دفاعًا عن العَلمانيَّة

2007-09-25:: مجلة معابر الرقمية

 

1- في نقد المفهوم السائد: بين العَلمانية واللاَّدينية

كما هي الحال في جميع القضايا الفكرية والسياسية، تطور في الفضاء الثقافي والسياسي العربي، في مواجهة قضية العَلمانية، موقفان: موقف المغالاة الذي يقود إلى التطرف السياسي الذي يحوِّل العَلمانية إلى "ثابت" constante تصبح أمامه جميع القضايا الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ثانويةً يمكن تأجيلها، وموقف الاعتدال الذي يقود إلى "النسبوية" relativisme وينظر إلى مسألة إنجاز قيم العَلمانية في علاقتها مع القضايا الاجتماعية الأخرى، وفي مقدِّمها قضية الديموقراطية التي تشكل اليوم محور اهتمام المثقفين والمفكرين العرب العاملين على تحويل المجتمعات العربية وتحديثها. ومن الواضح أن المقصود بالديموقراطية ليس نظامًا جاهزًا، وإنما تجديد قيم المجتمعات وأفكارها وتطوير أساليب عملها وتنظيمها، في الميادين كافة، على أسُس المشاركة الفردية والخيار الحر، وبالتالي، التفاوض الاجتماعي والحوار. ولهذا تشكِّل الديموقراطية معركةً طويلة المدى، ربما تحتل العقدين القادمين بأكملهما أو أكثر. ولن يكون النظام الديموقراطي الناجز سوى ثمرة هذا التحويل في الثقافة السياسية وفي سُبُل عمل المجتمعات وتنظيمها.

ولأن أصحاب الموقف المعتدل لا ينظرون إلى العَلمانية كقضية محورية، بل تابعة لقضية الديموقراطية وتجديد المجتمعات وإعادة بنائها على قيم الحرية والعدالة والمساواة، سيطر على مناخ النقاش الفكري العربي في العقود الماضية، خاصة منذ بدء صعود الحركات الإسلامية السياسية في السبعينيات، موقفُ التطرف. فصارت العَلمانية تبدو، في نظر العديد من قطاعات الرأي العام العربي، بمثابة حركة مناوئة للدين ومستعدة، في سبيل لجم جماح الحركات الدينية، إلى التفاهم مع السلطات القائمة، بصرف النظر عن طبيعتها الديكتاتورية أو التوتاليتارية، في الوقت الذي لا تخفي فيه هذه السلطات تحالُفَها أيضًا مع رجال دين كثيرين وعملَها على تكوين حركات دينية سياسية ملحقة بها لمواجهة المعارضة السياسية بكلِّ تياراتها.

لقد وضع هذا الموقف العَلمانية العربية في مأزق تاريخي بقدر ما ربط مصيرها بالسلطات الديكتاتورية وأبعدَها عن قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة، وفي المقام الأول، حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أيِّ إنسان أو منعه من التعبير عنها. ولن يكون من الممكن إعادة طرح العَلمانية كقضية تعني الرأي العام بأكمله وتثير اهتمامه وتحظى بقبوله، بقدر ما يتعلق بها نشوءُ نظام سياسي ومدني قائم على المساواة بين الأفراد والاعتراف بأهليتهم الوطنية (المُواطِنية)، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والإيديولوجية، من دون تجديد النظر في هذه المسألة وإعادة بناء مفهوم العَلمانية نفسه. وهذا ما يتطلب، بدايةً، نقد المفهوم السائد عن العَلمانية وتبيان إلى أيِّ حدٍّ لا يتسق وجودُ هذا المفهوم مع تحول العَلمانية إلى أساس لرؤية إنسانية جامعة، غير دينية، إلى قضية المُواطَنة والمشاركة في الحياة العمومية.

وفي هذه الحال، يبدو لي أن السؤال الأول الذي يستحق الطرح هو التالي: على ماذا يرد موقف المغالاة في العَلمانية؟ وما الذي جعل من هذه الفكرة التي تؤسس للحرية الفكرية والاعتقادية وتبني المُواطِنية، بوصفها مشاركةً في الحياة العمومية على قاعدة الحرية والمساواة الأخلاقية والقانونية، رديفًا للسلطة الديكتاتورية ومصدرًا لسياسات الحَجْر على الضمير والفكر وأداةً لتبرير الديكتاتورية السياسية والفكرية؟ الجواب يتألف من شقين:

- أولاً، تحول العَلمانية إلى إيديولوجيا، أي إلى عقيدة فئة بعينها من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص ورمز تفاهمها الذي يوحِّد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات إستراتيجيتها الاجتماعية والسياسية.

- ثانيًا، تعارُض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمبادئ العَلمانية نفسها، ومن ورائها مبادئ الديموقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن لا أحد من رموز هذه "العَلمانوية" انخرط في معركة من معارك الحرية الفكرية والسياسية؛ بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة "ربيع دمشق" فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض مَن جذبتْه الحركةُ قليلاً قَصَرَ جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعًا عليها.

ما كان لمصادرة فريق اجتماعي لفكرة العَلمانية ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن يقود إلى أمرين: إفساد المفهوم، من جهة، وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معًا، وبالتالي، قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي، من جهة ثانية. فبقدر ما أصبحت العَلمانية إيديولوجيا تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضًا، فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد يتخذ منها منطلقًا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم ولرجاله وسلطته وقيمه.

وككلِّ عقيدة، صارت العَلمانية "دوغما"، أي مذهبية مغلقة، حقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى "الخطيئة" الدينية. ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن يربط هؤلاء، أو أكثرهم، العَلمانية بالعلم وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العَلمانية مساويةً للاَّدينية ورايةً يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية إلى التجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الإسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كلِّ ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة جميعًا. ومن الواضح لكلِّ مَن تابع أدبيات العَلمانويين إلى أيِّ حدٍّ تعكس إشكالية العَلمانية والإسلامية عندهم الصراع بين العلم، منظورًا إليه كرديف للعقل، وبين الدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية.

ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العَلمانية وإنما "اللاَّدينية" أو العداء للدين، التي تختلط مع "علموية" scientisme سوقية من مخلَّفات القرن التاسع عشر تعكس الإيمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أيِّ زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي العديد من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر إلى العلم والعقل معًا، لا كشعب ولا كأمَّة تمتلك وعيًا وإرادة، قادرة على الفعل أو الإنجاز من أيِّ نوع كان.

ومن الطبيعي أن تكف العَلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهومًا إجرائيًّا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، ويجوز نقده، ككلِّ المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته في ضوء التجربة التاريخية ومع تغير هذا الواقع أو تقدم المعرفة بدقائقه. فككلِّ عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أضحت العَلمانية، في نظر عابديها المخلصين، ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، صالحة، بالتالي، مثل الدين، لكلِّ زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها في معزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سِيَرُها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستعمالاتها، هرطقةً وخروجًا عنها، لأنه يشكل مساسًا بالهوية وتهديدًا لاستقرار الجماعة الإيمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها "جهادها"، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، ضد "الكفرة" و"الجاحدين"، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضًا، تبني العلموية "كنيستها" التي توزع صكوك الخلاص على المخلصين لها وتحرم مَن تشاء من اعترافها وبركتها!

هذا ما يفسر أيضًا الطابع التبشيري الممل للخطاب العَلموي وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها منذ نصف قرن، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها. فككلِّ المتدينين، يعتقد العلمويون أن أيَّ تغيير أو تعديل في السردية الخاصة بهم لا بدَّ أن يثير الشك في متانة العقيدة ويقوض، ربما، أسُس بقائها. لذا فإن كلَّ ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلى صون الفكرة من التغيير والتعديل والحفاظ على تماميَّتها وأصولها في وجه ناقديها وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم (أو من يحوَّلون إلى خصوم) والتشهير بهم وإظهار مروقهم أو خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية وتصبح، بالتالي، موضع قداسة يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة الاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.

هكذا تغيَّر دور العَلمانية أيضًا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعًا يقرِّب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلى الارتفاع عن خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعًا في حرية، وبالتالي، ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت، بالعكس، أداة للتمييز والفصل بين جماعتين: جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العَلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديموقراطية والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الأطراف من أصحاب العقائد المتنازعة تحت سقف دولة محايدة تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية وعن المساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب "كنيسة" مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب على العامة الجاهلين والأميين استيعابُها. ولذلك لم يعد تحقيق العَلمانية، بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف كشرط للمحافظة على "الملَّة" التي صارت إليها العَلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء إلى تصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقُه بأية حيثية، وإلى جعله أقنومًا واحدًا مستقلاً يتقدم على كلِّ ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقُها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها هو الغاية الأولى والوحيدة، التي يبرِّر تحقيقُها أو الوصولُ إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية!

 

2- من أجل عَلمانية تحررية

في المقابل، نحن ننظر إلى العَلمانية بوصفها مبدأ من مبادئ الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كلِّه، نحو بناء أمم سياسية ودول/أمم ديموقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتكفل، في الوقت نفسه، إعادة إنتاجها كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الإيديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القروسطوية، سوف يتحلَّل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، فتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازُعها. وفي هذا السياق، ستظهر العَلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى، أساسها توفير مبدأ أو قاعدة أخلاقية سياسية تتيح للمجتمعات المتحلِّلة والمتفجرة بناء الوحدة السياسية، مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الأهلية. وليس هذا المبدأ الخطير، الذي يكاد في نظري يساوي العَلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأيِّ فرد، سوف يُشتق مبدأ المساواة بين الأفراد، بقدر ما يتحولون جميعًا إلى أفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعًا ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوون، عليهم أن يقروا لأنفسهم، ولكلِّ واحد منهم، بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين.

من هنا أصبحت مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي تعني التضامن والتكافل، مؤسِّسة لجماعة جديدة هي "الأمة" أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة ممثلةً في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب بعضهم الآخر، انتفت إمكانيةُ بناء المُواطَنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وصار من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية، وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.

والقصد أن العَلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محلَّ العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها ولتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كلٍّ منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللاَّدينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، لا دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أيِّ اعتقاد، أو التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله، كما يعتقد بعضهم، إلى اعتقاد شخصي ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي، بل بالعكس: إن العَلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضًا، ضمن شروط احترام مبادئ حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العَلمانية مبرِّر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحدِّ من حريات منافسيها وخصومها الفكريين والمذهبيين، وتبرِّر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.

الفكرة العَلمانية أبسط بكثير مما نعتقد. وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضًا في موطنها الأصلي. فهي تعني، في اختصار، أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي بكلِّ ما يتعلق بموضوعات الإيمان وما يشكل مسلَّماتٍ إيمانيةً عند الناس، سواء كانت مسلَّمات دينية أو عقلية لادينية. فليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانات والشروط التي تسمح لها بذلك؛ وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. من دون ذلك، تصير العَلمانية، بالعكس، غطاءً لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفتْه الدولة الشيوعية في القرن الماضي، فكانت مثالاً للعَلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عامًا على زوالها. فأية "عَلمانية" لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول، لا محالة، إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العَلمانية، إذن، عقيدة في حدِّ ذاتها، لكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعًا بقدر ما هو مؤسِّس لمفهوم الحرية الفكرية.

لكن العَلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاءً جديدًا وتخلق ظروفًا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغيير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارًا لولادة "ثقافة" جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكلِّ ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العَلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.

وملخص القول هنا إن العَلمانية مفهوم تاريخي. وكأيِّ مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسَّدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر لا يمكن لها أن تكون هي نفسها أو أن تطبَّق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كلٍّ منها وتركيبته الدينية والاجتماعية وعلاقة الدين بالدولة فيه وظروف تقدم تجربته السياسية. فهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بدَّ أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال وبفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.

ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أيِّ مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقًا. ولا يعني النقد التهشيم، بل الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهومًا عالميًّا ينطبق على جميع التجارب. ففي هذه الحالة فقط، يمكن له أن يلعب دورًا إيجابيًّا ومنوِّرًا في إعادة بنائها أو المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام – وإلا فهو في حاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.

 

3- العَلمانية ومعركة الحرية

من هنا أعتقد أن نقد العَلمانوية، أي العَلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية ومبرِّر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطًا لتحرير العَلمانية من قيودها وإخراجها من المعزل الذي وُضعت فيه وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمبادئ الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلُها عن فكرة اللاَّدينية أو العداء للدين التي عزلتْها وحوَّلتْها إلى عقيدة فئوية وفتحُها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. فالذين يرفعون سقف العَلمانية ليطابقوا بينها وبين الإيمان بالعلم عوضًا عن الدين، أي التخلِّي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعًا خاصًا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستعملونها وسيلةً للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضًا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.

لا يمكن للعَلمانية أن تكون هي نفسها عقيدة فئة وحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية، ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة، لا يمكن لها أن تؤسِّس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الإيديولوجية، ولا أن تكون مبدأ ناظمًا لدولة سياسية تؤلِّف بين جميع أصحاب العقائد، الدينية منها والعقلية، وتوحِّد فيما بينهم. والواقع أن العَلمانية، في حدِّ ذاتها، لا تملك أيَّ مضمون عقائدي. ومَن كانت هويته العَلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحوِّلونها إلى عقيدة يخلطون بينها وبين الفلسفة اللاَّدينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين أن يقول عن نفسه إنه "عَلماني" ويكون علمانيًّا بالفعل؛ وإلا فليس للعَلمانية قيمة ولا مبرِّر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين إلى مبدئها، وليست ممكنة إطلاقًا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة، لن تكون مبدأ للحرية، وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني؛ وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تمامًا لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا، حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.

هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها: فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العَلمانية، ليس من باب التخلِّي عن وظيفتهم أو إيمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادًا بأن العَلمانية لا تنفي الإيمان والاعتقاد، ولا تشكل، في حدِّ ذاتها، إيمانًا جديدًا، بل تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع وتستطيع تحقيقها، على الرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكَّن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعًا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.

لا يعني نقد العَلمانية، اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللاَّدينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معًا. ولا يتضمن هذا الفصل، ولا ينبغي له أن يتضمن، أيَّ مساس بشرعية اللاَّدينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحقِّ أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرًا وتنظيمًا وصراعًا، لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح: إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللاَّدينية والممارسة العَلمانية معًا. فالتستر وراء مبدأ العَلمانية لم يُضعِف شروط تحقق الفكرة اللاَّدينية وحسب، لكنه حَرَمَها أيضًا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية وقلَّل من فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العَلمانية الحقيقية وما يعنيه من تخلِّي العَلمانوية أو اللاَّدينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تمامًا كتخلِّي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلاً للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حقِّ المؤمنين بالتمسك بإيمانهم والاعتراف بأصالة هذا الإيمان وشرعيته ولاجداليته هو شرط فرض حق اللاَّمتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادَل فيه أيضًا.

وبالمثل، فإن تحرير العَلمانية من اللاَّدينية وإخراجها من الشرنقة العقيدية هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية ويصب في بناء جماعة سياسية سُمِّيت في العصر الحديث بـ"أمة–دولة" tat-nationÉ، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلِّها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية ساهم، أكثر من أيِّ إطار سابق، في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحياؤها.

وهذا هو أيضًا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسُس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي، الممثل بالسلطة الاستبدادية، وبين الطغيان الفكري، الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. فما ظلَّ الاختلاط بين المعرفة والعقيدة قائمًا واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، لن يكون هناك أمل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية – اللاَّدينيين والدينيين، الإسلاميين والعَلمانيين، الأكثريات والأقليات – لصالح فئات مسيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا إلى موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرُّر المجتمعات وتحلُّل عراها واستعمال القوة المجردة والإرهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارَضة والاحتجاج الضعيفة فيها.

تقف العَلمانية في مقدمة المعركة من أجل الحرية، ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العَلمانيين رفض أية مشاركة في المؤامرة ضد الحرية، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة وأحكامها الذاتية والمصلحية وللمصالح السياسية.

هل يعني هذا أن صعود الحركات الإسلامية لا يهدِّد العَلمانية أو أن العَلمانية تستطيع أن تستوعب نموَّ الحركات الإسلامية؟ بالتأكيد تشكِّل الحركات الإسلامية تحديًا تاريخيًّا لفكرة العَلمانية وممارستها معًا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلِّي عن روح العَلمانية والقيم التي تبرِّر وجودها وتؤسِّس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العَلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد أو التفاهم لإنقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.

لذا تستحق العَلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بنائها، أي أن ننقدها، لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكِّننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الإيديولوجيا نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، فيا يتعدى العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك: فهي وحدها التي تقدم مفهومًا دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم وأحكام وتوجهات تشكل اختيارًا خاصًّا لفئة بعينها من المجتمع. العَلمانية وحدها لا تؤسِّس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، منطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.

في هذه الحرب الإيديولوجية التي تدمِّر اليوم أسُس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعًا أو تهدِّد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع وسيلةً لطمأنة الأفراد على عقائدهم ووجودهم ولتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العَلمانية تنبع مما تقدِّمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي، لتوسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني يزيل عنها جميع السمات التي جعلت منها أداةً لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات ويقوِّض، لا محالة، أسُس شرعيتها ومبرِّر وجودها.


4- خلاصة

في اختصار، العَلمانية، من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن لها أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية أو مشرِّعة للقهر الجماعي، وذلك باسم "حداثة" ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانًا سوى قروسطوية مقنَّعة ببهارج عصرية لا تخدع أحدًا. فهي حداثة سالبة للإنسان ومعطِّلة لضميره وعقله وجسمه، مستلِبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معًا.

لذلك، كما ينبغي لنا أن نرفض الاختباء وراء شعارات العَلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، كذلك ينبغي لنا أن ننكر أيضًا القطيعة التي عمل الإسلاميون والعَلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات وأن نطرح، في المقابل، مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديًّا التي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلَّى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعًا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا كذلك أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات حينما تُظهِرُ عِداءً لحرية الرأي والاعتقاد أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم أو تشويه صورتهم لدى الرأي العام.

هذا يعني أنه لا ينبغي لنا أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العَلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبِّقه نحن منذ الآن على أنفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا بعضًا أو التشهير به أو تخوينه أو تكفيره ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العَلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضًا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك عَلمانية ولا حرية يمكن لها أن تعيش في غياب مفهوم الحد الأدنى من النسبية. وهذا هو أيضًا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حدٍّ كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الإنسان، فيما يتعدى أفعال الإيمان والاختلافات العقائدية.

في اختصار، كما يشكل فصل العَلمانية عن اللاَّدينية شرطًا لإعادة مفهوم العَلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكِّل تحرير العَلمانية من توظيفاتها الإيديولوجية شرطًا لتعميمها واستبطان الجمهور لها وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية وأخلاقية ثرية ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حدٍّ سواء.