من مجتمع الحشد الى مجتمع المواطنة، مقابلة البصائر

2019-12-30 :: البصائر

البصائر: دكتور برهان ليس رجل سياسة بالمفهوم النّضالي التقليدي، بل هو مفكر وصاحب مشروع فكري... إلى أي حد يمكن للمفكر –دكتور برهان مثلا - أن يقود مسيرة النّضال ضمن أطر سياسية تقليدية، تبنى –غالبا- على جملة من الارتباطات الداخلية القائمة على منطق العشيرة والمذهب والجماعة السياسة، خصوصا أنّ النّضال المقصود اليوم لا يقوم على فكرة التحرر من الاستعمار الخارجي، وإنما يقوم على التخلص من ارث سياسي مسؤول على تشكيل نمط مشوه للدولة بمفهومها الحديث؟

 

ج: السياسة على العموم ليست حرفة وإنما هي مسؤولية تتعلق بإصلاح الشؤون العمومية تقع على جميع المواطنين بصرف النظر عن مهنتهم الأصلية في اللحظات الاستثنائية والحاسمة والخطرة من مسيرة مجتمعاتهم. ولا يمكن الانتظار من السياسيين المحترفين الذين يتعيشون على الارتباطات الخاصة التي ذكرتها أن يكونوا قادة الثورة أو ملهميها. وليس الشباب والطلبة والفتيات والحرفيون والعاطلون عن العمل وجميع أبناء الشعب الذين يرمون بأنفسهم في المعركة ويضعون ارواحهم على أكفهم سياسيين محترفين. ومع ذلك فهم بثورتهم يؤسسون للسياسة. ثم إن السياسة في نظري، خاصة في المنعطفات الحاسمة من حياة المجتمعات، أخطر من أن تترك للسياسيين المحترفين الذين يتعيشون من امتهانها بالمعنيين. كما أن المثقفين ليسوا طبقة ارستقراطية فوق السياسة وليس للمثقف امتياز على ابن الشعب العامل، وليست الثقافة معادلة للنبالة التي تترفع على السياسة والمجتمع أيضا وتحرر من يوصف بها من مسؤولياته الجماعية.

 

البصائر: لم يعد الوضع في سوريا اليوم يقوم على منطق المغالبة بين شعب يطمح للعيش الكريم، والكرامة الإنسانية، ونظام سياسي شمولي اثبت عدم قدرته على تقبل النقد والمعارضة، بل تحولت سوريا إلى ساحة من النضال الموهوم القائم على مشاريع خارج سياق التاريخ والواقع. ببساطة كيف تحوّلت الساحة السورية من فكرة تغيير النّظام الاستبدادي الظالم وبناء نظام سياسي حديث، يراعي الخصوصية الحضارية والتشكل المجتمعي المتعدد، إلى حالة من الجذرية الموهومة في تشكل النظم السياسية؟

ج: لم أفهم بالضبط ما معنى النضال الموهوم القائم على مشاريع خارج سياق التاريخ والواقع. لا يوجد شيء خارج نطاق التاريخ والواقع. تحولت سورية بالفعل إلى ميدان حرب لكن بين قوى معروفة ومصالح محسوبة، وهي القوى المتدخلة في الشأن السوري وعلى رأسها ايران وروسيا والولايات المتحدة الامريكية وتركيا وإسرائيل وبشكل أقل اليوم أوروبا وبعض بلدان الخليج. وتدخل هذه القوى ليس من قبيل الوهم ولا العبث وإنما لمصالح معروفة مادية واستراتيجية. والذي مكنها من التدخل رفض النظام السوري التفاوض مع شعبه من أجل القيام بإصلاحات وإعادة هيلكة نظام العنف والحرب المستمرة منذ نصف قرن لتحييد المجتمع وشل حركته وحرمانه من حقوقه.

والنظام هو من استدعى القوى الأجنبية لحمايته بجيمع الوسائل العسكرية لا المعارضة حتى لو ان قوى اجنبية تدخلت فيما بعد باسم دعم المعارضة. وما حصل هو أن هذه القوى أصبحت صاحبة الكلمة الأولى في الشأن السوري، قبل النظام المتلاشي والمعارضة المدماة والمحطمة. وكل ذلك على أرضية ما ينبغي أن نسميه حرب الإبادة التي شنها النظام وحلفائه ليس على المعارضين فحسب وإنما على المدنيين جميعا واستخدم فيها جميع الأسلحة بما فيها الكيماوية. في نظري كل هذا واضح وواقعي وملموس جدا وليس فيه شيء من الوهم.، كما هو واضح ترك المجتمع الدولي والحكومات الديمقراطية المجتمع السوري يغرق بدمه وتباد آماله في الكرامة والحرية والسيادة.

 

البصائر: المتابع للقضية السورية يدرك بيسر فشل المعارضة السورية، التي بدأت قوية حين انطلاق الثورة الشعبية، ثم سرعان ما تسرب اليها الضعف، عندما ارتبطت في كثير من المسائل بنظم عربية لم تكن جادة في مساعدة الشعب السوري للتخلص من نظام شمولي استبدادي...اليوم وانت خارج مجال المعارضة بتشكيل المعروف..كيف تقرأ حقيقة هذا الفشل؟

ج: بالتأكيد لعب تدخل القوة الأجنبية على جميع الجهات دورا كبيرا في إجهاض الثورة السورية لكن لا ينبغي ان يطمس ذلك مسؤولياتنا نحن السوريين أيضا، وبشكل خاص النخب السياسية، وأكثر منها النخب المثقفة، التي أظهرت عجزا ملفتا عن التفاهم والتعاون والقيادة في هذا الإجهاض. تجاهل ذلك يعيدنا إلى رواية النظام عن المؤامرة الكونية التي دفعت سورية إلى ما هي عليه اليوم، من أجل تبرئة نفسه من المسؤولية التي يتحملها كاملة عن الدمار المادي والاجتماعي والسياسي الشامل الذين قادت إليه خياراته الإجرامية بالمعنى الحرفي للكلمة، لأن حساباته كانت حسابات عصابة تحتجز رهائن اسمهم سورية والشعب السوري، ولا علاقة لها بأي سياسة مدنية صالحة أو خاطئة، عقلانية أو غير عقلانية، ولا بمفهوم السياسة والقيادة في شيء.

ما حصل هو ان شعبا مسالما مجردا من أي سلاح، دمر النظام كل بنياته الحزبية والنقابية والثقافية أو أي منظمات من أي نوع، واحتله من الداخل بخلاياه المخابراتية السرطانية، جمع طاقاته وشجاعته ووضع روحه على كفه في محاولة أخيرة ويائسة للخروج من القبر الذي دفن فيه لنصف قرن، فوجد كل ذئاب العالم في انتظاره على المخرج، بحرابها وقنابلها العمياء واسلحتها الجديدة التي تنتظر اختبارها في الأجساد البشرية الحية. وكما هو الحال اليوم في لبنان والعراق. وباعتراف الأسد نفسه في أحد خطبه، لكن الصحافة العالمية أجمع، استمات السوريون من أجل الحفاظ على سلمية الثورة قبل أن يضطر بعضهم، امام العنف الحربي الذي استخدمه النظام وحلفاؤه، إلى اللجوء إلى العنف المضاد، دفاعا عن أنفسهم وعن الثورة التي وضعوا كل رهاناتهم عليها، وبعد أن تجاوز عدد قتلى المدنيين الآلاف, وقد وثقت كل ذلك في كتابي "عطب الذات وقائع ثورة لم تكتمل" لمن يريد أن يتوسع في الأمر. في المقابل، منذ الأيام الأولى برز التدخل الإيراني باعتراف الإيرانيين أنفسهم الذين لم يخفوا هدفهم في تحويل سورية إلى المحافظة 35 الإيرانية، عسكريا على الأرض وبالسلاح وبالمستشارين العسكريين والامنيين وبالعمل الاستخباراتي والمعلوماتي بينما تخصص الروس بشل مجلس الأمن ومنع قيام أي حل أو وساطة دولية لوضع حد للحرب من طرف واحد.

أما الدول التي تتهم المعارضة بأنها استفادت من مساعداتها فهي تلك الدول التي كانت الأقرب إلى الحكم السوري وحليفته التاريخية، سواء كانت تركيا التي وقع معها اتفاقية للتجارة الحرة عام 2006 الحقت السوق السورية عمليا بالسوق التركية، أو قطر التي كانت تجمع بين أميرها والوريث السوري صداقة حميمية شخصية وأسرية، وشراكة سياسية واقتصادية كاملة. في حين كانت المملكة العربية السعودية أول من قدم الدعم السياسي والمالي للأسد بعد شهرين من الانتفاضة لحثه على القيام بإصلاحات سياسية خوفا من ان تنتقل العدوى إلى بلدان أخرى.

الآن لم يعد خافيا على احد ان الإيرانيين الذين اعلنوا سورية المحافظة رقم 35 التابعة لإيران واعتبرو الحفاظ على سيطرتهم عليها اهم من دفاعهم عن خوزستان كانت ولا تزال هي المحرك الأول لهذه المذبحة الكبرى التي تعرض لها الشعب السوري. وأكثر فأكثر يتأكد هذا الأمر في موقفها من ثورات العراق ولبنان، المعرضة للأسف لمثل ما تعرضت له ثورة السوريين واليمنيين من أخطار إن لم يستيقظ العرب والمجتمع الدولي ويساهموا في التوصل إلى تسويات تضمن حقوق الشعوب وأولها حقها في تقرير مصيرها من دون تدخل خارجي، وتحول دون تحويل المنطقة إلى ساحة خراب شامل وبؤرة لأرهاب تاريخي لا قدرة لأحد على الحد من انتشاره في كل أرجاء العالم.

 

البصائر: النّظام السوري مازال قائما، رغم أنّ مجال تحكمه أصبح محصوراً في مناطق محدودة من الجغرافيا السورية، هل تتصور أن الأزمة السورية ستنتهي بذهاب النظام الحالي، بعدما حوّل سوريا إلى ساحة من الحروب الإقليمية والدولية، أم أن المسألة تجاوزت هذا الوضع؟

ج: إن النظام السوري اليوم مجرد واجهة للاحتلالات الأجنبية وحارس على الاتفاقات العديدة والخطيرة التي أجبر على توقيعها في كل الميادين الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والثقافية، والتي وضعت مصير البلاد في يد الروس والإيرانيين، لعقود طويلة قادمة. وهذا هو السبب الوحيد لبقائه. لكن التدهور الاقتصادي المتسارع الذي يعيشه هذا النظام بسبب استمرار الحرب وسوء أوضاع عرابيها من الروس والإيرانيين، ورفض الغرب المساهمة في إعادة الاعمار من دون التوصل لانتقال سياسي يشرك الشعب في الحكم ولو جزئيا ويضمن الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، كل ذلك يضع الأسد ونظامه على حافة الهاوية، بانتظار أن يلفظ الشعب وانصار الاسد السابقين انفسهم الحكم النهائي المنتظر على حقبته السوداء المجبولة بدماء الأبرياء.

 

البصائر: هناك من السوريين من بدأ يعيد النّظر في فكرة الثورة على النّظام، فبعد الفشل الذي عرفته المعارضة والتخلي الواضح للكثير من الأنظمة التي وقفت مع الثورة في بدايتها عن القضية السورية... هل من الممكن أن تتطور هذه الرؤية لتصل إلى التخلص التام من فكرة إسقاط النّظام والسعي للوصول إلى حلول تنهي حالة الخروج على النظام، بل والتصالح معه..؟

ج: بالعكس، ما اعرفه واسمع به الآن هو أن العديد من السوريين الذين وقفوا مع النظام او على الحياد يعيدون النظر في موقفهم، وهم يعيشون آلام لفظ النظام لآخر أنفاسه، وهم يشاهدون بأم أعينهم الحالة التي أصبح عليها هذا النظام وحالة البؤس وانعدام الامل والافق وشروط الحياة المستحيلة التي أوصل إليها البلاد والمجتمع بخياراته الدموية. أما النظام فقد سقط منذ زمن طويل، ولم يعد هناك لا قانون ولا دولة في سورية وإنما مجموعات من الميليشيات التابعة بعضها للنظام بتمويل ودعم روسي وايراني أو التابعة للمعارضة المفككة. سورية اليوم ضحية صافية لتحالف الاستبداد والاستعمار المنبعث من قبوره على يد ولاية الفقيه والقيصر الروسي الجديد.

 

البصائر: الشعب السوري اليوم منتشر في كثير من دول العالم وخصوصا في أوروبا وأمريكا وكندا وخلال هذه السنوات الماضية، انخرط في هذه المجتمعات، وصنع حياة جديدة، هل تتصور أن هؤلاء سيرجعون سوريا الجديدة إذا سقط النظام، وانتهت الأزمة السورية؟

ج: سيعود قسم كبير منهم. الغرب لم يعد واحة للرفاه والسعادة والحياة الحرة. هناك من استطاع بجهده وابداعه ان ينخرط في حياة المجتمعات الجديدة لكن العنصرية والاسلاموفوبيا والتشرد في المخيمات والتعرض للاهانات تجعل الملايين ينتظرون أول فرصة للعودة إلى وطنهم. ولأن البلاد الأوروبية لم تعد واحة للسعادة والحرية كما كانت الفكرة السائدة عنها من قبل، ولا مستعدة لاستيعاب لاجئين جدد، أصبح الشعار الرئيس لثورات العراق ولبنان الذي اعتاد شعبه الهجرة والاغتراب هو تحويل البلاد التي أصبحت مزرعة تحت حكم النخب الضالة إلى وطن. في العراق ينادون حرفيا: نريد وطن، وفي لبنان: لا نريد الهجرة نريد أن نبقى في بلدنا مع أهلنا، نريد لبنان وطنا. السوريون كذلك يبحثون عن وطن يأويهم ويحميهم ويضمن لهم الحرية والكرامة والاحترام. وهذه حال جميع الشعوب العربية وغير العربية.

 

البصائر: الكثير من المثقفين السوريين الذين صاحبوا الثورة في بدايتها لا نرى لهم حضورا اليوم في المشهد السوري، هل هو مجرد فتور نضالي –إن صحّ التعبير -، أم أن تحوّلات فكرية أصبح يعيشها البعض منهم –أقصد بالتحولات الفكرية إعادة النّظر في فكرة الثورة؟

ج: لا أعتقد ان هناك تغيرا في موقف المثقفين السوريين من الثورة. فلم يتخل احد من المثقفين البارزين الذين التحقوا بها عن موقفه السابق بل بالعكس زاد اقتناعا بأن نظام الأسد نظام وحشي وبدائي لا يستحق الحياة وان استمراره يعني الموت السريري وربما السياسي لسورية كدولة وشعب. لكن غلب على بعضهم شعور عميق بالإحباط وانعدام القدرة على المبادرة نتيجة خروج الأمر من بين أيدي السوريين جميعا وانتزاع الدول المحتلة، المتسترة وراء شبح السلطة الأسدية، كما ذكرت، المبادرة وتهميش المعارضة ان لم يكن استتباعها. وربما لا يزال يغلب على قسم كبير منهم ويمنعهم من المبادرة وعيهم الخاطيء بأن السياسة ينبغي أن تترك للسياسيين، الذين لا يمكن أن يكون لهم أي وجود حقيقي في نظام بني أساسا وكرس كل موارده وأجهزته وقوانينه من أجل قتلهم والسياسة معهم في المهد ومنعهم من الوجود.

 

البصائر: بعد توقف مسيرة الثورات العربية، والانتكاسة التي حصلت في مصر، والوضع الإنساني المزري في سوريا واليمن وليبيا..انطلقت موجهة من الثورات العربية في السودان وتحولت إلى الجزائر، ثم العراق ولبنان...كيف يقرأ الدكتور برهان غليون هذه الروح التي تسري في جسد الأمة، باعتباره مفكرا ومناضلا سياسيا، وكاتبا دائم الحضور والمتابعة في المشهد السياسي العربية، وهل تكون ما بعد الثورة لحظة البداية للنهضة التي نظّر لها العرب كثيراً وحلموا بها أكثر؟

ج: تأخر العالم العربي كثيرا في استيعاب المكاسب الإنسانية الكبرى في ميدان السياسة والأخلاق المدنية ومشاركة الفرد في الحياة العامة واحترام كرامة الانسان، سواء بسبب طبيعة النظم الغاشمة والاستبدادية أو ثقافة التمييز الاجتماعي ضد الفقراء والضعفاء الذين تحولوا إلى أبناء سبيل، بالإضافة إلى العوامل الخارجية والسياسات شبه الاستعمارية. وما نعيشه اليوم هو انفجار الحرية والمطالب الإنسانية التحررية التي حرمت منها الشعوب لعقود طويلة وكادت تتحول بسبب ذلك إلى حشود لا رابط بين أفرادها ولا قضايا تجمع بينهم.

انتهى زمن الاستكانة والطاعة والانصياع وبدأ زمن الصراع المرير وربما الدموي من أجل انتزاع الاعتراف بالأهلية، أي بالمواطنة الحرة والمتساوية، لجميع الأفراد، من دون تمييز في العقيدة أو العرق او الجنس أو المهنة او المكانة الاجتماعية. إنها ثورة المساواة السياسية وإسقاط الألقاب والامتيازات وطبقات الأسياد من الارستقراطية القديمة والحديثة، والمثقفين ورجال المال والاعمال، وهيئات الملالي ورجال الدين معا. إنها ثورة الكرامة التي لا تتحقق إلا بالمساواة، والقضاء على كل اشكال التمييز الاجتماعي والسياسي التي تبيح خرق القانون يوميا وتجعل من الدستور المؤكد للمساواة بين المواطنين مجرد كلام فارغ لا معنى ولا رصيد له في الواقع.

ومن هذا المنطلق تقطع هذه الثورات العربية مع الماضي السياسي التقليدي لتضع أسس قيام أمة/امم بالمعنى الحديث للكلمة، يصبح فيها الشعب مصدرا للسيادة والسلطة، ويتحول فيها كل فرد إلى مواطن، أي موطن مسؤولية، وناطق صاحب صوت، وشريك في تقرير المصائر العمومية، ولا يبقى نفرا في حشد أو قطيع يتبع وينفذ ويجري وراء الكلأ والماء.

 

البصائر: لا شك أن هناك ملامح لنهاية الأزمة السورية...كيف تتصور النهاية، بعيداً عن شكل مشوّه من نموذج الدولة الحديث (نظام الأسد) وبروز شكل جديدة للدولة، مع تركة ثقيلة من مشاكل سيتركها هذا النظام، سواء في مرحلة ما قبل الثورة أو خلال سنوات الأزمة؟

ج: سورية اليوم وربما سوف تبقى لفترة قادمة تحت حكم الوصاية الأجنبية المتعددة الأقطاب. ولن تستطيع أن تستعيد حريتها واستقلالها وسيادتها ما لم ينجح السوريون في امتصاص آثار الصدمة/المذبحة الكبرى التي تعرضوا لها، ويتغلبوا على الجروح والاعاقات التي نجمت عنها، وأن يستعيدوا وعيهم السياسي وووحدتهم ومسيرتهم السياسية التي لم يكن الهدف من حرب الإبادة التي شنت عليهم، سوى إجهاضها، وقطع الطريق عليهم، وتفريق صفوفهم وكسر إرادتهم لحرمانهم من استعادة وطنهم والانتقال من مجتمع الحشد إلى مجتمع المواطنة.

 

البصائر: الجزائر اليوم تعيش حالة من الغليان الاجتماعي والسياسي، كيف قرأ الدكتور برهان الحراك في الجزائر، خصوصا أن الأمر في الجزائر أخذ منحى مختلفاً تماماً عن الدول العربية التي عرفت الموجة الجديدة من الثورات...؟

ج: لا يختلف مضمون الثورات الراهنة في الجزائر عما هو في جميع البلاد العربية وغير العربية التي تأخرت في استيعاب روح المدنية الحديثة وقيمها ولم يعد من الممكن التهرب من الاستحقاق التاريخي وعدم تسديد الحساب إلى ما لانهاية. ما يميز الحالة الجزائرية ويجعلها فريدة بالمقارنة مع الحالات الأخرى هو أن عملية إجهاض سابقة عنيفة كانت قد حصلت في بداية التسعينيات شاركت في المسؤولية عنها النخب الحاكمة والمعارضة معا، وأصبح من غير الممكن اليوم تجاهلها كما أصبحت إعادة تجربتها مكلفة أكثر للدولة والمجتمع معا. ولهذا أنا أعتقد ان الجزائر أكثر جاهزية اليوم من غيرها للدخول في زمن الانتقال السياسي الديمقراطي، ليس بمعنى الأخذ بمبدا الانتخابات الحرة، وإنما أكثر من ذلك القضاء على روح التمييز والامتيازات بين النخب الاجتماعية والشعب، والسير نحو الممارسة الفعلية لمبدأ المساواة السياسية والقانونية والأخلاقية بين المواطنين جميعا من دون تمييز. لكن جاهزة لا يعني أن أصحاب الامتيازات سيقبلون ذلك بسهولة. سيحتاج الأمر إلى مفاوضات ومناورات وصراعات داخل النخبة وفي الساحة الشعبية حتى تنطلق المسيرة بالفعل. فمن الصعب على من عاش الامتيازات وسكن في القصر العاجي دهورا ان ينزل منه بخاطرة، أو ما لم يجبر على ذلك.

 

البصائر: كلمة أخيرة لقراء البصائر وللشعب الجزائري؟

ج: على الجزائريين الذين ضربوا أروع مثل في الثورة السلمية والشجاعة والمثابرة أن يستمروا ويثقوا بأن النصر سيكون إلى جانبهم. فليس لأعداء الديمقراطية اليوم خيار سوى التسليم بالأمر الواقع والاعتراف بان الشعب نضج وشب عن الطوق ولم يعد من الممكن الضحك عليه. لكنهم يراهنون على تعب الحركة الشعبية من جهة وعجزها عن الاحتفاظ بوحدتها أمام مناورات السلطة القائمة. 

من هنا تقع على النخبة الثورية اليوم مسؤولية رئيسية في ابداع السبل الكفيلة بنقل الحركة الشعبية العفوية إلى حركة منظمة أو اكتشاف أشكال التنظيم الممكنة والأساسية التي من دونها لا يمكن تحويل القوة الشعبية العفوية إلى قوة منظمة، بما يضمنه التنظيم من الاستمرارية في الزمن وتماسك في الحركة، أي من فاعلية متسقة وطويلة المدى، هي وحدها القادرة على إزاحة النخب القديمة الفاسدة وإحلال نخبة جديدة محلها، أو بالأحرى توليد نخب اجتماعية جديدة بثقافة مختلفة. وهنا يكمن التحدي الرئيسي الذي تواجهه ثورات الشعوب العربية، والذي يتوقف على سرعة الرد الايجابي عليه الانتقال نحو نظم جديدة تقوم على المواطنة وحكم القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تنشدها جميع الشعوب اليوم من دون استثناء.

 

حوار عبد القادر قلاتي 

https://scontent-cdt1-1.xx.fbcdn.net/v/t1.15752-0/p480x480/80600091_560482107841583_482587284202323968_n.jpg?_nc_cat=108&_nc_oc=AQmZSUpO9I-I1eQzNyIBxxckhLa63RamFPk9BKqVmrVIc8zkZSZw-vukY65ZPz1ef_w&_nc_ht=scontent-cdt1-1.xx&oh=675d3482bee7c8c98b039432508f768d&oe=5EA3AACC