مستقبل العلاقات العربية الأوربية أو في إعادة اكتشاف أوربة ما بعد الاستعمارية

2001-07-09:: منتدى عبد الحميد شومان الثقافي

 

 

1) الأسس النظرية لفهم مجال العلاقات الدولية

تزداد إشكالية العلاقات العربية الأوربية راهنية بقدر ما يزداد توجه العرب نحو أوربة وشوقهم إلى أن تتحول إلى قوة صديقة توازن الصعود الساحق للسيطرة الأميركية في المنطقة وتعوض ولو نسبيا الدور الذي كان يلعبه الاتحاد السوفييتي الزائل في تجنيب العرب العلاقة الأحادية مع واشنطن· وتهدف هذه السلسلة من المقالات إلى تقويم دور أوربة في الاستراتيجية العالمية الراهنة، وفهم الأسس الموضوعية التي تقوم عليها العلاقات العربية الأوربية وفحص مدى تماسك المراهنة على أوربة كقطب منافس ومواجه للولايات المتحدة في الشرق الأوسط·

 إن دراسة البنية الراهنة للعلاقات العربية الأوربية والكشف عن العوامل الرئيسية التي ساهمت في تشكيلها، وتحليل العقبات التي تمنع المقاربة المتوازنة وشبه الندية لهذه العلاقات كل ذلك شرط أساسي لمعرفة فرص التغيير الممكنة وآفاق التأثير على الاستراتيجية الأوربية الراهنة· وبالمثل، إن دراسة استراتيجية العالم العربي تجاه أوربة وتحليل نقاط ضعفها الرئيسية، والكشف عن الفرص المتاحة لبناء استراتيجية جديدة، شرط ضروري لإحياء الأمل في إمكانية بناء مجال العلاقات العربية الدولية على أسس لا تخضع لقانون السيطرة الأحادية، وتفتح المجال نحو تعاون قانوني منظم، وربما، من وراء ذلك، نحو تحالف استراتيجي عربي اوروبي يساعد العرب على الخروج من مستنقع الركود والتهميش الاقتصادي ويمكن أوربة من موازنة علاقاتها بالخصم الكبير القابع على صدرها، الولايات المتحدة الأمريكية·

ولا شك أن كل من يتابع تطور العلاقات العربية الأوربية بدرك بسهولة أنها مطبوعة بأزمة دائمة وأن ما يميزها هو التجاذب والتنافر معا· فهي من جهة علاقات قائمة إلى حد كبير على الشك وانعدام الثقة المتبادلة والتعارض في المواقف، وعلى الانتقادات والاتهامات الموجهة من قبل كل طرف إلى الطرف الآخر·  وهي من جهة ثانية علاقات تبعية قوية تجعل من العرب المورد الدولي الأول للطاقة الأوربية  كما تجعل من الأوربيين الشريك التجاري الأول للعرب في جميع المبادلات الاقتصادية·  وهذه العلاقة المفارقة هي التي تفسر كيف أن الصراع والنزاع الثقافي والسياسي المستمران لم ينجحا في القضاء على الشعور الدفين والمشترك بترابط المصير·  وهذا ما يعكسه اليوم السعي الحثيث لايجاد إطار للتفاهم المتوسطي  وما كان قد عبر عنه في الماضي تنظيم الحوار العربي الأوربي الذي انطلق بعد حرب تشرين 3791 واستمر متقطعا حتى الثمانينات· وهي التي تفسر كذلك كيف أن إخفاق هذا الحوار واصطدام المساعي المشتركة للتقريب بين الدائرتين الجيوسياسيتين بالعديد من العقبات لم يؤثرا كثيرا على الشعور المتزايد في أوربة والعالم العربي بأهمية التعاون العربي الأوربي وبضرورة انقاذ الآمال المعلقة عليه لدى الطرفين· ومن هذا الشعور نفسه ننطلق نحن اليوم في بحثنا في شروط إعادة بناء هذه العلاقات الكثيفة على أسس جديدة غير تلك الأسس الاستعمارية أو شبه الاستعمارية التي كانت ولا تزال سائدة فيها·

ويستدعي البحث في إعادة بناء هذه العلاقات والنظر في مستقبلها التفكير في خمس مسائل رئيسية : 1) الأسس النظرية لفهم  مجال العلاقات الدولية، 2) أسس الخلل في العلاقات العربية الأوربية الراهنة 3) الاستراتيجية الدفاعية الأوربية وأثرها في الحفاظ على علاقات السيطرة التقليدية، 4)  لماذا أخفق العرب في بناء استراتيجية عربية تحاه أوربة ما بعد الاستعمارية، 5)  تحويل العلاقات الدولية وإمكانيات التغيير، 6) نحو استراتيجية عربية لتجديد أسس العلاقات العربية الأوربية·

 والواقع أن الحديث عن بنية العلاقات العربية الأوربية والقوانين الأساسية التي تتحكم بها وتوجهها هو جزء من مشروع إعادة تقييم تعاملنا مع أوربة منذ الحرب العالمية الثانية، ومعرفة الوزن الذي تمثله هذه القارة ونواتها الاتحاد الأوروبي، في تحديد مستقبل الجماعة العربية، وتحليل العقبات التي تحول دون التوصل إلى تفاهم حقيقي بين العرب والأوربيين، بالرغم من الجهود الطويلة والمستمرة التي يبذلها الجانبان من أجل تجاوز الخلافات وتذليل الصعوبات، كما تندرج في مسعى تقييم السياسات العربية تجاه أوربة وتعيين الأخطاء ونقاط الضعف التي وسمت أسلوب التعامل العربي معها· وهو بحث يندرج في دائرة علم العلاقات الدولية·

ومن الضروري قبل أن نحلل العلاقات العربية الأوربية أن نلقي نظرة على القوانين التي تحكم علاقات الدول فيما بينها والتي تدخل في نطاق هذا العلم· فإذا عرفنا ما هي الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقات أو ما هي العوامل التي تحدد طبيعة العلاقات بين الدول عموما أصبح من السهل علينا أن نميز طبيعة العلاقات القائمة بين الدول العربية وأوربة وأن نفهم خصائصها، ونعين أسباب الأزمة التي تعاني منها، وأن نكشف بالتالي عن الفرص الممكنة لمراجعة هذه العلاقات وتحسين نوعيتها، وهو المطلب الرئيسي لنا في هذا البحث·

يتجاذب نظرية العلاقات الدولية اتجاهان، الأول يشدد على أسبقية مبدأ القوة والثاني يشير إلى الدور الحاسم والمتزايد للقانون· والذين يركزون على مبدأ القوة يعتبرون أن العلاقات بين الدول قائمة لا محالة على ميزان القوى الاستراتيجية، وفي مقدمه العسكرية، بالرغم من عدم استبعاد العناصر الاقتصادية والبشرية والتقنية· أما القانون فهو لا يمكن في نظرهم إلا أن يكرس علاقة القوة وبالتالي يعيد إنتاجها أيضا· ولذلك فإن هؤلاء لا يولون أهمية كبيرة في فهم هذه العلاقات وتحليلهم لها للقوانين والمواثيق الدولية القائمة· وهذا الدور الضعيف للقانون ينعكس في الوضعية الهشة لما نسميه القانون الدولي، أي في الواقع، مجموعة العهود والمواثيق العديدة التي تبنتها الأمم المتحدة مباشرة أو عبر منظماتها الفرعية، والذي هو اليوم فكرة ترتبط بهيئة الأمم المتحدة، وتفتقر للشمول والاجماع والأداة التنفيذية وهي ليست موضع اقرار عالمي كامل·

وبالعكس، يشير أنصار أسبقية القانون إلى ما يسمى بالنظام الدولي الذي تردد اسمه بشكل قوي منذ حرب الخليج الثانية عام 0991 ويقدمون شواهد عديدة على تدخل الأمم المتحدة لصالح دول أو ضد دول لحماية جماعات بشرية مهددة، باسم القانون الدولي وتطبيقا لمواثيق الأمم المتحدة·

والواقع أن الأمور أكثر تعقيدا من ذلك· فالعلاقة بين القوة والقانون ليست علاقة ثابتة ولا جامدة ولا واحدة، ولكنها تختلف بحسب المواقع والظروف والدول المعنية ومصالح الدول الكبرى القادرة على إعطاء قرارات الأمم المتحدة القوة التنفيذية· والعلاقة الجدلية بين القوة والقانون تعني أن أسبقية القوة عموما لا تلغي أن هناك نموا للروح والقواعد القانونية التي تحكم علاقات الدول، إن لم يكن على مستوي العالم أجمع، فعلى الأقل على مستوى التكتلات الدولية· فبين القوة والقانون تدخل مباديء أخرى، تساهم في تغيير طريقة استخدام القوة أو فرص نمو المباديء القانونية· وهكذا نستطيع أن نحصي في الواقع أربع مباديء أساسية تحكم العلاقات بين الدول ولا يمكن أن تخرج عن نطاق تأثيرها أي علاقة دولوية· وهذه العوامل هي:

 1- القوة، أو ميزان القوة، 2 - المصلحة،  3 - الثقافة، 4 - القانون

 

ويعني المبدأ الأول، مبدأ القوة أن الدولة الأقوى من الناحية الاستراتيجية تنزع بشكل عفوي إلى إخضاع الدولة الأضعف والسيطرة عليها· مما يعني باختصار أن القوة تفرض نفسها ولا يمكن إلا أن تفرض نفسها وتعبر عن نفسها في النزوع إلى السيطرة· وقد تكون هذه السيطرة كلية أو جزئية، وقد تقوم على استخدام العنف أو على الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية· لكنها تشكل في جميع هذه الحالات العامل الأول الذي يصوغ طبيعة العلاقات بين الدولتين أو مجموعة الدول المنخرطة في صراع القوة·

وبصورة عامة، لمبدأ القوة النصيب الأول في تحديد بنية العلاقات الدولية، إلا في حالة واحدة، هي إخضاع هذه العلاقات لاتفاقات قانونية مقبولة من الطرفين· فعندئذ يتراجع موقع عامل القوة ليحل محله عامل الاحتكام للقانون· فمتى ما خضعت العلاقات الدولية لإطار قانوني واضح من معاهدة أو اتفاقية تعاون أو صيغة قانونية اتحادية، فدرالية أو كونفدرالية، أصبح من الممكن نزع فتيل منطق القوة، وزادت فرصة استخدام الأداة القانونية لتنظيم العلاقات الدولية، وبالتالي فرص تجنب اللجوء إلى القوة في حل النزاعات الثنائية أو الجماعية· وبشكل عام يمكن القول إن كل علاقة بين دولتين أو أكثر لا تقوم على قاعدة قانونية رسمية، أعني على معاهدة رسمية وليس على مجرد افتراضات أو اقتراحات عمومية حول التفاهم الممكن أو المحتمل، تخضع لا محالة، ومهما كانت وشائج القربى والمصالح المشتركة بين الأطراف إلى أسبقية قانون القوة·

 

والمبدأ الثاني هو المصلحة، ويعني مبدأ المصلحة أن الذي يحدد علاقة كل دولة بالأخرى هو حجم المصالح الذي يربطمها ببعضهما البعض أو يدفع واحدتها للارتباط بالأخرى· ويأتي هذا العامل ليعدل من مبدأ القوة ويحد من مدى تأثيره، وتحويل السيطرة إلى سيطرة تراعي الحد الأدني من الحفاظ على وجود واستقرار الطرف المسيطر عليه على الأقل في سبيل الاستفادة من موارده· وقد يقوم الارتباط المصلحي بين الدول على أساس إرادة هيمنة لطرف على طرف آخر، وقد يكون ثمرة وجود مصالح مشتركة، وقد يكون قائما على توهم وجود مصالح· لكن البحث عن المصلحة يشكل في جميع الأحوال عاملا أساسيا في تكوين العلاقات بين الدول وتحديد طبيعتها· وقد تسعى بعض الدول عندما تشعر بالقوة والتفوق الاستراتيجي إلى تأمين مصلحتها لدى الدول الأخرى عن طريق استخدام القوة أو بالسيطرة العسكرية أو السياسية على الأخرين، بل وبالضم وإلحاق الدول الصغيرة الأخرى بها· وقد يجري تأمين المصالح عن طريق التفاهم والبحث المتبادل عن ميادين عمل مشتركة ومثمرة· والحالة الثانية تفترض وجود حد أدنى من توازن القوى بين الطرفين أو على الأقل حدا أدنى من القربى الثقافية أو اللغوية أو الحضارية عموما، أو كلاهما معا·

والمثال على تأمين المصالح بالقوة هو الاستعمار الكلاسيكي الذي قدم نموذجا واضحا لعلاقات دولية قائمة على السيطرة المطلقة لمجموعة من الدول على الدول الأخرى· بينما يمكن تقديم الاتحاد الأوربي الذي نشأ في السنوات الأخيرة بعد تجربة طويلة من التفاهم والتعاون والتعايش التاريخي بين الدول الأوربية التي خرجت نازفة من الحربين العالميتين الأولى والثانية· فهو يعكس حالة دول تسعى إلى تأمين مصالح وطنية مشتركة لها في إطار التعاون وتوازن المصالح وذلك من خلال إخضاع العلاقات الأوربية الأوربية إلى منظومة من الأحكام القانونية والمعاهدات والاتفاقات التي تطال ميادين مختلفة من النشاط الوطني والاقليمي·

 

والمبدأ الثالث الذي يتحكم بالعلاقات الدولية ويفسرها هو قانون الوشائج الثقافية· ويعني هذا القانون أن وشائح القربى الثقافية والحضارية تدفع إلى التقريب بين الدول وحثها بشكل أكبر على بناء علاقات ثنائية أو متعددة، وذلك تلبية للمشاعر والعواطف وانطلاقا من القيم المشتركة التي تجمع بين الجماعات المنتمية إليها· لكن هذا القانون يعني أيضا أن التمايزات الثقافية الشديدة تدفع، بالعكس من ذلك، إلى زيادة فرص العداء والصدام والنزاع بين الدول بقدر ما تفاقم من مشاعر الخوف والحذر والشك المتبادلة بين الأطراف المعنية· وأكبر مثال على ذلك هو الصعوبة التي لا تزال تلقاها الدولة الاسرائيلية في تطبيع علاقاتها مع بعض الدول العربية التي تشعر بتقارب المصالح معها، خاصة بعض الدول الخليجية التي تعتقد أن وجود إسرائيل كقوة إقليمية استراتيجية يمكن أن يخفف من ضغط الدول العربية الكبرى ذات النزوعات القومية >التوسعية< عليها· والمثال الثاني أيضا، هو خجل الدول العربية من الاعتراف بالتعاون الاستراتيجي الذي تقيمه مع الدول الأوربية، والولايات المتحدة، وإخفائها عن الرأي العام اتفاقيات ومعاهدات الحماية التي وقعتها لضمان أمنها مع هذه الدول·

بالتأكيد لا يعني هذا أن وجود ثقافة مشتركة عند الأطراف الدولية يجنبها بالضرورة احتمال الانخراط في صراع القوة أو نزاع المصالح· فالبلدان الأوربية التي تنتمي لثقافة مشتركة لم تتخلص من الحروب إلا في العقود القليلة الماضية، والعالم العربي الذي يجمع بين شعوبه تاريخ ثقافي وديني واجتماعي واحد، يعيش منذ عقود حالة من النزاع الداخلي المزمن· فنوعية العلاقات الثقافية لا تلغي أولوية قانون القوة ولا قانون المصلحة، إنما تجعله يتحقق في شكل مختلف وعلى أرضية متميزة· إن الصراع بين الأخوة يمكن أن يكون أعنف من الصراع بين الأعداء· لكن عندما يضعف وزن نزاع المصالح، تعمل الثقافة المشتركة بشكل أكبر وأسرع على بناء النسق القانوني وإخراج العلاقات بين الدول ذات الثقافة المشتركة من حالة صراع القوة المكشوف· فالثقافة المشتركة تضعف كثيرا من أثر قانون ميزان القوة·

 

والمبدأ الرابع يتعلق بوجود أو غياب الأنساق القانونية· وأعني بها إخضاع العلاقات بين طرفين أو أكثر لقواعد ومباديء واضحة مفهومة ومناقشة ومتفق عليها من قبل هذه الأطراف· ومن الواضح أن الأنساق القانونية من معاهدات واتفاقات ومواثيق لا تلغي صراع القوة الناجم عن تفاوت الحجم والوزن الخاص بكل دولة، كما أنها لا تلغي نزاع المصالح أو تضاربها إلى هذا الحد أو ذاك، وأحيانا إلى درجات كبيرة، ولكنها تخضع أسلوب حلها والتعامل معها إلى آليات محددة بالقانون ومجمع عليها، وبالتالي إلى قاعدة الحوار والتفاوض· وهكذا عندما يوجد الاتفاق القانوني المقر من الأطراف المختلفة بإرادتها الحرة، لا يبقى هناك مجال لاستخدام القوة، ويصبح من الممكن حل النزاعات بالطرق السلمية، مما يضمن الاستقرار ويعزز الأمن الوطني والاقليمي ويعمل على تجنب هدر الطاقات البشرية والمادية·

 

2) أسس الخلل في العلاقات العربية الأوربية الراهنة

من الصعب على أي مراقب سياسي أن لا يلاحظ غياب التكافؤ في العلاقات العربية الأوربية، ومن وراء ذلك تكريس السيطرة الأوربية على مجمل هذه العلاقات، سواء من حيث التوجه العام واتخاذ القرارات أو من حيث طبيعة واتجاه المبادلات المادية والمعنوية· فلا يلعب العرب في الحقيقة إلا دورا ثانويا في صوغ نموذج هذه العلاقات· وهم نادرا ما تكون لهم المبادرة في أي تغيير أو تجديد في تناول ملفاتها المتعددة· بينما تأتي معظم الاقتراحات، سواء فيما يتعلق بصيغ التعاون أو بأساليب العمل والتبادل من قبل الأوربيين، وذلك بموازاة تطور استراتيجتهم العالمية والاقليمية· ونحن نعزو هذا الخلل العميق في هذه العلاقات إلى ثلاث عوامل كبرى هي تلك التي تتحكم بالعلاقات الدولية عموما·

 

أول هذه العوامل التفاوت الكبير في القوة·

ويبرز هذا التفاوت الشديد في قوة الطرفين ووزنهما، سواء إذا أخذناهما كمجموعتين متجانستين أو من باب أولى إذا نظرنا إلى العلاقة بين الاتحاد الأوربي وكل دولة عربية على حدة· ويتجلى هذا التفاوت في جميع المبادين العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية· فعسكريا لا مجال للمقارنة بين التكتل الأوربي والعالم العربي، سواء أكان معيار هذه المقارنة كميا أو كيفيا، خاصة وأن أوربة تتمتع، بالاضافة إلى قوتها العسكرية الذاتية، بحماية درع استراتيجي هو الوحيد من نوعه في العالم، أعني حلف شمال الأطلسي الذي يجمعها مع الولايات المتحدة في بنية عسكرية مشتركة دفاعية وهجومية في الوقت نفسه· واقتصاديا لا يزيد الناتج الاجمالي الخام للعالم العربي بأكمله عن قيمة الناتج الاجمالي الخام لدولة أوربية متوسطة مثل إسبانيا، من دون الحديث عن البنية المشوهة للاقتصاد العربي القائم على تفتيت الأسواق وسيطرة الانتاج النفطي الذي يشكل العمود الفقري لهذا الناتج الاجمالي الخام· ومن الناحية السياسية ليس هناك أيضا وجه للمقارنة بين الاستقرار الذي تعرفه البلاد الأوربية بفضل الصيغة الديمقراطية الثابتة التي تضمن التداول السلمي للسلطة، وتطور دولة القانون والمؤسسات ونضوج تنظيمات المجتمع المدني، من جهة وعدم الاستقرار ووجود أزمة مزمنة للسلطة نتيجة القطيعة القائمة بين النخب والنظم الحاكمة وأغلبية المجتمع، وغياب أي التزام حقيقي بالصيغ الديمقراطية وتبني النخب الحاكمة سياسات لا شعبية وسعيها الدائم في سبيل تثبيت حكمها المهدد إلى تفتيت المجتمعات المدنية العربية وبث الفرقة فيها على أسس دينية أو أقوامية أو إجتماعية أو سياسية عقائدية، من جهة ثانية· وهذا التباين الهائل في مستويات شرعية النظم السياسية وثباتها واستقرارها وفعاليتها في تعبئة الرأي العام وتمكينه من المشاركة والتفاعل مع السلطة المركزية، هو نقطة الضعف السياسية الرئيسية التي تراهن عليها وتعتمد عليها الدول الأوربية من أجل تعزيز نفوذها في العالم العربي· ففي ما وراء التفاوت الواضح في نماذج تنظيم المجتمعات، والسبق الذي يعطيه نظام الديمقراطية المستقر للمجتمعات الأوربية ويسمح لها بتطوير نشاطاتها وابداعاتها في جميع الميادين، يعبر التفاوت السياسي عن نفسه في اختراق أوربة النظم العربية وسيطرتها الفعلية على جزء أساسي وأحيانا حاسم من القرار الوطني في العديد من البلاد العربية، سواء بالتلاعب ببعض النخب أو بإلحاق بعض المؤسسات بها وتعميق اعتمادها عليها· ولا نبالغ إذا قلنا إن وزن أوربة في عملية اتخاذ القرار في العالم العربي تتجاوز بلا ما لايقاس وزن الرأي العام العربي ذاته، ويكاد يساوي إن لم يتجاوز دور النخب الحاكمة نفسها التي تفتقر في معظم الأحيان للخبرة السياسية  والرؤية الاستراتيجية·

أما من الناحية الثقافية فيظهر التفوق في مجال تفاوت القدرة على الابتكار وتطوير الأنماط والنماذج الجديدة في ميادين الحياة الاقتصادية والعلمية والتقنية والنظرية والأدبية والفنية معا، كما يظهر في مجال تفاوت القدرة على نشر المنتجات الثقافية المرتبطة بهذه الابتكارات واحتلال مواقع أساسية في السوق الثقافية العالمية· ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى أننا لا نزال نرى في عرض فيلم عربي واحد عرضا تجاريا في أي عاصمة أوربية مهما كانت صغيرة انتصارا كبيرا للثقافة العربية· ذلك أننا نكاد نغيب كليا عن سوق الصناعة الثقافية الدولية، ولا نحظى بالاهتمام إلا في مهرجانات الثقافة الفلكلورية·

بيد أن التفوق الجيواستراتيجي الأوروبي الساحق على العالم العربي لا يستند على حجم التراكم التاريخي الذي حصل في القرون الثلاث الماضية في موطن الثورة الصناعية والرأسمالية الأول فحسب، ولكنه يرتكز أكثر من ذلك على تقدم تقاني ثابت ومستمر وعلى تطور البحث العلمي والمساهمة الكبيرة لأوربة المعاصرة في الثورة العلمية التقنية·  ومما يفاقم من تفاوت القوة هذا نجاح الدول الأوربية في التوصل إلى اتفاقية الاتحاد الأوربي التي قربت بين جميع الأطراف الأوربية ووحدت فيما بينها من جهة، وإخفاق العالم العربي في الوصول إلى أي صيغة تكتل أو تفاهم أو اندماج تساعده على تجاوز حالة الشرذمة والتشتت من جهة ثانية·

 

وثاني هذه العوامل وجود المصالح المتعددة والمتعارضة

وتشمل المصالح التي تدفع أوربة إلى الاهتمام بالعالم العربي ميادين ثلاثة رئيسية: ميدان المصالح الاستراتيجية، والاقتصادية والسياسية-الثقافية

ويأتي في مقدمة المصالح الاقتصادية الاستراتيجية معا النفط· وقد كان النفط ولا يزال في العالم العربي موضوع صراع عالمي كبير بين الدول الكبرى لما يمثله في ذاته من مادة استراتيجية ولما يقدمه التحكم بمنابعه من وسائل إضافية لتدعيم قوة التفاوض لدى الأطراف المسيطرة عليه· فمن الوجه الأول يشكل النفط ضرورة حيوية لتشغيل آلة الصناعة العاالمية، ومن الوجه الثاني، يستطيع كل من يتحكم بهذا المورد الهام أن يستخدمه لزيادة قدرته على انتزاع مكاسب إضافية من الدول الأخرى التي تحتاج إليه من دون أن يكون لها أي سيطرة على مصادره· ولعل الصراع على النفط يشكل في المنطقة العربية المحور الأول لنزاع القوى الدولية والنخب المحلية أيضا· ويكفي أن نذكّر في هذا المجال بالصراع الذي انطلق منذ اكتشاف النفط وخلال تاريخ استخراجه بين الشركات الأمريكية والأوربية المختلفة المدعومة من قبل حكوماتها، وكيف نجحت الشركات الأمريكية في العديد من المناطق بإزاحة قسم كبير من الشركات الأوربية أو تقليص نفوذها حتى أصبحت صاحبة النفوذ الرئيسي في المنطقة العربية· كما يكفي أن نذكر بما حصل في السبعينات من صراع طويل بين النخب العربية الحاكمة وشركات النفط، في العراق والجزائر وليبيا وسورية، بل وفي العربية السعودية ذاتها، في سبيل استعادة السيطرة على هذا المورد الحيوي·  وهو  ما عبرت عنه سياسة التأميمات التي أعقبت حرب حزيران 7691· وفي الوقت الراهن لا نستطيع أن ننسئ كيف تحول تحديد أسعار النفط إلى المحور الرئيسي للصراع على التحكم بمورد النفط بين الدول العربية المنتجة والدول الأوربية المستهلكة·

لكن النفط لايمثل المصلحة الاقتصادية الاستراتيجية الوحيدة التي تجذب أوربا وتدفعها إلى بذل جهود خاصة للسيطرة على المنطقة العربية أو التعامل معها· فإلى جانبه توجد أموال النفط السائلة التي تسعى أوربة إلى جذبها للاستثمار في أراضيها· كما توجد الأسواق الاقتصادية· فالبرغم من التراجع الكبير الذي شهدته أوربة في مواقعها السياسية في المنطقة العربية، لا تزال هي الشريك الاقتصادي الأول للعالم العربي سواء من حيث الصادرات أو الواردات· وتمثل تجارة العالم العربي مع أوربة 08 بالمئة من مجمل تجارته الخارجية، وترتفع هذه النسبة إلى أكثر من ذلك بالنسبة لبلدان المغرب العربي· وتتجاوز نسبة الصادرات العربية إلى أوربة 09 بالمئة من عموم الصادرات العربية· وحتي بالنسبة لبلدان نفطية جزئيا مثل مصر وسورية والسودان، تمثل صادراتها النفطية بين 03 و 04 بالمئة من مجمل صادراتها· أما بالنسبة لبلدان الخليج والعراق واليمن فتقترب نسبة هذه الصادرات النفطية من رقم 59 بالمئة من حجم الصادرات الكلية·

وبالمثل يبلغ حجم الواردات العربية من أوربة ما يقارب 09 بالمئة من حجم الواردات العربية·

أما المصالح الثانية الرئيسية التي تحدد علاقة أوربة بالعالم العربي فهي من طبيعة استراتيجية أمنية· فالاستراتيجيون الأوربيون يعينون في العالم العربي مصدرين رئيسيين لتهديد محتمل للأمن الأوربي والاستقرار الاقليمي· المصدر الأول هو انتشار أسلحة الدمار الشامل الاستراتيجية في منطقة عربية لا تبعد إلا مئات الكيلو ميترات عن أوربة· وهم يعتقدون أن من الضروري، لتجنب الوصول إلى لحظة يكون بإمكان العرب فيها تهديد الأراضي الأوربية، الحيلولة دون وصول العرب إلى أوضاع تقنية وإلى التقدم في ميدان تكنولوجيا السلاح والتقنية العسكرية عموما، تسمح لهم بانتاج صواريخ باليستية أو قارية· ومن هذا المنطلق أيضا، يثير نزوع العرب أو بعضهم للتكتل مخاوف أوربة بالفعل، بما يقدمه من أمكانيات بشرية ومالية أفضل لتجاوز هوة التأخر التقني والعملي·  فلا تدعم أوربة أي مشروع للتجمع العربي أو لتجمعات عربية، بما في ذلك المغرب العربي، ما لم تحصل لديها الثقة بأنها قادرة على السيطرة على سياساتها وإخضاعها لاشراف مباشر ودقيق لا يضمنه إلا وجود نخب وسلطات تظهر الود لأوربة وتعمل بالتعاون والتحالف معها·

والمصدر الثاني للتهديد هو الانفجار السكاني الذي يدفع، ويمكن أن يدفع بملايين البشر الهاربين من الفقر وشح الموارد وانعدام الأمن والحرية إلى الهجرة نحو القارة الأوربية القريبة، وما يمكن أن يمثله ذلك من خطر زعزعة الاستقرار الاقتصادي في هذه القارة، بل وهز التوازن الديمغرافي والأقوامي فيها· ولذلك تبدو أوربة حريصة على ايجاد نظم قادرة على ضبط الناس وتثبيتهم في مناطقهم، ومستعدة لتأييد ودعم النظم التي تسعى إلى ذلك·

ويشكل الدفاع عن المصالح الثقافية ميدانا آخر لتحديد بنية العلاقات العربية الأوربية· وتتضمن المصالح الثقافية ضمان الشروط التي تمكن أوربة من إضعاف جميع الاتجاهات العقائدية والتيارات الايديولوجية التي تنطوي على عنصر العداء للغرب، سواء أكانت ذات طابع قومي كما كان عليه الأمر في مرحلة الخمسينات، أو ذات طابع إسلاموي كما هو عليه الحال في الحقبة الراهنة· ويشمل العمل لاضعاف هذه التيارات، وهو ما يحدد طبيعة هذه المصالح، الحفاظ على تأثير ثقافي قوي لأوربة في البلاد العربية يوازن الاتجاهات المعادية لها· وهذا هو هدف الحفاظ على مؤسسات علمية وتعليمية وتربوية عديدة، وتقديم المساعدات لتدعيم موقع اللغات الأوربية، كما هو الحال بالنسبة للمنظمة الفرنكوفونية، وتطوير برامج تهدف إلى الابقاء على علاقات رعاية وحماية للنخب الثقافية المحلية بهدف عزلها نسبيا عن قطاعات الرأي العربي المعتبرة تقليدية معادية وجذبها أكثر ما يمكن إلى دائرة النفوذ والتأثير والولاءات الأوربية· وهو ما تقوم به مؤسسات عديدة مثل مؤسسة الثقافة الأوربية، والمجلس الأوربي والمنتديات والندوات العلمية والفكرية العديدة التي تمولها هذه المؤسسات ومراكز أوربية أخرى·

وتدخل ضمن هذا الموضوع المتعلق بحماية وتدعيم النفوذ الثقافي واللغوي والفكري الأوربي في العالم العربي النشاطات الثقافية العديدة الهادفة إلى تثبيت شرعية اسرائيل في المنطقة العربية وفي الأوساط الثقافية والسياسة العربية، باعتبار أن ضمان سلامة المجتمع الاسرائيلي واستقراره كمجتمع يهودي، يشكلان جوهر الالتزامات الأخلاقية التي أخذتها أوربا ما بعد الحرب العالمية الثانية على نفسها للتكفير عن جريمة ارتكاب مجازر معاداة السامية· وهكذا لا تتسامح أوربة ولا تقبل أي تهاون مع كل ما يمكن أن يشكل مساسا بشرعية وجود اسرائيل أو تهديدا لهذا الوجود في المنطقة العربية، وتنظر إلى أي تظاهرة تنم عن ذلك على أنها تهديدا للأسس الأخلاقية التي قامت عليها الديمقراطية الأوربية لما بعد الحرب العالمية الثانية ويحمل في طياته بالتالي إدانة الثقافة الأوربية· بالتأكيد لا يلزم هذا الايمان بشرعية اسرائيل والدفاع عنها أوربة بالدفاع عن سياسة اسرائيل الاقليمية من دون شروط، ولكنه يشكل أساسا لرفض أي سياسة أو عقيدة عربية تنطلق من نفي شرعية وجود إسرائيل كما يمثل التزاما أوربيا بمواجهة أي مخاطر بمكن أن تهدد هذا الوجود ماديا أو رمزيا·

 

وثالث هذه العوامل تباين الثقافات في الحاضر والماضي وما ارتبط به من تنافس على الهيمنة الدينية والفكرية في المتوسط وما نجم عنه من أرث عميق من الحساسية وسوء الفهم وانعدام التفاهم ونقص التقدير وسيطرة الصور النمطية

ويظهر العداء الثقافي بين المجموعتين العربية والأوربية من خلال الصور النمطية التي يرسمها كل طرف للطرف الآخر، والتي تكرس غياب القيم المشتركة وانعدام الحوافز الفكرية والعاطفية للتكفير بالتضامن أو بتحسين شروط العيش المشترك· إن جوهر العلاقات الثقافية يكاد يطابق مفهوم الحرب الحضارية، كما يدل على ذلك النفوذ الكبير الذي أخذته هذه الكفرة منذ أن أطلقها سياسيا الأمريكي هينتنغتون·

وليس من الصعب على المراقب أن يعاين مدى انعدام الاحترام والتقدير المتبادلين بين العرب والأوربيين· فالأوربيون يرون في العرب عموما شعبا متأخرا وبدائيا لا يزال يعيش في منطق العصور الوسطى ولم ينجح، بعكس أغلب شعوب الأرض، في استيعاب قيم الحداثة والسلوك بحسب معايير الحضارة· وهو على العموم شعب غير منتج وغير مبدع، يعيش على عوائد الثروة النفطية التي يوفرها له استثمار الغرب لموارده الأولية، وهو غير قادر على القيام بأي إنجاز مادي أو عسكري أو معنوي ذي قيمة· وهو بالإضافة إلى ذلك شعب متدين ومحافظ ورجعي، يضطهد المرأة ويستغل الطفل ويتميز بانعدام الثقافة والسريرة والضمير· وهو أيضا شعب عدواني لا يقبل الآخر، يضهد الأقليات ويسعى إلى التوسع ويميل إلى استخدام العنف· ولذلك فهو شعب لا يمكن الثقة به ولا التعامل معه من المعايير نفسها التي يمكن التعامل بها مع بقية شعوب الأرض·

وبالمقابل يرى العرب في الشعوب الأوروبية مجموعة من الوحوش الكاسرة التي تنقض على فريستها عندما ترى الفرصة سانحة من دون أي اعتبار لمباديء سياسية أو قيم حضارية أو معايير أخلاقية· وهي شعوب على العموم منحلة وغارقة في الرذيلة والخطيئة الدينية، مارقة وإباحية لا تحلل ولا تحرم ولا تؤمن بدين· وهي لا تستند في تفوقها وهيمنتها الدولية على مكاسب سياسية أو خلقية ولكن فقط علي ما تقدمه لها التقنية المتقدمة من قوة مادية وعسكرية استثنائية· 

ورابع هذه العوامل غياب الأطر القانونية الجماعية·

فباستثناء بعض الاتفاقات الأمنية التي وقعتها مجموعة من البلدان الخليجية بعد حرب الكويت مع العديد من الدول الأوربية، والتي لا تعبر عن أي علاقات متكافئة، يكاد مجال العلاقات العربية الأوربية يخلو تماما من أي إطار قانوني يضبطه وينظم النشاطات التي تدور فيه· وقد أخفقت جميع المساعي التي بذلت في العقود الماضية لبناء تعاون عربي أوربي منظم، ولا تزال العواقب السلبية لهذا الفراغ تبرز أثناء كل حدث جديد يمس المصالح العربية أو الأوربية· ومن أهم الأمثلة على ذلك الوضع الذي وجدت أوربة نفسها فيه بعد بدء مؤتمر مدريد للسلام وافتقارها لأي موقع أو دور جدي في هذه العملية المهمة التي يتوقف عليها مصير الشرق الأوسط بأكمله· ومن الأمثلة القريبة أيضا ما برز من عجز عن التعاون العربي الأوربي في إدارة عملية انسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي من لبنان، بالرغم من الرغبة الأوربية القوية للعب دور فيها، كما ظهر ذلك على السلوك الفرنسي بشكل واضح· ومن هذه الأمثلة كذلك الخوف الذي يستبد بأوربة كلما حصل تغير في الحكم في البلاد العربية، وسبب ذلك الفراغ القانوني الذي تقوم عليه علاقاتها مع العالم العربي، مما يفقدها السيطرة على الأحداث ويجعلها تلهث وراءها· إن حرمان مجال العلاقات العربية الأوربية من أي أداة قانونية للتعاون المنظم هو الذي يعمق خوف أوربة من التهميش في كل لحظة في المنطقة العربية، ويدفعها إلى السعي وراء الولايات المتحدة مع معرفتها بأن واشنطن هي التي تسد عليها الآفاق وتحرمها من فرصة بناء علاقات وصداقات ثابتة ومستمرة· وهكذا تجد نفسها في كل مرة مضطرة إلى أن تقدم للولايات المتحدة على طبق من فضة خدماتها، وتقبل بأن تحصد واشنطن ثمار تلك الجهود الخاصة ذاتها التي تكون أوربة قد بذلتها لابراز دورها أو تأكيده في هذه المناسبة أو تلك· وهذا الغياب لأي أطر قانونية للتعاون هو الذي يفسر شعور أوربة بهشاشة مواقعها أمام الولايات المتحدة كما يفسر ارتباك سياساتها الشرق أوسطية، كما يبرز ذلك بصورة واضحة أثناء زيارة القادة الفرنسيين لبلدان الشرق الأوسط وما يصدر عنهم من تصريحات متباينة وأحيانا متضاربة، كما  حصل لرئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان أثناء زيارته الأخيرة لفلسطين في بداية هذا العام·

بالتأكيد لا تنفي الاشارة إلى غياب الأطر القانونية التي تضبط مجال العلاقات العربية الأوربية الاعتراف بوجود حركة تبادل تجارية كبيرة بين الطرفين· كما أنها لا تنفي وجود بعض الاتفاقيات الثنائية التي تنظم تعاون هذا القطر أو ذاك في ميدان محدد مع قطر أوروبي أو أكثر· بيد أن هذه الاتفاقات تبقى جزئية تنطبق على ميدان محدود جدا من ميادين النشاط المتبادل، وتظل مقتصرة على العلاقات الثنائية· إنما ليس هناك شيء يذكر على مستوى العلاقات الجماعية أو المتعددة الأطراف· أما المساعي الراهنة لقيام شراكة متوسطية فهي تعاني من مشاكل وتناقضات عديدة، أهمها أنها تستبعد جزءا كبيرا من الدول العربية، وأنها تقوم على مبدأ التعاون الثنائي لكل قطر عربي مع أوربة وتنكر وجود أي تعاون أو تكتل عربي، بل تسعى إلى أن تكون بديلا عنه· أما نجاعتها الاقتصادية فهي مشكوك فيها تماما، كما تدل على ذلك آثار المعونات الاقتصادية المحدودة التي قدمت للدول العربية التي استفادت منها أو فكرت بالاستفادة منها·

وينطبق القول نفسه على مشروع مؤتمر التعاون والتنمية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعروف بمؤتمر برشلونة والذي لا يزال يتعثر بسبب ارتباطه أو بالأحرى ربطه من قبل الأوربيين، بوصفه إطارا للتعاون الاقليمي، بقبول الدول العربية باسرائيل، والتعاون معها بصرف النظر عن تجاوب اسرائيل مع متطلبات السلام الاقليمي· ولا نبالغ إذا قلنا أن كلاهما: الشراكة المتوسطية ومؤتمر التعاون الاقتصادي أداتان في يد الاستراتيجية الأوربية لضمان تحقيق أهدافها الاقليمية الرئيسية وهي : تأكيد الحضور في مواجهة التوسع الأمريكي الناشط خلف فكرة السوق الشرق أوسطية،  وإدماج إسرائيل في المنطقة العربية، وتفكيك مشروع التعاون العربي الجماعي المستقل، وفي مقدمة ذلك ربط بلدان المغرب العربي بأوربة وفكها عن المحور العربي، وهو ما تسعى إليه الشراكة المتوسطية  بشكل أساسي· وأخيرا تأمين موقع واضح ومستقل لأوربة في العالم العربي عن طريق إظهار مساهمتها الاقتصادية في عملية السلام، كما يبرز من بيانات وممارسات مؤتمر التعاون الاقتصادي·

 

ونستنتج من هذه السمات الخاصة التي تسم مجال العلاقات العربية الأوربية أنها علاقات

 تفتقر لأي نوع من التفاهم الجماعي وما يفترضه من تحديد أهداف مشتركة،

وتقوم بشكل رئيسي على الغش والخديعة والتلاعب،

وتنطوي بالتالي على شحنة عميقة من العداء والحساسية الثقافية والسياسية·

إنها سياسة تصاغ في العتمة ولا تخضع لأي مناقشة علنية، لا في البلدان الأوربية ولا في مجالات حوار عربي أوروبي خاصة، ولذلك فإنها ترسخ في ذهن العرب الشعور باستمرارية عقلية المؤامرة والتآمر القديمة، وتدفع بالآوربيين إلى السقوط في تناقضات عديدة تجاه قضايا المنطقة، تعبر عنها التصريحات المتضاربة لمسؤولي السياسات الخارجية داخل كل دولة على حدة وعلى مستوى الدول الأوربية عامة·

 

3 ) مأزق الاستراتيجية الدفاعية الأوربية في الشرق الأوسط

من الواضح أن جوهر العلاقات الأوربية مع العرب هو السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية· وتشكل هذه السيطرة في إطار انعدام التبادل والحوار الحقيقي حول المصالح والأهداف، وكبديل عنه، الضمانة الوحيدة لتحقيق المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية على حساب المصالح العربية، أو من دون أخذها بالاعتبار الذي تستحقه، كم هو الحال في أي علاقة غير متكافئة بين طرفين· ومن هنا فإن مجال العلاقات العربية الأوربية يبقى من ضمن مجالات العلاقات الدولية الرئيسية القليلة التي لا تزال تفتقر لإرادة الخروج من  منطق السيطرة شبه الاستعمارية الذي حكم العلاقات الدولية بين الشمال والجنوب حتي سقوط الاتحاد السوفييتي· وهو المنطق الذي يبرر للدول الأوربية أن تسعي إلى تحقيق أهداف منفردة وخاصة، بصرف النظر عن مواقف الطرف الآخر ومصالحه، ولا تتورع من أجل تحقيقها عن اتباع أكثر الاستراتيجيات والوسائل رخصا، بما في ذلك المغامرة بتدمير مستقبل شعوب كاملة كما يدل على ذلك مثال الحرب على العراق التي لا تزال مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات من دون أي أمل في وقفها في القريب·

 

فكيف نفسر هذا التخلف الكبير الذي يسم استراتيجية أوربة تجاه العالم العربي وما هي العوامل التي تحدد هذه الاستراتيجية والظروف التي تحكم تطبيقها ؟

ينبغي القول منذ البداية أن أوربة لا تمارس سياساتها تجاه العالم العربي في بيئة محايدة أو مستقلة· إن سلوك كل دولة خاضع لشروط تاريخية ومضطر لأن يأخذ بالاعتبار مراكز القوى الأخرى، الدولية أولا، من دون شك، لكن بما في ذلك الدول والقوى المحلية· ولذلك أيضا لا يمكن فهم استراتيجية أوربة العربية أو إزاء العالم العربي إلا انطلاقا من فهم استراتيجيتها الدولية· فالعالم العربي لا يأخذ قيمته في هذه الاستراتيجية إلا كجزء من قوى عالمية متعددة، ولا تظهر قيمة الموارد التي ينطوي عليها إلا من منظار الاستراتيجية العالمية، وبالدرجة التي تساهم فيها هذه الموارد في هذه الاستراتيجية·

وفي نظري إن الذي يحكم تصور أوربة الجيوستراتيجي لنفسها، وبالتالي لدورها في العالم، وما يبدو لها كعقبة رئيسية أمام تحقيق أغراضها الاستراتيجية، أعني : ضمان الأمن الخارجي والاستقرار الداخلي والتقدم الاقتصادي والهيمنة الدولية، وهو المضمون الرئيسي لأي استراتيجية عالمية اليوم، هو الموقع الجيوسياسي المضطرب الذي تحتله أوربة في المنظومة العالمية، والذي يجعلها تعيش هاجس الانحطاط والتقهقر وبالتالي انعدام الفعالية، بصورة دائمة ويومية· وحتي نفهم هذا الهاجس الذي يمنع أوربة من النظر إلى المستقبل بتفاؤل ويضعف لديها روح الابداع والتجديد في نظرتها للأطراف العالمية وعلاقاتها، ينبغي أن ننظر منذ البداية إلى التحديات التي تواجهها ليس في المنطقة العربية، ولكن قبل ذلك في العالم كله، وفقدانها القدرة على بلورة وتطبيق استراتيجية ذات آبعاد عالمية·

 

ويمكن تلخيص هذه التحديات في تحديين اثنين رئيسيين : الأول هو ربح معركة العولمة أو انفتاح الأسواق أو تكوين سوق عالمية مفتوحة نسبيا تهدد بزيادة المنافسة والحرب الاقتصادية، وهو ما يستدعي الاستيعاب الخلاق للثورة التقنية العلمية وكسب معركة الانتاجية وضمان مواقع ثابتة في السوق العالمية، والثاني امتصاص الآثار التي نجمت عن حقبة تصفية الاستعمار والتي مست أوربة بالدرجة الأولى، والتغلب على الصعوبات التي بعثها صعود القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة واليابان وآسيا والصين واحتلالها  جزأ كبيرا من الفضاء الجيواستراتيجي الذي كانت تحتله أوربة الغربية بل وتحييدها إلى حد كبير من الناحية الاستراتيجية·

ولا شك أن صعود الدول الكبرى المنافسة للسيطرة الأوربية لم يكن مستقلا عن هزيمة أوربة في معركة تصفية الاستعمار التي تعني في الواقع خسارة أوربة حرب السيطرة العالمية، وعن الخراب الذي أصابها نتيجة الحروب الداخلية لاقتسام مناطق النفوذ العالمية، كما دلتا على ذلك الحربان العالميتان· فقد ترافقت عملية تصفية الاستعمار بحركة تراجع تاريخي ودائم لأوربة على صعيد السيطرة العالمية، وبانتقالها من القوة العالمية الرئيسية والأولى إلى القوة الثانية أو الثالثة، وذلك لصالح سطوع نجم الولايات المتحدة الأمريكية· وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل درع حماية لأوربة من الغطرسة الأمريكية يزداد خوف أوربة اليوم من صعود القطب الآسيوي بالرغم من الصدمة الكبيرة التي عرفها اقتصاد جنوب شرق آسيا في العامين الماضيين·

لكن عملية تصفية الاستعمار لم تترافق بتراجع مواقع أوربة الاستراتيجية لصالح الدول الجديدة الصاعدة فحسب، ولكنها تجاوزت ذلك إلى عملية انحسار واسع ومستمر للنفوذ الاوربي عن القارات والبلدان التي خضعت للسيطرة الأوربية لعقود وأحيانا لعدة قرون متواصلة· ولا يمثل هذا الانحسار انعكاسا بسيطا وثانويا لصعود المنافسة الأمريكية ولا نتيجة مباشرة لها، يمكن بالتالي تجاهله، ولكنه يعبر عن تنام حقيقي في شخصية الشعوب التي كانت مستعمرة، وتزايد إدراكها لهويتها الخاصة ومصالحها الوطنية، وذلك في موازاة تعمق فهمها لآليات الحداثة وسيطرتها عليها وإعادة بناء ثقافاتها ونظمها السياسية والاقتصادية· وهو ما يجعل منها قوى لاعبة جديدة تحتل جزءا من الساحة الجيواستراتيجية العالمية، وتوجه إلى أوربة تحديات إضافية·

وبالاضافة إلى هذا التراجع الأوربي في ميادين المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية، مست عملية تصفية الاستعمار بالأسس الثقافية العميقة التي كانت تعتمد عليها أوربة، أكثر من أي منطقة أخرى لضمان الحركة والانسجام والتجانس في بنياتها الاجتماعية الوطنية· وأعني بهذه الأسس العقائديات القومية الأوربية التي لعبت دورا كبيرا في تأمين مصادر معنوية قوية لمشروع السيطرة العالمية· فقد أصاب هذه العقائديات الكلاسيكية الهرم وأخذت في الانحلال والتراجع أمام عقائديات الاعتراف بالهوية الاختلافية والحقوق الوطنية المتساوية والتعددية الثقافية والأقوامية· وهكذا بدأت المجتمعات الأوربية تتخلى شيئا فشيئا عن عقيدة التقدم التاريخي التي كانت أوربة تتسلح بها لتبرير مشروعاتها الاستعمارية وهيمنتها، باعتبارها الشعاع الحامل لهذا التقدم والمسلط له على العالم بهدف تحضيره، لتعود إلى تبني عقيدة إنسانوية جديدة تجمع بين احترام حقوق الانسان الكونية والتناغم مع الطبيعة والحذر من نتائج التطور العلمي ورعاية نزعة أخلاقية فردوية واقعية· وبعكس العقيدة القومية الكلاسيكية التي لحمت المجتمع وساعدت على تكوين تيارات سياسية قومية مرتبطة جميعا، بالرغم من تباينها في تحديد أفضل الطرق لتحقيقها، بفكرة التقدم التاريخي، لا تساعد العقيدة الجديدة على التعبئة الجماعية والتغطية على أزمة أوربة الفكرية والروحية·

ونستطيع أن نقول إن الموقع الجديد الذي اضطرت أوربة إلى القبول به بسبب خسارتها حرب تصفية الاستعمار والحفاظ على امبرطوريتها العالمية يجعلها تعيش في هاجس الخوف من فقدان الاستقلال أو على الأقل استقلال القرار، كما يجعلها تعيش في هوس الانحسار والجمود· فهي مضطرة إلى الصراع على ثلاث جبهات معا: جبهة تصاعد الهيمنة الأمريكية، وجبهة الحفاظ على مناطق النفوذ الاقتصادية والسياسية والثقافية في البلاد النامية، وجبهة التصدي لتنامي عوامل الضعف الداخلية سواء ما تعلق منها بالتراجع الديمغرافي أو تهديد التجانس الأقوامي نتيجة الهجرة العالمية أو انتشار العقائديات الانسانوية الجديدة التي تدفع إلى تعميق نزوع مجتمعات أوربة إلى السلام والفردية والروح الاستهلاكية والاستقرار وخوفها القاتل من كل ما يمكن أن يطرأ من هزات أو اضطرابات·

وهذا يعني أن السمة الرئيسية للجيواستراتيجية الأوربية هو انتقالها من استراتيجية الهجوم التي سيطرت خلال أكثر من قرنين، حتى بدايات القرن العشرين،  إلى استراتيجة الدفاع القائمة على الانكفاء على القارة اقتصاديا واستراتيجيا وثقافيا كما تشير إلى ذلك الوحدة الأوربية، والميل المتزايد إلى تطوير سياسات التحصين والعزلة·

ويبدو العالم العربي لأوربة في منظور هذه الاستراتيجية الدفاعية العالمية ذو أهمية خاصة من ثلاثة وجوه· وهو ما يجعل التعامل معه دقيقا جدا، و يدفع إلى تعدد وجهات النظر بشأن مواجهة الاشكالات العديدة التي يطرحها على الاستراتيجية الأوربية· فهو من جهة أولى منطقة ثروات كبيرة وسائبة ويثير بالتالي إرادة أوغريزة السيطرة المباشرة خاصة بما يتميز به من بنيات سياسية وطنية وإقليمية هشة وضعيفة، وهو من جهة ثانية منطقة نزاع كبير على النفوذ مع الولايات المتحدة والأٍقطاب الدولية الأخرى القائمة أو الصاعدة، وهو من جهة ثالثة منطقة قريبة جدا من أوربة وهشة في بنياتها الوطنية والاقليمية وبالتالي مصدر قلاقل وتهديدات محتملة  عديدة·

وتتردد السياسة الأوربية تجاه العالم العربي بين سياستين< الأولي تنزع، في سبيل ضمان الاستفادة من منابع الطاقة الرخيصة وجذب الرساميل العربية، إلى اختراق الأنظمة العربية والتلاعب بالقوى المتعددة من أجل الاحتفاظ بمراكز قوة وضغط تضمن استمرار النفوذ التقليدي في المنطقة· والثانية تميل في سبيل تحقيق الأغراض ذاتها، إلى تطوير علاقات تقترب نسبيا من الاعتراف والاحترام المتبادلين، في مستوى العلاقات السياسية والثقافية على الأقل· وهو الميل الذي برز بعد حرب عام 1973 العربية الاسرائيلية ورفع أسعار النفط عندما قررت أوربة فتح الحوار العربي الأوربي وبناء علاقات أكثر استقرارا وتوازنا مع العالم العربي أو بلدان الجامعة العربية، ومن هذا المنطق بني معهد العالم العربي لتكريم الثقافة العربية في باريس·

لكن هذا الميل لأخير الساعي إلى إدخال عنصر من التوازن في العلاقات العربية الأوربية قد اصطدم بعائقين : أولا عجز العرب عن بناء استراتيجية جماعية مستقرة ومتسقة وثابتة، مما زعزع ثقة الأوربيين بإمكانية بناء شراكة حقيقية معهم، وثانيا، وهو الأهم، والمفسر جزئيا للأول، النزوع الأمريكي الجامح للسيطرة على منابع النفط بما تمثله من مواقع استراتيجية، وعدم السماح لتفاهم أوربي عربي أن يهمش الدور الأمريكي في أكثر المناطق حساسية من الناحية الجيو استراتيجية·

لكن السياسة الأولى التي انكفأت عليها أوربة لم تعط نتائج أفضل من الثانية· ذلك أن الصراع الأوربي على مواقع النفوذ في العالم العربي قد دفعها إلى التدخل بشكل أكبر، ولو كان ذلك بطرق غير مباشرة، في المصير السياسي للدول العربية· بينما أدى هذا التدخل إلى تفاقم عدم الاستقرار وتعميق مخاطر الانفجار وانتشار الاضطرابات والقلاقل بسبب الفساد الذي قاد إليه دعم أنظمة لا شعبية ولا وطنية· وهكذا بدل أن يزيد التدخل في مقدرة أوربة على السيطرة على مصدر القلاقل، تحول ويتحول إلى سبب في زيادة هذه القلاقل والتهديدات الناجمة عنها بالنسبة لأوربة نفسها، سواء أتعلقت هذه التهديدات بخطر تفاقم تيارات الهجرة البشرية، أو بتعميق أزمة الأنظمة السياسية وازدياد اندفاعها نحو الولايات المتحدة لضمان أمنها واستقرارها·

 

ومن الممكن تلخيص مباديء الاستراتيجية الأوربية تجاه العالم العربي بثلاثة رئيسية :

1-3 الاحتواء الأمني، ويعني العمل على منع نشوء قوة عربية، سواء أكان ذلك عن طريق منع أي تكتل عربي ما لم يكن تحت إشراف وبضمانة أوربية، أو إجهاض التقدم التقني والعلمي الذي يمكن أن يحصل ويهدد بالانتشار نحو ميادين حساسة عسكرية، أو، أخيرا، عن طريق تبني سياسة السعي إلى منع انتشار الأسلحة الاستراتيجية ونزع ما وجد منها في أيدي بعض البلدان العربية·

2-3 التلويح بالدعم الاقتصادي،

إلى جانب سياسة هز العصا الذي يمثلها الاحتواء الأمني، اعتمدت أوربة ولا تزال تعتمد، لابقاء السيطرة النسبية على العالم العربي على استخدام سياسة موازية هي سياسة التلويح بالجزرة، أي بالدعم الاقتصادي· وليست الشراكة المتوسطية والتعاون الاقتصادي في إطار مؤتمر برشلونة إلا هذه الجزرة التي تستخدمها أوربا لإسالة لعاب العرب وتدريبهم على الصبر والاستمرار في إظهار الود لأوربة والقبول بالتعاون معها لتحقيق أهدافها الرئيسية، وبشكل خاص، محاربة القوى المعادية لها في البلاد العربية·

3-3  سياسة الإغراق والاختراق:أما المبدأ الثالث للاستراتيجية الدفاعية الأوربية في المنطقة العربية فيتمثل في تطوير سياسة الاغراق والاختراق التي تمارسها إزاء النخب الوطنية أو المحلية·  وهي تقوم على السعي إلى شراء النخب المحلية السياسية والثقافية في سبيل توجيهها من الداخل والتحكم بسلوكها ومواقفها بما يخدم الأهداف الأوربية·

 

والواقع أن السبب الرئيسي لإفلاس الاستراتيجية الأوربية تجاه العالم العربي، ومن وراء ذلك خسارتها معركة النفوذ فيه تجاه أمريكا، هو تناقض استراتيجياتها ذاتها· فهي تريد عالما عربيا قويا نسبيا، وقادرا على أن لا يركع تحت أقدام القوة الأمريكية العظمى، وهذا ما يمكن أن يضمن لأوربة الحفاظ على الموقع الذي تستحقه في منطقة قريبة جدا منها، لكنها تفعل في الوقت نفسه المستحيل حتى لا ينمو داخل هذا العالم العربي تيار اندماجي ليس هناك بديل له لتدعيم استقلال العالم العربي النسبي وتصليب مواقفه وتنمية ثقتها بنفسه تجاه الدول الكبرى· وهي تريد عالما عربيا مستقرا وبعيدا عن القلاقل والاضطرابات الاجتماعية والتقلبات السياسية، لكنها لا تكف عن التدخل في شؤونه والتلاعب بنخبه وإلحاق قواه السياسية المختلفة بها، ومعارضة أي قوة معارضة ديمقراطية ووطنية·

ولهذا لم يبق لأوربة، بعد أن أدركت خسارتها معركة تقاسم النفوذ في العالم العربي، إلا أن تختار التحالف مع أمريكا والعمل في إطار استراتيجيتها وحسب جدول أعمالها· إن الذيلية الأوربية تجاه واشنطن تظهر في كل ملفات الشرق الأوسط: السلام العربي الاسرائيلي، تحرير التجارة والتخصيص وتطبيق السياسات الليبرالية، دعم الأنظمة اللاشعبية وتجاهل المعارضات الديمقراطية·  أما الشراكة الأوروبية المتوسطية وما ارتبط بها من مؤتمرات تعاون اقتصادية منذ برشلونة فلا تخرج عن هذه القاعدة· إنها تعبر عن الحجم الضيئل للاهتمام الذي توليه أوربة للعالم العربي في خططها الاقتصادية الكبرى، كما تعكس إدراجها لهذا الاهتمام الضيئل نفسه في إطار استراتيجية الولايات المتحدة الأساسية لدفع المنطقة نحو تحقيق التفاهم مع اسرائيل ودمجها في المحيط العربي·

 

4 ) لماذا أخفق العرب في بناء استراتيجية عربية تحاه أوربة ما بعد الاستعمارية،

لا شك أن جمود الاستراتيجيات الأوربية وعدم قدرتها على فهم الحاجات الجديدة للعالم العربي قد منعتها من استغلال الفرص الكبيرة التي كانت أمامها لتحويل جنوب المتوسط إلى منطقة أمن وتعاون إقتصادي تستفيد منه في وجه القوة الأمريكية والأسيوية الصاعدة، وتفيده أيضا بإخراجه من هوة التأخر والاحباط والهامشية· وبهذا المعنى فأوربة هي المسؤولة الأولي عن تضييع فرص التعاون الاقليمي المثمر لصالح الطرفين· وربما كان أكبر واخر مثال على تهاون أوربة في تعاملها مع الفرص المتاحة لها في العالم العربي هو مشاركتها في الحرب الأمريكية أساسا على العراق، والتي لا تزال مستمرة بالرغم من نهاية معركة تحرير الكويت، وبعيدا عنها· بيد أن ذلك لايعفي العرب أيضا من جزء كبير من المسؤولية في تدهور نوعية العلاقات العربية الأوربية وغياب أي شكل من أشكال التعاون والتفاهم والتضامن بما تتضمنه هذه الكلمات من معنى فعلا· ومسؤولية العرب أساسية في إعادة إنتاج علاقات الخضوع والتبعية بسبب ما سيطر على مواقفهم تجاه أوربة والغرب عموما من نزعات سلبية أساءت في النهاية لمصالحهم الحيوية أكثر مما أساءت للمصالح الأوربية·

وهذه النزعات السلبية التي حكمت علاقات العرب مع أوربة في العقود القليلة الماضية كانت سببا رئيسيا كذلك في منع التفكير ببلورة أي سياسة عربية أوربية متسقة وناجعة· ومن هذه النزعات :

 

1-  تغليب منطق الوفاء للماضي على منطق العمل على بناء المستقبل

ليس هناك أدنى شك أن ما يسيطر على الذهن العربي عند تناول موضوع العلاقات الاستراتيجية مع أوربة هو معطيات التجربة التاريخية الماضية، التي تظهر من جميع النواحي سلبية، تمثل فيها أوربة دور القوة القاهرة والتدميرية· ولا يزال هذا المحتوى السلبي للتجربة التاريخية يمنع، كما هو الحال في العديد من البلاد التي استعمرت سابقا، من بناء علاقة ايجابية وفتح الطريق نحو تجربة جديدة من التعاون الدولي· وهكذا لا يزال التركيز يشدد في موضوع هذه العلاقات على العداء والصراع وعلى حتمية الخلافات الثقافية والتاريخية وعلى الطابع الامبريالي والاستعماري للسياسات الأوربية، بصرف النظر عن اختلاف مذاهب المنددين في تأويل أصل الاستعمار والتحقق مما إذا كان ثمرة لتوسع الرأسمالية أو تجسيدا لإرادة القوة والهيمنة المترسخة في الثقافة الغربية·

ولا يكمن الخطأ في الكشف عن الطابع الاستعماري أو شبه الاستعماري للسياسة الأوربية في المنطقة العربية، فهذه هي الحقيقة حتى الآن، ولكنه يكمن في عدم إدراك الطابع التاريخي لهذه السياسة، وتصورها كما لو كانت تعبيرا عن ماهية أوربية تتضمن بالطبيعة وحتما العدوانية·  ولا شك أن هذا الموقف هو الذي حرم العرب من التفكير في إمكانية تغيير السياسة الأوربية وفرض عليهم أن يستمروا أسرى ما يمكن تسميته العقدة الاستعمارية·

فما دامت أوربة كتلة عدوانية، ولا يمكن أن تكون غير ذلك، سواء بسبب صليبيتها أو تمثيلها للقوى الرأسمالية الاستغلالية، سيصبح من المستحيل التفكير بما يتجاوز خطاب المقاومة التاريخية والتأكيد اللامتناهي على الكرامة الوطنية والاستعداد للرد على الاعتداءات المنتظرة وفضح المؤامرات الحتمية·

لكن نزعة العداء للغرب التي ارتبطت بهذه التجربة الاستعمارية التي زعزعت ثقة الشعوب المستعمرة بنفسها، وقبل ذلك بأوربة، لم تمنع العرب من زيادة التعامل والتبادل مع المجموعة الأوربية> فقد نمت المبادلات بقوة وسرعة كبيرتين في العقود الماضية· لكن هذا الموقف  عمل ويعمل على إبقاء  المبادلات العربية الأوربية قائمة على مبدأ النفعية المباشرة والاستفادة الوقتية، وحد من إمكانية تطوير رؤية تاريخية واستراتيجية لبناء علاقات ندية تستفيد منها جميع الأطراف·

 

2- تغليب منطق الموضوع على منطق الذات ومنطق الأمر الواقع على حساب إرادة التغيير الذاتية

أما النزعة الثانية فهي تنبع من التسليم للقوة والنظر إلى التاريخ نظرة جبرية والتسليم بأن الأوضاع القائمة أوضاع قاهرة لا تستطيع أي إرادة أن تفعل شيئا إزاءها· وينجم عن ذلك الاستقالة التاريخية والمراهنة على الأزمات والكوارث الطبيعية أو الماحقات الدينية في تغيير الأوضاع القهرية السائدة·

  • ومن يقرأ بعض الكتابات التي تستلهم النظرة الدينية أو القومية الحضارية، يكتشف إلي أي حد يحتل موضوع اقتراب أوربة من مصيرها الحتمي موقعا رئيسيا في تغذية التفاؤل والأمل بالمستقبل، وإلى أي حد أيضا أصبح هذا الايمان القوى بالانحلال الحتمي لأوربة وانحطاطها وسقوطها حائلا دون التفكير العقلاني والعملي بوسائل العمل لإعادة بناء العلاقات العربية الأوروبية على أسس مثمرة ومجدية للطرفين، وبشكل أساسي للطرف العربي· ويعبر كل ذلك عن نظرة جامدة للعلاقات الدولية ذاتها وعن استلاب عميق تجاه علاقات السيطرة الدولية يجعل من الصعب الاعتقاد بأن لهذه العلاقات طابع تاريخي، وأنها متبدلة، ومن الممكن تبديلها بفعل الارادة الذاتية والجمعية المنظمة·

 

3 - تغليب منطق الضحية على منطق الحرية واللجوء في تبرير العجز عن بناء علاقات ايجابية إلى خطاب الإدانة والاتهام بديلا لتحمل المسؤولية·

وبالمثل، يسود الخطاب العربي حول أوروبة طابع الشكوى والاتهام في كل ظرف ولحظة تظهر فيها المشاكل أو تتفجر فيها الأزمات· ويبدو العرب في هذا الخطاب كما لو كانوا لا يزالون مستعمرين لا يملكون أمرهم ولا يسيطرون على مصيرهم ولكنهم يخضعون لقوى تتجاوز طاقاتهم، ويسقطون ضحية تلاعب خصومهم· فهم الطريدة والذبيحة والضحية· والكل يتآمر عليهم وهم أبرياء ومضطهدين ومساكين متخلفين ومغلوبين على أمرهم وليس لهم معين· ومن المؤكد أن مثل هذا النزوع لتأثيم الآخر وتبرئة الذات يدفع العرب إلى الاعتماد في تغيير الأوضاع على اتهام الدول الكبرى أو استدرار عطفها أو دعوتها لعدم ممارسة المعايير المزدوجة، ويحرمهم من فرصة التفكير في الاعتماد على أنفسهم وقواهم الذاتية· أنهم يسعون إلى تأكيد حقوقهم والاعترف بها أكثر مما يعمولون في سبيل تحقيها بوسائل عملية· ومن الطبيعي أن يحرمهم هذا الموقف من فرصة أن تتكون فيهم إرادة حقيقية وحس فعلي بالاستقلالية ورغبة بأخذ مصيرهم بأيديهم والاعتماد على أنفسهم· كما يحرمهم من أي أمل في تطوير فضولهم العلمي وتوسيع دائرة التعلم والبحث والاستقصاء الموضوعي بما يمكنهم من التعامل مع المعطيات الواقعية الدولية· فهم يتعاملون مع أنفسهم كما لو كانوا لا يزالون قصرا، لم يبلغوا سن البلوغ السياسي بعد وينتظرون دائما القوة الصديقة العالمية، روسيا أو الصين أو فرنسا الديغولية كي تحميهم من بطش الدول الكبرى العدوة وتأخذ بيدهم في غابة العلاقات الدولية المتوحشة وتشجعهم وتدلهم على الطريق·

يخفي هذا الموقف في الواقع الشعور بالنقص والقصور وعدم الأهلية،  ويدفع إلى البحث الدائم عن حماة خارجيين كما يعمل على التغطية على القصور في الرد على العدوان بتنمية هاجس المؤامرة التاريخية· فمفهوم المؤامرة لا يخفي الرغبة في رفض التفكير من منطلقات وبمعايير الاستراتيجية وصراع القوى الدولية وحسب ولكنه يعفي العرب من تعريض استراتيجياتهم في مواجهة السياسات الأوربية ومؤامراتها المستمرة للنقد والمحاسبة العقلية· إن الايمان بأن ما نعيشه هو ثمرة لمؤامرة شيطانية أو لإرادة مبطنة لا تاريخية تجعل من أوربة دائما عدوة للعرب ومن الاسلام مناوئا أبديا لأوربة لا يمكن إلا أن يسد الطريق على أي أمل في التغيير ويلغي افاق المستقبل· فالمؤامرة تستدعي الإدانة وتقف عندها، أما الاستراتيجية فتستدعي استراتيجية مضادة تتفوق عليها· والاعتقاد بأن التاريخ هو ثمرة صراع الاستراتيجيات المتنازعة يفرض على العرب أن تكون لهم استراتيجيتهم الدولية، وتدفعهم لا محالة إلى التفكير بأن حالة التدهور التي يعيشونها في العالم ليست إلا ثمرة غياب هذه الاستراتيجية لا نتيجة حتمية وطبيعية لسيادة عقلية المؤامرة الأجنبية·

 

5 ) نحو إعادة نظر جذرية في أسلوب تعامل العرب مع أوربة والعالم

يستدعي العمل على بلورة استراتيجية عربية لإعادة بناء العلاقات العربية الأوربية، ومن ورائها العربية العالمية، التخلص من ثلاث عقد رئيسية· الأولى عقدة الاستعمار، والثانية عقدة التسليم بالعجز والتأخر، والثالثة عقدة الضحية وانعدام الاختيار الذاتي·

 فبالرغم من طابعها شبه الاستعماري المستمر في العالم العربي وأفريقيا، لم تعد السياسة الدولية الأوربية سياسة هجومية، كما كان عليه الحال حتى مطلع القرن الماضي وإنما تحولت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى استراتيجية دفاعية تهدف إلى الحفاظ على المواقع الأوربية في مواجهة التكتلات والدول الكبرى المنافسة، أكثر مما تنزع إلى توسيع دائرة نفوذها وتحقيق حلم السيطرة العالمية· وهذا هو الذي يفسر بعض الاتجاهات المعتدلة تجاه العالم الثالث، بل أحيانا المؤيدة لبعض قضاياه التي تظهر في أوربة بالمقارنة مع موقف أمريكي مغلق كليا أمام هذه القضايا وفي وجه المطالب المرتبطة بها·

واستمرار العداء الأوربي النابع من المخاوف والتفسيرات الخاطئة والإرث الماضي  للعرب لا ينبغي أن يمنع العرب من الاستفادة من الفرص التي تقدمها أوربة ككتلة قريبة ومفعمة بالموارد المادية والمعنوية لتحسين شروط الحياة في الأرض العربية· فلم تمنع المذابح اللاسامية التي تعرض لها اليهود اسرائيل من الاعتماد على أوربة في بناء ترسانتها العسكرية التي حققت بها النصر على العرب، متجاوزة كل الحساسيات والعداوات العميقة الكامنة· بل بالعكس تماما، لقد استخدمت اسرائيل تاريخ العداء الأوربي لليهود من أجل انتزاع مساعدات وأنماط تعاون أكبر وأوسع استفادت منها في التحول إلى دولة صناعية وتقانية·

لا يعني هذا بالتأكيد تجاهل النزعات الاميريالية الأوربية، ولا سياسات التسلط التي تجعل إمكانات التقدم والنمو صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة في البلاد الصغيرة والفقيرة· ولا ينبغي لنقد الموقف السلبي والتسليمي للدول العربية والنامية تجاه السياسة الدولية وفي ساحتها أن يظهر كبديل عن نقد السياسات والمواقف الأوربية وفضح كذبها وخداعها حتى عندما تبدو مغايرة شكليا للسياسة الأمبريالية التقليدية· وليس القصد الدعوة إلى وضع الثقة بأوربة أو بأي قوة دولية· إن أوربة ليست صديقة بالضرورة أو لن تكون صديقة إلا بقدر ما ينجح العرب في فرض صداقتهم عليها، وإلا فستظل تعاملهم كما يعاملون أنفسهم، أي شعوبا قاصرة يمكن بسهولة السيطرة على مواردها واختراق سيادتها· إن القصد هو أن لا يكون التركيز على كشف مسؤوليات أوربة والدول الصناعية الكبرى ولا الاشارة إلى عدوانيتها أو أمبرياليتها وسيلة للتغطية على مسؤولياتنا الذاتية· فمسؤوليات أوربة أساسية في فهم الشروط والمعطيات الموضوعية للممارسة التاريخية الراهنة· وكون جميع البلاد أو معظم بلاد العالم غير الصناعية تجد صعوبة في الاقلاع الاقتصادي تؤكد هذه الحقيقة بما لا يدع مجالا للشك· لكن الحديث عن المسؤوليات الأوربية يدخل في باب تقرير ما هو واقع وشروط إعادة إنتاج السيطرة العالمية الموضوعية، أما الحديث عن مسؤولية المجتمعات الضعيفة، مهما كانت فقيرة ومحدودة الموارد، في أخذ مصيرها بيدها وتحمل مسؤولياتها بنفسها فهو يدخل في باب شروط التغيير وما يفترضه من إعمال الإرادة والتدخل الواعي في التاريخ· إنه يتعلق بمستوى الذكاء الاجتماعي والنمو الثقافي· فهو الذي يسمح للبلاد الفقيرة بأن تدرك أسباب فقرها ودور الأمبريالية والتسلط العالمي في ما تعيشه من أوضاع، ويقدم لها عناصر بناء استراتيجية بديلة للتغلب على السيطرة والأمبريالية، بل لاختراقها والعمل على تهديمها· وهو الذي يشجع هذه البلدان ويبين لها ضرورة التكتل وتجاوز الحدود والحساسيات والانغلاقات القومية الضيقة، ويمكنها من العمل لاقامة تكتلات وتجمعات قادرة على خلق شروط أفضل لمواجهة القوى الكبرى·

ومن جهة ثانية، لا ينبغي فقدان الأمل والخوف من الاختلال الكبير في موازين القوة وبالتالي التسليم للسيطرة الدولية القائمة واعتبارها واقعة حتمية نهائية· فالسيطرة، أي سيطرة، لا يمكن أن تكون وهي ليست مطلقة ولا ثابتة· فالدول الكبرى التي تملك الموارد الرئيسية على وجه الأرض، أعني المال والاقتصاد والتقنية والعلم والخبرة والسلاح، تعاني من نقاط ضعف كبيرة في جميع الميادين التي تشمل هذه الموارد· فكثيرا من دورات المال تهرب من سيطرتها واقتصادها يعاني من ارتفاع كلفة اليد العاملة وتقنيتها عالية الثمن ومعقدة أكثر فأكثر وعلمها يمكن بسهولة اقتناصه إذا و جدت الارادة، وخبرتها ليست محتكرة لأحد، وسلاحها يظهر أكثر فأكثر خيبته في ميادين القتال الجديدة، أعني التنافس الاقتصادي والثقافي الشامل الذي تواجهه البشرية منذ الآن·

فليس هناك وضع عالمي ميؤس منه· إن هناك بالعكس نخبا يائسة ونخبا ميؤس منها بالفعل، لأنها غير قادرة على تصور أي مخرج لمجتمعاتها سوى التسول على بلاطات الحكومات الصناعية· وهو ثمرة طبيعية  للافتقار للكرامة والسيادة والحرية· وعلى هذه النخب الحاكمة والقوى السياسية العربية لا على الأوربيين ينبغي أن نرمي المسؤولية في استمرار السيطرة علينا واستمرار علاقات التبعية والاستتباع إذا أردنا بالفعل أن ننظر إلى أنفسنا كشعب راشد ومالك لعقله ومصيره· فمستقبل العلاقات العربية الأوربية لا يتوقف ولا ينبغي أن يتوقف على سلوك الاوروبيين واختياراتهم السياسية، ولكن على قدرتنا على صوغ استراتيجيات تفرض على الأوربيين التعامل معنا على أسس أقرب إلى الاحترام والندية· ولا شك أن الوقت قد حان حتى نتعامل مع أنفسنا على أننا طرف واع، مدرك لما يفعل وقادر على التفكير بأهدافه الخاصة والدفاع عنها والعمل بإرادة وتصميم على تحقيها، وبالتالي طرف مسؤول أيضا عما يطرأ له وعن النتائج التي يصل إليها·  فهو صاحب رؤية وإرادة مثله مثل غيره·

وليس لبناء علاقة مستقلة وشخصية حرة وذاتية حية علاقة بميزان القوى ولا بحجم الامكانات أبدا· فالثعلب لا يملك قدرات السبع والفأرة ليست بقوة الذئب، لكن ليس من المؤكد أبدا أن السبع يستطيع أن يمحو الثعلب من الوجود أو يلغي شخصيته، بل أن يغلبه· ذلك أن استراتيجية الثعلب الطبيعية هي أن لا يواجه السبع وجها لوجه ولا يعترض طريقه، وأن يبحث مع ذلك عن طريدته حسب استراتيجيته الخاصة الموافقة لقدراته وخصاصه الطبيعية· وكذلك لا يستطيع الذئب أن يقضي على الفأر ولا أن يقطع عنه غذاءه· لكن  ما يميز الثعلب والفأر معا هو أن لهما هويتهما الخاصة، ويتصرفان في عالم الغابة حسب استراتيجية نابعة من شروط وجودهما المميزة لهما· وبالتأكيد لن يكون مصيرهما مختلفا عن مصير العرب لو قررا الاعتماد في تأمين شروط حياتهما على الاستراتيجية والتكتيكات ذاتها التي يطبقها كل من الأسد والذئب في تأمين بقائهما في الغابة الوحشية· إن الحياة الدولية لا تختلف كثيرا عن ذلك بعد بالرغم من الحديث عن القوانين الدولية، فهي مفتوحة على جميع الاستراتيجيات الممكنة، وهي في الوقت نفسه خاضعة لسيطرة القوى الأكثر مقدرة ووزنا· لكن كما أن الأسد لا يمنع بقية حيوانات الغابة من الحياة وتأمين مواردهم الخاصة الضرورية لأنه أقوى منها، كذلك فإن الدول الكبرى لا تسد كل باب الأمل على المجتمعات الصغيرة أو الفقيرة لأنها أضعف بكثير منها وأقل موارد وطاقات مادية وبشرية· إن انقطاع الموارد عن هذه المجتمعات ناجم عن طبيعة السياسات والاستراتيجيات التي تتبعها، ونسخها الاستراتيجيات ذاتها التي تتبعها الدول الكبرى والتعلق بنماذج الاستهلاك والانتاج ذاتها كذلك، أي انعدام روح المبادرة الذاتية والابداع والابتكار والتجديد والأصلاح لديها·

 

إن نوعية العلاقات القائمة بين العرب وأوربة ناجمة عن النظر إلى هذه العلاقات على أنها أولا نتيجة موازين قوى غير متكافئة تماما ولا يمكن في المدى المنظور تغييرها، وثمرة الايمان الخاطيء بأن الصراع والتنافس التاريخي الحضاري والثقافي بين العرب والاسلام من جهة وأوربة العلمانية أو/والمسيحية من جهة أخرى صراع لا مخرج منه ولا يمكن تجاوزه بأي شكل، كما هو نتيجة غياب أي جهد منظم لإخراج العلاقات العربية الأوربية من الوضع الذي تركتا عليه الحدث الاستعماري، ووضع أسس تعاون يقرب بين الطرفين وينزع نحو توازن أفضل للمصالح والمسؤوليات معا·

إن الصراع الراهن بين العرب والأوربيين ليس بالضرورة نتيجة حتمية وطبيعية للصراعات التاريخية التقليدية أو الاختلافات الثقافية والدينية والعقائدية·  إن أسبابه كامنة في التنازع على مصالح حاضرة· فلا بد من فهم موضوعات هذا الصراع القائم اليوم، والايمان بأن من الممكن التوصل إلى تفاهم حول المصالح، وبالتالي بأن المستقبل ليس تكرارا للماضي ولا ثمرة تفاعل عوامل موضوعية وقوD مادية لا حول لنا ولا قوة إزاءها، ولكن بالعكس ثمرة الجهود الانسانية والجماعية الواعية والتدخلات التاريخية لقوى حية وهادفة· مما يعني أن من الممكن باستمرار تغيير الأوضاع المادية وتبديل نمط العلاقات التاريخية، وفتح آفاق تعاون جديدة بين بلدان ودول لم يكن فيما بينها علاقات تعاون وتفاهم سابقة·

إن مقاربة العرب للعلاقات العربية الأوربية تظهر أنهم لم يتحولوا هم أنفسهم إلى >أوربيين< أو أنداد الأوربيين، أي إلى فاعلين مستقلين قادرين على صوغ جدول أعمالهم بانفسهم، والتخطيط لمستقبلهم بصرف النظر عن إرادة أوروبة أو الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي السابق أو الصين، وتبين أنهم لم ينجحوا بعد في وضع أوربة، كغيرها من الكتل الكبرى، في دائرة حساباتهم الاستراتيجية، بحسب ما تمثله من قوة وما يمكن أن تفرزه من وزن· والنظر إليها لا كقوة حماية أو كصديقة أو كأداة لمواجهة القوى الكبرى الأخرى ولكن كمصدر من مصادر تنمية الذات مع الكتل الأخرى وبموازاتها لا ضدها بالضرورة ولا بديلا عنها· إن الحلم بعودة نظام الحرب الباردة واستغلال دولة نقيضة للولايات المتحدة لمواجهة نفوذ هذه الأخيرة، هو مجرد وهم ينبغي معالجته بسرعة والخروج منه· فنحن نسير نحو عالم متعدد الأقطاب، تسيطر على قمته دولة أعظم· لكنها لا تمنع الأقطاب الآخرين من أن يمارسوا بالتعاون معها أحيانا سيادتهم ويتقاسموا معها مصالحهم

إن موقف الانتقاص من الذات الذي لا يزال متبعا منذ أكثر من قرن تجاه الدول الكبرى يعكس في الواقع قبول العرب بالتحول إلى موضوع، تحدد قيمته هذه القوى الدولية· ولا يحتج العرب على هذا الوضع عندما يتبرمون بالسيطرة الأوربية والغربية، من منطلق رفض وضعية القاصر، ولكن في معظم الأحيان من منطق رفض ازدواجية المعايير الأوربية المطبقة على قاصرين عديدين أو الاحتجاج على  ضآلة الثمن الذي تدفعه أوربة لقاء الخدمات العربية، أي من منطق القبول بموقع الجارية·

وهذا يدل على أن العرب لا يزالون في مرحلة رد الفعل والاعتراض على السياسات الدولية بدل المشاركة في صنعها· ذلك أن المشاركة في صنع السياسات الدولية تستدعي ذاتا تشعر باستقلالها ومكانتها وإمكانياتها وقدراتها وتؤمن بأن لديها ما تقدمه للعالم، غير الشكوى ومناشدة الدعم والمعونة الرسمية وغير الرسمية، ولديها جدول أعمالها الخاص وأولوياتها التي تريد لها أن تؤخذ بالاعتبار من قبل الدول الأخرى أو الفاعلين الدوليين الآخرين·

ولن يتحول العرب إلى لاعب دولي في حلبة السياسة العالمية إلا بقدر ما يبدأوا بالنظر إلى أنفسهم كفاعل دولي كامل الصفات وصاحب أهلية، وقادر على تأمين وسائل عمله وممارسته السياسية والاستراتيجية، يعرف أوربا، أو من المفروض أنه يعرفها، ويتعامل معها حسب القوانين والقواعد والثوابت التي تطبع حقل العلاقات الدولية·

إن فشلنا في بناء علاقات تعاون بناء مع أوربة لا ينبع من انعدام فرص التعاون التاريخية ولا من الطبيعة الرأسمالية الاستغلالية والامبريالية لنظم أوربة الاقتصادية التي تحكم العلاقات الدولية· فهذه الخصائص لم تمنع دولا عديدة نامية وأقل نموا من بناء تعاون أكثر نجاعة وانتاجا· إنه نتيجة غياب استراتيجية عربية ايجابية لخلق شروط التعاون المثمر وتحسيس أوربة بفائدة الانخراط في مشروع تعاون كهذا، سواء بسبب ما يمثله الاقتصاد العربي من إغراءات أو ما يثيره تطوره الاقتصادي والاستراتيجي من ارتفاع في مستوى التقدير والاحترام الخارجيين·

 

6 ) نحو استراتيجية عربية لتجديد أسس العلاقات العربية الأوربية

تستدعي بلورة استراتيجية عربية ناجعة لتجديد العلاقات العربية الأوربية استعادة الثقة بالنفس، وإعادة تركيب التكتل العربي بما يسمح بالحد من الخلل الاستراتيجي، والايمان بفائدة التعاون الدولي كوسيلة لتحسين فرص التنمية البشرية، والسعي نحو حوار تاريخي يبدأ من تحديد مصالح حيوية وواقعية عربية واضحة والتفاوض مع أوربة حول جميع المسائل التي تحول دون بناء تعاون بناء ودائم عربي أوربي·

وأعتقد أن محور الجهد في تطوير أسس العلاقات العربية الأوربية لصالح الطرفين هو

الانتقال بالعلاقات العربية الأوربية من الفوضى التي تعرفها الآن، والتي تجعلها تستند في النهاية على ميزان القوة الاستراتيجية المحضة، إلى التنظيم القانوني والسياسي الواعي والواضح معا، وهذا يعني  دفع أوربة إلى التزام أكبر بمصير المنطقة الشرق أوسطية وإقناعها بضرورة تغيير قاعدة التعامل بما يسمح بتوازن أفضل للمصالح وإعمال مبدأ الندية·

ولا شك أن التوصل إلى اتفاقية شاملة للتعاون والتنمية والأمن عربية أوربية· يمثل الفرصة الوحيدة لانتزاع  العلاقات العربية الأوربية من حقل علاقة القوة والسيطرة والتبعية وإعادة بنائها على قاعدة الحوار والتفاوض وتبادل المصالح· وإن تحقيق مثل هذا الهدف يفتح الطريق واسعا أيضا لتغيير علاقات العرب بالولايات المتحدة الأمريكية والتكتلات الدولية الأخرى·

لكن ليس من الممكن فرض المقاوضات الجمعية والمتوازنة نسبيا على أوربة ما لم ينجح العرب في تحقيق تحولات نوعية على إطار العلاقات العربية العربية· والحال أن معظم الدول العربية ترى اليوم في التعاون مع أوربة على انفراد بديلا للتعاون العربي، مما يحرمها من أي أمل في إعادة بناء علاقات تتسم بالحد الأدنى من التكافؤ· ومن الطبيعي أن لا تجد أوربة في هذه الحالة ما يحثها على القبول بفتح مفاوضات تاريخية تتضمن تغيير طبيعة العلاقات في المنطقة المتوسطية مع بلدان ضعيفة وصغيرة ليس لديها ما تفاوض عليه، ولا تريد إلا أن تحصل على مساعدات ومعونات مجانية· إن المفاضات الشاملة والتاريخية تحتاج محاورا لديه الحد الأدنى من الصدقية الاستراتيجية والتاريخية، أي البعيدة المدى· ولا يتوفر هذا إلا مع كتل كبرى، تختزن امكانيات كبيرة للتطور والنمو، وبالتالي ينطوي التعامل معها على مصالح استراتيجية·

باختصار، ليس من الممكن تحقيق أي أمل بتحويل نمط العلاقات العربية الأوربية وجعلها علاقات ندية تفيد العرب فعلا وتخرجهم من إطار علاقات السيطرة والتبعية، إلا إذا نجحت المجموعة العربية في التكون كمجموعة أو ككتلة فعلية ودخلت في مفاوضات جماعية· وهذا يتطلب التغلب على النزاعات والحساسيات والمنافسات العربية العربية وبلورة رؤية مشتركة لمصالح العرب الجمعية ومن وراء ذلك تكوين إرادة جيوسياسية عربية تستطيع أن تجسد إرادة العرب جميعا في دخول مسرح السياسة الدولية العولمية على قدم المساواة مع التكتلات الدولية، وتشارك معها بروح التعاون والمسؤولية في بناء المستقبل العالمي على أساس تأكيد مبدأ المفاوضات الجماعية· وفي اعتقادي إن الوقت قد حان كي يبدأ العرب في التفكير بالاعداد لقمة عربية أوربية تزيل حساسيات الماضي وتفتح الطريق نحو نوع جديد من العلاقات الاقليمية القائمة على قيم ومصالح وأهداف مشتركة وإنسانية·

ولا ينبغي أن تنتظر الدول العربية، كما كانت توحي بذلك الفلسفة القومية، الاجماع العربي الكامل على مثل هذه السياسة· فمن الممكن البدء بتكوين كتلة عربية، تشمل عددا محدودا من الدول العربية مؤقتا بانتظار أن تدفع ديناميكية التنمية والحضور العالمي لهذه الكتلة إلي جذب بقية الدول العربية·  وأعتقد أنه بالرغم من الحساسيات التي لا تزال قائمة بين الدول العربية، هناك إدراك متزايد عند العديد من قياداة هذه الدول وقواها السياسية بأن ايجاد حلول جدية وناجعة للمشاكل العربية الرئيسية تتجاوز طاقات كل دولة على حدة، بل ربما تتجاوز طاقات الدول العربية منفردة ومجتمعة معا· ومن هذه المشاكل وأخطرها مشاكل التنمية والتهميش والتدهور في معايير الحياة المدنية والسياسية والاجتماعية معا، ومنها كذلك مشاكل الأمن الاقليمي الجماعي، خاصة في ظل نزوع الحلف الأطلسي لتوسيع دائرة نفوذه ونشاطه خارج أوربة، وتزايد التنسيق العسكري الأوربي ضد الضفة الجنوبية للمتوسط والتزام الأوربيين مع الولايات المتحدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في هذا الاقليم وفي الوقت نفسه تحريم أي عمل لضمان الأمن الجماعي لا تكون فيه اسرائيل طرفا رئيسيا، وبالتالي ضم اسرائيل المتزايد للتكتل الأوروبي·

ومنها كذلك مشاكل التحويل السياسي وخلق ظروف تساعد على تجاوز التدهور المتزايد في تقاليد ومؤسسات السلطة في البلاد العربية، وفسح المجال نحو تنمية القيم والتقاليد والمؤسسات الديمقراطية التي تعمق احساس المواطنين بالمسؤولية وتدفعهم إلى الانخراط في معركة التنمية ورفع مستوى الثقة وتطوير القيم الأخلاقية الانسانية في العلاقات الاجتماعية·  ولا يمكن للخطاب المعسول عن الديمقراطية وحقوق الانسان أن يغطي على مسؤولية أوربة الكبيرة في دعم النظم اللاوطنية واللاشعبية، وايصال البلاد العربية إلى الحالة السياسية التي تعرفها الآن من تدهور القيم الحضارية·

 

والنتيجة

إن الحديث عن مستقبل العلاقات العربية الأوربية لا يعني في الواقع شيئا آخر سوى التفكير في قدرة العرب على بناء علاقات ايجابية وبناءة مع أوربة تتجاوز عقد التسليم بالضعف والاستقالة الأدبية تحت غطاء العداء والعدوانية اللغظية والاستسلام الحقيقي لميزان القوة الأوربية· إن أوربة مثلها مثل الولايات المتحدة واليابان تتعامل مع القوى الموجودة· وبالتأكيد كانت معاملتها سوف تختلف مع العرب لو اختلفت هذه القوى· وكان من الممكن لها، بل كانت ستضطر إلى احترام المصالح العربية العامة بشكل أكبر لو وجدت أمامها نخبا عربية مهتمة هي ذاتها بهذه المصالح وحريصة على تنميتها· والحال أنها لا تجد أمامها في معظم الوقت إلا نخبا تجير مصالح الدولة لفائدتها الخاصة ومستعدة في كل وقت للمساومة على المصالح الوطنية لضمان مستقبلها ومستقبل الأسر المحدودة التي تنمي إليها·

إن المشكلة إذن، قبل أن تكون في أوربة، قائمة في العالم العربي نفسه· فهو لا يمكن في إطار الحسابات السياسية الدولية أن ينال، في شروط تمزقه القائم وممارسته المشتتة، وانطلاقا من الأساليب التي يتبعها، أكثر مما يناله اليوم· وتوقع أن يعامل بأفضل من ذلك هو من قبيل تمني إدخال مبدأ الصدقة والاحسان إلى ميدان العلاقات الدولية·

من هنا كان شرط تطوير العلاقات العربية الأوربية هو التحول من نقد السياسة الأوربية، وهي سياسة أمبريالية بالتأكيد، إلى نقد السياسة العربية تجاه أوربة وتبيان الأسباب التي منعتها من أن تكون منتجة، وحالت بين العرب وبناء علاقات ايجابية مع أكبر قوة قريبة إقليمية· وهذا النقد هو الذي يبين لنا لماذا لم ننجح في أن نتعامل مع اوروبة من مستوى اللاعب السياسي الدولي، ونفهم دوافعها ومحركاتها السياسية، ونجهد في ايجاد القواسم المشتركة التي تتيح لنا أن نستفيد منها أو نتقي شرها وأن نحيد النزوعات العدوانية الخطيرة المرتبطة بسياسة أي قوة كبرى دولية· فقدرتنا على مراجعة سياساتنا وسلوكنا ومناهج تعاملنا مع الأخرين، هو الذي يسمح لنا بالخروج من خطاب الضحية الذي يعكس استهتارنا بقدراتنا وهربنا من المسؤولية ويمكننا من التفكير في سياسة جديدة تستند على أسس عقلية وموضوعية·

كل هذا يفترض التخلي عن الخطاب السائد الذي يحول أوربة إلى فاعل كلي الحركة والقدرة والإرادة في الوقت نفسه الذي يخفض العرب إلى أرانب برية· فهذا الخطاب يعيد في الواقع، على مستوى الفكر والمخيال، إنتاج علاقة التبعية ذاتها التي ينتجها التفوق المادي والاستراتيجي الأوروبي في مستوى الممارسة العملية· وحتى عندما يبدو الخطاب خطاب عداء لاوروبة وتشويه لصورتها أو رفض لقيمها، فالنتيجة واحدة لأن أوربة  تظل في هذا الخطاب الغيمة التي تسد علينا الأفق، والمحور الذي ندور من حوله، والذي يمنعنا من أن نشكل محورا خاصا بنا، أي من أن نخلق مركز ثقلنا، ووتيرة حركتنا وديناميكية نمونا وجدول أولوياتنا التابع لنا والمرتبط بتحقيق مصالحنا· وهذا الأمر ليس من باب الأحاديت الانشائية ولكنه يتعلق بجوهر قيام أي فاعل تاريخي، أعني تكوين ذاتية مستقلة قادرة على العمل والفعل على الساحة الدولية حسب قواعد ومن منطلقات تعكس مصالحها ومنبثقة من شروط وجودها وبيئتها الخاصة· ومن هذه الناحية أنا من الذين يعتقدون أن ما يعلنه الخطاب العربي في عدائه للغرب وأوربة خاصة، أقل قيمة بكثير مما يخفيه، ويطمسه، وهو هذا الدوران المستمر في السراء والضراء حول أوربة وأفعالها كما لو كانت مسؤولة عنا، والذي يعني بكل بساطة إلغاء وجودنا المستقل ومسؤلياتنا في ما يطرأ لنا في الوقت نفسه·

إن تجاوز عقدة الاستعمار تجاه أوروبة هو شرط تجنب السقوط في شرك العداء الجامد لها، وأساس الاستقلال النفسي الحقيقي عنها، وهو ما يستدعي التحرر من خبرة الماضي السلبية التي تمنعنا من إدراك فرص التعامل المثمر مع العالم، ومن وراء ذلك من استعادة ايماننا بأنفسنا كطرف لديه القدرة على الفعل، وكراشد مسؤول عن تقرير مصيره بنفسه، وكعاقل قادر على حساب خطواته وتجنب العثرات والمؤامرات والأشراك التي يقيمها له العدو، وعلى بناء استراتيجيته الخاصة في مواجهة الكبار والصغار، وكحر لا يخشى من الفشل، ولا يسقط ضحية مشاعر الخيبة والضغينة والحقد وكره الذات· فإذا أردنا أن لا نعامل كما يعامل القاصرون لا بد أن نظهر أيضا قدرة حقيقية على التصرف كراشدين، قادرين على تحمل نتائج عملنا، وعلى التمييز بين ما هو ضار ونافع لنا، وأن لا نقبل برمي المسؤولية في أي شيء يصيبنا لا على القدر ولا على القوى المعادية لنا ولكن أن نفتش عن أسباب فشلنا في سلوكياتنا وسياساتنا الجمعية نفسها· إن رفض المجتمعات الحتمية التاريخية وايمانها بقدرتها الذاتية على التأثير في تاريخها والمشاركة في صنعه هما علامة أي تحول تاريخي حقيقي والشرطان الذين لا غنى عنهما للتغلب على مشاعر الخوف والقصور واللافاعلية التي خلفتها قرون طويلة من سحق الارادة وإغلاق الآفاق وانعدام الثقة بالذات الانسانية·