مقابلة الاتحاد برس: عن أخطائنا الفردية والجماعية

2020-04-30 ::

_ صدر نهاية عام 2019، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، كتاب لك حمل عنوان "عَطَب الذات… وقائع ثورة لم تكتمل". يتناول الكتاب تفاصيل عديدة من المرحلة المبكرة لعمل المجلس الوطني برئاستك وقضايا أخرى تتعلّق بالمعارضة وأدائها، كما وصفتَ الكتاب بأنّه: "كشف حساب". فكيف تمّ كشف الحساب هذا؟ وما هي النتائج التي يفترض بالكتاب أن يحقّقها، وبخاصة على صعيد النخبة المثقّفة وما يرتبط بالمكاشفة الذاتية لديها؟.

 

ج:

أردت في كتاب عطب الذات ان اضع السوريين، اي نحن كجماعة وطنية، بمعارضيهم وثوارهم ومواليهم، امام مرأة احوالهم، حتى يتسنى لنا جميعا ان نكتشف عيوبنا وفضائلنا في الوقت نفسه، انقساماتنا ومماحكاتنا وضعف بنانا السياسية والفكرية من جهة، وبطولات ابنائنا التي لا يمكن لأحد ان يتجاهلها واستعدادهم للتضحية الكبرى من اجل الكرامة والحرية من جهة ثانية. وهكذا يمكننا ان نعرف ماهي نقائص فعلنا الفردي والجماعي وماذا علينا ان نفعل لاصلاحها، وما هي نقاط قوتنا التي ينبغي ان نرتكز عليها ونعززها من اجل الانتصار في المرحلة الثانية للثورة او لمسيرة التحرر الحتمية، التي لن تتوقف حتى تحقق اهدافها. ومن ثم توفير المزيد من التضحيات في الأرواح ومن هدر الموارد للوصول الى غاية السوريين في بناء نظام ديمقراطي وطني يلبي تطلعاتهم ويحقق الغايات التي كافحوا كفاح الأبطال من اجل تحقيقها. 

من هذه النقائص مثلا المستوى المتدني من الثقة الاجتماعية التي جعلتنا نفشل في التفاهم فيما بيننا وإقامة مؤسسات قوية وثابتة تحظى بالدعم للعمل الوطني وحتى الانساني، ولا نزال الى اليوم نعاني منها. ومنها فقدان نخب المعارضة والنخب الاجتماعية الأخرى التي تصدت لتنظيم حركة الشعب الذي رمى بنفسه من دون حساب في مواجهة نظام التوحش والبربرية، والتي استسلمت لوهم تدخل دولي يضع حدا لعنف النظام، في الوقت الذي كان الرئيس الامريكي اوباما يبيع سورية لايران مقابل توقيعها الاتفاقية الخاصة بالصناعة النووية الايرانية. واخيرا الوقوف مكتوفي الايدي امام تشرذم الفصائل المسلحة التابعة للثورة والتغاضي عن الفوضى التي كانت تسم صفوف الجيش الحر ثم ترك قيادته للقوى السلفية والتساهل مع تدخلات الدول الاجنبية في تنظيم شؤونه وتمويله وتسليحه وقراراته، وعدم المبادرة لوضع حد لهذه التدخلات وللتشرذم الذي تحول فيما بعد لاقتتال دائم بين الفصائل التي تدعي الانتماء للثورة. 

باختصار ما كان ينقصنا هو الثقة المتبادلة والتنظيم والإدارة والروح الوطنية الجامعة للقيام بعمل موحد وتوحيد الارادة الثورية، وكذلك انعدام الخبرة السياسية والموهبة الاستراتيجية. كنت احذر منذ بداية تفاقم الضغوط على المجلس لتوجيه نداء للتدخل الدولي ضد عنف النظام ورفضه قرارات مجلس الأمن، وللمطالبة بتسليح الثورة من قبل المجتمع الدولي، والتخلي عن شعار السلمية الاصلي وتحويلها إلى ثورة مسلحة، أمام تزايد عدد ضحايا رصاص النظام، بأن الدخول في المواجهة المسلحة لن يقلل من عدد الضحايا ولكنه سوف يزيدها اضعافا مضاعفة، ولن يقصر من عمر الصراع ولكنه سيطيل امده وسنواته، وأنه لن يضمن لنا الاستقلال بقرارنا ولكنه سوف يزيد من تبعيتنا للآخرين الذين سوف نحتاج اليهم بشكل اكبر لتأمين حاجتنا من السلاح والعتاد والمال. والأمر الرابع الذي ادركته فيما بعد، لكن بسرعة، انه لن يساعد على تعميق وابراز شعارات الثورة الاصلية في الكرامة والحرية وإنما سوف يقدم فرصة من ذهب للتيارات السلفية لانتزاع القيادة وتحويل الثورة السياسية الى جهاد في سبيل تطبيق الشريعة واقامة الدولة الاسلامية وتهميش او الاعتداء على القوى التي لا تشاركها اعتقاداتها الايديولوجية. 

 

_ في ذات السياق، كتب الكاتب والمعارض السوري موفق نيربية في مراجعته لـ"عطب الذات" قائلاً: "إن الشيء اللافت في هذا الكتاب هو الاندفاع في الرواية والتحليل والرأي، مع أن القوى الرئيسة الثلاث في المجلس كانت تعمل بمعزل عنه (يقصد د. برهان)، فلا يعلم دائماً حقائق الوضع." مدلّلاً على ذلك بحدث تراجعك عن توقيع أجريته مع هيئة التنسيق في القاهرة فيما يتعلّق بالجامعة العربية. ويضيف "استمرّ يومها رئيساً أكثر ضعفاً وتعرّضاً للتهجّم، وربما ضيّع آنذاك فرصة كبيرة لأن يستقيل ويحافظ على مركزه الكبير.". فما مدى صحّة هذه الاتهامات وذلك التوصيف؟

 

ج:

هو بالتأكيد أدرى بما كان يجري في دمشق بين القوى السياسية التي تآلفت داخل المجلس الوطني وأرادت ان تديره بالتفاهم فيما بين قادتها من وراء ظهر رئيس المجلس الوطني ومكتبه التنفيذي وهيئته السياسية. وقد عرفت ذلك فيما بعد، لأنني كنت اعتقد ان الاساس هو الوثيقة التي اتفقنا عليها والقيادة التي نالت بالاجماع موافقة الأعضاء ولم تفرض نفسها بأي قوة خارجية. لكن تبين فيما بعد ان القرارات كانت تجري بالتشاور من وراء ظهر الرئيس والمكتب التنفيذي ومن اجل إفشال قرارتهما وإجهاض تحركاتهما، خاصة بعد ان نجح المجلس دبلوماسيا وزادت رغبة الكثيرين من المتنافسين على التداول على  منصب الرئاسة الذي ليس له من الرئاسة الا الاسم لان العمل كان يجري بالتوافق بين اعضاء المكتب التنفيذي جميعا. وفي هذا الاطار أفشلت هذه القوى الاتفاق المذكور الذي لم يكن مع هيئة التنسيق وانما مع الجامعة العربية التي اشترطت ايجاد حد ادنى من وحدة المعارضة بهدف الحصول على مقعد سورية في مجلس الجامعة العربية. 

وإذا كنت قد ترددت في تقديم الاستقالة في تلك اللحظة فقد كان ذلك بالضبط لأنني كنت مصمما على افشال المؤامرة التي ربما كان صديقي نيربية شريكا فيها ويعرفها من الداخل، وهي استخدام التشكيك بوثيقة القاهرة لشن حملة تشويه وضغوط مكثفة لاجباري على الاستقالة واستعادة السيطرة على المجلس من قبل التحالف الثنائي بين جماعة الأخوان ومجموعة إعلان دمشق. وهذا ما جعل هذا الثنائي يصبح أكثر شراسة وعدوانية فيما بعد ويقرر ان ينتزع الموقع بأي ثمن، ومهما كانت النتائج السلبية بالنسبة للثورة. وقد اضطررت بالفعل لتقديم استقالتي لاحقا بعد ان تعطل العمل في المجلس تماما ولم تعد هناك فائدة في مقاومة الضغوط والنهاية معروفة بعد ذلك للمجلس بسبب هذه السياسات الطائشة والتي تمثل نموذجا واضحا لانعدام الثقة الذي ذكرته والانفراد بالقرارات وعدم احترام المؤسسات والتشكيك المسبق والجاهز في نوايا الآخرين بحيث تنعدم اي علاقة جدية رفاقية او صداقية. 

 

_بعد خوضها مؤتمرات جينف وأستانة وسوتشي، عادت المعارضة اليوم إلى جنيف وانخرطت في جلسات اللجنة الدستورية. فما الذي دفع بالمعارضة للقبول بهذه التسوية؟ وكيف يرى الدكتور برهان إلى اللجنة الدستورية بوصفها مشروع حلّ سياسي في سوريا؟.

 

ج:

منذ أن تفجرت ازمة المجلس الوطني في تشرين الثاني من عام 2012 لم تعد المعارضة سيدة امرها. اصبحت تطبق ما يمليه عليها مباشرة التفاهم بين الطرفين الرئيسيين جماعة الأخوان المسلمين وإعلان دمشق. ثم فيما بعد الدول الراعية للمعارضة التي فقدت للاسف بوصلتها الشعبية، بمثل ما فقد الشعب الثوري المسلح، قيادته السياسية الوطنية. اما الحل فهو ليس في يد اللجنة الدستورية ولا في يد مؤتمر جنيف ولا حتى في يد مجلس الأمن الذي صوت على قرارات جنيف. إنه في يد الدول التي تحتل سورية وتملك فيها قوى عسكرية وميليشيات تابعة لها ولديها القدرة على التحكم في قرارات قادتها الرسميين الحاليين إن لم يكن في صياغة هذه القرارات مباشرة. وما لم يحصل التفاهم بين هؤلاء لن يكون هناك حل. لكنني اعتقد ان الازمات وربما نستطيع القول النكبات التي تعاني منها دول عديدة وضعت اقدامها بقوة في الأرض السورية مثل ايران وروسيا وجزئيا بقية القوى التي هدد وباء كورونا استقرارها، سوف تقلل من قيمة الصراع في سورية وتشجع على التفكير بمخرج متفق عليه متى ما صنعوا البديل المناسب لهم.



_ قلت في تقديمك لـ"عطب الذات" التالي: "لا يبحث هذا الكتاب في تاريخ ثورة السوريين، ولكن، بالأحرى، في تاريخ إجهاضها، الذي هو ذاته تاريخ العجز عن بناء القوة الاجتماعية والسياسية.". هل أُجهِضت الثورة السورية حقّاً؟ وإن حدث فأين أمل السوريين إذاً؟ 

 

ج:

أجهضت بالتأكيد بسبب تكالب وحوش العالم عليها في الداخل والخارج لحرمان الشعب السوري من تحقيق امله في دولة ديمقراطية تحترم كرامة افراده وحقوقهم، وخوفا من تأثير مثل هذا التحرر لشعب كبير وعريق في الحضارة على توازنات القوى المختلة كليا لغير صالح الشعوب العربية في المنطقة. جميع المستفيدين من انهيار العالم العربي واختناقه بروائح العفن الصادرة عن أنظمته المتفسخة، من الطبقات الطفيلية المحلية الى المشاريع الامبرطورية لبعض النخب الدينية الى المشاريع الاستعمارية والاستيطانية، تنادت لتئد الثورة السورية وتخنق انفاسها وتحولها، ومعها فكرة الثورة في المنطقة المشرقية، إلى كارثة مجسمة وعينية.  لكن الخيار الشمشوني لا يقدم انتصارا لأحد. ولن تنتهي المقاومة، وتخرج سورية من الظلام الدامس الذي وضعت فيه، وتصبح من جديد دولة بمعنى الكلمة  مالم تتحقق أماني الشعب السوري وتعوضه عما لحق به من أضرار وخسائر مادية ومعنوية، سواء من خلال تطبيق العدالة ومحاسبة القتلة والمجرمين أو من خلال إقامة نظام ديمقراطي يحترم ارادة الشعب وحقوقه التي لا تقبل التنازل. 

 

_ قامت الإمارات العربية المتحدة بالتقرّب علانية من نظام الأسد في دمشق بذريعة دعم الشعب السوري في محنته المتوقّعة إثر انتشار فايروس كورونا في المنطقة. فكيف يقرأ الدكتور برهان هذا التقارب العلني، وهل هناك من جديد في علاقة النظامين، أو علاقة دولة الإمارات والنظام السوري؟.

 

ج:

حاولت دول الجامعة العربية منذ سنتين فتح باب التطبيع التدريجي مع النظام، خاصة وانها تعتقد انها نجحت في صد الهجمة الاولى من ثورات الربيع العربي، وتريد أن تنسق فيما بينها لصد الموجة الثانية القادمة لا محالة. لكنها فشلت في ذلك بسبب خوف معظم دول العالم الديمقراطية من ان تلوث يديها وسمعتها بنظام تثبت التقارير القانونية الدولية كل يوم مدى امتهانه الاجرام في حكم شعب مسالم، وفي سحق إرادته في التحرر وتحويل ثورته السلمية إلى مجزرة يومية خلال تسع سنوات، وحرب إبادة وتطهير طائفي جماعية. بالاضافة إلى ان فضائح هدر موارد البلاد وتعميم الفساد لدى افراد الطبقة الحاكمة، والتي نشر بعضها في صحافة روسيا الحامية للنظام، اثبتت لحكومات العالم انها ليست امام نظام يخدم حتى جزء من شعبه، وإنما امام مافيا حقيقية وضعت يدها على مصالح الدولة والمجتمع ولا يهمها سوى تضخيم حساباتها في المصارف الخارجية.  

 

_نبقى دكتور في إطار الكارثة الصحية التي سبّبها الفايروس المستجد، وكما نعلم تصدّرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة المصابين بكورونا أو كوفيد 19، وعلى الجانب الآخر توقّع العديد من مفكري المرحلة تبدلاً في النظام العالمي بسبب فشل المحور الغربي عموماً وأمريكا خصوصاً في قيادة العالم في هذه المرحلة الحرجة. هل هناك مبالغة في هذا الطرح؟ وكيف يقرأ الفكر السياسي والاجتماعي لدى الدكتور برهان هذه المعطيات؟ 

 

ج:

مقالي الشهري الأخير في العربي الجديد كان عنوانه حتى لا يكون عالم ما بعد كورونا اسوأ مما كان قبله، وقد عالج بالضبط هذا الموضوع. نعم انا اعتقد ان الفيروس القاتل الجديد قد عرى النظام الدولي القائم وأظهر فساده وكذبه وخداعه في اكثر من جانب وميدان. وبشكل خاص في ميدان الحماية الصحية للمجتمعات، والاستعداد للكوارث والتعاون بين الدول في الكوارث، ولكن اكثر من ذلك في الافتقار لأي سياسة عالمية حقيقية ولأي إطار قيادي يتابع تطبيقها والتنسيق بين السياسات الوطنية المتضاربة. والمسؤولية في ذلك لا تقع على الغرب وحده، ولكن على جميع الدول، والكبرى منها بشكل خاص، والتي لا تطبق سياسات اقل أنانية وطنية عن تلك التي يطبقها الغرب في الولايات المتحدة واوروبا. ونحن بحاجة لمراجعة شاملة لهذه السياسات وللدور البائس الذي انيط بمنظمة الامم المتحدة التي تكاد تصبح شبحا أو اسما من دون مسمى. 

 

  سؤال أخير دكتور برهان يتعلّق بجدلية الدين والسلطة في المنطقة العربية 

_ قلت في أحد حواراتك التالي : " إنّ ما جذبني إلى الإسلام إنما هي النزعة الإنسانية العميقة التي تجسّدت في الفكر الصوفي". واليوم تقوم الإمارات المتحدة، بتأييد من دول كمصر والسعودية ومجامع دينية عريقة كالأزهر، برعاية مشروع ديني جديد مدعوم إعلامياً واجتماعياً بقيادة تيار صوفي يحاول أن ينزع الإرث الوهابي والسلفي من الإسلام ويطرده. فهل هي خطوة من خطوات علمنة الدين الإسلامي؟  وكيف سينعكس هذا التحوّل، إن حدث، على الإسلام في المنطقة العربية من وجهة نظرك؟

ج:

للأسف لم تضع الانظمة العربية يدها على قضية الا خربتها وافسدتها. ووضعها اصبعها على القضية الدينية وعلى ايمان المؤمنين وعقائدهم هو السبب الرئيسي في انهيار السلطة الدينية المعنوية وتشظي العقيدة والعقد الديني وارساله الشظايا القاتلة في كل الاتجاهات، لتصيب المسلم مهما كان مذهبه، الصوفي والسلفي والانساني والمؤمن البسيط معا، وغير المسلم ايضا. هكذا تحول الدين الى مشكلة بعد ان كان بلسما والى قنبلة متفجرة بعد ان كان منبع أخوة وسلام وتكافل بين البشر. العلمنة تعني الدولة في علاقتها مع السلطة الدينية، الكنسية او العلمائية، ولا تمس الدين. فالدين بالتعريف هو ايمان بمقدس، لا يمكن علمنته، الا بالتفتيش في ضمير المؤمن والكشف عن نواياه وإعادة تأسيس محاكم التفتيش وهذا ما تقوم به معظم انظمتنا السياسية لسوء الحظ. لكن الدولة ليست مجال الايمان ولا تملك اي قدسية ولكنها إدارة من قبل بشر المفروض ان يكونوا منتخبين او على الاقل مقبولين من قبل الجمهور، للشؤون البشرية المادية والزمنية، من بناء واعمار وصحة وثقافة وعلوم وقانون، وليست عقيدة مقدسة ينبغي الايمان بها ولا المكان الذي يحل فيه المسلم علاقته مع ربه او مع السلطة الدينية. والمشرفون على الدولة من الحكام ليسوا سدنة ورهبان وكهنة مبجلين ومقدسين بالمعية، وإنما هم بشر عاديون وطبيعيون لا عصمة لهم ولا يتحدثون باسم اي وحي او الهام او كلمة ربانية. وقلب الآية بجعل الدين مجالا للتدخل حسب الطلب من قبل كل صاحب مأرب وجعل الدولة صنم او وثن والقائمين عليها سدنة كعبة مقدسة لا يقود إلا الى ما نشهده من تشظ للعقيدة الدينية وتجبر وتعال وتنكر للانسان في مجال السياسة والدولة على شاكلة ما يجري في دولة ولاية الفقيه الايرانية

https://www.aletihadpress.com/?p=213629