الخليج يشعرون فعلا وأكثر فأكثر بوحدة الحال مع هذه الدول ويسعون إلى ربط أنفسهم بأوثق العلاقات العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية، واليوم أيضا الثقافية واللغوية بها. ليتحول أمنهم إلى جزء من أمن الولايات المتحدة والكتلة الغربية. وتبدو هذه الكتلة في نظرهم وكأنها الحارس الوحيد الممكن لثروتهم الوطنية وبالتالي لنمط معيشتهم ذات المستوى المرتفع بشكل استثنائي بالمقارنة مع مستوى معيشة شعوب المنطقة العربية وغير العربية المجاورة. وبينما يتحول ألغربيون إلى شركاء حقيقيين للخليجيين في كل شيء، يتحول المحيط المجاور العربي والايراني إلى مصدر المخاطر والتهديدات الرئيسية. وهذا ما يظهر من خلال تغير هوية الخليج وتبدل لغة سكانه وتراجع إن لم نقل انحسار اللغة والثقافة والهوية العربية.

كيف يمكن إقناع الخليج بأن أمنه الوطني يستدعي الاستقلال عن الغرب والولايات المتحدة خصوصا، وأن مصلحته تكمن في التحالف مع الدول العربية أو في الوقوف ضد اسرائيل في الوقت الذي لا توجد أي بنية للأمن الجماعي العربي أو الإقليمي ولا أية قواعد للتعامل السلمي بين دول الإقليم، كما دل على ذلك الغزو العراقي للكويت في اول التسعينات، وكما تشير إليه أيضا هشاشة الضمانات التي تقدمها الجامعة العربية إن حصل وقدمت شيئا منها لطرف من أطرافها؟ ومن من الدول الإقليمية، وليس هناك من يفكر فيها بغير مصالحه المباشرة والقريبة، تبدو قادرة على تقديم مثل هذه الضمانات التي لن يمكن من دونها أقناع أيا من دول الخليج بالتخلي عن الحماية الأجنبية؟

وبالمقابل، لا يمكن فصل الأجندة الامنية الوطنية في سورية، عن الأجندة الأمنية السياسية. فإدراك النظام لطبيعة التهديدات الخارجية التي يتعرض لها مرتبط مباشرة بإدراكه للتهديدات الوجودية النابعة من تناقضاته الداخلية. وهذا ما يفسر أن الجهد الأمني للنظام مركز على ضبط المجتمع وتقييده وردعه عن ممارسة أي من حقوقه السياسية وأحيانا المدنية. فلاستحالة إقامته على أسس ومباديء وقواعد سياسية، ليس من الممكن الحفاظ على الوضع السياسي القائم هنا إلا بتحويله إلى أمر واقع ومفروض بالقوة. وهذا ما تدل عليه حالة قانون الطواريء المعلنة من دون انقطاع منذ 1963، بصرف النظر عن إعلان السلام خيارا استراتيجيا مع إسرائيل والمطالبة بفتح مفاوضات تسوية سلمية معها. وليس لخطاب الممانعة من وظيفة سوى التغطية على هذه الخيارات الاستراتيجية الأمنية، في مقابل التسليم بخيار المفاوضات السياسية مع التهديدات الخارجية. ومن الطبيعي أن ترتفع نبره هذه الممانعة طردا مع انخفاض إرادة المقاومة العملية. فهشاشة الأسس ذاتها التي تدفع إلى المزاودة السياسية بالوطنية هي التي تردع النظام عن ممارسة شعاراته الرديكالية، وتجعله يخضع في سلوكه، من دون انتظار الضغوط الخارجية، لانضباط ربما لا يوجد له مثيل في المنطقة تجاه التهديدات الخارجية، وأن لا يتردد في التقاط أي فرصة للتفاهم مع القوى الدولية والتنسيق معها. وهذا هو أيضا أصل الإزدواجية السياسية والفكرية التي تطبع سلوكه وفكره، تجاه المجتمع وتجاه القوى الخارجية على حد سواء. وهي التي تحكم عليه بأن يجمع باستمرار بين نشاطية مثيرة ومتجددة والقليل من الفاعلية والنجاعة الاستراتيجية.

ولا يختلف الأمر عن ذلك في مصر والبلدان العربية الأخرى إلا في وجود هامش أكبر للمناورة السياسية داخلها، سواء بسبب وجود نوع من التعددية التي تتيح تفريغ النظام من توتراته من فترة إلى أخرى عن طريق المداولة السياسية الشكلية، او بسبب توفر الموارد الريعية الاستثنائية التي تسمح للنظم بأن تمارس رشوة منظمة ومعممة تجاه النخب الاجتماعية، تسمح لها بأن تحكم من خارج الأطر والمباديء والنظم السياسية. لكن هذا لا يمنع أن ما يحدد إدراك التهديدات عند النخب الحاكمة هنا، هو أيضا، كما في النظم السياسية المأزومة في بنيتها الأساسية، أسبقية الأجندة السياسية على الأجندة الأمنية الوطنية. فخوف النظم من ضغوط الكتلة الشعبية الفقيرة أو المفقرة، ومن النخب المهمشة، واحتمالات تفاعلهما لتغيير النظام أو تعديل سياساتها، وهو ما تسميه زعزعة الاسستقرار، هو المحدد الأول للاستراتيجيات الأمنية ولحجم الاستثمار في نظم السيطرة الأمنية والردعية.

وهذا الإداراك للداخل بوصفه مصدر الخطر الرئيسي الذي يهدد السلطة والنظام هو الذي يحدد إدراك المخاطر الخارجية، فيجعل من إسرائيل مصدرا ضعيفا للخطر، أو ربما ليس مصدرا لأي خطر على الإطلاق، كما يجعل من الدول الغربية صاحبة المشاريع الهيمنية حليفة موثوقة ومصدر دعم وتأييد، مهما كانت مواقفها تجاه القضايا العربية الرئيسية، وفي مقدمها القضية الفلسطينية والعداونية الاسرائيلية. ففي هذا المنظور، لا يصبح من السهل تصور القوى الكبرى صاحبة النفوذ الأقليمي والدولي كمصدر للمكاسب والمنافع والدعم فحسب، وإنما كحليف ضروري ضد أي احتمالات زعزعة استقرار داخلية أو إقليمية. وهذا ما يفسر الهدنة الطويلة بل الدائمة التي استفادت منها إسرائيل خلال العقود الأربع الماضية والتي نجحت من خلالها في إخضاع أراضي عربية وفلسطينية من دون أي تهديد يذكر لمشروع استعمار استيطاني عنصري الشكل والجوهر، يكاد ينقرض إن لم ينقرض بالفعل في عموم المسكونة اليوم.

5-

حتى نرى أهمية ما يمكن أن تقدمه التحولات العميقة التي جرت في ايران منذ عام 1979 من إمكانات لإعادة بناء استراتيجية عربية مختلفة عن تلك الاستراتيجيات الأمنية المهزوزة التي ذكرناها والتي تفسر وحدها الحالة المذرية للأمن الوطني والقومي العربي اليوم ينبغي علينا أن لا ننظر إلى هذه التحولات بمنظار الصراعات السياسية العربية، لا داخل البلدان ولا في ما بين الدول، وإنما بمنظار الصراعات الجيوسياسية الكبرى التي تمس الإطار الأوسع الذي تتموضع فيه الدول، والذي يحدد هامش مبادرتها ودرجة استقلالها وقدراتها على تأكيد استقلال قرارها الوطني والشعبي وفرص نموها المادي واستقرارها السياسي والنفسي.

في هذه الحالة لن يكون لخيار ايران الاجتماعي ونموذجها الاسلامي قيمة كبيرة في حد ذاته، ولكن المهم هو ماذا أحدثه التحول الايراني في بنية الحقل الجيوسياسي الذي يحكم وعندئذ سنجد أن ما تطمح إليه ايران الجمهورية لا يختلف كثيرا عما طمحت إليه الحركة القومية العربية في الخمسينات والستينات، أعني تقليص النفوذ الأجنبي في المنطقة واستعادة المبادرة من القوى الكبرى، وبالتالي تغيير نمط العلاقات القائمة بين الإقليم ككل والدول الكبرى الصناعية، والتي بقيت إلى الآن علاقات نفوذ وتبعية استعمارية أو شبه استعمارية. وربما نستطيع أن نقول، أكثر من ذلك، إن انفجار الثورة الايرانية الاستقلالية جاء تعويضا عن تراجع وتقهقر الحركة الاستقلالية العربية التي سبقتها. بالرغم من أن الحركتين لم تتخذا الأشكال والمظاهر ذاتها. وهاهي تركيا الكمالية الاسلامية معا تدخل اليوم من الباب ذاته إلى المنطقة التي هجرتها لعقود طويلة ماضية، مع الطموح أيضا لإعادة تشكيل جيوسياسية المنطقة بما يزيد من استقلالها عن التدخلات الخارجية ويعزز من استقرارها ووحدتها الاقتصادية والثقافية والسياسية.

فالواقع أن التركيب الجيوسياسي الذي ورثته المنطقة الشرق أوسطية عن الحقبة الاستعمارية هو تركيب استعماري بامتياز، أي تركيب لا منطق لها سوى خدمة مصالح الدول الكبرى الغربية الرامية إلى الاحتفاظ بنفوذها ومقدرتها على التدخل لصياغة علاقة القوى داخل المنطقة بما يضمن الحفاظ على مصالحها الحيوية بل زيادتها، سواء أكانت مصالح استراتيجية او اقتصادية أو مالية أو سياسية أو ثقافية. وقد بقيت المنطقة ولا تزال رهينة هذه الجيوسياسية الاستعمارية ولم تستطع التخلص منها أبدا. وأخفق العرب الذين استفزهم تنامي الاستعمار الاستبطاني في فلسطين ووحدهم في فترة سابقة ضد هذه البنية الاستعمارية الجيوسياسية في إحداث أي تغيير، وأصبحوا، بعد إخفاقهم، أكثر ارتهانا من أي فترة سابقة لهذه الجيوسياسية التي استبطنوها أو دفعوا إلى استبطانها بالقوة والضغط في أذهانهم ومخيلتهم، في مواجهة فكرة الوحدة او الاتحاد أو حتى التكتل الاقتصادي أو التعاون العربي.

من هنا أصبحت مشاريع الصراع الجديدة ضد الهيمنة الغربية ومن أجل توسيع هامش مبادرة المنطقة ككل واستقلالها عن النفوذ الخارجي، المرتبطة بدول إقليمية حققت درجة كبيرة من الانجاز الاقتصادي أو التقني والعلمي، تبدو وكأنها تتقدم على حساب العرب وتعمل على مضاعفة هشاشة أوضاعهم وتدفعهم إلى التعلق أكثر بالخارج والتطلع نحو الحمايات الأجنبية.

وهذا يفسر انقلاب الوضع الإقليمي تماما بالمقارنة مع ما كان عليه في الخمسينات والستينات حيث كان العرب طليعة الشعوب النازعة إلى مقارعة الهيمنة الاستعمارية وطلب السيادة والاستقلال والوحدة، او التعاون الداخلي لتوسيع هامش المبادرة الذاتية، في حين كانت ايران كما كانت تركيا دولتين مرتبطتين ارتباطا كليا بالسياسات الغربية الاستعمارية وحلفاء لاسرائيل ذاتها في مشروعها لاستعمار الأراضي العربية وكسر إرادة العرب التحررية. ولا يساهم مثل هذا الوضع في استقرارهم. فهو يحولهم إلى أدوات في يد الدول الغربية التي تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها الآفلة بأي ثمن، تستخدمها ضد القوى الإقليمية الصاعدة، وتحول أراضيهم إلى مسرح للنزاعات وتصفية الحسابات بين جميع الأطراف وتحرمهم من فرص التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي من دون أي أمل بتحقيق أي مكسب. ولا يمكن لمثل هذا الوضع أن يكون وضعا مريحا للعرب، بل حتى قابلا للبقاء، مع وجود إسرائيل وعجز الغرب الواضح عن التحكم بآلة القهر الاستثنائية التي بناها عبرها لإخضاع شعوب المنطقة وكسر إرادتها. واستمراره يعني بالضرورة تفاقم القطيعة بين الشعوب والنخب الحاكمة وفقدان الثقة في ما بينهما وبالتالي توقع المزيد من الصراعات والمواجهات الداخلية التي بدأت منذ الآن تتخذ في بعض الأقطار أشكالا عنيفة، إذا لم نشأ الحديث عن حروب أهلية.

إن مستقبل العرب، مثلهم مثل شعوب المنطقة الأخرى، مرتبط بمقدرة جميع الاطراف الإقليمية على التفاهم من أجل تكوين منظمة إقليمية للأمن والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتقني، تخرج المنطقة من دائرة التنافس والتنازع الدولي على تقاسم المصالح ومناطق النفوذ فيها، وتحل التناقضات القائمة بين شعوبها وجماعاتها بالطرق السلمية، وتؤهلها لتكون مركزا للاستثمار والتطور العلمي لصالح سكانها والعالم أجمع. وهذا يعني الاستفادة من التحولات السياسية الكبرى التي مثلتها الثورة الاسلامية في ايران والديمقراطية الاسلامية في تركيا من أجل دعم الاستقرار والسلام في عموم المنطقة، بدل أن تكون هذه التحولات سببا في تأجيج النزاعات الداخلية فيها لصالح الهيمنة والنفوذ الأجنبيين.

ولا شك أنه تقع على العرب مسؤوليات كبيرة في تقريب أجل مثل هذا التفاهم الإقليمي الاستراتيجي المؤدي إلى إعادة بناء جيوسياسية المنطقة على أسس جديدة تقطع مع البنية الاستعمارية القائمة. فهم الذين يشكلون اليوم الضحية الرئيسية لهذه البنية الاستعمارية وشبه الاستعماريه، والغرض الرئيسي للتنافس بين الدول الإقليمية والدولية. وتحررهم من هذا المصير السيء مرتبط قبل أي شيء آخر بتحويل أنفسهم إلى فاعل إقليمي قوي، قادر على الدفاع عن مصالح العرب تجاه الفاعلين الآخرين وعلى المساهمة الايجابية، المادية والمعنوية، في بناء صرح النظام الإقليمي المستقبل الجديد.

والسؤال كيف يمكن أن نحول بروز القوى الإقليمية، الايرانية والتركية، من سبب إضافي لارتماء العرب في أحضان الغرب الهيمني وتعميق التناقضات والنزاعات العربية العربية، إلى عامل من عوامل تفجير إرادة التحرر والاستقلال والسيادة لدى العرب، حتى يمكن لهم أن يكونوا شركاء فاعلين بالقدر نفسه في مشروع إعادة بناء الإقليم على أسس جديدة تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون والتفاهم بين الشعوب والقوى المكونة له، وتضمن الأمن والاستقرار والتقدم لجميع مجتمعاته؟

لا يمكن تحقيق مثل هذا الهدف بنفي المصالح العربية الجماعية أو القومية، ولا بوصعها في مواجهة مصالح الاطراف الأخرى الإقليمية ونقيضا لها، كما لا يمكن ذلك بإنكار وجود مثل هذه المصالح عند هذه الأطراف وما يمكن أن تحمله من مخاطر على عالم عربي ممزق وضائع وفاقد للثقة بنفسه وبالعالم المحيط به.

وفيما يتعلق بايران، لا ينبغي أن نعتقد أن وشائج القربى الدينية أو العقيدة الاسلامية المرفوعة كراية للجمهورية الاسلامية تلغي المصالح القومية الايرانية وتجعل المباديء متقدمة عليها. بل إن الخطاب الديني الأخوي يمكن أن يساعد بشكل أكبر في التغطية على مصالح قومية أنانية وبعيدة المدى تستخدم العرب، أو حركاتهم الجزئية، المذهبية أو السياسية لتحقيق أهداف أبعد ما تكون عن خدمة مصالحهم أو الدفاع عن حقوقهم. وهذا ينطبق على تعامل الدول العربية "الشقيقة" في ما بينها أيضا. فلا تمنع الأخوة اللغوية والدينية والثقافية الحكومات العربية من استغلال أي فرصة لمد نفوذها لدى الأقطار المجاورة، واستتباع بعض حركاتها واستخدامها ضد أنظمتها، أو من انتزاع مصالح حيوية للأقطار الأخرى إذا وجدت الفرصة المناسبة لذلك. وصراعات الحدود والمصالح بين الدول العربية لم تتوقف خلال جميع العقود الماضية ولا تزال حية إلى اليوم.

وفي المقابل لا يمكن أن ننكر مصالح الآخرين القومية أيضا. والمشكلة الأمنية من أهم هذه المصالح على الإطلاق. والذي يسم منطقتنا العربية، ربما بسبب مماهاة الأمن الوطني والأمن السياسي، هو غياب الإدراك العميق لهذه المسألة والنزوع إلى التعامل معها بخفة، وسعي كل من الأطراف إلى أن يستخدم الآخر لخدمة امنه الخاص. فما ينقصنا هو بالفعل التفكير في مفهوم الأمن الجماعي والمتبادل. كل من يرى أمنه في إضعاف أمن الطرف الآخر أو تهديده مباشرة. وهذا ما يسري أيضا على العلاقات العربية الايرانية. فالعرب يريدون القضاء على القوة الايرانية وايران تسعى إلى اختراق العرب ومقاومتهم من الداخل وإخضاعهم لأجندتها القومية.

ويستند مفهوم الأمن الجماعي أو الإقليمي على افتراض صحيح بعدم وجود أمن مطلق أو بالمطلق. الأمن الوطني مترابط اليوم مع حقل العلاقات الدولية، فهو بالضرورة أمن جماعي، إقليمي وعالمي. ولا يتحقق إلا بالتعاون مع أطراف متعددة. والذي يحدد اتجاه هذا التعاون ويحدد اختيار الأطراف المكونة لشبكات الأمن الاقليمية هو اختياراتنا وأهدافنا الوطنية والاجتماعية. فلا أمن وطني مستقل عن التحالفات، ولا تحالفات ممكنة من دون أهداف مشتركة وإدراك موحد للأخطار والتهديدات الخارجية والداخلية. الأمن اليوم بالضرورة عولمي.

السؤال هنا أيضا: هل هناك تقاطع في المصالح بين العرب والايرانيين، وبين أي عرب وأي ايرانيين، وفي أي شروط وفي ظل أي خيارات استراتيجية وسياسية؟

والجواب ليس هناك تقاطع جاهز وناجز بين مصالح الدول والأمم والتكتلات. فكل دولة تنزع إلى أن توسع دائرة مصالحها على حساب الدول الأخرى ما لم تفرض عليها موازين القوى أن تقبل بتسويات وتنازلات متبادلة. فبناء المصالح المتوازنة هو ثمرة عمل سياسي لا تقاطع عفوي. وعلينا تقع إذن مسؤولية أن ندفع الآخرين أيضا، ايران وتركيا، إلى الاقتراب من مصالحنا والتوصل معهم إلى مباديء وأهداف مشتركة. ومن هذه الأهداف وأهمها

1- توسيع هامش مبادرتنا الاستراتيجية والسياسية جميعا في مواجهة التدخلات الخارجية، والغربية منها بشكل خاص، وربما إلى حد كبير في مواجهة اسرائيل التي تشكل أكثر فأكثر بتحالفاتها الخارجية الوثيقة، عقبة أساسية أمام أي مشروع تعاون إقليمي.

2- زيادة فرص التنمية الحضارية التي يشكل نقصها مصدرا لتهديد اجتماعي دائم بسبب ارتفاع معدلات البطالة لدى الشباب وسيطرة الايديولوجيات النضالية وتدني مستويات المعيشة والثقافة والانتشار الواسع للفقر.

3- ضمان الاستقرار والسلام الأهلي الذي لا توجد من دونه استثمارات اقتصادية واجتماعية ولا تنمية ولا وحدة وطنية.

4- إحياء الإرث الثقافي المشترك والبناء عليه لتمتين الروابط بين الشعوب والمجتمعات وتصفية الخلافات والحساسيات التاريخية والمذهبية في سبيل خلق فضاء شرقي للتعاون والتفاهم والتبادل يعيد للمنطقة موقعها في التراث الإنساني العالمي.