في سبيل تقييم موضوعي للانتفاضة وانجازات العمل الفلسطيني الوطني في المرحلة السابقة

2002-06-12:: الاتحاد الاماراتية

 

مع إعلان السلطة الوطنية الفلسطينية عن وقف العمليات الفدائية ودعوة فصائل المقاومة المختلفة الى الالتزام بها وسعي الأطراف الدولية المختلفة, كما تظهر ذلك تحركات الدبلوماسية الدولية الأمريكية والأوربية معا, الى التحضير للمؤتمر الدولي من أجل السلام في الشرق الأوسط يمكن القول ان جولة من جولات العمل الفلسطيني قد انتهت وبدات جولة جديدة سيكون طابعها العام بالرغم مما يمكن ان يشوبها من عمليات عسكرية من قبل الطرفين الصراع السياسي بالدرجة الأولى. ولا يمكن للفلسطينيين والعرب خوض هذه المعركة السياسية القادمة بنجاح ولا المشاركة في  تحديد جدول اعمالها او اولوياتها من دون تحليل ما جرى تحليلا دقيقا ومعرفة الحصيلة النهائية للمرحلة السابقة التي سيطر عليها طابع الصراع المسلح العنيف. وفي اطار هذا التحليل سوف يدخل لا محالة التفسير الخاص الذي سيقوم به كل طرف من وجهة نظر مصالحه ومن منظور تجيير نتائج الحرب لصالحه لما حدث. ولا شكل ان مسيرة المفاوضات السياسية سوف تتأثر كثيرا بالاسلوب الذي سيفسر فيه كل من الطرفين نتائج المعركة ومآلها. بل يمكن القول انه لا قيمة لهذه المفاوضات ولا مبرر لها بعد انهيار المفاوضات الطويلة الماضية الا لأنها تشكل تثميرا للمعارك السابقة أو بالاحرى محاولة لقطف ثمار هذه المعارك على مائدة المفاوضات. ومن هنا فإن صراع الطرفين على تفسير نتائج المواجهة السابقة سيكون له اهمية حاسمة في تحديد جدول اوليات كل طرف وجدول اعمال المباحثات السياسية ذاتها كما سيكون له تأثير مباشر ايضا على سير المفاوضات نفسها وعلى موقف الطرفين فيها. فالطرف المنتصر او الذي يعتبر نفسه وينجح في فرض تصوره كمنتصر في المواجهة العسكرية السابقة هو الذي سيستفيد من المفاوضات ويجيرها لحسابه من خلال تشديد موقفه ومطالبته الخصم بتقديم التنازلات التي كان يرفض ان يقدمها والتي انهارت بسببها المفاوضات السابقة.

ولا تهدف الحملة التي بدأها رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون ضد القيادة الفلسطينية وادعاؤه الحق في ان يفرض عليها برنامج الاصلاح بل ان يملي عليها بنود هذا الاصلاح وشروطه الى شييء آخر سوى الايحاء للفلسطينيين والعرب اولا انه هو المنتصر الذي يحق له فرض شروطه, وللاسرائيليين ثانيا بأن حملته العسكرية قد حققت نتائج مهمة في التحليل النهائي بالرغم من انها لم تمنع الفلسطينيين من تهديد الامن الاسرائيلي والقيام بعمليات فدائية في عمق الاراضي الاسرائيلية. ومن المفروض ان يساعد هذا الموقف اذا تفاعلت معه  بعض الاوساط الفلسطينية القصيرة النفس او التي لا تميل الى اعطاء ثقة كبيرة للقيادة الفلسطينية الراهنة على نقل المعركة الى داخل الصف الفلسطيني نفسه بين من يسعى الى التفطية على النقائص التي شابت المواجهة السابقة في الصف الفلسطيني ومن يريد ان يبرزها ليؤكد أسبقيته في تحديد استراتيجية المعركة القادمة. ولو حصل ذلك بالفعل وانفتح الصراع بين الاطراف الفلسطينية على تفييم نتائج المواجهة وتحديد المسؤوليات عنها فسيكون شارون قد اقترب من تحقيق الاهداف التي عجز عن تحقيقها بالوسائل العسكرية ومن خلال الحرب التي شنها على الشعب الفلسطيني بأكمله.

ومنذ الان بدأ قطاع من الرأي العام الاكثر عاطفية وحماسا في الشارع الفلسطيني والعربي في التشكيك في نتائج الانتفاضة ونشر رؤية سلبية تعتبر ان تجميد العمليات الفدائية يشكل هزيمة او نوعا من التسليم بالهزيمة الفلسطينية. كما أن هناك قطاعا آخر يمكن ان يعتبر  أن التورط في أعمال المقاومة كان اختيارا خاطئا وقد ادى الى اضعاف الموقف العربي والفلسطيني في مفاوضات السلام بالاضافة الى الدمار الذي جره على جزء كبير من المواطنين خاصة بعد ان اضطرت القيادة الفلسطينية لتجميد العمليات الفدائية من دون ان يقطف الفلسطينيون ثمرة فعلية للتضحيات التي بذلوها. وهذا هو في الواقع تفسير الاسرائليين ايضا الذين يريدون ان يوحوا للرأي العام بأن الفلسطينيين لم يحصدوا ولن يحصدوا شيئا من العنف وأن وضعهم قبل الانتفاضة كان افضل مما كان عليه قبلها. وبالمقابل هناك من سوف يسعى الى ان يضفي على ما حصل طابعا أكثر بهاءا . فيصور قبول الولايات المتحدة بعقد مفاوضات جديدة في اطار المؤتمر الدولي المزمع عقده والاتفاقيات التي وقعت مع اسرائيل بشأن الغاء الحصارات المتعددة والتقليل من العمليات العسكرية في القرى والمدن الفلسطينية على أنه  بداية تراجع الدولة الصهيونية وقبولها بتغيير موقفها تحت تأثير الضغوط الامريكية المتجددة.

وليس هناك وسيلة افضل لتجنب مثل هذه المطبات الخطيرة من تجاوز لغة العواطف ولو لفترة قصيرة في سبيل النظر بصورة موضوعية فعلا للأحداث واجراء تقييم عقلاني وبارد لنتائج المواجهة الفلسطيينية الاسرائيلية التي دارت في الاشهر القليلة الماضية.  فالتحليل الموضوعي المجرد عن الهوى هو الخطوة الضرورية التي نحتاج اليها لنتمكن من معرفة الحصيلة الحقيقية للمواجهة السابقة والمستمرة بوتيرة ضعيفة اليوم ومن وراء ذلك معرفة حقيقة موقفنا الاستراتيجي في المفاوضات القادمة التي ستبدأ في اطار المؤتمر الدولي المزمع عقده  وما نستطيع ان نتوقع منها او ما يحق لنا ان نتوقع منها حتى لا نعيش في الخيال من جهة او نفرط بتضحيات الشهداء من جهة ثانية. فعلى صحة تقديرنا لحصيلة عملنا الماضي يتوقف نجاحنا في تحيد جدول اعمالنا واهدافنا المرحلية المطلوب انجازها في المفاوضات القادمة كما يتوقف نجاحنا ايضا في بلورة تصور واقعي وعملي لأولوياتنا في المرحلة القادمة وكذلك معرفة فيما اذا كان يتوجب علينا اعداد العدة لجولة قادمة من المقاومة العنيفة تكون افضل اداءا واكثر نجاعة من تلك التي قمنا بها من قبل أم انه قد اصبح من الممكن انطلاقا من المنجزات الراهنة التوصل الى اهدافنا النهائية من خلال المقاومة السياسية السلمية.  وفي الحالة الاولى لا يكون وقف عمليات المقاومة الا هدنة اضطررنا اليها ونحن بحاجة اليها في الوقت نفسه لترميم صفوفنا واعادة بناء قوانا واستدراك اخطائنا. أما في الحالة الثانية فسيكون من حقنا, من دون ان ترفع من مستوى تطلعاتنا في المفاوضات القادمة أو ان نزيد من امالنا, بأن نخرج من المفاوضات بحلول ايجابية وحاسمة بالنسبة لتحديد مسيرة المستقبل حتى لو كانت نتائج الجولة الاولى من هذه المفاوضات جزئية لا تستجيب لكامل تطلعاتنا وهي طرد الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

فماذا كنا ننتظره من الانتفاضة عندما بدأناها وما هي النتائج التي حصدناها منها ومن الذي استفاد لتحسين موقفه التفاوضي بعدها: اسرائيل ام نحن, والى أي حد ساهمت هذه الانتفاضة في تعديل او تغيير ميزان القوى الاستراتيجي الذي كان سائدا قبلها, ومن يمتلك فرصا اكبر اليوم لاستغلالها, وكيف يمكننا أن نستغلها في المفاوضات القادمة ؟ هذه هي الاسئلة المطروحة اليوم علينا حتى نستطيع ان نستكمل مسيرتنا العسكرية وننجح في قصف الثمار السياسية لتضحياتنا.

وفيما يتعلق بالسؤال الاول هناك خلاف حول ما إذا كنا نحن الذين اتخذنا القرار بتفجير الانتفاضة اصلا ام ان هذا التفجير قد فرض علينا او كان نتيجة ردة فعل شعبية لم يكن من الممكن السبطرة عليها. فإذا كانت الانتفاضة الثانية ثمرة تخطيط واع ومعرفة بالاسباب وتحديد واضح للاهداف يصبح من المشروع ان نتساءل فيما اذا كان ما أنجزناه من خلالها يتوافق مع غايتنا من تفجيرها. وعلى هذا الاساس يمكن ان نقيس درجة النجاح والفشل فيها. وبالعكس اذا كانت الانتفاضة ثمرة موجة شعبية جرفت القيادة الفلسطينية معها واضطرتها الى الانخراط فيها بالرغم منها تحت ضغط الجمهور الملوع بالسياسات الاسرائيلية العدوانية واللانسانية. فالسؤال عندئذ هو فيما اذا كان من المناسب والصحيح ان نسير وراء الحركة الشعبية او ان نقبل بأن تجرنا اسرائيل بعملياتها الاستفزازية الى الانخراط في معارك ريما كان بإمكاننا تجنبها حرصا على حماية الحقوق الفلسطينية ولو كان ذلك لقاء تضحيات محدودة وجهد كبير لضبط النفس.

ومن الواضح في نظري لكل من يتابع الاحداث ان انتفاضة الاقصى لم تكن ثمرة قرار سياسي مسبق وإن كان تفجيرها لا ينفصل عن الاعداد المسبق لها. وقد درج المحللون على القول ان سبب تفجر هذه الانتفاضة هو الغضبة الشعبية التي اثارتها زيارة آرييل شارون الاستفزازية الى المسجد الاقصى بحراسة أعداد كبيرة من قوى الامن الاسرائيلة التي ما كان من الممكن توفيرها من دون موافقة رئيس الوزراء السابق ايهود باراك. لكن بالرغم مما اثارته هذه الزيارة من استياء فلسطيني وعربي عام إلا أنها لا تفسر وحدها اندلاع الانتفاضة او على الاقل الاستعداد الكبير الذي ظهر لدى الجمهور الفلسطيني للانخراط فيها وفي نشاطاتها المتعددة. ان اندلاع الانتفاضة الثانية التي ستتخذ اسم انتفاضة الاقصى لأنها أعقبت زيارة شارون المذكورة بعود الى عاملين متناقضين من حيث المظهر. العامل الأول هو تنامي الشعور العميق الذي حصل عند الشعب الفلسطيني بعقم مفاوضات السلام التي تدور منذ عقد من الزمن من دون ان تتقدم خطوة واحدة جديدة عما حصل بعد تطبيق اتفاقية الانسحاب من بعض المناطق الفلسطينية. فقد طفح الكيل عند القسم الأكبر من الشعب الفلسطني من انتظار ما سيأتي وتعمق الشكل بأن اسرائيل أو أي حكومة من حكوماتها مهما بدت مهتمة بعملية التسوية قادرة على أن تسير بالمسيرة الى نهايتها وتقنع شعبها بدفع الثمن الضروري للسلام. أما العامل الثاني فهو معاكس للعامل الأول تماما وهو يتعلق  بالأمل الكبير الذي أحدثته محادثات طابا الاخيرة نفسها عند الفلسطينيين من أن الهدف الذي ناضلوا من أجله خلال اكثر من نصف قرن قد اصبح في متناول اليد وأن النقاش لم يعد يمس مبدأ وجود الدولة ذاتها ولا حتى قيامها ولكن الثمن الذي يريد الاسرائيليون أن يدفعوه للفسطينيين لقاءها أو  التنازلات التي يطلبونها في سبيل الاعتراف بهذه الدولة ووالتي تركزت في النهاية أو كان عمودها الفقري عودة اللاجئين الفلسطينيين.

لقد اختلط في هذه الفترة القصيرة من عمر المفاوضات والتي وصل فيه الاسرائيليون الى أفضل عرض قدم حتى الآن للفلسطينيين وأظهرت فيه حكومة ايهود باراك أيضا أدنى مستويات الشجاعة للانتقال من الأقوال الى الأفعال, أقول لقد اختلط بقوة الشعور بالاحباط العميق نتيجة غياب أي انجاز عملي على الارض في عملية السلام والشعور الذي لا يقل عمقا عنه بإمكانبة إجبار اسرائيل التي بدت من دون مخرج آخر سوى التسليم بإزالة الاحتالا على القبول بالشروط الفلسطينية. وحصل كما لو ان الفلسطينيين جميعا, الرسميين والاهالي معا, قد راودهم الظن بأن الأوضاع المحلية والاقليمية والدولية قد جعلت الأمور ناضجة للتوصل الى السلام وأن كل ما يحتاج اليه الامر هو توجيه  ضربة قوة حاسمة وسريعة تقنع ايهود باراك والرأي العام الاسرائيلي المتردد والمضطرب من التقدم السريع الذي حققته المفاوضات بضرورة حسم الامر والتخلي عن المماطلة والتسويف والاعتراف الناجز بالحقوق الفلسطينية الاساسية ومنها حق العودة الذي كان حتى ذلك الوقت مستبعدا عمليا من الذاكرة الاسرائيلية ومعتبرا ذا طبيعة رمزية اكثر منها عملية.

وعندما انطلقت نشاطات الانتفاضة الفلسطينية كانت هناك وحدة حال حقيقية بين الشعب والقيادة العملية للحركات الفلسطينية بجميع فصائلها بل مع السلطة الوطنية الرسمية ذاتها. ولذلك من الصعب القول انه كان هناك قرار سياسي مسبق باطلاق الانتفاضة الثانية, لكن من الصعب ايضا القول انه لم يكن هناك قرار سياسي فيها. فمما لا شك فيه ان القوى الفلسطينية على مختلف انتماءاتها اتخذت قرارها المشترك والتلقائي بخوض المعركة باعتباره الضربة الاخيرة لاجبار المحتل على الاختيار بين الحرب والانسحاب. وهذا التناغم الواضح بين الجمهور الفلسطيني والحركات المنظمة هو الذي اعطى للحركة طابع الثورة الشعبية العارمة وجعل من الممكن فهم حجم التضحيات التي قبل المجتمع الفلسطيني تقديمها في اطار ومن أفق تسريع الحركة في اتجاه انهاء الاحتلال. وهذا هو السبب ايضا الذي دعا الكثير من المحللن بما فيهم أنا نفسي الى وصف هذه الانتفاضة منذ ايامها الاولى بأنها حرب الاستقلال.  وما كان من الممكن في منظور تصور الجمهور الفلسطيني لهذه الانتفاضة كانتفاضة الاستقلال, أي الفقرة الاخيرة من الجهد البطولي لحسم المعركة, أن يقبل احد فيما بعد ان يوقف النشاط او ان يحد من التصعيد الذي ما لبث حتى دفع الحركة الى تبني التكتيك الاستشهادي والخلاصي باعتباره التكتيك الاول والرئيسي لاقناع الاسرائيليين بقوة التصميم الفلسطيني وانعدام فرص واحتمالات التراجع. وليس هناك سوى هذا الأمل والشعور باقتراب الخلاص وحتميته ايضا ورفض العودة الى الوراء تفسيرا ممكنا لما حصل من ارتماء كلي لجميع فئات وقطاعات المجتمع الفلسطيني في المعركة والانخراط الحاسم فيها وهو انخراط لا يزال مستمرا حتى الآن.

لكن الجمهور الاسرائيلي لم يتصرف بالطريقة العقلانية وكان ينبغي أن نتوقع انه لن يتصرف بهذه الطريقة في اطار سيادة الايديولوجية العنصرية المحتقرة للعرب والعقلية الامبرطورية التي تعتبر أن اسرائيل هي التي تملي قراراتها وسياساتها على الآخرين ولا تقبل أن يملى عليها أو أن تضطر الى التراجع تحت ضغط القوة. وهكذا اختارت اسرائيل امام التصعيد الشعبي الفلسطيني الحرب على الانسحاب.  وانتقلنا بذلك بسرعة من مناخ التسوية السياسة الى مناخ المواجهة الشاملة والمصيرية. وهذا هو المعنى الحقيقي لانقلاب الرأي العام الاسرائيلي على حزب العمل وانتخابه أرييل شارون رئيسا للوزراء. والواقع ان ما حصل من اجماع فلسطيني حول ضرورة الحسم ووضع حد للمماطلات ومحاولات الاسرائيليين كسب الوقت والتنازلات حصل ايضا في الوقت نفسه لدى الرأي العام الاسرائيلي الذي نظر الى وضع قضية اللاجئين على طاولة المفاوضات وكأنها تأكيد على اصرار الفلسطينيين والعرب معهم على تحقيق هدفهم بتدمبر الدولة الاسرائيلية. وهكذا نجح اليمين الذي لم يتخل يوما عن العمل حسب هذه الفرضية والايديولوجية المرتبطة بها في ان يقيم الاجماع الاسرائيلي من حوله وأن يقنع الفئات الاسرائيلية التي كانت أقرب للقبول بالتنازل عن الارض مقابل السلام  بالعودة الى الارضية التقليدية للعمل الصهيوني والالتحاق باطروحات اليمين الشاروني والليكودي المتطرف.

التأكيد أدى صعود الليكود بقيادة شارون الى السلطة في اسرائيل إلى تغيير طبيعة المواجهة الفلسطينية الاسرائيلية وتبدل اهدافها. فلم يعد طموح الفلسطينيين توجيه ركله قوية لرمي قوات الاحتلال خارج الضفة الغربية ولكن مقاومة الحملة الشارونية العكسرية الرامية الى تدمير القاعدة التحتية للمقاومة الفلسطينية بأكملها وفرط المجتمع الفلسطيني بحيث لا يستطيع ان يستمر في هذه المقاومة وبالتالي بجيث يضطر الى القبول بالتسوية التي تقررها اسرائيل نفسها من دون ان يكون بمقدور الفلسطينيين الاعتراض عليها او رفضها. وهكذا في الوقت الذي حدد فيه شارون هدف الحرب ضد الفلسطينيين في تصفية السلطة الفلسطينية مع جميع الاتفاقات او الالتزامات القديمة التي ارتبط اسمها بها في المفاوضات السابقة مع اسرائيل وتنصيب قيادة جديدة عميلة مكانها تقبل بالتعامل مع اسرائيل والانسجام مع استراتيجيتها لم يكن امام المقاومة الفلسطينية بشتى فصائلها ومستويات عملها الا الالتفاف حول السلطة الوطنية والاتحاد في سبيل الدفاع عن وجودها وتأكيد استقلالية القيادة الفلسطينية وقطع الطريق على شارون لتفكيك عرى المجتمع الفلسطيني وتقطيع اوصاله.  وكانت إطالة أمد المقاومة في المدن والاحياء والقرى والمخيمات وتكثيف العمليات الاستشهادية هي الوسيلة الرئيسية لاستنزاف المخطط الاسرائيلي واحتوائه وبالتالي اجبار الرأي العام العالمي أولا ثم الاسرائيلي السلمي فيما بعد على التدخل ومنع رئيس الوزراء الاسرائيلي من تحقيق أهدافه. والسؤال الذي تحدد الاجابة عنه حقيقة الموقف الاستراتيجي الراهن هو التالي: هل نجحت حكومة تكتل ليكود اليمينية من خلال الحرب الشاملة التي شنتها على الشعب الفلسطيني في أن تجنب اسرائيل الانسحاب من الأراضي الفلسطينية وفي إجبار الفلسطينيين على التسليم باقتراحاتها أو قرارتها أم أنها لا تزال تواجه بالرغم من هذه الحرب المشكلة ذاتها وجدول الأعمال ذاته؟ وبالمقابل هل نجحت الفلسطينيون من خلال تفجيرهم الانتفاضة المسلحة في إقناع الرأي العام الاسرائيلي المتردد بحتمية دفع ثمن السلام انسحابا كاملا من الأرض المحتلة والاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية بما فيها حق العودة؟ هذا ما ستحق النقاش اذا أردنا بالفعل أن نعرف أين نحن اليوم في مسألة المفاوضات الاقليمية وما ذا انجزنا وهو موضوع مقال لاحق.

 

 

 لا يزال طرد الاحتلال وإعلان الاستقلال هو الهدف وينبغي أن يبقى بالتاكيد لم تحقق المقاومة الفلسطينية في المواجهة التي وضعتها أمام جيش الاحتلال الاسرائيلي خلال ما يقارب العامين, لكن بشكل خاص مند الاجتياح الاسرائيلي لمناطق الحكم الذاتي في شهر مارس أذار 2002 , هدفها البدئي الاول وهو دفع الاحتلال الى الانهيار بضربة قوية ومنظمة وشاملة. وبدل اقناع الاسرائيليين بمصلحتهم في الخروج السريع من الاراضي الفلسطينية اذا لم يرغبوا في التعرض لضربات موجعة في اسرائيل والاراضي المحتلة معا جرت أثارت مخاوف المجتمع الاسرائيلي التقليدية من تعرض الدولة اليهودية للانهيار والتجاوز ودفعته الى التلاحم والاتحاد في سبيل إخماد ما بدا عن حق كثورة فلسطينية عارمة ضد الوجود الاسرائيلي في المناطق المحتلة ومن أجل الخلاص النهائي من القهر الاستعماري. وكانت النتيجة هي مشروع التوغل الاسرائيلي داخل المناطق المحررة وتدمير بنيتها التحتية والسعي الى تدمير منظماتها ومعنويات شعبها معا وإعادة الاحتلال أو التفكير بالعودة الى نوع جديد من الادارة العسكرية. بل يمكن القول أن ما حصل  منذ وصول شارون الى السلطة هو انعكاس الاية  تماما. فقد صارت سلطة الاحتلال هي التي تطمح الى توجيه ضربة قوية للمقاومة الفلسطينية تدفعها الى السقوط وترميها خارج حلبة الصراع ذاتها أو تخرجها نهائيا من اللعبة.

 لكن بالرغم من كل الخسائر التي كبدتها للشعب والقيادة الفلسطينييتين يبنغي القول إن حكومة شارون لم تنجح في ان تحقق هدفها الرئيسي والاساسي معا وهو التخلص من المقاومة الفلسطينية وفرض القيادة البديلة التي تضمن تحقيق التسوية الاسرائيلية التي تحلم بها. وقد نجحت المقاومة نيتجة ما أظهره شبابها من صمود بطولي, خاصة في مخيم جنين الذي سيصبح رمزا لاخفاق الجيش الاسرائيلي ولا فاعليته في تحقيق أهداف الأمن الاسرائيلي,  في تأكيد قدرتها على البقاء والاستمرار بالرغم من استمرار الهجمات الاسرائيلية والعزلة النسبية التي عانت منها في مواجهتها التاريخية للعدوانية الاسرائيلية وتردد الدول الكبرى الطويل وتقاعس الأمم المتحدة والدعم السياسي العلني الرسمي الامريكي لمشروع تصفية هذه المقاومة بوصفها نشاطات ارهابية.  ومهما قيل عن طبيعة الاتفاقات التي ضمنت ازالة الحصار عن رئيس السلطة الفلسطينية وعن كنيسة المهد وملابساتها, ومن المحتمل أن يكون صحيحا, فإن اسرائيل شارون وجدت نقسها مضطرة من جديد الى التعامل مع السلطة الوطنية والقبول بعرفات رئيسا لها حتى لو أنها تمني نفسها بأن يكون بإمكانها تحيد صلاحياته وتقليص دوره مما يمكن ان تعتبره الانجاز الاساسي للحرب الطاحنة التي شنتها في المدن والقرى الفلسطينية.

وربما بدت الترجمة المنطقية على الارض لاخفاق المقاومة الفلسطينية في تحقيق هدفها الرئيسي وهو طرد الاحتلال وإخفاق سلطة الاحتلال الاسرائيلي في تحقيق هدفها الرئيسي ايضا وهو تقويض السلطة الوطنية وبث الفوضى في المجتنمع الفلسطيني لاقامة قيادة بديلة عملية تقبل بأنصاف الحلول هي ان المواجهة الدموية التي حصلت في الاشهر الماضية قد انتهت بالتعادل بالاصفار وأن أحدا لم يحقق شيئا. لكن الواقع غير ذلك تماما. فاسرائيل وجدت نفسها مباشرة وقبل أن تنتهي العمليات الحربية ولا تزال تجد نفسها وستظل تجد نفسها في مواجهة المشكلة الفلسطينية السياسية مهما حققت من انتصارات عسكرية مفروغ من أمرها ومقررة سلفا. ومطلوب منها أن تجد بديلا عن سياسة الاحتلال وأن تخرج من الدبابات والطائرات لتفاوض الفلسطينيين مهما كانت درجة تسليحهم بسيطة أو ضعيفة.  وعدم تحقيق الفلسطيننين هدفهم الرئيسي الذي يتجسد في إجبار الاحتلال على الخروج من المناطق الفلسطينية لا يعني بالضرورة عدم تحقيق أهداف جزئية سيكون  لها تأثير ضروري او محتمل على مجريات الامور والمفاوضات القادمة لا محالة.

فمن هذه الاهداف التي نجح الفلسطينيون في تحقيقها, ولو ببثمن عال جدا, هو انهم كرسوا نهائيا بعد فشل مفاوضات طابا الاخيرة وجميع مسار اوسلو انه لا يمكن العودة للوراء في قضية الدولة الفلسطينية. وكان تصويت مجلس الأمن على قرار يؤكد ضرورة قيام دولة فلسطينية مقدم هو نفسه من قبل الحليف الرئيسي بل الشريك الحقيقي لاسرائيل في الحرب هو أكبر وأفضل اعتراف بالإخفاق السياسي للحملة الشارونية. فلم تكن مسألة اقامة دولة فلسطينية في أي حقبة سابقة خلال نصف القرن الماضي موضوع اجماع دولي ومسألة راهنة في المدى المنظور كما هي عليه اليوم.

لكن تكريس الاعتراف براهنية قيام الدولة الفلسطينية وعدم امكانية تجنب التفكير فيها والعمل لها ليس الانجاز الوحيد للانتفاضة الفلسطينية البطولية الراهنة. إذ ليس هناك شك في أن اعتراف الولايات المتحدة لاول مرة ايضا بأهمية مشاركة الامم المتحدة والاطراف الدولية الاخرى وفي مقدمها اوربة في الحل وفي تنظيم المؤتمر الدولي الذي سيؤطر المفاوضات القادمة على هذا الاساس الرباعي يشكل ايضا انجازا كبيرا للمقاومة الفلسطينية لأنه يخرج المفاوضات لأول مرة ايضا من تحت الوصاية الامريكية الشاملة التي كانت دائما محابية لاسرائيل ويزيد من أمل الفلسطينيين في توسيع هامش مبادرتهم السياسية في المفاوضات ومن أدوات الضغط الممكنة على الحكومة الاسرائيلية. أما الانجاز الثالث المهم ايضا للانتفاضة الثانية فقد كان تدويل القضية الفلسطينية اعلاميا وسياسيا كما لم يحصل من قبل. فقد ساهمت صور المذابح وأخبار الحصار والتجويع التي مارسها جيش الاحتلال في المناطق الفلسطينية في تعرية الوجه القبيح لاسرائيل وسياساتها العنصرية. وقد جلبت هذه التعرية للفلسطينيين تعاطفا عالميا لم يعرفوه من قبل. واذا احسن استثمار هذا التعاطف من قبلنا فيمكن ان يشكل عامل ضغط كبير على اسرائيل يجبرها على التقليص من حجم ابتزازها ومبالغتها في الحصول على تنازلات على حساب الحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية.

في المقابل لم تحصل اسرائيل على أي مكسب جانبي. صحيح انها  نجحت في توجيه ضربة قوية لقواتنا البشرية فقتلت المئات وجرحت واعتقلت الالاف بل عشرات الالاف من خيرة شبابنا ولا تزال تقوم بذلك, وصحيح انها دمرت البنى التحتية للمجتمع الفلسطيني وارجعته نصف قرن الى الوراء, لكن من الصحيح أيضا ان من الصعب عليها أن تنجح في ترجمة  هذا الدمار الى مكاسب سياسية على الصعيد الدولي أو الفلسطيني أو العربي. بل إن هذا الدمار هو الذي سيشكل مصدر الضغط المعنوي والسياسي الكبير على حكومة ليكود للتراجع عن سياسات القوة التي تتبعها وذلك داخل اسرائيل نفسها وفي الأوساط الدولية. و طالما استمر الشعب الفلسطيني في القبول بهذا النوع من التضحيات للحصول على استقلاله ودفع الرا العام الاسرائيلي والعربي والعالمي على الاعتراف بحقوقه, وهو مستمر فيه لأنه لا يملك خيارا آخر, فلن تجلب سياسة القوة والافراط في العنف الذي يتبعها شارون سوى المزيد من الانتقادات للحكومة الاسرائيلية.  وشيئا فشيئا سوف يتحول هذا الدمار الى خسارة اسرائيلية اخلاقية وسياسية تؤثر على موقف اسرائيل التفاوضي منذ اللحظة التي ستتوقف فيها العمليات ونبدأ في المفاوضات. أما ما تسعى حكومة شارون إلى تسويقه على أنه الانجاز الكبير للحرب على الشعب الفلسطيني وهو ضمان الأمن الاسرائيلي في مواجهة العمليات الفدائية فقد كذبته ولا تزال العمليات الاستشهادية التي لم تستطع السلطات الاسرائيلية ان توقفها بعد اسابيع من انتهاء الاعمال الحربية الكبيرة وبالرغم من أنها لا تزال تعطي لنفسها الحق الكامل في التوغل والهجوم على المدن والقرى الفلسطينية بهدف الاعتقال والقتل والتدمير والانتقام.

لقد خسرت اسرائيل في حربها الأخيرة وبالرغم من كل المظاهر المؤقتة الخادعة على جميع مستويات التحليل. ولن تستطيع أن تملي إرادتها على الشعب الفلسطيني اليوم أكثر مما مضى بل العكس هو الصحيح. لقد أصبح هذا الشعب أكثر تصميما وإصرارا على مقاومة الاحتلال ونزعه من بلاده بعد ما شاهده من مجازر الجيش الاسرائيلي. ويمكن القول الأمر نفسه عن موقف الرأي العام الدولي الذي كشفت له الحرب عن مأساة الشعب الفلسطيني ومل المماطلات الاسرائيلية.  اما اذا كان من الممكن اعتبار الضغوط التي تمارس اليوم من قبل جميع الاطراف الدولية والعربية على السلطة الفلسطينية للقيام باصلاحات جدية في البنية التنطيمية وتغيير قواعد العمل وتحقيق حد اكبر من الديمقراطية داخل البيت الفلسطيني والسلطة الوطنية نوعا من النتائج المباشرة للحرب الشارونية فهي ضغوط يمكن ان تصب في صالح الوضع الفلسطيني بل هي في صالحه حتما اذا عرف الفلسطينيون كيف يواجهونها بأنفسهم ويطبقونها ليس بوصفها شروطا مفروضة من الخارج ولكن بوصفها اببعاثا جديدا للشعب الفلسطيني وتقريبا اكبر بينه وبين منظماته وقياداته وتمهيدا ضروريا للارض امام قيام الدولة الفلسطينية المنشودة بل شرطا لقيامها كدولة ديمقراطية بالفعل. وكل ما يحتاجه الامر هو ان يأخذ الفلسطينيون المهمة على عاتقهم هم انفسهم ويرفضوا التدخلات والتلاعبات الخارجية وبالتالي أن يرتفعوا ويبنغي ان يكون بمقدورهم بعد هذا النضال البطولي للشعب الى مستوى مسؤولياتهم الوطنية ويتخلوا عن النزاعات والمنافسات والمكاسب الشخصية لصالح بناء الاطر القانونية والسياسية المتينة والسليمة للدولة التي لا يزالون يناضلون من أجلها ويحلمون بها منذ عقود طويلة.

ليس هناك اذن ما يمنع من الاصلاح او يحول دونه ولا يسيء هذا الاصلاح بالضرورة الى الموقف الاستراتيجي الفلسطيني اذا حصل في ظروف من التفاهم والشعور بالمسؤولية عند القيادات الفلسطينية بل إن بمقدوره ان يعزز الموقف الفلسطيني التفاوضي ويضفي شرعية اكبر على مشروع بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.

 

اباختصار إن الانتفاضة الفلسطينية لم تحقق الهدف الرئيسي الذي كانت تحلم بالوصول اليه وهو إجبار الاحتلال الى الانسحاب السريع من الأراضي الفلسطينية لكنها نجحت في دفع القضية الفلسطينية خطوات الى الامام في وجه الردة الاسرائيلية على خيار السلام وأجبرت العالم من جديد على التفكير بصورة جدية في مسألة النزاع القائم منذ عقود. لكن اسرائيل خسرت بالمقابل كل الرهانات ولن تستطيع مهما فعلت بعد الآن أن تؤمن لنفسها الدعم السياسي الكافي لاضفاء الشرعية على الاحتلال ومن باب اولى  ايضا على مشروع الاستيطان. وسوف يضطر شارون الى التفاوض, مهما كانت عنعناته الان, من النقطة التي انتهت إليها مباحثات طابا وليس على اساس الاربعين بالمئة التي كان يعرضها على الفلسطينيين من باب السخرية والاستهزاء. وبالرغم من روح الغطرسة والعنجهية  التي تعبر عنها خطابات آرييل  شارون  فاسرائيل هي التي تجد نفسها في طريق مسدود اليوم ومن دون خيارات أخرى غير الانصياع لمفاوضات السلام. وكل ما  تسطيع أن تفعله لتوقف هذه العملية هو المماطلة كالسابق والصدام مع الرأي العام العالمي الذي نضج للخروج من الأزمة الشرق أوسطية.  أما الشعب الفلسطيني فلم يتغير عليه الوضع كثيرا من جراء تزايد وطأة قوات الاحتلال وتكثيف عملياتها. فهو لم يحقق شيئا في الاصل وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية لن تختلف كثيرا قبل الحرب وبعدها. وبالمقابل لقد طرحت نهاية الحرب على  اسرائيل دفعة واحدة كل المشاكل والمعضلات التي رافقت وجودها وكانت تحهد لاخفائها, أعني معضلة الحفاظ على الامن في محيط معاد ويزداد عداءا اكثر فأكثر لها ومعضلة الاختلاظ السكاني داخل اسرائيل نفسها أو ما يسمى كذلك ومعضلة الاستقرار. ومهما كان الحال فإن استمرار العنف في الشرق الاوسط وتصاعده ليس ولن يكون ابدا لصالح اسرائيل. فلن يقود تطور العنف واستفحاله في المستقبل الا الى زرع الفوضى والدمار في اسرائيل ذاتها. ولن يمنع تكرار العمليات الاستشهادية, إذا لم يوجد الحل المناسب للأزمة, لا التزام الدول العربية بادانة العنف بكل اشكاله ولا تراجع القيادة الفلسطينية الرسمية عنه ولا نداءات حماس او الجهاد  باحترام الهدنة الحالية. وليس أمام اسرائيل بديلا عن الاعتراف بالحقوق الفلسطينية سوى استخدام وصفة الحل النهائي النازية أي ارسال الفلسطينيين بالملايين كما فعل هتلر الى المحارق الاجرامية.

 

ما أثر هذا التحليل على جدول الاعمال والاولويات ؟

الهدف من هذا التحليل أن نبين بدقة ان الاولوية لا تزال في جدول الاعمال الفلسطيني والعربي لبند التخلص من الاحتلال وليس هناك أي بند آخر يسبقه. وأن هدف القضاء على الاحتلال والخلاص منه لا يزال ضمن امكانات الواقع وميزان القوى الاستراتيجي الفلسطيني الاسرائيلي, بل ربما صار في مرمى الهدف التاريخي اكثر من قبل. وبالتالي ليس هناك أي داع  للتراجع في مسيرتنا ولا الى تخفيض سقف توقعاتنا سواء حصلت المفاوضات الموعودة ام لم تحصل.

لكن كل هذا يتوقف على نجاحنا ايضا في ان لا نقع في المطب الذي يريد لنا الاسرئيليون ان نقع فيه وهو جعل مسألة ترتيب الوضع الفلسطيني اولويتنا على حساب طرد الاحتلال والغرق في نزاعات داخلية لترتيب هذا الوضع تشغلنا عن رؤية هذا الاحتلال او تخفي عنا الاولوية التي ينبغي ان نعطيها له مهما كانت المشاكل كبيرة في الوضع الفلسطيني. فمن دون ذلك يمكن ان ندخل في التصفيات الداخلية كما تريد لنا اسرائيل ونسمح لها أن تحقق بذلك بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه بالحرب. وهذا ما يساهم به أيضا اؤلئك الذين يسعون, من داخل صفوفنا, الى عرض نتائج الانتفاضة بصورة سلبية  وينشرون مناخا من الاحباط والهزيمة بيننا وكذلك اولئك الذين يسيل لعابهم بسرعة أمام رؤية عظمة اصلاح السلطة ايضا.

لا يعني هذا أن علينا أن نهرب من مهمات الاصلاح الداخلي الضروري فعلا ولا أن نستخدم استمرار المعركة ذريعة لتجميد الاوضاع القائمة. لكنه يعني فقط انه لا ينبغي ان تخفي عنا معركة اصلاح الوضع الفلسطيني السليمة والشرعية الهدف الرئيسي وهو وحدة الصف الفلسطيني ضد اسرائيل ومن اجل النصر الذي اصبح اقرب بكثير مما كان من قبل.

وبالمثل لا يعني التأكيد على ان التخلص من الاحتلال ينبغي أن يبقى البند الاول في جدول اعمالنا أن تحقيق هذا البند قد اصبح في متناول اليد بصورة كلية ومباشرة. لكنه يعني أن بإمكاننا أن ندخل فيه ونسير على طريق تحقيقه الطويل فحسب. فقد بينت دروس الانتفاضة الاخيرة ان الحرب والمعركة مع اسرائيل طويلة ولا يمكن حسمها في جولة واحدة. ينبغي أن نفكر على أساس أن المعركة مستمرة وستدوم لفترة طويلة أخرى وستشهد جولات عديدة.  لكن في كل جولة يكسب الفلسطينيون قليلا ويخسر الاسرائيليون قليلا.

وهذا يعني أن الاستمرار في المقاومة وعدم التخلي عن سلاح السياسة والمفاوضات هوالطريق المزدوج للنصر. وليس لدى الفلسطينيين والعرب خيار اخر غير النصر. وهذا النصر اصبح اليوم مؤكدا بعد الدرس الذي لقنه المقاومون للاسرائيليين والهزيمة المعنوية والسياسية التي تكبدتها الدولة الاسرائيلية وحكومتها اليمينية في العالم أجمع في الاشهر الماضية, بالرغم من الدعم الاستثنائي الامريكي والتعاطف الدولي الرسمي والتفوق العسكري الاسرائيلي الساحق في القوة العسكرية والاعلامية والدبلوماسية معا.