مقابلة مع حرية برس: المعارضة انتحرت سياسيا بفصلها بين القوة العسكرية والسياسة

2019-06-24 :: حرية برس

في ظل الهجمة الروسية على اتفاق خفض التصعيد في الشمال السوري، وانقلاب موسكو على تفاهمات سوتشي واستانا، يفرض واقع دموي جديد نفسه على السوريين، ومع ذلك تواصل مؤسسات المعارضة والثورة السورية ضياعها، ويواصل المجتمع الدولي والدول الفاعلة جريمة التخلي عن شعبنا في مواجهة مجازر نظام الأسد وحلفائه الروس واللإيرانيين، وعبثهم بمصير سوريا.

المفكر والأكاديمي السوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، يتحدث لـ “حرية برس” عن كتابه المثير للجدل “عطب الذات – وقائع ثورة لم تكتمل”، ويعرض قراءته للمشهد السوري، وحال مؤسسات المعارضة السورية المخيبة لآمال السوريين بواقعها الراهن، في حوار مع رئيس تحرير موقع حرية برس:

* أثار كتابكم الأخير “عطب الذات – وقائع ثورة لم تكتمل” جدلاً واسعاً في أوساط ناشطي ومثقفي الثورة، باعتبار أنه قدم نقداً وقراءة فضحت ممارسات هياكل المعارضة السورية الخاطئة، لكنكم لم تولوا الأهمية المطلوبة في مجال طرح خطط أو مبادرات الإصلاح اللازمة التي يأملها منكم الشعب السوري الثائر؟

د. برهان غليون: بشكل مباشر هذا صحيح. لكن في تشريح المصاب توجد إشارات إلى سبل العلاج. والتشريح هو الخطوة الاولى والاهم للوصول إلى الحل لأنه لا يمكن لأحد تصور المخرج من دون معرفة أسباب الانسداد. وعطب الذات هو كتاب أول حول الكارثة السورية، وآمل أن أتمكن بوقت معقول من إتباعه بكتاب آخر أقرب إلى البحث عن الأجوبة الصعبة لمشاكل معقدة جدا تعيشها “الجماعة” السورية” التي لم نعد نعرف اليوم كيف نصفها وإذا ما كانت أمة أم شعبا أم شعوبا أم طوائف أم محميات أو مستوطنات ومستعمرات.

* في الجزء الثالث من الكتاب تناولتم جدل العلاقة بين هياكل الثورة والمعارضة والدول العربية والأجنبية، يقول منتقدوكم أن ما ورد في هذا الجزء يبدو لطيفاً للغاية قياساً بمدى الأثر السلبي لعلاقة الخارج بالداخل الثوري والمعارض؟

د. برهان غليون: دعني أقول إن قرار عدم التدخل هو الذي كان أكثر “التدخلات” سوءا وإساءة للثورة والشعب السوري من جميع التدخلات التي أعقبته. وامتناع التدخل الدولي لأسباب متعددة شرحتها في الكتاب، وعلى رأسها تعطيل مجلس الأمن من قبل موسكو، لكن ليس وحده، هو الذي فتح الباب أمام التدخلات التي أتت بعد ما يقرب من سنة على مرور الثورة السورية السلمية، وهو الذي حدد نوعية هذه التدخلات وحجمها. فباستثناء ايران التي كانت لها أقدام عميقة في أجهزة النظام السوري وتحتل مواقع أمنية وسياسية مهمة فيه، لم يبدأ التدخل الجدي للدول العربية وغير العربية، إلا في عام 2012. وفي البداية كان لا يزال محدوداً نسبياً، وكان بإمكاننا لو نجحنا في أن نشكل جبهة وطنية عريضة متحدة وفاعلة، وهذا ما هدف إليه تشكيل المجلس الوطني، أن نتجنب التدخلات الفظة التي حدثت فيما بعد، وربما أن نقطع الطريق على العديد منها. وعندما أخذت التدخلات طابعاً إقليمياً ودوليا واسعا غرقت الثورة أو أغرقت في حروب لإقليمية ودولية بالوكالة، وحصل تهميش الأجندات الثورية تماما لصالح الاجندات الخارجية.
تركيزي على الفترة الأولى للثورة، بين آذار 2011 وآذار 2012 كان الهدف منه إبراز مسؤوليتنا الذاتية في الفشل لأنه كان لايزال لدينا بعد بالفعل هامش مبادرة وحرية عمل لا بأس بهما، تستمدان قوتهما من تضحيات غير مسبوقة للسوريين الثائرين، وقد أضعنا هذا الهامش، ولم نعرف كيف نوظفه لقطع الطريق على التدخلات الأجنبية التي سيكون لها كل الدور في دفع الأوضاع لما آلت إليه فيما بعد.
لكن مع تفاقم التدخلات الدولية والاقليمية المباشرة، وانتزاعها المبادرة والوصاية السياسية والعسكرية من أطر العمل المعارض، منذ نهايات 2012، وانقسام المعارضة، وانغلاق المجلس على نفسه، واستبداله بإئتلاف مصنع من الدول، خرجت المبادرة من بين أيدينا، وأصبحنا تابعين للآخرين إلى حد كبير. لقد بنيت فيما بعد استراتيجيات كاملة لإبعادنا نهائيا عن المشاركة في تقرير مصيرنا، ومنها السماح لإيران بالتدخل المباشر، وإطلاق داعش والقوى المتطرفة الدولية، وفيما بعد التدخل الأمريكي إلى جانب ميليشيا سورية كردية، ثم التدخل الروسي العسكري الواسع. والواقع أن الأمريكيين أمسكوا منذ منتصف العام الثاني للثورة بإدارة ملف القوى العسكرية ومن ورائهم دول الخليج العربية التي شكلت ما يشبه الواجهة لهم. وهم جميعاً مسؤولون عن التدخل الوظيفي الأخطر الذي ساعدهم على إخراجنا من الميدان، الذي حصل تحت اسم داعش والارهاب العالمي.
إذن دور القوى الأجنبية وتدخلاتها المتقاطعة والمتوازية كان لها الدور الحاسم في تغيير مجرى الصراع لغير صالح الثورة السورية، لكن فقط لأننا فشلنا في حمل مسؤولية تنظيم جبهة موحدة ومنظمة وفاعلة. ولو حصل ذلك لجنبنا أنفسنا الكثير من التدخلات وأصبحنا فاعلاً قوياً لا يمكن تهميشه. من هنا حاولت أن أسلط الضوء على الحقبة الأولى التي كان لا يزال لدينا قدرة فيها على أن نلعب دوراً أكبر بكثير، وفشلنا بسبب تشتتنا وانقسامنا وتصادم أجنداتنا. كان هذا التركيز يهدف إلى تجنيب أنفسنا إلقاء المسؤولية بأكملها على العوامل الخارجية وتجاهل العوامل الذاتية الداخلية ومن ثم الهرب من المسؤولية ورفض المراجعة النقدية. بينما هذا هو المهم بالنسبة لنا، فلن نستطيع أن نستعيد المبادرة ونتجاوز عثرتنا في هذا الصراع المتعدد الأطراف القائم اليوم في بلادنا والذي أزحنا كليا عنه تقريبا، ما لم ننجح في فهم أخطائنا وتحمل مسؤولياتنا بصورة جدية أكثر. مسؤولية القوى الخارجية في الكارثة واضحة كالشمس ولا يفيدنا التركيز عليها سوى في إظهار الظلم الواقع علينا، أما التركيز على دورنا فهو يرمي إلى اصلاح سلوكنا واستعادة المبادرة. بمعنى آخر لن يفيدنا كثيراً ولن يوسع من هامش مبادرتنا الذاتية إبراز وحشية القوى الخارجية وعدائها، أما تغيير شروط الصراع لصالحنا فيتوقف على صحة مساءلتنا ومحاسبتنا لأنفسنا وتعديل سلوكنا، ومن وراء ذلك التعلم على الاعتماد على أنفسنا. فهذا ما نملك نحن التأثير عليه، أما محاسبة القوى الأجنبية فهي مسألة أخرى ينبغي أن نتابعها على المستوى السياسي والقانوني على الساحة الدولية. وفي اعتقادي أن خطأنا الأكبر الذي حرمنا من تحقيق أهدافنا كان مراهنتنا الكبيرة، منذ بداية الثورة، على المجتمع الدولي أو على التدخل الخارجي. فخضنا الحرب من دون خطة ولا قيادة ولا توحيد الصف، ولم نلبث حتى فلتت الأمور نهائيا من أيدينا، ولم نعد قادرين على أن نعمل شيئا ضد تدخل الآخرين، بل لقد أصبحنا نحن أنفسنا أدوات لهذا التدخل.

* تعيش الثورة السورية مرحلة إنكفاء وانكسار، لكن كيف تنظرون إلى ما نتج عن الثورة باعتبارها حراكاً شعبياً واسعا من تغيرات وتحولات في وعي المجتمع السوري وبناه الأساسية؟

د. برهان غليون: بفضل تضحيات الشعب غير المسبوقة وغير المتوقعة من قبل أحد، بما فيها المعارضات السياسية السورية، واستبسال شباب سورية في الذود عن حقوقهم وكرامتهم والارتماء على الشهادة من دون حساب، تحقق للسوريين تقويض النظام الاستبدادي القائم وتفريغه من مضمونه وتحويله إلى حكم عصابة مهلهلة كما كان في حقيقته، ونزع قناع الدولة عنه. ولن تقوم لهذا النظام في أي وقت قادم قائمة. هذا هو الإنجاز الرئيسي للثورة السورية حتى الآن. وهو إنجاز عظيم ما كان من الممكن تحقيقه من دون تضحيات استثنائية، لأن نظام الأسد لم يكن نظاما سوريا فحسب ولكنه كان أحد أركان نظام الهيمنة الاقليمية وتقاسم المصالح الإيرانية الخليجية، كما كان جزءا من نظام السيطرة العالمية وتحييد الشعب السوري بأكمله لصالح حماية الأمن الاسرائيلي والاستقرار في الشرق والتعاون في تحويل الحرب على الإرهاب إلى حرب عالمية تخفي من خلالها دول السيطرة الامبريالية التناقضات والكوارث الاجتماعية والبيئية وفي مقدمها مسائل الفقر والتنمية وحكم الاجرام السياسي الذي تتعاون معه في أكثر من بلد ومنطقة. ولذلك لن ننجح كسوريين في التخلص من أنقاض هذا النظام المحطم الجاثمة على صدورنا، كما تمثل ذلك أفضل تمثيل صورة حطام البراميل المتفجرة التي تسقط يوميا على أجساد أطفال سورية وأبنائها، ما لم ننجح في التفاهم مع هذه الأطراف المختلفة المتنازعة على الطريدة السورية على إيجاد نظام بديل يضمن للسوريين حقوقهم الطبيعية الأساسية ويعيد تعريف مكانة سورية ودورها في الاستقرار والأمن والسلام العالميين، بشكل مختلف عما كان عليه الحال مع نظام الاستبداد وحكم العصابة والجريمة. وإذا فرض علينا نموذج حكم يهدف إلى تأمين مصالح الدول الاقليمية والعالمية بالطريقة ذاتها التي اتبعها النظام السابق وبالوسائل ذاتها، فلن يكون أمامنا سوى الاستمرار في الكفاح سنوات طويلة قادمة حتى نفرض على الجميع الاعتراف بحقوقنا الأساسية في السيادة والكرامة والحرية وحكم القانون وباحترامها. وسوف تبقى سورية في هذه الحالة بؤرة توتر ونزاع لا ينتهي.

* تبدو العملية السياسية متوقفة تماماً، ما توقعاتكم لخطواتها القادمة؟

د. برهان غليون: العملية السياسية قد تتقدم أو تتراجع بين فترة وأخرى، لكن كل ذلك لن يفيد شيئا ما لم تنجح الدول التي تتقاسم السيطرة على سورية في إعادة تعريف مصالحها والتفاهم فيما بينها عليها، وفي ما وراء ذلك التفاهم مع السوريين على تعريف جديد لدور سورية وضمان مصالح شعبها الأساسية في دائرة الصراعات الاقليمية والدولية. ولا يزال هذا شديد الغموض أو لم ينضج بعد حتى الآن، بالرغم من التفاهم الأولي على إخراج العسكرية الإيرانية من البلاد السورية.

* هل بقي لدى هياكل المعارضة، ومنها هيئة التفاوض من أوراق أو وسائل للضغط على النظام وحلفائه في مفاوضات العملية السياسية؟

د. برهان غليون: لا ينبغي أن نخدع أنفسنا. ليس لهياكل المعارضة اليوم أي وزن، ولا تملك أي أوراق مستقلة خاصة غير تلك التي تريد بعض الدول مثل تركيا والغرب عموما أن تؤمنها لها حتى تستخدمها في الضغط من أجل إحداث إصلاحات في النظام السوري، بوجود الأسد أو من دونه، تتفق مع مصالحها الاستراتيجية. المعارضة القديمة انتحرت سياسياً منذ أن قبلت الفصل بين القوة العسكرية والقوة السياسية وسلمت أمرها لقوى أجنبية حليفة أو نصف حليفة أو حتى ليست كذلك.

* المعارضة اليوم في أضعف حالاتها، هل بإمكان المعارضة استعادة زمام المبادرة أم أن قرارها بات مرتهنا بالكامل للدول الداعمة؟ وما الذي يترتب على المعارضة فعله اليوم حتى تستعيد قرارها الوطني؟

د. برهان غليون: هياكل المعارضة الراهنة ليست سوى صورة لقوى المعارضة وتفكك الطبقة السياسية والنخب السورية جميعا بما فيها النخب الاقتصادية والاجتماعية والانتلجنسيا والنخبة الأعيانية من زعماء العشائر ورجال الدين. وليس لديها فرصة لاستعادة المبادرة من دون أن تجدد نفسها وتستعيد، وعلى رأسها نخبة النشطاء في الداخل الذين لا يزالون يقارعون عنف الاحتلال والاستبداد، تماسكها وروحها وتحقق تفاهمها وتنمي قدراتها، أي من دون أن تصبح قوة فاعلة ومتضامنة ومناضلة وتوقف الصراعات والحزازات الداخلية التي تمزقها وتفقدها الثقة والصدقية في الداخل والخارج.

* هل سيتمكن الأسد من الاستمرار واستعادة السيطرة على حكم البلاد؟

د. برهان غليون: الأسد كما كان سابقاً.. مات، أو انتحر في عملية نحر المجتمع السوري التي أعد لها ورتبها بنفسه. ما تطمح إليه الدول الملتفة حول الفريسة السورية اليوم هو أن تصنع عميلا آخر، من تدوير القديم، أو الإتيان بجديد، يجسد المشروع المقبل الذي تريده لسورية والذي لم تتفق عليه، كما لم يتفق عليه السوريون أنفسهم، بعد.

* استشهد قبل أيام أحد رموز الثورة الشباب، عبد الباسط الساروت، ماذا ترك في ذاكرتكم عنه؟

د. برهان غليون: صورة بطولية لكفاح الشعب السوري وتضحياته العظيمة ومواجهته العنيدة والشجاعة معا من أجل مستقبل عجزت النخب السورية المثقفة والسياسية للأسف عن حمله وقيادة الشعب إلى تحقيقه. لقد جسد في حياته وقتاله واستشهاده روح الثورة السورية المتوقدة للتحرر من القهر، وفي الوقت نفسه ما آل إليه وضع الشعب السوري في سياق جبن النخب وانتهازيتها، وخيانة الدول الكبرى العهود والمواثيق الدولية، وشهوة التوسع التي راودت بعض الدول الإقليمية على أمل أن تتحول إلى قوى امبريالية شريكة. الساروت هو التجسيد الحي لعظمة الثورة السورية وضعفها في الوقت نفسه.

https://horrya.net/archives/108093